المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٤

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٤

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣١

الفاعلية والموجدية [أمر] (١) مغاير للقدرة ، وثبت : أن المؤثر في وجود الأثر هو الفاعلية والموجدية. وإذا كان كذلك ، امتنع أن يكون للقادرية أثر فيه ، وإلا لزم أن يجتمع على الأثر الواحد سببان (٢) مستقلان ، وهو محال. وأيضا : فقد بينا أن القادرية ليس لها صلاحية التأثير البتة. فيثبت بما ذكرنا : أن القادرية لا أثر لها البتة في وجود الأثر (٣) وحينئذ لا تكون [القدرة] (٤) صالحة للتأثير البتة. وأما الصفة المسماة بالفعل والتكوين ، فإنها إن كانت صالحة لطرفي (٥) الفعل والترك ، كانت المباحث المذكورة في القدرة عائدة فيه ، وإن كانت متعينة لطرف الوجود وغير صالحة البتة لطرف العدم ، كان ذلك موجبا بالذات ، لا قادرا متمكنا من الفعل والترك.

الحجة الحادية عشرة : إن المقتضي لحصول الفعل ، إما القدرة ، أو أثر يصدر عن القدرة (٦) أو لا [القدرة ، ولا الأثر الصادر] عنها. والأول : باطل. وإلا لزم حصول المقدور في جميع زمان القدرة ، فيلزم كون المقدور أزليا ، لأجل كون القدرة أزلية. والثاني أيضا : لأن التقسيم المذكور عائد في تأثير القدرة في ذلك الأثر ، فإن كان كذلك بواسطة أثر آخر ، لزم التسلسل ، وهو محال. وأما الثالث. فإنه يقتضي أن تكون القدرة ، وجميع آثارها : غير مؤثرة في حدوث هذا (٧) الأثر ، وذلك يقدح في كون القدرة : قدرة. فإن قالوا : هذا المقدور إنما وجد ، لأن القادر خلقه وأوجده ، لا لمجرد كونه قادرا. قلنا : هذا باطل. لأن المفهوم من قولنا : خلقه : إما أن يكون هو نفس القدرة ، أو أثر صادر عنها ، أو شيء مغاير لهما. فيثبت : أن هذا السؤال غير وارد ، والله أعلم.

__________________

(١) من (ط ، س)

(٢) شيئان متنقلان (ت)

(٣) البتة في دخول الأمر في الوجود ، وحينئذ (ت)

(٤) من (ط)

(٥) لطرفي (ت)

(٦) عن القدرة ولا أثر عنها (ت)

(٧) ذلك (ط)

١٢١

فهذا أحد عشر وجها ، في تقرير أن القول بالقادر على التفسير الذي ذكروه (١) : محال. وإذا ثبت هذا ، ظهر أن تأثيره تعالى في تكوين العالم ، وفي تكوين سائر آثاره إنما كان لعين (٢) ذاته ، أو للأمور اللازمة لذاته. وقد اتفق الكل على أنه متى كان الأمر كذلك ، فإنه يلزم من قدمه الآثار والأفعال والنتائج. ولهذا السبب ، فإن المتكلمين بعد أن أقاموا الدلالة على حدوث العالم ، قالوا : لو كان المؤثر في [حدوث] (٣) العالم موجبا بالذات. لزم من قدمه ، قدم العالم. وذلك يدل على أنهم كانوا معترفين بأن [كل ما] (٤) كان تأثيره لذاته ، لزم من دوامه ، دوام الأثر. وأيضا : فإذا كان [المؤثر] (٥) الموجب بالذات حاصلا. مع أنه كان منفكا عن الأثر ، مدة [غير] (٦) متناهية. ثم حصل الأثر بعد ذلك ، من غير أن اختص ذلك الوقت ، بإرادة معينة ، أو بنوع آخر من الأمور المقتضية للرجحان. فحينئذ يكون ذلك الحدوث في ذلك الوقت : حدوثا ، لا لمؤثر أصلا ، بل محض الاتفاق ، وذلك : باطل : فيثبت : أنه يلزم من دوام الموجب بالذات ، دوام الأثر والنتيجة. والله أعلم.

ونختتم هذه المقالة [بخاتمة] (٧) وهي أن الفلاسفة قالوا : سلمنا : أن القادر هو الذي (٨) إن شاء أن يفعل فعل ، وإن شاء أن يترك ترك. إلا أن هذا لا يقتضي صدق قولنا : إنه تعالى إن شاء (٩) الفعل تارة ، والترك أخرى. ويدل عليه وجهان :

__________________

(١) ذكره (ط)

(٢) لغير (ت)

(٣) من (ط ، س)

(٤) من (ت)

(٥) من (ط ، س)

(٦) من (س)

(٧) من (س)

(٨) إن شاء يفعل (ت)

(٩) إن شاء (ت)

١٢٢

[الوجه (١)] الأول : إن قولنا : إن شاء الفعل ، فعل : قضية شرطية [وليس] (٢) من شرط كون القضية الشرطية صادقة : صدق جزأيها (٣) ، فإن الشرطية الصادقة قد تكون مركبة من جزءين صادقين. كقولنا : إن كان الإنسان حيوانا ، كان جسما. وقد تكون الصادقة مركبة من كاذبتين كقولنا : إن كانت الخمسة زوجا ، كانت منقسمة بمتساويين. وقد تكون مركبة من مقدم كاذب ، وتالى صادق. كقولنا : إن كان الإنسان حمارا (٤) كان حيوانا. وأما القسم الرابع : وهو أن يكون المقدم صادقا والتالي كاذبا. فهذا محال. لأن الحق لا يستلزم الباطل. إذا ثبت هذا فنقول : صدق قولنا : إنه إن شاء الفعل فعل ، وإن شاء الترك ترك ، لا يتوقف على صدق قولنا : إنه إن شاء الفعل فعل ، وإن شاء الترك ترك (٥) لما بينا أن صدق الشرطية قد يحصل مع كون المقدم والتالي كاذبين معا ، ومع كون المقدم وحده كاذبا. فيثبت : أن بتقدير أن يصح أن القادر ما ذكروه ، فإنه لا يلزم من كون الشيء قادرا ، صدق أنه شاء الفعل تارة ، وشاء الترك أخرى.

والوجه الثاني : وهو أن حال كونه تاركا للفعل ، يستحيل أن يصدق عليه كونه فاعلا له ، وحال كونه فاعلا [له] (٦) يستحيل أن يصدق عليه : كونه تاركا له. وفي الحالتين يصدق عليه : أنه قادر على الفعل. فيثبت : أن صدق كونه قادرا على الفعل ، لا يتوقف على صدق أنه شاء الفعل ، ففعله. أو شاء الترك ، فتركه. إذا ثبت هذا ، فنقول : إنه حق أنه سبحانه ، إن شاء الفعل فعل ، وإن شاء الترك ترك. لكن لا يلزم منه أن يقال : إنه (٧) شاء

__________________

(١) من (ط)

(٢) من (س)

(٣) جزئه (ت)

(٤) جمادا (ط)

(٥) ترك (ت ، ط)

(٦) من (ت)

(٧) إنه ان شاء (ت)

١٢٣

الترك فتركه. بل نقول : إنه يصدق عليه : أنه إن شاء الترك ، [لتركه] (١) مع أنه لا يصدق عليه البتة : أنه شاء الترك. وإلا لكانت تلك المشيئة : محدثة. ولا افتقرت تلك المشيئة إلى مشيئة أخرى حادثة ، ولكان الكلام في تلك المشيئة كما في الأولى (٢) فيلزم أن يكون كل مشيئة حادثة مسبوقة بمشيئة أخرى حادثة ، لا إلى أول. ويلزم كون ذاته محلا للحوادث. وكل ذلك محال [والله أعلم] (٣)

__________________

(١) من (ط ، س)

(٢) الأول (ط)

(٣) من (ت)

١٢٤

المقالة الرابعة

في

الدلائل المستنبطة من صفة الإرادة

١٢٥
١٢٦

في

الدلائل المستنبطة من صفة الإرادة

قالت الفلاسفة : الذي نعقل من الإرادة هو أنا اعتقدنا في شيء أنه نافع ولذيذ ، صار هذا (١) الاعتقاد موجبا حصول الميل إلى تحصيل ذلك الشيء ، ثم إن ذلك الميل مع ذلك الاعتقاد ، منضمان إلى القدرة الموجودة في العضلات ، وهي المسماة بالقوة المحركة ، فيصير مجموع هذه الأشياء موجبا لحصول الفعل. إذا ثبت هذا فنقول : هذه الأحوال في حق واجب الوجود لذاته : محال. أما تصور كون الفعل المعين نافعا له ، أو ضارا له ، فهذا إنما يتصور في حق من يعقل في حقه الانتفاع بشيء [أو التضرر بشيء (٢)] آخر وذلك في حق واجب الوجود : محال. وأما حصول ذلك الميل فهو أيضا : محال لأن الميل إلى جلب (٣) المنافع ، إنما يعقل في حق من يصح عليه النفع. وإذا ثبت هذا ، فقد ظهر أن حصول الإرادة في حق الله تعالى : محال. وأما الذي يقوله المتكلمون من أن الإرادة تقتضي رجحان أحد الميلين (٤) على الآخر لا لمرجح [أصلا ، فهذا أيضا غير معقول البتة ، لأن الرجحان بدون المرجح (٥)] محال غير

__________________

(١) لهذا (ت)

(٢) من (ط ، س)

(٣) طلب النافع (ط ، س)

(٤) الميلين (ط)

(٥) سقط (ط)

١٢٧

معقول. فيثبت بهذا : أنه لم يبق عند العقل من لفظ الإرادة ، معنى يمكن إثباته في حق الله تعالى. فكان القول به باطلا. [ثم] (١) قالوا : لو كان العالم حادثا ، لوجب أن يقال : إنما حدث بقصد الفاعل وبإرادته (٢) ، والتالي محال. فالمقدم مثله. بيان الشرطية : هو أن العالم لما كان مستمر العدم من الأزل إلى ذلك الوقت [المعين] (٣) وذات الفاعل كانت موجودة من الأزل إلى ذلك الوقت المعين ، مع أنه في الأزل ما كان لتلك الذات أثر في خروج العالم من العدم إلى الوجود ، فلو حصل العالم في ذلك الوقت من غير أن يكون لذلك الفاعل قصد واختيار ، في إيقاعه. لكان وقوع العالم في ذلك الوقت دون ما قبله وما بعده : رجحانا لأحد طرفي الممكن على الآخر من غير مرجح. وإنه محال.

وبيان أنه يمتنع أن يكون حدوث العالم في ذلك الوقت المعين ، بسبب القصد والاختيار : وجوه :

الحجة الأولى : إن ذلك القصد لو حصل ، لكان إما أن يكون قديما أو حادثا. والقسمان باطلان ، فالقول بوجود القصد : باطل. إنما قلنا أنه يمتنع كونه قديما ، لأن الإرادة القديمة ، لا معنى لها إلا أنه تعالى يريد في الأزل إحداث العالم في وقت معين لا يزال. وهذه الإرادة ليست [هي (٤)] نفس القصد إلى إيقاع الفعل في ذلك الوقت المعين ، عند حضور ذلك الوقت المعين والدليل عليه وجوه :

الأول : إن من عزم على أن يفعل بكرة الغد : فعلا معينا ، ثم جلس في بيت مظلم (٥) لا يميز فيه بين النهار وبين الليل ، واستمر على ذلك الجلوس إلى أن دخل بكرة الغد ، مع أنه لا يعلم أن ذلك الوقت المعين قد حضر ، فإنه

__________________

(١) من (ط)

(٢) وإرادته (ط)

(٣) من (ت)

(٤) من (ت)

(٥) معين (ط)

١٢٨

بمجرد تلك الإرادة الأولى لا يصير قاصدا لإيقاع ذلك الفعل ، في ذلك الوقت. ولو كان العزم على أن يفعل الفعل الفلاني في الوقت المستقبل ، هو نفس القصد إلى إيقاع ذلك الفعل عند حضور ذلك الوقت ، لوجب (١) في هذه الصورة التي ذكرناها : أن يصير قاصدا إلى إيقاع ذلك الفعل ، عند حضور ذلك الوقت ، سواء علم أن ذلك الوقت حضر ، أو لم يعلم ذلك. ولما لم يكن الأمر كذلك ، علمنا : أن العزم على الفعل [الفلاني (٢)] في الوقت المعين ، من الأوقات المستقبلية : ليس هو [نفس (٣)] القصد إلى إيقاع ذلك الفعل في ذلك الوقت. بل الحق أنه إذا عزم [على (٤)] أن يفعل الفعل الفلاني ، في وقت معين من الأوقات المستقبلة ، ثم استمر ذلك العزم [الأول (٥)] إلى أن حضر ذلك الوقت ، وعلم ذلك العازم ، حضور ذلك الوقت. فإن بقاء العزم [الأول (٦) مع العلم بحضور ذلك الوقت: يوجبان حدوث قصد متعلق ، بإيقاع ذلك الفعل.

فيثبت : أن العزم المتقدم ، لا يكفي في إيقاع الفعل في الوقت الذي سيحضر ، بل لا بد من حدوث قصد متعلق بإيقاع ذلك الفعل. الثاني : إن العزم على الإيجاد في الزمان المستقبل : له ماهية. والقصد إلى إيجاد الفعل في الحال (٧) : له ماهية أخرى. إحدى الماهيتين لا تساوي الأخرى (٨) بدليل أن كل واحدة من هاتين الماهيتين ، لا تقوم مقام الأخرى. فإن العزم على الإيجاد في المستقبل ، يوجب تركه في الحال. وفعله في المستقبل ، والقصد إلى الفعل في الحال ، يوجب الفعل في الحال ، والترك في المستقبل. فهذان النوعان من الإرادة ولوازمها متنافية. واختلاف اللوازم ، يدل على اختلاف [ماهيات] (٩) الملزومات. وإذا ثبت هذا ، كان القول بأن العزم على الإيجاد في المستقبل ، يصير غير (١٠) القصد إلى الإيجاد في الحال : معناه : أن

__________________

(١) يوجب (ت)

(٦) من (ت)

(٢) من (ط)

(٧) الحادثة (ط ، س)

(٣) من (ط ، س)

(٨) لا يساوي الآخر (ت)

(٤) من (ت)

(٩) من (ت)

(٥) من (ط)

(١٠) عين (ط)

١٢٩

حقيقة مخصوصة ، تصير [هي] (١) بعينها عين حقيقة أخرى ، تخالفها في الماهية والنوعية. وذلك محال. فهذا لبيان أن القول بقدوم تلك الإرادة : قول باطل. وإنما قلنا : إنه يمتنع كونها حادثة ، وذلك لأنها لما كانت حادثة ، كان حدوثها مختصا بوقت [معين] (٢) مع جواز حصول الحدوث قبله أو بعده. فوجب أن لا يحصل ذلك الاختصاص إلا لإرادة أخرى. والكلام فيها كما في الأول ؛ فيلزم التسلسل ، وهو محال. فيثبت : أنه لو حصلت تلك الإرادة [لكانت] (٣) إما قديمة أو حادثة ، وثبت فساد القسمين ، فلزم الحكم بامتناع حصول الإرادة. لا يقال هذا معارض بالحوادث اليومية. لأنا نقول : المعارضة بالحوادث اليومية واردة على كل هذه الوجوه.

والجواب الممكن : ما ذكرناه في الطريقة الأولى [والله أعلم] (٤)

الحجة الثانية : أن نقول : تعلق الإرادة القديمة بإيقاع العالم في ذلك الوقت المخصوص المعين ، إما أن يكون من لوازم ماهية (٥) تلك الإرادة وإما أن لا يكون. والثاني باطل ، وإلا لافتقرت تلك الإرادة في حصول ذلك التعلق المخصوص ، إلى سبب آخر ، ولزم التسلسل. ولما بطل هذا القسم ، بقي الحق هو الأول فنقول : إذا دخل العالم في الوجود في ذلك الوقت المعين ، فبعد انقضاء ذلك الوقت [المعين] (٦) وبعد دخول العالم في الوجود يمتنع (٧) أن تبقى الإرادة متعلقة بإحداث العالم في ذلك الوقت المعين. ويدل عليه وجهان :

الأول : إنه بعد دخوله في الوجود ، يمتنع إدخاله في الوجود. لأن تكوين الكائن وإيجاد [الموجد] (٨) محال

__________________

(١) من (ط)

(٢) من (ط ، س)

(٣) في (ت) : لكان

(٤) من (ت)

(٥) ماهيته (ت)

(٦) من (ط ، س)

(٧) الوجود ، امتنع أن تبقى متقدمة بإحداث (ت)

(٨) وإيجاده (ت)

١٣٠

والثاني : إن ذلك الوقت لما انقضى ومضى ، فبعد انقضائه لو بقيت الإرادة متعلقة بإحداث العالم ، في ذلك الوقت : كان ذلك قصدا ، إلى إيقاع الفعل في الزمان الماضي ، وإنه محال. فيثبت : أن العالم بعد دخوله في الوجود ، يمتنع بقاء الإرادة [الأزلية] (١) متعلقة بإدخال عين ذلك العالم في عين ذلك الوقت ، في الوجود ، فوجب القول بزوال ذلك التعلق وبطلانه. لكنا بينا : أن ذلك [التعلق] (٢) المخصوص من لوازم ماهية تلك الإرادة. وزوال اللازم يدل على زوال الملزوم. فيثبت : أن تلك الإرادة واجبة العدم ، بعد دخول (٣) ذلك المراد في الوجود ، وكل ما صح عدمه ، امتنع قدمه. فهذا دليل قوي على أن القول بأن إرادة الله تعالى قديمة قول باطل.

وأما أنه يمتنع كونها حادثة ، فلأنها لو كانت حادثة ، لكانت إما أن تحدث في ذات الله تعالى ، أو في ذات أخرى ، أو لا في محل. والكل باطل بالوجوه المشهورة ، فكان القول به : باطلا.

الحجة الثالثة : إن كل من قصد إلى إحداث شيء ، فإما أن يكون ذلك الإحداث به أولى في ظنه واعتقاده من تركه ، وإما أن لا يكون. فإن كان الأول لزم كونه ناقصا بذاته ، مستكملا بغيره ، وذلك في حق واجب الوجود [لذاته] (٤) محال ، وإن كان الثاني ، فحينئذ لا يترجح قصد الإحداث على قصد الترك ، وذلك لأن قصد الإحداث ترجيح ، وحصول الرجحان حال حصول عدم الرجحان : محال. فإن قالوا : كونه ناقصا لذاته ، مستكملا بغيره : إنما يلزم لو رجح الإحداث على تركه ، لنفع يعود إليه. أما إذا رجحه لنفع يعود إلى الغير ، لم يلزم المحال المذكور.

قلنا : إيصال الخير والنفع إلى الغير ، وعدم إيصاله إليه إن استويا بالنسبة

__________________

(١) من (ط ، س)

(٢) من (ط ، س)

(٣) حصول (ط)

(٤) من (ت)

١٣١

إليه ، عاد المحال المذكور. وإن كان أحدهما أولى به ، فقد عاد ما ذكرنا من كونه ناقصا بذاته ، مستكملا بغيره. وهو محال.

الحجة الرابعة : لو قصد إلى إحداث العالم ، لكان إما أن يكون ذلك القصد مختصا بوقت معين ، أو غير مختص بوقت معين. أما الأول : فكما إذا قصد إلى إحداث العالم في الوقت الفلاني وأما الثاني : فكما إذا قصد إلى إحداث العالم ، ولم يقصد إلى تخصيص إحداثه بوقت معين.

وأما القسم الأول : فهو (١) باطل. لأن ذلك الوقت المعين إما أن يقال : إنه كان حاضرا في الأزل ، أو ما كان حاضرا في الأزل ، فإن كان ذلك الوقت حاضرا في الأزل مع أن إله العالم قصد إحداث العالم في هذا الوقت ، فحينئذ يلزم حدوث العالم في الأزل. وعلى هذا التقدير ، [يلزم] (٢) كون العالم [سرمديا] (٣) وأما إن كان ذلك الوقت غير حاضر في الأزل ، كان ذلك الوقت حادثا ، ولا بد له من محدث. وهو الله سبحانه (٤) وحينئذ يعود التقسيم (٥) الأول وهو أنه إما أن يقال : إنه تعالى قصد إحداث ذلك الوقت في وقت خاص ، أو قصد إحداثه مطلقا. فإن كان الأول ، افتقر ذلك الوقت إلى وقت آخر ، والكلام فيه كما في الأول ، ويلزم التسلسل. فإما أن تحصل تلك الأوقات الغير المتناهية معا ، وهو محال بالبديهية. أو على التعاقب ، وهو يوجب القول بحدوث حوادث لا أول لها. وهو المطلوب. وهذا كله إذا قلنا : إنه تعالى قصد إحداث العالم في وقت معين.

وأما القسم الثاني : وهو أن يقال : إنه تعالى قصد إحداث العالم من غير أن يخصص إحداثه بوقت معين ، بل قصد على وجه يكون موجودا دائما [أبدا] (٦) فهذا

__________________

(١) فباطل (ط)

(٢) من (ت)

(٣) سقط (ط)

(٤) تعالى (ط)

(٥) القسم (ط)

(٦) من (ت)

١٣٢

يوجب القول بالقدم ، وذلك يناقض ثبوت (١) الحدوث.

الحجة الخامسة : لو كان العالم حادثا ، لكان حدوثه بسبب أن الخالق [تعالى] (٢) خصص إحداثه بذلك الوقت [المعين] (٣) على ما تقدم تقرير هذه الشرطية ، إلا أن ذلك محال. لأن ذلك الوقت إما أن يكون مساويا لسائر الأوقات في تمام الماهية ، أو لا يكون. فإن كان [الأول] (٤) وجب كونها أيضا متساوية في جميع اللوازم ، لأن الأشياء المتساوية في تمام الماهية ، يجب استواؤها في جميع لوازم الماهية. وإذا كان الأمر كذلك ، كانت نسبة تلك الإرادة إلى جميع أجزاء ذلك الوقت على السوية. وإذا وجب حصول هذا الاستواء ، كان ذلك منافيا للقول بأن الإرادة يجب تعلقها بإحداث العالم في بعض تلك الأوقات دون البعض.

وأما القسم الثاني : وهو أن يقال : الأجزاء المفترضة في ذلك الوقت : مختلفة بالماهية ، متباينة بالحقيقة. فنقول : حصول تلك الأشياء ، إما [أن تكون] (٥) بأنفسها (٦) وذواتها وإما أن تكون بإحداث [ذات] (٧) الله تعالى. والأول باطل ، لأنه يقتضي حدوث الشيء لنفسه ولذاته ، من غير محدث ، وهو محال. وأيضا : إذا فرضناها [حادثة] (٨) بأنفسها وذواتها من غير محدث البتة ، ثم كانت ماهية كل واحد منها ، مخالفة لماهية الأخرى ، لم (٩) يمتنع جعل واحد منها ، موجبا لأثر خاص. وعلى هذا التقدير فإنه [لا يمتنع أن يكون المؤثر في حدوث حوادث هذا العالم ، تلك الآنات المتلاصقة ، وتلك الأجزاء المتعاقبة ، وعلى هذا التقدير فإنه] (١٠) يلزم نفي الصانع ، وذلك باطل.

وأما القسم الثاني : وهو أن يقال : إن حدوث تلك الآنات المتلاصقة ،

__________________

(١) قيود (ت)

(٦) بأنفسها أو ذواتها (ت)

(٢) من (ت)

(٧) من (ت)

(٣) من (ط ، س)

(٨) من (س)

(٤) من (ط)

(٩) ثم (ت)

(٥) من (ط ، س)

(١٠) سقط (ت)

١٣٣

إنما كان بإحداث الله [تعالى] (١) وبإيجاده ، فحينئذ يعود السؤال إلى أنه : لم خصص إحداث كل واحد منها بكونه متقدما على الآخر ، أو متأخرا عنه؟ فإن كان كذلك ، لأجل وقت آخر ، عاد الطلب فيه ، لزم التسلسل ، وهو محال. فيثبت : أن القول بأن الإرادة اقتضت تخصيص إحداث العالم بالوقت المعين ، يفضي إلى هذه الأقسام الباطلة ، فيكون القول به باطلا. وبهذا الدليل يظهر أن الذي يقال : إنه تعالى [وتقدس] (٢) خصص إحداث العالم بذلك الوقت لكون ذلك الوقت مشتملا على مصلحة خفية : قول باطل. لأنا بينا : أن الأوقات كلها متساوية في تمام الماهية [والله أعلم] (٣)

__________________

(١) ومتأخرا (ط)

(٢) من (ت)

(٣) من (ت)

١٣٤

المقالة الخامسة

في

الدلائل المستنبطة من الحسن والقبح

والحكمة والعبث

١٣٥
١٣٦

في

الدلائل المستنبطة من الحسن والقبح

والحكمة والعبث

وهي من وجوه (١) :

الحجة الأولى : إن الإيجاد [للعالم] (٢) إحسان ، والإحسان أفضل من ترك [الإحسان] (٣) فلو كان الباري سبحانه (٤) غير موجد للعالم ، مدة غير متناهية [لكان تاركا للأفضل مدة غير متناهية ، ومرجحا للأمر الآخر مدة غير متناهية] (٥) وذلك محال. فوجب كونه (٦) فاعلا من الأزل إلى الأبد.

الحجة الثانية : إن من كان له التصرف النافذ ، والملك العظيم ، والرفع والخفض ، والإبرام والنقض ، أفضل ممن لا يكون له شيء من ذلك. فلو قلنا : إنه تعالى ما كان له في الأزل : ملك ولا ملكوت ولا تصرف ، ثم صار في لا يزال كذلك ، لزم أن يقال : إنه انتقل من النقص إلى الكمال ، وذلك : محال. فإن قالوا : [يلزم] (٧) على الحجة الأولى : ترك الإحسان. وإنما لا

__________________

(١) الحسن والقبح والعبث. وهي وجوه (ت)

(٢) من (ت)

(٣) من (س)

(٤) تعالى (ط)

(٥) سقط (ط)

(٦) كونها (ت)

(٧) من (ت)

١٣٧

يجوز ، لو كان الإحسان ممكنا في نفسه. أما إذا كان ممتنعا في نفسه محالا في ذاته ، لم يلزم منه النقص والإيجاد في الأزل : محال. لأنه عبارة عن الإخراج من العدم إلى الوجود ، وذلك لا يتقرر إلا فيما يكون مسبوقا بالعدم. والأزل ينافي المسبوقية ، فكان الجمع بينهما محالا. وهذا الكلام بعينه ، هو الجواب عن الحجة الثانية.

وأيضا : فالنقص إنما يلزم [أن] (١) لو لم يكن قادرا على تحصيل الملك والملكوت ، وهو تعالى في الأزل [كان] (٢) قادرا على تحصيله ، فلم يلزم من عدم الملك والملكوت نقصان. وأيضا : فكل واحدة من هاتين الحجتين منقوض بحدوث الأشخاص المعينة ، وحدوث الحوادث اليومية.

وأجابوا عن السؤال الأول : بأن هذا [الكلام] (٣) إنما يتم إذا قلنا مسمّى الأزل مانع من الإيجاد والتكوين. وقد بينا بالدلائل القاطعة : أن ذلك باطل. على أنا نقول : إن هذا المانع كان زائلا قبل أن خلق الله العالم بتقدير مائة سنة ، فكان الإلزام عائدا إليه (٤)

وأما السؤال الثاني : فباطل أيضا. لأن الأزل عندهم مانع من صحة الفعل ، وعلى هذا التقدير لم يكن الله متمكنا من تحصيل الملك والملكوت [في الأزل] (٥) ولا معنى للفقير الضعيف إلا ذلك. وهذا أيضا يوجب العيب والضعف من وجه آخر ، وهو أن الامتناع من الإحسان في حق من كان قادرا على الإحسان ، ولا يضره ذلك الإحسان بوجه من الوجوه ، أقوى في العيب والنقصان منه في حق من لم يقدر عليه. فإذا قلتم (٦) : إله العالم كان قادرا على

__________________

(١) من (ط)

(٢) (ط ، س)

(٣) من (ط ، س)

(٤) فيه (ت)

(٥) من (ت)

(٦) فإذا قلتم : إن كان قدرا (ت)

١٣٨

الإحسان ، وما كان ذلك الإحسان سببا للضرر (١) في حقه البتة ، فحينئذ يكون الامتناع منه مذموما في [غاية] (٢) النهاية. ويمكن تقرير هذا الكلام بوجه آخر ، فيقال : إنه تعالى إما أن يقال : إنه [ما] (٣) كان قادرا على الإيجاد في الأزل ، أو يقال : إنه كان قادرا عليه ، إلا أنه لو فعله ، لصار ذلك سببا لعود نوع من أنواع الضرر إليه ، أو يقال : كان قادرا على الإيجاد في الأزل ، وكان منزها عن عود الضرر إليه.

أما القسم الأول : فإنه يقتضي انتقال الخالق من العجز إلى القدرة.

وأما القسم الثاني : فإنه يقتضي [انتقال الخالق من الضرر إلى الراحة.

وأما القسم الثالث : فإنه يقتضي] (٤) البخل والنقص. لأنه لما كان قادرا على هذا الإحسان ، وما كان له فيه ضرر البتة ، فيكون الامتناع عنه محض البخل [والنقص] (٥) وكل ذلك على الإله الحكيم محال. وأما السؤال الثالث : فجوابه : أن عند القوم : حدوث كل حادث متأخر ، مشروط بدخول الحادث المتقدم في الوجود ، بناء على القاعدة التي ذكرناها في سبب حدوث الحوادث اليومية. وإذا كان الأمر كذلك ، لم يلزم من عدم إيجاد هذا الشخص المعين قبل أن وجد : عيب ولا نقص.

الحجة الثالثة : علة وجود العالم : وجود (٦) البارئ تعالى ، ووجوده أزلي. فعلة وجود العالم أزلية فيلزم كون العالم أزليا. فإن قالوا : الجود (٧) هو الإفادة والتحصيل. فقولكم : جود البارئ تعالى : أزلي. معناه : أن كونه موجدا للعالم أزلي ، وذلك عين المطلوب ، قلنا : تحقيق هذا الكلام : إن جملة ما يصدر عن البارئ تعالى لا بد [له] (٨) من مؤثر فمجموع الأمور المعتبرة في المصدرية : قائم وإلا لزم افتقاره إلى مؤثر آخر ولزم التسلسل ، وإذا كان

__________________

(١) شيئا للضرورة (ت)

(٥) من (ط ، س)

(٢) من (ط ، س)

(٦) وجود (ت)

(٣) من (ت)

(٧) الوجود (ت)

(٤) من (ت)

(٨) من (س)

١٣٩

مجموع تلك الأمور أزليا ، يلزم أن تكون الآثار الصادرة عن البارئ أزلية ، وعلى هذا التقدير، فهذا الكلام هو عين الحجة الأولى.

ويمكن تقريره من وجه آخر : فيقال : إنه تعالى أراد إيجاد العالم ، لداعية (١) الانتفاع ، أو لداعية الإضرار ، أو لا لواحدة من هاتين الداعيتين؟ والثاني محال ، لأن الإيجاد (٢) لداعية الإضرار ، لا يليق بالمحسن الرحيم. والثالث : وهو [أن] (٣) الإيجاد لا لداعية الانتفاع (٤) ولا لداعية الإضرار عبث ، ولما بطل هذان القسمان ، ثبت أنه تعالى خلق الخلق لداعية الانتفاع. ثم نقول : هذه الداعية ، إما أن تكون حادثة ، أو قديمة. فإن كانت حادثة عاد التقسيم المذكور في حدوثها ، وإن كانت قديمة. فإما أن يقال : حصل في الأزل مانع يمنع من صدور هذا الأثر ، أو لم يحصل. والأول باطل ، لأنه لو حصل لما زال [المانع] (٥) لما (٦) ثبت أن الأزلي لا يزول. فيثبت : أن الداعي إلى الإحسان ، كان حاصلا في الأزل ، وأن المانع منه ، كان مفقودا. فهذا هو المراد من قول القدماء : إن علة وجود العالم هي وجود البارئ ، ووجوده [أزلي] (٧) ، فيكون وجود العالم : أزليا.

الحجة الرابعة : أن نقول : لو قلنا : إنه تعالى أحدث العالم في وقت معين ، لكان تخصيص الإحداث بذلك الوقت ، إما أن يكون لحكمة ومصلحة ، أو لا لحكمة ومصلحة، والأول باطل. لأن تلك المصلحة ، إما أن تكون عائدة إلى الخالق ، أو إلى المخلوق والأول : محال. لوجوه :

الأول : أنه يلزم أن يقال : إنه تعالى في محل النفع والضرر.

__________________

(١) الداعية الانفاع (ت)

(٢) لأن إيجاده لداعية (ت)

(٣) من (س)

(٤) من (ط)

(٥) من (ت)

(٦) من (ط ، س)

(٧) من (س)

١٤٠