المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٣

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٣

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٣

بأن يشتغل بالشكر والثناء والخدمة والطاعة ، مع أنه في حق العبد محض الضرر ، والإله لا ينتفع به البتة.

فيثبت بما ذكرنا : أن حكم العقل في التحسين والتقبيح لو كان معتبرا في أفعال الله وأحكامه ، لقبحت هذه التكاليف ، وحيث لم يقبح شيء منها علمنا أن ذلك (باطل قطعا. فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : إنما حسن تلك التكاليف لمنفعة) (١) عائدة إلى الشاكر والمطيع؟ وبيانه من وجوه :

الأول : إن تعظيم (٢) من لا يستحق التعظيم قبيح في العقول. فهو سبحانه إنما كلفهم حتى يصيروا بسبب إتيانهم بتلك الطاعات مستحقين للتعظيم ، فحينئذ يحسن منه تعالى أن يخصهم بأنواع التعظيم.

الثاني : إنه تعالى لو أعطاهم تلك المنافع بعد أن كانوا مستحقين لها ، كان ذلك ألذ وأكمل مما إذا حصلت تلك المنافع بمحض التفضل.

الثالث : لم لا يجوز أن يقال : إن إمكان حصول هذه السعادات الأخروية للبشر ، مشروط بإتيانهم بهذه العبادات ، على ما هو مذهب الحكماء. وذلك لأنهم قالوا : الإنسان إذا واظب على تحصيل هذه الشهوات البدنية واللذات الجسمانية فإنه تقوى رغبته فيها ، ويعظم ميله إلى تحصيلها ، فعند الموت يبقى ذلك الميل والرغبة مع العجز عن الوجدان ، فتعظم الآلام الروحانية. أما إذا امتنع عن تحصيل هذه اللذات ، وأقبل على ذكر الله ، وذكر الملائكة وذكر الدار الآخرة فإنه تفتر رغبته في الجسمانيات ، ويقوى ميله إلى الروحانيات ، فعند الموت يصير كأنه يتخلص من المكروه إلى المحبوب. ومن الحبس إلى البستان ، وهذا هو السبب في التكاليف بالطاعات والعبادات.

__________________

(١) من (م).

(٢) تعظيم قبيح (م).

٣٠١

فالجواب (١) :

أما جواب الوجه الأول : وهو الذي عليه تعويل المعتزلة. وهو ضعيف. فبيانه من وجوه :

الأول : إنه ليس من شرط كون الفعل موجبا لاستحقاق التعظيم (كونه شاقا) (٢) بدليل : إن ثواب الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ أعظم من ثواب آحاد الأمة. وإن كانوا قد تحملوا من العناء فوق ما تحمله الرسول المعصوم. إذا ثبت هذا فنقول : إن كان المقصود هو ما ذكرتم من استحقاق التعظيم فكان من حقه تعالى أن يكلفهم بالتكاليف السهلة الهينة. وأن يزيد في تقوية أبدانهم ، حتى أنهم إذا أتوا بها سهل ذلك عليهم ، وحصلت لهم المنفعة التي ذكرتموها وهي استحقاق التعظيم.

الوجه الثاني في الجواب : إن المقصود من التعظيم حصول السرور في القلب ولا نوع من أنواع السرور إلا ويحسن من الله أن يخلقه في قلب العبد بدون واسطة هذه التكاليف.

الوجه الثالث في إبطال هذا الكلام : إن عند حصول التكليف يحصل احتمالان فإنه إن أطاع حصل له استحقاق التعظيم ، وإن لم يطع وقع في العذاب العظيم والعناء الشديد ، فهذا التكليف دائر بين هذين الاحتمالين. ومن المعلوم أن حصول التعظيم ليس من الأمور الضرورية فإن الرجل إذا حصلت له المنافع الخالية عن التعظيم ، بقي سليما عن الآفات ، منتفعا بالخيرات. فحصول التعظيم من المطالب الزائدة. أما اذا لم يأت به وقع في العذاب العظيم. ومعلوم أن السعي في دفع العذاب العظيم أولى من السعي في تحصيل منفعة زائدة ، ولا حاجة إلى حصولهما في شيء من الأوقات. فيثبت بما ذكرنا : أنه لو كان حكم العقل في التحسين والتقبيح في أفعال (٣) الله وأحكامه

__________________

(١) جواب الوجوه الثلاثة التي أولها : إن تعظيم.

(٢) من (س).

(٣) في حق الله (س).

٣٠٢

معتبرا ، لكان الواجب اللازم ترك التكليف.

الوجه الرابع في إبطال هذا الكلام : إن ما ذكرتموه إنما يستقيم إذا كان العبد مستقلا بالفعل والترك أما لما لم يثبت أن عند حصول القدرة والداعي يجب الفعل ، فإنه لا يبقى لهذا الكلام فائدة.

وأما الوجه الثاني وهو قوله : المنفعة المستحقة أفضل.

فجوابه من وجوه : الأول : إن كون العبد مستكفيا من إنعام مولاه ، مفيد جدا. ولذلك فإن العبد إذا اكتسب بسعي نفسه مائة دينار ، وخلع عليه السلطان الأعظم خلعة تساوي مائة دينار ، فإن كل أحد يرجح هذه الخلعة على ذلك المال.

الوجه الثاني : إن ابتداء الخلق لا بد وأن يقع على سبيل التفضيل. فإن كان إيصال التفضيل إليه يوجب نوعا من أنواع الضرر ، لزم أن يقبح ابتداء الخلق والتكوين.

الوجه الثالث : إذا كلفه فإن أطاع استفاد هذه الفائدة التي لا يلزم من فواتها فوات أمر مهم ، وإن لم يطع وقع في العذاب العظيم. وقد بينا أن مقتضى العقل في هذه الصورة : الترك.

وأما الوجه الثالث : وهو إيصال اللذة والسرور (إليه من الدار الآخرة ، مشروط بهذا التكليف فجوابه : إن وجود اللذة والسرور) (١) ممكن في ذاته. والله تعالى قادر على كل الممكنات ، فكان قادرا على إيجادهما من غير واسطة هذه التكاليف.

وأما مذهب الحكماء : فغير وارد على هذا الكلام لأن عندهم الثواب والعقاب لا يحصلان بقصد الفاعل المختار وبتكوينه ، بل هما نوعان من لوازم الأفعال البشرية. وذلك قول صحيح معلوم لكن تفريعا على القول بأن إله العالم موجب بالذات : أما على التفريع بأن إله العالم فاعل مختار وأنه باختياره يخص

__________________

(١) من (م ، س).

٣٠٣

البعض بالثواب ، والبعض بالعقاب ، فذلك الكلام لا يليق بهذا الباب. ومن حق العاقل أن يقرر كل شيء بما يليق به ويناسبه. وقد ذكرنا أن الكلام في التعديل والتجدير من فروع القول بإثبات الفاعل المختار فتقرير هذا الأصل بشيء ، لا يتم إلا مع القول بالموجب بالذات : جمع بين النقيضين (وأنه باطل والله أعلم) (١).

__________________

(١) من (م).

٣٠٤

الفصل الثامن

في

إثبات ان التكليف بما لا يطاق واقع

وأنه متى كان الأمر كذلك امتنع أن يقال

إنه تعالى يراعي مصالح العباد

الذي يدل على أن التكليف بما لا يطاق واقع وجوه :

الحجة الأولى : إنه تعالى أخبر عن أقوام معينين أنهم لا يؤمنون البتة. فقال : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ. أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (١) وقال أيضا : (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (٢) وقال : (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَ) (٣) وقال : (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) إلى قوله : (سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً) (٤).

إذا ثبت هذا فنقول : إنه تعالى أخبر عن شخص معين أنه لا يؤمن قط ، فلو صدر منه الإيمان لزم انقلاب خبر الله (الذي هو) (٥) الصدق كذبا ، والكذب على الله محال ، والمفضي إلى المحال محال ، فصدور الإيمان منه محال ، فالتكليف به : تكليف بالمحال.

وقد يذكر هذا في صورة العلم وهو أنه تعالى : لما علم منه أن لا

__________________

(١) البقرة (٦).

(٢) يس (٧).

(٣) المسد (١).

(٤) المدثر (١١ ـ ١٧).

(٥) زيادة.

٣٠٥

يؤمن ، كان صدور الإيمان منه : يستلزم انقلاب علم الله جهلا ، ومستلزم المحال محال ، فالتكليف تكليف بالمحال وقد نذكر هذا على وجه ثالث وهو أن جود الإيمان يستحيل أن يحصل مع العلم بعدم الإيمان ، لأنه إنما يكون علما لو كان مطابقا للمعلوم ، والعلم بعدم الإيمان إنما يكون مطابقا ، لو حصل عدم الإيمان. فلو وجد الإيمان مع العلم بعدم الإيمان لزم الجمع بين النقيضين وهو محال. فالأمر بتحصيل الإيمان مع حصول العلم بعدم الإيمان : أمر بالجمع بين الضدين ، بل أمر بالجمع بين العدم والوجود ، وكل ذلك محال ، ونذكر هذا على وجه رابع وهو : أنه تعالى كلف هؤلاء الذين أخبر عنهم بأنهم لا يؤمنون البتة بالإيمان ، والإيمان معتبر فيه تصديق الله تعالى في كل ما أخبر عنه (ومما أخبر به أنهم) (١) لا يؤمنون قط. فقد صاروا مكلفين بأن يؤمنوا ، وبأنهم لا يؤمنون قط ، وهذا تكليف (٢) بالجمع بين النفي والإثبات. ونذكر هذا على وجه خامس (وهو أنه تعالى) (٣) عاب الكفار على أنهم حاولوا فعل شيء على خلاف ما أخبر الله عنه (فقال : (يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ. قُلْ : لَنْ تَتَّبِعُونا. كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ) (٤) فيثبت : أن القصد إلى تكوين ما أخبر الله عن) (٥) عدم تكوينه : قصد لتبديل كلام الله ، وذلك مما قد نهى الله عنه في هذه الآية. ثم إن في سائر الآيات أخبر الله تعالى عنهم بأنهم لا يؤمنون البتة ، فالقصد إلى تحصيل الإيمان ، يكون قصدا إلى تبديل كلام الله ، وذلك منهي عنه. ثم إنه أمر الكل بتحصيل الإيمان فكان هذا جمعا بين الأمر والنهي بالنسبة إلى الشيء الواحد ، وذلك تكليف ما لا يطاق.

واعلم. أن هذا الكلام هو الكلام الهادم لأصول الاعتزال.

ولقد تكلفت لهم كلمات كثيرة ، وأنا أذكرها هاهنا على سبيل الاستقصاء.

__________________

(١) من (س).

(٢) تكليف (س).

(٣) من (س).

(٤) الفتح (١٥).

(٥) من (م ، س).

٣٠٦

والكلام في هذا الباب على مقامين :

المقام الأول : قالوا : الدلائل السمعية والعقلية مطابقة على أن العلم بعدم الإيمان والإخبار عن عدم الإيمان لا يوجب كون الإيمان ممتنع الوجود.

أما الدلائل السمعية فمن وجوه :

الحجة الأولى : إن القرآن مملوء من الآيات الدالة على أنه لا مانع (لأحد) (١) من الإيمان. قال تعالى : (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا : إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى) (٢)؟ وهو إنكار بلفظ الاستفهام. ومعلوم أن رجلا لو حبس رجلا آخر في بيت بحيث لا يمكنه الخروج عنه ، ثم يقول له : ما يمنعك من التصرف في حوائجي؟ كان ذلك قبيحا ، وكذا قوله تعالى : (وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا) (٣) بِاللهِ؟ وقوله (لإبليس) : (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ)؟ (٤) وقوله (عن قول) (٥) موسى عليه‌السلام لأخيه : (ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا)؟ (٦) وقوله (فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)؟ (٧) (٨) (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) (٩)؟ (عَفَا اللهُ عَنْكَ. لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) (١٠)؟ (لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ)؟ (١١) قال «الصاحب بن عبّاد» في فصل له في هذا الباب : كيف يأمر بالإيمان وقد منعه عنه ، وينهاه عن الكفر وقد جبله عليه؟ وكيف يصرفه عن الإيمان ثم يقول : (أَنَّى يُصْرَفُونَ)؟ (١٢) ويخلق فيهم الإفك ، ثم يقول : (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ)؟ (١٣) وأنشأ فيهم الكفر ، ثم يقول (لِمَ تَكْفُرُونَ)؟ (١٤) وخلق

__________________

(١) من (س).

(٢) الإسراء (٩٤).

(٣) النساء (٣٩).

(٤) ص ٧٥.

(٥) زيادة.

(٦) طه (٩٢).

(٧) الانشقاق (٢٠).

(٨) من (م).

(٩) المدثر (٤٩).

(١٠) التوبة (٤٣).

(١١) التحريم (١).

(١٢) غافر (٦٩) واعلم أن هذا الكلام في الجزء التاسع.

(١٣) يونس (٣٤).

(١٤) آل عمران (٩٨).

٣٠٧

فيهم لبس الحق بالباطل ثم يقول : (لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ)؟ (١) وصدهم عن السبيل ثم يقول : (لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ)؟ (٢) وحال بينهم وبين الإيمان. فقال : (وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا)؟ (٣) وذهب بهم عن الرشد ، ثم قال : (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) (٤) وأضلهم عن الدين حتى أعرضوا ، ثم قال : (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) (٥).

وحاصل الكلام هاهنا : أن هذه الآيات تصريحها يدل على عدم المنع ، ولو كان العلم بالعدم والإخبار عن العدم مانعا ، لزم كذب هذه الآيات بأسرها.

الحجة الثانية : إن الله تعالى قال : (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ ، لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) (٦) وقال : (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ ، لَقالُوا : رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً ، فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى) (٧) فلما بين الله تعالى أنه ما أبقى لهم عذرا إلا وقد أزاله عنهم ، فلو كان علمه بكفرهم ، وخبره عن كفرهم مانعا لهم عن الإيمان ، لكان ذلك من أعظم الأعذار ، وأقوى الوجوه الدافعة عنهم العقاب. ولما لم يكن كذلك علمنا أنه غير مانع.

الحجة الثالثة : إنه تعالى حكى عن الكفار في «حم» السجدة. أنهم قالوا : (قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ ، وَفِي آذانِنا وَقْرٌ) (٨) وإنما ذكر الله تعالى هذه الحكاية عنهم ذمّا لهم بسبب أنهم قالوا هذا القول ، ولو كان العلم بعدم الإيمان ، والخبر عن عدم الإيمان ، مانعا لهم عن الإيمان ، لكانوا صادقين في

__________________

(١) آل عمران (٧١).

(٢) آل عمران (٩٩).

(٣) النساء (٣٩).

(٤) التكوير (٢٦).

(٥) المدثر (٤٩).

(٦) النساء (١٦٥).

(٧) طه (١٣٤).

(٨) فصلت (٥).

٣٠٨

ذلك ، ولو كانوا صادقين (في ذلك) (١) لكان ذمهم عليه باطلا فاسدا.

الحجة الرابعة : إنه تعالى إنما أنزل قوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) (٢) إلى قوله : (لا يُؤْمِنُونَ) وإنما أنزل قوله : (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (٣) ذمّا لهم ، وزجرا لهم عن الكفر ، وتقبيحا لفعلهم ، فلو كانوا ممنوعين عن الإيمان لما استحقوا الذم ، بل كانوا معذورين ، كما يكون الأعمى معذورا في أن لا يرى ، والزمن في أن لا يمشي.

الحجة الخامسة : إن القرآن إنما ليكون حجة لله ولرسوله على الكفار ، لا ليكون حجة للكفار في إبطال النبوة والتكليف ، فلو كان العلم والخبر مانعا ، لكان لهم أن يقولوا : فلم أقررت بأن الله علم الكفر وأخبر عن كوننا كافرين ، وهذا العلم والخبر من أقوى الموانع؟ فلم يطلب المحال منا؟ ولم يأمرنا (بالمحال) (٤) ومعلوم أنه لو كان العلم والخبر مانعا ، لكان هذا الكلام لا جواب لله ولا للرسول عنه.

الحجة السادسة : إنه تعالى قال : (نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) (٥) ولو كان مع كون الإيمان محال الوجود ، وكلفهم به ، ويعذبهم على تركه ، لم يكن نعم المولى ونعم النصير. بل كان بئس المولى وبئس النصير.

الحجة السابعة : قالوا : إنه تعالى قال : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ؟ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ) (٦) فلو كان العلم والخبر مانعا ، لكان لهم أن يجيبوا عن هذا السؤال من ستة عشر وجها.

وذلك لأن مذهب الجبرية أنه تعالى خلق الكفر فيهم وأراده منهم ،

__________________

(١) على (س).

(٢) البقرة (٦).

(٣) يس (٧).

(٤) من (س).

(٥) الأنفال (٤٠).

(٦) البقرة (٢٨).

٣٠٩

وعلم (١) الكفر منهم وأخبر عن وجود الكفر فيهم. وكل واحدة من هذه الأربعة موجب تام لحصول الكفر. وأيضا : خلق فيهم مجموع القدرة والداعي الذي هو موجب الكفر. وأراد ذلك المجموع وعلمه وأخبر عنه ، وكل واحد من هذه الأربعة أيضا سبب تام لحصول الكفر، وأيضا : لم يخلق الإيمان فيهم وما أراده منهم. وما علمه منهم ، وما أخبر عنهم. وهذه الأربعة أيضا أسباب تامة ، وأيضا لم يخلق فيهم داعية الإيمان ولم يرده ، ولم يعلمه ولم يخبر عنه ، وكل واحد من هذه الأربعة أيضا سبب تام. فيثبت أن على قول الجبرية : حصل الجواب التام المسكت لقوله تعالى : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ) (٢)؟ من ستة عشر وجها. فيثبت أنه لو كان الخبر حقا ، لكان هذا السؤال باطلا.

الحجة الثامنة : إن هذه المدائح والزواجر غير مختصة بالقرآن ، بل هو موجود في جميع الكتب الإلهية ، ومذكور في سنة جميع الأنبياء والرسل ، ولو كان العلم والخبر مانعا ، لبطل الكل.

الحجة التاسعة : الآيات الدالة على أن تكليف ما لا يطاق لم توجد. قال تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) (٣) وقال : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (٤) وقال : (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ ، وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ) (٥) وأي حرج ومشقة فوق التكليف بالمحال؟.

فهذا ما يتعلق بالدلائل السمعية.

وأما الدلائل العقلية فمن وجوه :

الحجة الأولى : إنه لو كان العلم بعدم الشيء مانعا من تكوينه ، لزم أن لا يكون الله قادرا على شيء أصلا ، لأن الذي علم الله وقوعه يكون واجب

__________________

(١) وخلق فيهم (س).

(٢) البقرة (٢٨).

(٣) البقرة (٢٨٦).

(٤) الحج (٧٨).

(٥) الأعراف (١٥٧).

٣١٠

الوقوع ، وما لم يعلم يكون ممتنع الوقوع. والواجب لا قدرة على إيجاده ، لأنه لما كان واجب الوقوع ، فهو يقع ، سواء فعله القادر أو لم يفعله. وأما الممتنع فظاهر أنه لا قدرة عليه ، فيلزم أن يقال : إن الله تعالى لا قدرة له على شيء أصلا. ومعلوم أن الكلام في الحكمة والسفه ، فرع على إثبات كونه قادرا ، فإن كان هذا الكلام يقدح في كونه تعالى قادرا ، وجب أن يكون باطلا.

الحجة الثانية : إن العلم يتعلق بالشيء على ما هو عليه ، فإن كان ممكنا في نفسه ، علمه ممكنا ، وإن كان واجبا ، علمه واجبا ، ولا شك أن الإيمان والكفر بحسب ماهيته وذاته ممكن الوجود ، فلو صار واجب الوجود بسبب العلم والخبر ، لزم كون العلم والخبر مؤثرين في تغير حال المعلوم ، والمخبر ، وفي تبديل صفته ، وذلك محال. فيثبت أن العلم والخبر لا يوجبان امتناع المعلوم والمخبر.

الحجة الثالثة : إنه لو كان العلم والخبر مانعا من الفعل ، لما كان العبد قادرا على شيء أصلا ، لأن الذي علم الله وقوعه ، كان واجب الوقوع ، والواجب لا قدرة عليه. والذي علم عدمه كان ممتنع الوقوع ، والممتنع لا قدرة عليه ، فوجب أن لا يكون العبد قادرا على شيء أصلا ، فيلزم أن تكون حركاته وسكناته جارية مجرى الحركات الاضطرارية للحيوانات. لكنا بالبديهة نعلم فساد ذلك ، فإن من رمى في وجه إنسان بآجرة حتى شجّه ، فإنه يذم الرامي ولا يذم الوجه ، ويدرك بالبديهة تفرقة بين ما إذا سقطت الآجرّة عليه من السقف ، وما بين ما إذا رمى بالقصد إنسان وجهه بالآجرة ، ولذلك فإن العقلاء ببداءة عقولهم يدركون الفرق بين مدح المحسن وذم المسيء ، ويلتمسون ويأمرون ويعاتبون ويقولون : لم فعلت؟ ولم تركت؟ فيثبت أن العلم والخبر لو كان مانعا من الفعل ، لما صح المدح والذم البتة ، وثبت أن حسن المدح والذم معلوم بالضرورة ، فوجب أن لا يكون ذلك العلم والخبر مانعا من الفعل.

الحجة الرابعة : لو كان العلم بالعدم (١) مانعا من الوجود ، لكان أمر

__________________

(١) العلم بالعلم (م).

٣١١

الكافر بالإيمان أمرا بإعدام علمه ، وكما أنه لا يليق به أن يأمر عباده بإعدام ذاته ، فكذلك لا يليق به أن يأمرهم بإعدام علمه ، لأنه كما أن إعدام ذاته محال (فكذلك إعدام علم الله محال) (١) فلا جرم لم يرد الأمر به ، فكذلك إعدام علمه محال ، فوجب أن لا يرد الأمر به، وحيث ورد الأمر ، بهذه الأفعال ، علمنا أن العلم والخبر لا يمنعان من الفعل.

الحجة الخامسة : الإيمان في نفسه من قبيل الممكنات والجائزات (نظرا إلى ذاته ، فوجب أن يعلمه الله تعالى من الممكنات الجائزات) (٢) إذ لو لم يعلمه كذلك لصار ذلك العلم جهلا ، وهو محال. وإذا علمه الله من الممكنات الجائزات التي لا يمتنع وجودها وعدمها البتة ، فلو صار بسبب ذلك العلم واجبا ، وجب أن يكون ذلك العلم موجبا ، لكونه من الممكنات ، ولكونه من الواجبات فيجتمع النقيضان ، وهو محال.

الحجة السادسة : إن الأمر بالمحال سفه وعبث ، فلو جاز ورود الشرع به ، لجاز أيضا وروده بكل أنواع السفه ، وحينئذ يلزم أن لا يمتنع وروده بإظهار المعجز على الكاذبين ، وأن لا يمتنع أيضا أن لا يفي بوعده ووعيده وحينئذ تبطل النبوة والتكليف.

الحجة السابعة : لو جاز ورود الأمر بالمحال (٣) في هذه الصورة لجاز أمر الأعمى بنقط المصاحف ، وأمر الزمن أن يطير في الهواء ، وأن يقال لمن قيد يداه ورجلاه ، وألقى من شاهق جبل : لم لم تطر إلى السموات؟ ولمّا لم يجز شيء من ذلك في العقول. علمنا أنه لا يجوز الأمر بالمحال ، وذلك يدل على أن العلم والخبر غير مانع من الفعل.

الحجة الثامنة : إنه لو جاز ذلك لجاز بعثة الأنبياء إلى الجمادات ، وإنزال الكتب عليها ، وإنزال الملائكة لتبليغ التكاليف إليها حالا بعد حال ، ومعلوم أن ذلك سخرية واستهزاء بالدين.

__________________

(١) من (م).

(٢) من (م).

(٣) بالمحال من (س).

٣١٢

الحجة التاسعة : إن العلم بوجود الشيء ، لو اقتضى وجوب وجوده لأغنى العلم عن القدرة ، والإرادة ، فوجب أن لا يكون الله قادرا مريدا مختارا. وقد ذكرنا : أن الكلام في الحكمة والسفه فرع على الكلام في إثبات القادر المختار.

فهذه جملة الوجوه العقلية التي يمكن ذكرها في بيان أن العلم والخبر لا يمنعان من الفعل.

المقام الثاني : الجواب التفصيلي عن ذلك الكلام :

ومجموع ما ذكره الناس ثلاثة أوجه :

الأول : وهو طريقة أبي علي وأبي هاشم واختيار القاضي عبد الجبار بن أحمد ، وهو أنه إذا قيل لهم : لو وقع خلاف معلوم الله ، لزم أن ينقلب علم الله جهلا. فقالوا : خطأ قول من يقول : إنه ينقلب علمه جهلا ، وخطأ قول من يقول : إنه لا ينقلب ، ولكن يجب الإمساك عن القولين.

الوجه الثاني في الجواب : طريقة الكعبي ، واختيار أبي الحسين البصري وهو أن العلم يتبع المعلوم. فإذا فرضنا أن الواقع من العبد هو الإيمان ، لزم أن يكون الحاصل في الأزل هو العلم بوجود الإيمان. وإذا فرضنا أن الواقع من العبد هو الكفر بدلا عن الإيمان ، لزم أن يكون الحاصل في الأزل هو العلم بوجود الكفر بدلا عن العلم بوجود الإيمان. فهذا فرض علم بدلا عن علم آخر ، لا أنه يتغير (١) علم الله.

وهذان الجوابان هما اللذان عليهما اعتماد جمهور المعتزلة.

والوجه الثالث من الجواب : وهو طريقة هشام بن الحكم ، وهو أنه تعالى كان في الأزل عالما بحقائق الأشياء وبماهيتها ، وكان عالما بأنه تعالى يحدثها مرارا كثيرة ، وأما العلم بتلك التفاصيل وبتلك الأحوال ، فما كان حاصلا في الأزل

__________________

(١) يتعين (م).

٣١٣

البتة. وإنما يحدث العلم بها عند حدوثها وذلك لأن ذاته تعالى توجب حصول العلم بالمعلوم، لكن بشرط حصول ذلك المعلوم على ذلك الوجه ، فإذا حصل ذلك المعلوم على ذلك الوجه ، فقد حصل الموجب مع شرط الإيجاب. فلا جرم يحدث ذلك العلم. وإذا منعنا كونه تعالى عالما بهذه الجزئيات في الأزل. فقد زال هذا الإشكال.

وهذا منتهى البحث في هذا الباب.

واعلم ان الجواب الأول من هذه الأجوبة الثلاثة في غاية الضعف. وذلك لأنهم إذا أرادوا : أن النفي والإثبات باطلان في نفس الأمر ، كان هذا قولا بإثبات واسطة بينهما. وبديهة العقل دافعة لذلك. وإن أرادوا به : أنهم لا يذكرونه باللفظ واللسان ، فالإلزام ما ورد على لفظهم وكلامهم. وإنما ورد على هذا البحث في نفسه.

أما الجواب الثاني : فهو أيضا في غاية الضعف. وذلك لأنه لا نزاع أنه متى كان الواقع هو صدور الإيمان عن العبد كان الواقع هو علم الله بوجود الإيمان. ومتى كان الواقع هو صدور الكفر عن العبد كان الواقع هو علم الله بوجود الكفر. إلا أن هذه القضية شرطية.

فإن قولنا : إن كان الصادر عن العبد كذا ، كان الحاصل في حق الله هو العلم بكذا. لا شك أنه قضية شرطية ، إلا أنه نقول : هل حصل لله تعالى علم بوقوع أحد الطرفين أو لم يحصل؟

فإن لم يحصل فهذا هو قول هشام بن الحكم ، وإن حصل فنقول : لما كان العلم في نفسه واقعا على وجه خاص وكونه علما مشروط بكونه (١) ذلك العلم ، فلو تغير المعلوم لزم لا محالة تغير العلم وهو محال من وجهين : الأول : إن انقلاب علم الله جهلا : محال. والثاني: إن علم الله ، كان علما قبل تغير هذا المعلوم (فعند تغير هذا لمعلوم ، يلزم أن ينقلب ذلك العلم عن كونه علما في

__________________

(١) بوقوع (س).

٣١٤

الزمان الماضي) (١) فيلزم حدوث تغير الشيء عن صفته التي كانت حاصلة ، وأن يقع ذلك التغير في الزمان ، وهذا مما لا يقبله العقل البتة. وأيضا : فالعلم بالوقوع مشروط بالوقوع ، فإذا حصل العلم بوقوع الكفر فقد حصل وقوع الكفر (فلو فرضنا مع ذلك العلم عدم حصول الكفر ، فحينئذ يلزم أن يحصل عدم الكفر مع حصول الكفر) (٢) وذلك جمع بين النقيضين ، وهو محال.

وأما الجواب الثالث : وهو قول هشام بن الحكم : إنه تعالى لا يعلم الجزئيات قبل وقوعها. فهذا قول قد أطبق أكثر المسلمين على عدم الالتفات إليه. واتفقوا على أنه يجب تنزيهه تعالى عنه ، وإن كان لا خلاص عن تلك العقيدة البتة إلا بالتزامه.

فهذا حاصل الكلام في هذا الباب (والله أعلم بالصواب) (٣).

__________________

(١) من (م).

(٢) من (م).

(٣) من (م).

٣١٥
٣١٦

الفصل التاسع

في

ذكر أنواع أخر من الدلائل على فساد القول

بتحسين العقل وتقبيحه في أفعال الله وفي أحكامه

فالحجة الأولى (١) : أن نقول : لو جرى حكم تحسين العقل وتقبيحه في أفعال الله ، وفي أحكامه لقبح منه تكليف من علم أنه يكفر. وهذا باطل فذاك باطل.

بين الملازمة : إنا لا ندعي هاهنا أن صدور الإيمان منه ممتنع ، إلا أنا نقول : إن هذا التكليف قبيح في الشاهد. وبيان ذلك بأمثلة :

المثال الأول : أن من بنى رباطا في مفازة مهلكة ، وعلم علما يقينا لا ريب فيه أنه متى بنى ذلك الرباط ، فإن اللصوص وقطاع الطريق يتخذون قلعة حصينة لأنفسهم ويعظم ضررهم على الناس ، ويتعذر بسبب ذلك الرباط قهرهم ومنعهم. ثم إنه مع هذا اليقين يبني ذلك الرباط ويقول : ما أردت منه إلا أن يجتمع أولئك اللصوص فيه ، ويتركون اللصوصية ويؤمنون الطرقات ، ويعينون القوافل على ما لهم من المهمات والخيرات ، فكل من اعتقد فيه أنه مع ذلك اليقين بنى ذلك الرباط قضى عليه بكونه ساعيا في فتح باب الآفات ، والمخافات ويكذبونه في قوله : إني ما قصدت إلا الخير والنفع فكذا هاهنا.

المثال الثاني : كل من جمع بين عبيده وإمائه ، وزين البعض في عين

__________________

(١) في الأصل : الفصل الثاني والعشرون.

٣١٧

البعض ، ورغب البعض في البعض على أقصى الوجوه ، ثم وضع عندهم كل ما يحتاجون إليه من الأطعمة والأشربة وحصل في قلوبهم شهوة أن يفجر بعضهم بالبعض ، وقوى تلك الشهوة ، وأزال الموانع. ثم يقول : إني إنما فعلت ذلك حتى يجتهد كل واحد منهم في منع نفسه عن تلك الشهوات ، حتى يستوجب مزيد الثواب والكرامة. ثم إنه يعلم علما يقينا أنه لا تحصل هذه العصمة والطهارة البتة ، وأن الحاصل ليس إلا الفجور والفسق ، فإن كل أحد يكذبه في دعواه ، ويقول له : إنك ما أردت إلّا فتح باب الفجور والشرور.

المثال الثالث : من دفع سكينا إلى عبده ، وعلم يقينا أنه متى دفع ذلك السكين إليه فإنه يقتل به ولده ، ثم إنه مع هذا اليقين ، يقول : إني إنما دفعت هذا السكين إليه ليقتل به عدوا لي (١). فإن كل أحد يكذبه ، ويقول : إنك لما علمت علما يقينا أنه لا يقتل بذلك السكين إلا ولدك ، ثم إنك دفعته إليه ، وأزلت عنه جميع الموانع من قتل ولدك. دل هذا على أنك كنت ساعيا في قتل ولدك.

المثال الرابع : من وقع في بئر ، فألقى إنسان إليه حبلا. ويعلم هذا الملقى يقينا أنه متى ألقى الحبل إليه ، فإنه يخنق بذلك الحبل نفسه. ثم إنه مع هذا اليقين ألقى ذلك الحبل إليه ، حكم كل أحد بأنه إنما ألقاه إليه ليقتل به نفسه.

المثال الخامس : قال محمد بن زكريا الرازيّ. في المناظرة الطويلة التي دارت بينه وبين الكعبي (٢) : إن رجلا لو علم ابنه السباحة حتى تمهر فيها ، ثم كلفه عبور نهر ، ليصل إلى موضع فيه دواء يشفيه من مرض به ، إلا أنه عالم بأن ابنه هذا سيمسك عن السباحة باختياره حتى يصير ذلك سببا لغرقه ، ثم إنه مع هذا العلم يأمر ولده بالسباحة ، ولم يمنعه منه أشد المنع ، فإنه يعد ذلك الأب عاق ، غير ناظر لذلك الولد. ولا مريدا للأمر الأصلح له.

__________________

(١) لله (س).

(٢) الكلبي (م).

٣١٨

ثم قال : فإن قيل : هذا ليس بمثال لفعل الله تعالى. وإنما المثال فيه : رجل له بنون وعلمهم السباحة ، ثم أمرهم أن يعبروا نهرا إلى بلدة فيها حاجتهم ليصيبوها ، وكان عالما بأن فيهم من يختار تغريق نفسه. فههنا لا يجب على ذلك الأب الناظر الرحيم أن يحرم الواصلين من أجل الهالكين.

ثم أجاب محمد بن زكريا ، فقال : إن هذا المثال لا يصح إلا بشرائط :

الأول : أن يكون هذا الأب ليس هو الذي أحوج أولئك الأولاد إلى طلب الشيء الذي لا يوجد إلا ما وراء النهر. أما لو كان هو الذي أحوجهم إلى ذلك الشيء ، ثم إنه يكلفهم العبور لوجدان ذلك الشيء كان هو الذي عرض ذلك الولد للتفريق. ومعلوم أن الله تعالى هو الذي خلق الحاجة والشهوة في قلوب الناس فلما أدخلهم دار الدنيا ، وكلفهم بالتكاليف الشاقة ، وبالامتناع عن المشتهيات اللذيذة ، مع علمه تعالى بأنهم لا يتركونها ، بل يقدمون عليها ويصيرون مستحقين للعقاب الشديد ، بسبب إقدامهم عليها ، كان في الحقيقة هو الذي ألقاهم في تلك المحنة.

والشرط الثاني : أن يكون الأب غير عالم علما يقينا بأن ولده يسعى في تغريق نفسه، فإنه لو علم ذلك يقينا فإنه يصح (١) منه أمر ذلك الولد بالعبور. والله سبحانه كان عالما علما يقينا مبرأ عن الشك بأن الكافر يسعى في تغريق نفسه بسبب كفره.

الشرط الثالث : أن يكون ذلك الأب (٢) عاجزا عن أن يخص بذلك التكليف أولئك الذين يعلم من حالهم أنهم يصلون إلى المصلحة والخير ، فلأجل هذه الضرورة يأمر الكل بالعبور ، أما الله سبحانه فهو قادر على أن يخلق الذين يعلم من حالهم أنهم يطيعون ولا يخلق أحدا من الذين يعلم من حالهم أنه لو خلقهم لكفروا به ، واستوجبوا العقاب العظيم.

__________________

(١) من المحتمل أن الكلمة لا يصح.

(٢) الإنسان (س).

٣١٩

والشرط الرابع : أن يعلم ذلك الأب أن النفع الواصل إلى المصلحين أكثر من الضرر الواصل إلى المفسدين ، فإن ترجيح الجانب الأغلب هو الواجب في العقول. وهاهنا الفائدة في الخلق وفي التكليف وجدان اللذة ، ومعلوم أنه ليس في فواتها ضرر ، بدليل (١) أنه في حاله العدم كانت هذه اللذة فائتة مع أنه لا ضرر. وأما المضار الناشئة من الخلق والتكليف فهي العذاب (٢) الدائم. ومعلوم أن هذه المضرة أعظم من تلك المنفعة ، فكان الواجب في حكم تحسين العقل وتقبيحه ترك الخلق والتكليف لئلا تلزم هذه المضار العظيمة.

الشرط الخامس : أن يكون المصلحون أكثر عددا من المفسدين ، فإنه لو كان الأمر بالضد لما جاز ، ومعلوم أن الكفار أكثر عددا من المسلمين ، والفساق من المسلمين أكثر عددا من الصالحين منهم ، فيثبت بما ذكرنا : أن المثال الذي يذكره المعتزلة إنما يحس لهذه الشرائط الخمسة.

والكل ثابت في مسألتنا ، فيثبت أنه لو كان تحسين العقل وتقبيحه جاريا في أفعال الله ، وفي أحكامه لوجب القطع بقبح تكليف من علم الله أنه يكفر.

واعلم أن حاصل الجواب عنه يرجع إلى طريقين :

الطريق الأول : وعليه اعتماد جمهور المعتزلة في هذه المضايق أن قالوا : الخلق والتكليف (٣) (كما حصلا في حق من كفر ، فكذلك حصلا في حق من أطاع. وذلك يدل على أن الخلق والتكليف) (٤) ليسا سببين لحصول الكفر والمعصية. إذا ثبت هذا فنقول : كل ما صدر عن الله تعالى من الخلق والتكليف فإنه محض الإحسان ، لأنه تعالى أقدر الكافر على الإيمان ، وأزاح أعذاره وعلله ، وكان هذا التكليف تعريضا منه تعالى للكافر لأعظم المنافع. أما وقوعه في الكفر فليس ذلك من الله تعالى ، بل كان من قبل نفسه. فلهذا

__________________

(١) بدليل أن (م).

(٢) العدل (س).

(٣) والتكوين (س).

(٤) من (م).

٣٢٠