المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٣

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٣

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٣

الفصل الرابع

في

تحقيق الكلام في المنفعة والمضرّة

والخير والشر والمصلحة والمفسدة

اعلم. أنا لما ذكرنا : أن الداعي عبارة عن العلم أو الاعتقاد أو الظن بكون الفعل مشتملا على نفع زائد ، والصارف هو هذه الأشياء ، إذا كانت متعلقة باشتمال الفعل على ضرر زائد. وجب علينا أن نبحث في هذا المقام عن حقيقة المنفعة والمضرة.

فنقول : لا شك أن هاهنا شيئا يميل الطبع إليه وتحكم أصل الفطرة بالرغبة في تحصيله ، وإن هاهنا شيئا آخر يحكم صريح الفطرة (١) بالنفرة عنه والهرب منه. إذا عرفت هذا فنقول: لا يجوز أن يقال : إن كل شيء يراد تحصيله (فإنما يراد تحصيله) (٢) لأجل شيء آخر ، (وكل شيء أريد دفعه فإنما أريد دفعه لأجل أن يتوسل بدفعه إلى دفع شيء آخر (٣) وإلا لزم إما الدور وإما التسلسل بل لا بد من الاعتراف (٤) بوجود أشياء تكون مطلوبة لذواتها وأعيانها ، ولا بد من الاعتراف بوجود أشياء مهروبة عنها لذواتها وأعيانها ثم إذا تأملنا ورجعنا إلى أنفسنا علمنا أن الشيء الذي يكون مطلوب الحصول لذاته

__________________

(١) العقل (س).

(٢) من (س).

(٣) من (م).

(٤) الاعتراف (م).

٢١

أحد أمرين : إما اللذة ، وإما السرور. وأن الشيء الذي يكون مكروه الحصول لذاته : إما الألم وإما الغمّ.

وأما كل ما يفضي حصوله إلى حصول اللذة والسرور ، فإنه يكون مطلوب الحصول لغيره (١) ، وكل ما يفضي حصوله إلى حصول الألم والغمّ ، فهو مطلوب لغيره (٢).

وأما لفظ الخير والمصلحة ، فإنه يتناول كل ما كان مرادا بالحصول ، سواء كان مراد (٣) الحصول لذاته أو لغيره. (وأما لفظ الشر والمفسدة فإنه يتناول كل ما كان مكروه الحصول ، سواء كان مكروه الحصول لذاته أو لغيره (٤) فهذا أصل معتبر يجب الوقوف عليه.

إذا عرفت هذا فنقول : لما كان حصول اللذة والسرور أمرا مطلوبا بالذات فإذا تصورنا في أمر من الأمور ، كونه مستلزما لحصول اللذة والسرور ، صار مطلوب الحصول. وذلك هو الداعي إلى الفعل. وإذا تصورنا في أمر من الأمور كونه مستلزما للألم والغمّ ، صار مطلوب العدم ، وذلك هو الصارف عن الفعل.

فإن قيل : أليس أن العقلاء يرغبون في المدح والتعظيم ، وتنفر طباعهم عن الإهانة والإذلال ، مع أنه خارج عن الأقسام التي ذكرتموها؟.

قلنا : المدح عبارة عن القول الدال على كونه مستجمعا لصفات الكمال. والذم عبارة عن القول الدال على كونه موصوفا بصفات النقص. والأول يوجب الفرح والسرور. والثاني يوجب الغم والحزن فيكون ذلك داخلا فيما ذكرناه ، إذا عرفت هذا الأصل (٥) فنقول : تمام مباحث هذا الباب إنما تتم بتقسيمات :

__________________

(١) الحصول سقط (ت).

(٢) مطلوب لعدم ذاته (س).

(٣) مطلوب (س).

(٤) من (م).

(٥) الأصل (م ، س).

٢٢

القسم الأول (١) : أن نقول المكروه بالذات (أحد أمور ثلاثة : الضرر ، وزوال النفع، ودفع دافع الضرر. والمطلوب بالذات (٢)) أحد أمور ثلاثة : النفع ، ودفع الضرر ، ودفع دافع المنفعة.

ويجب البحث هاهنا من وجوه :

البحث الأول : لا شك أن الضرر أقوى من زوال النفع. لأن من المعلوم بالضرورة أن حصول الضرر أقوى في كونه مكروها من أن يبقى الإنسان خاليا عن النفع والضرر. وقال بعضهم : إن كانت المنافع حاضرة ، فتفويتها بمنزلة الضرر. والدليل عليه : أنه يجري حال تفويت المنافع في المعاملات مجرى الضرر. وذلك لأن الرجل يحترز بتحمل (المضرة اليسيرة من فوت المنفعة الكثيرة كما يحترز بتحمل المضرة القليلة من تحمل (٣) المضرة الكثيرة ، كما يتحمل تفويت النفع القليل لئلا يلزم تفويت النفع الكثير. وهذا الكلام ضعيف لأنا إذا أردنا أن نعرف أن أي النوعين أقوى من الثاني وجب أن يعتبر حالهما عند الاستواء في الكمية. ففي هذه الحالة أيهما كان أكمل كميتة (٤) كان ذلك أقوى. ومن المعلوم بالضرورة أنه إذا كان مقدار الضرر ومقدار المنفعة الفائتة متساويين في الكمية (٥) والقوة ، فإن بقاء ذلك المقدار من الضرر أشد كراهية عند العقل من تفويت ذلك القدر من المنفعة. بقي الكلام في أن تفويت المنفعة أشد كراهية أم دفع دافع الضرر؟ الأقرب أن الثاني أقوى. لأن دفع دافع الضرر (يقتضي اتقاء الضرر ، وقد ثبت أن الضرر أشد نفرة من تفويت المنفعة فلزم القطع بأن دفع دافع الضرر (٦) أشد نفرة من تفويت المنفعة.

__________________

(١) التقسيم (س).

(٢) من (م).

(٣) من (م).

(٤) كيفية (م).

(٥) الكيفية (م).

(٦) من (م).

٢٣

وأما المراتب الثلاثة المطلوبة. فنقول : لما ثبت أن وجود الضرر أشد نفرة من فوات المنفعة وجب أن يكون دفع الضرر أشد مطلوبية من حصول النفع. ولذلك فإن العقلاء قالوا : دفع الضرر عن النفس واجب. أما تحصيل النفع (١) للنفس فغير واجب. وأيضا : دفع الضرر أهم من دفع دافع المنفعة ، لأن دفع دافع المنفعة وسيلة إلى حصول المنفعة. ولما كان دفع الضرر أهم من جلب النفع ، فلأن يكون أهم مما يكون وسيلة إلى جلب النفع ، كان أولى.

البحث الثاني : إنا قد ذكرنا : أن المنفعة المطلوبة بالذات. إما اللذة (٢) أو السرور وأن المضرة المكروهة بالذات. إما الألم أو الغم فيجب البحث عن أن اللذة أقوى أو السرور؟ وعن أن الألم أقوى أو الغم؟ فنقول : هذا يختلف باختلاف النفوس. فمن الناس من تكون اللذة الجسمانية (٣) عنده أثر ، ومنهم من يكون السرور عنده أثر. والحكم الجزم التام في هذا الباب كالمعتذر.

البحث الثالث : إذا وقع التعارض بين ما يكون مطلوبا بالذات أو مكروها بالذات. وبين ما يكون مطلوبا بالتبع ، أو مكروها بالتبع ، فلا شك أن ما بالذات أقوى مما بالتبع إلا إذا قلنا : إن ما بالذات يكون قليلا ضعيفا ، وإن ما بالتبع يكون كثيرا قويا. فههنا ربما صار ما بالتبع راجحا على ما بالذات ، بسبب الكثرة والقوة. والله أعلم (٤).

القسم الثاني : إنا قد بينا أن الداعي إلى الفعل ليس هو كون الفعل مصلحة في نفسه، والصارف عن الفعل ليس هو كون الفعل مفسدة في نفسه ، وإنما الداعي إلى الفعل علمه أو اعتقاده أو ظنه في كون ذلك الفعل في نفسه (٥) مصلحة ، والصارف عن الفعل أحد هذه الأمور الثلاثة في كون ذلك الفعل مفسدة.

__________________

(١) النفع (س).

(٢) وإما السرور (س).

(٣) الإنسانية (ت).

(٤) من (م).

(٥) في نفسه (س).

٢٤

إذا عرفت هذا فنقول : الشيء إما أن يكون خالص المصلحة (١) في اعتقاده ، أو خالص المفسدة في اعتقاده ، أو يكون مشتملا على المصلحة والمفسدة في اعتقاده ، أو يكون خاليا عنهما في اعتقاده. فهذه أقسام أربعة لا مزيد عليها. أما القسم الأول : فإن عند حصول هذا الاعتقاد يجب الفعل ، ويكون الإنسان كالملجإ (٢) إليه.

وأما القسم الثاني : فعند حصول هذا الاعتقاد يجب الترك ويكون الإنسان كالملجإ إلى الترك. مثال الأول الصائم في الصيف القائظ ، إذا اشتد عطشه ، وعظمت حاجته إلى شرب الماء البارد ، وكان ذلك الماء البارد حاضرا ، والشارع يقول له : اشرب. والطبيب يقول له : اشرب. وعلم أن ذلك الشرب خالص النفع خالي عن جميع جهات الضرر ، فههنا يجب الشرب ، ويكون الإنسان كالملجإ إلى ذلك الشرب. ومثال الثاني : الإنسان إذا علم أن له في دخول النار ضررا عظيما ، والشارع يقول له : لا تدخل النار. والعقلاء أطبقوا على منعه من الدخول في النار ، وعلم ذلك الإنسان أنه ليس له في دخول النار منفعة في الدنيا ولا في الآخرة ، وأن له في دخولها أعظم المضار. فههنا يمتنع منه أن يدخل في النار ، ويكون كالملجإ إلى أن لا يدخل في النار. نعم الإنسان قد يلتزم قتل نفسه ، وقد يرمي نفسه من شاهق جبل إلا أنه إنما يفعل ذلك إذا صار مضطرا إلى التزام ألم أو غمّ. وأعتقد أن ذلك الألم وذلك الغم أعظم من الألم الحاصل بسبب القتل. وأعتقد أنه لا يمكنه الخلاص من ذلك الألم الأعظم إلا بالتزام ألم القتل ، فههنا قد يقدم على قتل نفسه. وإنما فعل ذلك لاعتقاده أن التزام هذا الألم يوجب الخلاص من ألم آخر أعظم منه ، فهو إنما التزم تحمل هذا الألم العظيم، لكونه دافعا للقدر الزائد عليه من الضرر ، ودفع الضرر بقدر الإمكان مطلوب في العقل.

وأما القسم الثالث : وهو أن يكون الفعل مشتملا على المصلحة والمفسدة

__________________

(١) المنفعة (ت).

(٢) كالمحال (م).

٢٥

في اعتقاده فهذا ينقسم إلى ثلاثة أقسام ، لأنه إما أن يكون جانب المصلحة راجحا فى اعتقاده ، وإما أن يكون جانب المفسدة راجحا في اعتقاده ، وإما أن يكون متعادل الجانبين(١). فإن كان جانب المصلحة راجحا في اعتقاده وجب الفعل ويدل عليه وجهان : الأول : إنه مقابل المثل بالمثل فيبقى العدد الزائد داعية خالصة إلى الفعل. والثاني : وهو أنه لما كان جانب الفعل راجحا على جانب الترك في اعتقاده ، فلو رجح جانب الترك كان ذلك ترجيحا للمرجوح على الراجح وذلك محال في العقول. وإذا امتنع هذا وجب ترجيح الجانب الراجح (٢) وذلك هو المطلوب. وإما إن كان جانب المفسدة راجحا وجب الترك لمعنى الدليلين المذكورين. وأما إن حصل التعادل بحسب اعتقاده ، وجب التوقف وحينئذ يبقى ما كان على ما كان.

وأما القسم الرابع : وهو أن لا يحصل اعتقاد كون الفعل مشتملا على المصلحة وعلى المفسدة.

فعند هذا لم يحصل الداعي إلى الفعل ولا الصارف عنه ، بل يبقى ما كان على ما كان من غير تغيير أصلا.

إذا عرفت هذا الأصل فنقول : هاهنا فروع :

الفرع الأول : قالت المعتزلة : التكليف لا يصح عند كون الداعية خالصة إلى الفعل أو إلى الترك (فإن عند حصول هذه الحالة يكون الإنسان كالملجإ إلى الفعل أو إلى الترك (٣)) وعند حصول الإلجاء (لا يصح التكليف. وإنما يصح التكليف حال ما يكون الإنسان متردد الدواعي (٤)) إلى الفعل والترك. واعلم. أن هذا الكلام ضعيف جدا. وذلك لأنا بينا أن الحال لا يخلو عن الأقسام الستة ، وعلى كل واحد من هذه التقديرات ، فالواجب إما

__________________

(١) معادل الجانبات (س).

(٢) الآخر (س).

(٣) من (م).

(٤) من (م).

٢٦

الفعل وإما الترك. فكان قوله (١) : «التكليف إنما يصح حال ما يكون الإنسان متردد الدواعي» كلاما باطلا.

والذي نريد تقريره : أنه لا معنى لكونه متردد الدواعي إلى الفعل وإلى الترك (إلا أن يكون الحاصل في اللحظة الأولى هو الدواعي إلى الفعل ، ويكون الحاصل في اللحظة الثانية هو الداعي إلى الترك (٢) إلا أنه في اللحظة التي حصل فيها الداعي إلى الفعل يكون الإنسان (٣) كالملجإ إلى الفعل. وفي اللحظة التي حصل فيها الداعي إلى الترك يكون الإنسان كالملجإ إلى الترك. وعلى هذا التقدير فلا يبقى لقولهم : إن التكليف إنما يصح حال كون الإنسان متردد الدواعي إلى الفعل وإلى الترك. معنى.

الفرع الثاني : إنا قد بينا أنه حصل اعتقاد أن الفعل راجح المصلحة وجب الفعل. وإذا حصل اعتقاد أن الفعل راجح المفسدة وجب الترك ثم نقول : هذه الاعتقادات قد تكون باقية ، وقد تكون متغيرة ، فإن كان اعتقاد رجحان جانب الصلاح باقيا ، بقي (الفعل ، وإن كان اعتقاد رجحان جانب الفساد باقيا بقي الترك ، وإن كان اعتقاد التعادل باقيا (٤)) بقي التعارض ، وبقي ما كان على ما كان. أما إذا كانت هذه الاعتقادات شريعة الزوال والتبدل فتارة يقع في القلب : أن الراجح هو جانب الصلاح. وفي اللحظة الثانية ينقلب فيحصل في القلب : أن الراجح هو جانب الفساد ، فعند ذلك يتغير الإنسان من الفعل إلى الترك تارة (٥). ومن الترك إلى الفعل أخرى ، ففي اللحظة التي حصل في القلب اعتقاد أن جانب الصلاح أرجح يصدر عنه الفعل. وفي اللحظة الثانية التي حصل في القلب اعتقاد (٦) جانب الفساد أرجح يحصل الترك ثم لما توالت هذه الاعتقادات المختلفة والتصورات المتباينة. لا جرم يقع الاضطراب في الفعل والترك ، فتارة يقدم على الفعل ، وأخرى يقدم

__________________

(١) ربما يقصد صاحب «شرح الأصول الخمسة».

(٢) من (م).

(٣) الإنسان (س).

(٤) من (م).

(٥) تارة (م).

(٦) اعتقاد (س).

٢٧

على الترك. والناس يقولون لصاحب هذه الخواطر المختلفة إنه إنسان ذو بدوات ، وأنه ليس له في شيء من الأفعال ثبات (١) ومعنى كونه ذو بداوات : إنه تارة يبدو له كون الفعل راجح الصلاح ، وتارة أخرى يبدو له (كون الفعل) (٢) راجح الفساد. وإنما كان مثل هذا الإنسان قليل الثبات ، لأنه لما كان الفعل معللا بالقدر مع الدواعي ، فعند تغير الدواعي يجب تغير الفعل. فالإنسان الذي يكون ذا بدوات ، لا بد وأن يكون له في شيء من الأفعال ثبات.

واعلم : أن الجهات المعتبرة بحسب المصالح والمفاسد كثيرة خارجة عن الضبط ، وكلما كان وقوف العقل عليها أكثر كانت الحيرة والاضطراب أكثر ، وكلما كان وقوف العقل عليها أقل كان البقاء والثبات على الطريق الواحد أقل.

الفرع الثالث : وهو أنا قد ذكرنا أنه إذا كان الفعل راجح المفسدة في اعتقاد الفاعل لزم الترك ، وإذا لم يحصل أيضا فيه اعتقاد حصول الصلاح يجب الترك. إذا عرفت هذا فنقول: إنه لا معنى للترك إلا بقاء الشيء على العدم الأصلي ، فإن كان على تقدير أن يحصل اعتقاد رجحان المفسدة لم يحصل إلا الترك (وعلى تقدير عدم اعتقاد الرجحان ، لا في الفعل ولا في الترك ، لم يحصل إلا الترك (٣) فعند هذا يظهر أنه ليس لاعتقاد كونه راجح المفسدة أثر البتة.

بل إن حصل اعتقاد (٤) أنه راجح الفعل حصل الفعل ، وإن لم يحصل هذا الاعتقاد بقي الفعل على عدمه الأصلي ، بناء على أن علة العدم هي عدم العلة ، فحينئذ لا يكون لاعتقاد أن هذا الفعل راجح المفسدة أثر في الترك البتة. فهذا يدل على أن اعتقاد كونه راجح المفسدة ، لا أثر له البتة (في الترك) (٥) وكنا قد دللنا في أول هذا الباب على أن القدرة لا أثر لها البتة في الترك ، فقد ظهر بالبحث الذي ذكرناه : أن القدرة لا أثر لها البتة في الترك. وأن الداعية لا أثر لها البتة في الترك. وذلك يقرر ما ذكرناه من أن المستند إلى

__________________

(١) ثبات (س).

(٢) من (س).

(٣) من (م).

(٤) اعتقاد (س).

(٥) من (م).

٢٨

القادر الفاعل ليس إلا وجود الفعل. فأما عدمه فلا تأثير للقدرة فيه ، ولا تأثير للداعي فيه. والله أعلم (١).

القسم الثالث : إنا بينا أن المنفعة عبارة عن اللذة أو السرور ، أو ما يكون مؤديا إليهما ، أو إلى أحدهما. والمفسدة عبارة عن الألم والغم ، أو ما يكون مؤديا إليهما أو إلى أحدهما. إذا عرفت هذا ، فنقول : يجب أن تكون المنافع والمضار مختلفة المراتب والدرجات بحسب كونه منافع ومضار وبيان من وجوه :

الوجه الأول : إن اللذة والسرور قابلان للأشد ، والأضعف. فقد تكون لذة أقوى من لذة وسرور أقوى من سرور ، وكذلك فقد يكون ألم أقوى من ألم ، وغم أقوى من غم. والعلم بكون هذه الأنواع قابلة للأشد والأضر علم ضروري ، لا شبهة للعاقل فيه. وأيضا : فدرجات هذا التفاوت غير مضبوطة ولا محصورة ، فإنه مرتبة من مراتب الألم إلا ويجوز العقل وجود ألم آخر ، أقوى منه. وكذا القول في الغم واللذة والسرور. ثم من المعلوم أن الرغبة في اللذة القوية أقوى من الرغبة في اللذة الضعيفة ، والرغبة في السرور (القوي أقوى من الرغبة في السرور) (٢) الضعيف وكذا القول في الألم والغم. فلما كانت درجات هذه الأغراض في القوة والضعف غير مضبوطة كانت درجات المنافع والمضار كثيرة غير مضبوطة.

والوجه الثاني في تقرير هذا التفاوت : إن التجربة دلت على أن الشيء الواحد قد يكون لذيذا عند شخص ، ويكون هو بعينه مكروها (٣) عند شخص آخر. وأيضا : فقد يكون في غاية اللذة عند شخص ومتوسط الحال عند شخص ثاني. وفي غاية النفرة عند ثالث. وأيضا : قد يكون موقع الألم القليل عند شخص أكثر من موقع الألم العظيم عند شخص آخر. ولما كان اختلاف

__________________

(١) والله أعلم (م).

(٢) من (س).

(٣) العبارة مصححة من (س).

٢٩

النفوس في جواهرها وفي أمزجتها ، وفي أحوالها خارجا عن الضبط ، كانت أيضا مراتب المنفعة والمضرة غير مضبوطة ، (بحسب هذا الاعتبار (١)).

الوجه الثالث في بيان التفاوت : إنا بينا أن المطلوب بالذات هو اللذة والسرور ، وإن المكروه بالذات هو الألم والغم ، وأن ما سوى هذه الأشياء ، فهو مطلوب بالتبع أو مكروه بالتبع ، ومن المعلوم : أن الرغبة فيما يكون مطلوبا بالذات أقوى من الرغبة فيما يكون مطلوبا بالتبعية ، فقد حصل التفاوت في مراتب المصالح والمفاسد بحسب هذا الاعتبار.

والوجه الرابع في بيان هذا التفاوت : أن المطلوب بالذات ، وإن كان راجحا على المطلوب بالغير ، إلا أنه قد لا يبعد أن يصير المطلوب بالذات مرجوحا بالنسبة إلى المطلوب بالغير ، لأجل أن المطلوب بالغير أقوى وأشد فائدة (من المطلوب بالذات) (٢) مثل : أن وجدان غيره دنانير ، أسر من أكل اللقمة الواحدة.

والوجه الخامس : إن المؤدي إلى المطلوب بالذات قد يكون مؤديا إليه (٣) بواسطة واحدة ، وقد يكون مؤديا إليه بواسطتين. وكذا القول في الوسائط الثلاثة والأربعة والخمسة ، وهلم جرّا ، إلى مراتب لا يضبطها الحس والعقل. ومعلوم أن الرغبة فيما يفضي إلى المطلوب بالذات بوسائط قليلة فوق الرغبة فيما يفضي إليه بوسائط كثيرة ، لكن هاهنا اعتبار آخر ، وهو أن الذي تكثر فيه الوسائط قد يكون أقوى وأعظم فيصير معادلا لما تقل الوسائط فيه بسبب أن الكيفية من أحد الجانبين تقابل الكيفية (٤) من الجانب الآخر.

الوجه السادس : إن التجربة تدل على أن الشيء الواحد قد يكون منشئا للخير والمصلحة من وجه وللشر والمفسدة من وجه آخر. ومن المعلوم أن الشيء

__________________

(١) من (م).

(٢) من (س).

(٣) التعبير بالأداء ، مثل التعبير بالوجوه التي يحس عليها الفعل أو يقبح عند المعتزلة.

(٤) الكمية (م).

٣٠

كلما كان اشتماله على وجوه المصالح أكثر ، كان ألذ وآثر. وإذا كانت تلك الجهات غير مضبوطة كانت مراتب المصالح والمفاسد غير مضبوطة.

الوجه السابع : أن حوادث هذا العالم ليست بسيطة (١) بل بعضها يمتزج بالبعض ، فيتولد عند ذلك الامتزاج أحوال أخرى. ثم من المعلوم أن مراتب الامتزاجات غير متناهية ، فوجب أن تكون مراتب المصالح والمفاسد غير متناهية.

الوجه الثامن : إن البعد خير من النسبة ، لكن يعارضه أن النسبة العظيمة العالية تكون خيرا من البعد القليل.

الوجه التاسع : أن المداومة على العمل (٢) قد تفيد في حق بعضهم الحب الشديد والميل العظيم ، وقد تفيد في حق غيرهم الملالة والسآمة. وأحوال الخلق في هاتين الحالتين مضطربة متفاوتة.

والوجه العاشر : أن الشيء قد يكون لذيذا عند إنسان ، ومكروها عند غيره. وقد يكون لذيذا إذا أمكنه تحصيله بطريق معين ، ويكون مكروها إذا كان لا يمكنه تحصيله إلا بطريق آخر. وقد يكون عند إنسان آخر بالعكس منه.

فيثبت بهذه الوجوه العشرة ، أن مراتب المصالح والمفاسد مضطربة وغير متناهية.

ثم هاهنا كلام آخر. وهو : أنا قد ذكرنا أن الدواعي والصوارف ليست هي تلك المصالح والمفاسد في أنفسها ، بل الدواعي والصوارف هي اعتقاد حصول المصالح الراجحة أو المفاسد الراجحة. ومعلوم أن انتقالات الأفكار والخيالات غير مضبوطة. وأيضا : ثبت أن النفوس الناطقة مختلفة بالماهية ، ولها أحوال مختلفة بحسب مقتضيات تلك الماهيات. فإذا اعتبرنا مجموع هذه الوجوه بسيطة وفلكية ، صارت غير متناهية. ولما عرفت أن أحوال الجوارح تابعة

__________________

(١) ليست بسيطة (س).

(٢) المصالح (س).

٣١

لتصورات الأفكار والنفوس ، لا جرم اختلفت الأفعال جدا ، حتى قلنا : إنه يبعد أن يتوافق إنسانان على طريقة واحدة (من الأفعال والأقوال. بل يبعد أن يستمر إنسان واحد على طريقة واحدة) (١) في أفعال الجوارح ، وفي أفعال القلوب. بل لا يزال أن ينتقل من تصور إلى تصور آخر. فيلزم أن ينتقل من ميل إلى ميل آخر ، فيلزم أن ينتقل من فعل إلى فعل آخر. وهذا هو السبب في صدور الأفعال المختلفة عن الحيوانات. وبالله التوفيق.

__________________

(١) من (م).

٣٢

الفصل الخامس

في

بقية الكلام في هذا الباب

الفرع الأول : إنه هل يعقل وجود فعل يكون نفعا من كل الوجوه؟

قال بعضهم : إن هذا كالمتعذر. لأن الإنسان إذا واظب على الإتيان بنوع واحد (١) من العمل ، ظهر فيه التعب والإعياء. ولو لا أنه حصل بالفعل الأول نوعا من أنواع التعب. لما ظهر (٢) التعب الشديد عند المداومة على العمل. إلا أنه لما كانت المنافع المتولدة من ذلك العمل أكثر من المضار المتولدة منه ، صار ذلك التعب القليل مخففا غير مشعور به. وأقول : هذا الكلام حق في أفعال الجوارح ، لأنها لا تنفك (٣) عن حركة لتلك الأعضاء. والحركة والسخونة توجب الموجب للضعف. وأما الأفعال النفسانية الروحانية المحضة فهي منافع خالية عن جهات الضرر بالكلية. وهذا هو أحد الأسباب الموجبة لفضل اللذات الروحانية على اللذات الجسدانية.

واختلفوا أيضا : في أنه هل يعقل وجود فعل يكون ضررا من كل الوجوه؟ والحق : أنه باطل. لأن كل فعل. صدر عن فاعل ، وكان فاعله

__________________

(١) واحد (س).

(٢) وإلا لما (م ، س).

(٣) تخلو (م).

٣٣

مريدا له ، ويكون حصوله لذيذا عنده ، لا يكون ذلك الفعل شرا من كل الوجوه.

الفرع الثاني : إن الفعل الواحد قد يكون مشتملا على جهات كثيرة من المنافع ، ويكون مشتملا على جهات كثيرة من الدواعي. مثاله : إنا بينا أن الجهات الداعية إلى الفعل ثلاثة : أحدها : كونه نفعا. والثاني : كونه دافعا للضرر. والثالث : كونه دافعا لدافع النفع. فإذا حصل في الفعل الواحد أحد (١) هذه الجهات الثلاثة ، فقد حصل فيه أمور ثلاثة كل واحد منها مستقل بالدعاء إلى الفعل. وأيضا : فالفعل الواحد يمكن أن يكون نفعا من جهات كثيرة ، بحيث يكون العلم بكل واحد منها جهة مستقلة بالدعاء إلى الفعل. وكذلك يمكن أن يكون دافعا لأنواع كثيرة من المضار بحيث يكون كل واحد منها مستقلا (بالدعاء إلى الفعل. وأيضا : فالفعل الواحد يمكن أن يكون دافعا لأشياء كثيرة يكون كل واحد منها سببا مستقلا) (٢) بتفويت المنفعة. فإذا قدرنا حصول فعل واحد ، وكان نفعا من جهات كثيرة ، وكان دافعا لأنواع كثيرة من الضرر ، وكان أيضا دافعا لأقسام كثيرة من الأحوال الموجبة لفوات النفع ، كان كل واحد من هذه (الوجوه : وجها ، لو انفرد لكان مستقلا بالدعاء إلى الفعل. فهذا بيان كيفية اجتماع) (٣) الوجوه الكثيرة من الدواعي في الفعل الواحد.

الفرع الثالث : إنه إذا حصل في الفعل جهات كثيرة في الدواعي ، فتلك الجهات إما أن تكون متعاضدة متوافقة ، وإما أن تكون متنافية متعاندة.

أما القسم الأول : فمثاله ما ذكرناه. وفيه أشكال ، وهو أنه إذا كان كل واحد من تلك الجهات بحيث يكون اعتقاد حصوله سببا مستقلا بالدعاء إلى الفعل ، وبترجح جانب الفعل. فعند اجتماعهما إما أن يقع ذلك الترجيح بكل

__________________

(١) أحد (س)

(٢) من (م).

(٣) من (م).

٣٤

واحد منها ، أو يقع ببعضها دون البعض ، أو لا يقع بشيء منها. والأول باطل. لأن الفعل إنما احتاج إلى المرجح لكونه في نفسه ممكن الوجود والعدم ، لكن المعلول مع العلة التامة ومع السبب المستقل يكون واجب الحصول. وإذا كان واجبا (١) فوجوبه يمنعه من الانتساب إلى الغير فيكون ذلك الأثر مع هذا السبب المستقل يمنعه من الاستناد إلى الثاني ، وكونه مع الثاني يمنعه من الاستناد إلى الأول ، فلو وجد مع العلتين المستقلتين ، يلزم أن يكون مستندا إلى كل واحد منهما حال كونه منقطعا عن كل واحد منهما. وذلك محال. وأما القول (٢) بوقوع ذلك المعلول بأحد تلك العلل المستقلة ، فهذا أيضا محال ، لأنه يقتضي ترجيح أحد طرفي الجائز على الآخر لا لمرجح وهو محال.

وأما القول (٣) بامتناع وقوعه بشيء منها ، فهو أيضا محال ، لأنه يلزم منه ، أن القادر حال ما حصلت دواعيه إلى الفعل وتأكدت ولم يحصل لها مانع ، فإنه يمتنع الفعل عليه وذلك محال. فهذا سؤال قوي في هذا الموضع.

وأما القسم الثاني : وهو ما إذا كانت الدواعي متنافية ومتنازعة. فنقول : قد ذكرنا فيما تقدم أن أيها أقوى ، وأيها أضعف؟ وعند اجتماعها يكون التأثير للأقوى.

وإن تساوت في القوة تعارضت وتساقطت (٤) ويبقى ما كان على ما كان.

الفرع الرابع : هذه العلوم والاعتقادات والظنون التي سميناها بالدواعي ، يجب حصولها قبل حصول الفعل ، أو حال حدوثه وحصوله؟ وهذا البحث مفرع على أن مجموع القدرة مع الداعي علة مؤثرة في وجود الفعل ، إن قلنا : ذلك المجموع علة معدة لحصول الفعل.

وأما العلة المؤثرة فهي موجود آخر. فإن قلنا (٥) : إنه علة مؤثرة وجب

__________________

(١) واجبا (م).

(٢) الترجيح بمرجح من الإنسان ممكن ، فإن دواعي الإنسان قد تكون مرجحة.

(٣) إذا حصلت الدواعي وتأكدت ممكن أن يفعل وأن لا يفعل.

(٤) وتنافت (م).

(٥) هذا تفريع على الموجب بالذات ، والإله الفاعل بالاختيار.

٣٥

حصول الداعي حال حدوث الفعل ، لما ثبت أن المؤثر يجب أن يكون موجودا حال حصول الأثر. وإن قلنا : إنه علة معدة لا مؤثرة فحينئذ نقول : إنه يجب تقدم الداعي على الفعل ، لأن العلة المعدة يجب تقدمها على المعلول. وإلا لزم وقوع التسلسل في الأسباب والمسببات دفعة واحدة وذلك محال (١) والله ولي التوفيق.

__________________

(١) محال (م).

٣٦

الفصل السادس

في

أن صدور الفعل هل يتوقف على الداعي أم لا؟

أما الفلاسفة فقد أطبق المحققون منهم عليه. وبه قال أبو الحسين البصري (١) من المعتزلة. وأكثر المتكلمين اتفقوا على أنه لا يتوقف عليه (٢).

احتج القائلون بأن صدور الفعل عن القادر ، لا يتوقف على الدواعي بوجوه :

الحجة الأولى : إن القادر يمكن وجوده خاليا عن كل الاعتقادات ، وهو في هذه الحالة يمكن صدور الفعل عنه ، وذلك يدل على أن صدور الفعل عن القادر ، لا يتوقف على حصول الداعي ، فيفتقر في تقرير هذا الدليل إلى إثبات أمرين :

الأول : إن القادر يمكن وجوده خاليا عن كل الاعتقادات. ويدل عليه وجهان :

الأول : إن الواحد منا قادر على تحريك إصبعه. ومعلوم أن إصبعه جسم مركب من أجزاء كثيرة. وتلك المسافة مركبة من أجزاء كثيرة. وهذا القادر غير

__________________

(١) من الطبقة الثانية عشرة للمعتزلة.

(٢) هو لا يتوقف على الداعي بالنسبة لله تعالى.

٣٧

عالم بعدد أجزاء تلك الإصبع ، وبعدد أجزاء تلك المسافة ، فيثبت أن القادر قد يكون قادرا على ما لا يعلمه ولا يعتقده ، ولا يظنه.

الثاني : إن الناس اختلفوا في أن الأجناس المقدورة للعباد. كم هي؟

فلو لزم من كونه قادرا على الشيء ، كونه عالما به ، لزم أن يكون العلم بالأجناس المقدورة للعباد علما ضروريا ، ولما لم يكن كذلك ، ثبت أنا قد نقدر على أشياء مع أنا لا نعلمها.

الأمر الثاني (١) : في بيان أنا عند الخلو عن هذه الاعتقادات ، يصح الفعل منا. والدليل عليه : أنه لو لم يصح ذلك لزم أن يكون القادر على الشيء غير قادر عليه ، لأن المعنى من كونه قادرا ، كونه بحيث يصح أن يصدر منه الفعل (٢) فإذا فرضناه قادرا عند الخلو من هذه الاعتقادات ، ثم قلنا : إنه (٣) لا يصح منه الفعل ، لزم أن نقول : إنه حال كونه قادرا على الفعل ما كان قادرا على الفعل. وذلك متناقض.

الحجة الثانية : إن الساهي والنائم ، قد يصدر الفعل عنهما مع عدم الدواعي.

أما في حق الساهي فتقريره من وجهين : الأول : إن الواحد منه قد يحرك إصبعه حال ما يكون مشغول القلب بعمل آخر ، وفي تلك الحالة كان غافلا عن تحريك ذلك الإصبع ، مع أنه فعله. فههنا قد حصل الفعل من غير الداعي. الثاني : إن الرامي (قد يرمي) (٤) إلى شيء فيصيب شيئا آخر ، فتلك الإصابة الواقعة على سبيل الخطأ : فعله. مع أنه ما دعاه الداعي إلى ذلك الفعل ، فيثبت أن الفعل قد يحصل بدون الداعي.

وأما في حق النائم : فتقريره من وجهين : (الأول : إن النائم يتنفس

__________________

(١) المقدمة الثانية [الأصل].

(٢) فيه (م).

(٣) يصح (س).

(٤) قد يرمى (م).

٣٨

وهذا التنفس فعل اختياري ، وهو قد حصل من غير الداعي ، لأن النوم مانع من الاعتقاد أو الظن. الثاني : (١)) إن النائم قد ينتقل من أحد الجانبين إلى الثاني ، وربما يتلفظ بالكلمات الكثيرة ، مع أنه في تلك الساعة لم يحصل في قلبه شيء من العلوم والاعتقادات ، لأن النوم مانع منهما. فهاهنا قد حصل الفعل من غير الداعي.

الحجة الثالثة : قالوا : الإنسان إذا صار ماهرا (في حرفة معينة ، مثل ما إذا صار) (٢) ماهرا في صنعة الكتابة ، أو في ضرب الطنبور ، أو في غيرهما ، فإنه قد يصير بحيث يكتب شيئا كثيرا ، أو يضرب الطنبور مدة معينة مع أنه يكون بقلبه غافلا عن آحاد تلك الحروف ، وعن آحاد تلك النقرات. وإذا كان غافلا عنها يمتنع كونه عالما بها ، أو معتقدا لها ، أو ظانا بها. ففي هذه الصورة قد وجدت هذه الأفعال ، مع أن الدواعي غير حاصلة فيها.

الحجة الرابعة : قالوا : المخيّر بين شرب قدحين ، وأكل رغيفين ، والهارب إذا وصل إلى طريقين متساويين ، فإنه يرجح أحدهما على الآخر ، (لا لمرجح. فههنا الفعل قد حصل من غير الداعي. وتمام التقرير : أنه عند حصول الاستواء بين القدحين والرغيفين ، إما أن يرجح (٣) (أحدهما على الآخر ، أو لا يرجح) (٤) والثاني باطل ، لأنه يلزم أن يقال : إن العطشان مع شدة العطش ، لا يأخذ القدحين ، بل يبقى ممتنعا عنهما إلى أن يموت من العطش ، مع كون القدحين حاضرين عنده من غير مانع ، ومعلوم أن ذلك باطل فيثبت أنه لا بد وأن يأخذ أحدهما من غير مرجح ، (وإذا ثبت هذا) (٥) فقد حصل الفعل ، لا للدواعي. وهو المطلوب.

__________________

(١) من (م).

(٢) من (م).

(٣) من (م).

(٤) من (س).

(٥) زيادة من (س).

٣٩

الحجة الخامسة : إن بطء الحركة إما أن يكون عبارة عن تحلل السكنات بناء على إثبات القول بالجوهر الفرد ؛ أو عبارة عن كيفية قائمة بالحركة (١) بناء على نفي الجوهر الفرد. فإن كان الحق هو الأول. فالقوس الذي يأتي بالحركة يكون آتيا بتلك السكنات في أثناء تلك الحركات مع كونه غافلا عنها. فقد حصل الفعل لا للدواعي. وإن كان الحق هو الثاني ، كان الآتي بالحركة البطيئة آتيا بفعلين : أحدهما : نفس الحركة. والثاني : البطء القائم بتلك الحركة ، مع كونه غافلا عن كونه آتيا بنوعين مختلفين من الفعل. فيكون آتيا بالفعل حال كونه غافلا عنه. وذلك يقتضي حصول الفعل من غير الداعي.

الحجة السادسة : إن توقف الفعل على الداعي يوجب أن لا يبقى فرق بين الموجب بالذات وبين الفاعل المختار. وهذا باطل. فذا باطل. بيان الأول : إنا سنبين أن عند حصول الداعية (يجب الفعل وجوبا ضروريا ، لا يمكن نقضه ، وعند عدم الداعية) (٢) يمتنع وقوع الفعل ، ومعلوم أنه لا حال غير هاتين الحالتين ، فإذا كان الفعل في إحدى الحالتين واجبا ، وفي الحالة الثانية ممتنعا. فحينئذ يلزم أن لا يحصل التمكن والاختيار في شيء من الأحوال البتة. فيثبت أن توقف الفعل على حصول الداعي ، يقتضي أن لا يبقى فرق البتة بين الموجب بالذات وبين الفاعل المختار.

وبيان أن هذا باطل : (إنه (٣) من جملة العلوم الضرورية (٤) : الفرق بين كون الإنسان متحركا بقدرته واختياره وبين كون الحجر نارا ، لا بطبعه ، وكون النار محرقة بطبعها ، فيثبت: أن القول بتوقف الفعل على الداعي : يفضي إلى الباطل المذكور ، فوجب أن يكون باطلا.

وأما القائلون بأن الفعل يتوقف على الداعي. فقد أجابوا عن هذه الدلائل بأجوبة واضحة قوية. وقالوا :

__________________

(١) سقط (م).

(٢) سقط (م).

(٣) زيادة.

(٤) البديهية (س).

٤٠