المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٣

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٣

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٣

العالم بوقت آخر. فإن كان الأول فنقول : صلاحية الصفة للوجوه الكثيرة إما أن تحوج إلى المرجح أو لا تحوج ، (فإن أحوجته إليه) (١) لزم افتقار الإرادة إلى مرجح آخر ، وإن لم يتحوجه إليه وجب أن لا تحتاج القدرة إلى الإرادة.

وأما القسم الثاني : فنقول : لما كانت الإرادة أزلية ممتنعة العدم ، وكانت متعلقة بأحداث العالم في وقت معين ، وما كانت صالحة للتعلق بإحداث العالم في وقت آخر ، فحينئذ يصير الإله موجبا بالذات غير فاعل على سبيل الصحة. ومعلوم أن هذه المسألة فرع على إثبات القادر المختار ، وكل فرع يوجب فساد الأصل كان باطلا. وأيضا : فإذا جاز أن يقال : تلك الإرادة المخصوصة متعينة التعلق بذلك الوجه الواحد (فلم لا يجوز أن يقال تلك الإرادة المخصوصة متعينة التعلق بوجه واحد) (٢) وحينئذ تكون القدرة غنية عن الإرادة المرجحة؟ وهذا تمام البحث في هذا الدليل.

(المسألة الثالثة) (٣) : واحتج المنكرون لهذه الصفة بوجوه :

الحجة الأولى : إنها إن كانت تامة في جميع جهات المؤثرية وجب الفعل ، وإن كانت غير تامة امتنع الفعل ، فالقول بإثبات هذه الإرادة محال.

الحجة الثانية : إنا لا نعقل من الإرادة إلا الميل إلى جلب النفع أو إلى دفع الضرر.

وذلك في حق الله محال. وأما الإرادة بمعنى آخر فلا نعقله البتة. فكان القول بإثباته لله محالا.

الحجة الثالثة : لو حصلت الإرادة لكانت إما أن تكون قديمة أو حادثة ، والقسمان باطلان ، فالقول بإثبات الإرادة باطل. وهو معلوم.

__________________

(١) من (م).

(٢) من (م).

(٣) زيادة.

١٨١

الحجة الرابعة : إن اقتضاء هذا الترجيح إما أن يكون على سبيل الوجوب ، أو على سبيل الإمكان ، والأول باطل ، وإلا لزم أن يصير موجبا بالذات ، والثاني باطل ، لأن مع الجواز والتساوي يمتنع حصول الترجيح. وهذا تمام الكلام في هذا الباب. والله أعلم.

١٨٢

الفصل الثاني

في

اللذة والألم

اعلم (١). إنك قد عرفت أن اللذة ، إما أن تكون جسمانية وإما أن تكون روحانية. أما اللذة الجسمانية فعلى الله محال ، لأنه لما ثبت أنه تعالى ليس بجسم كانت اللذة الجسمانية عليه ممتنعة. وأما اللذة الروحانية فقد أطبقت الفلاسفة على إثباتها لواجب الوجود. واحتجوا عليه بأن قالوا : ندعي حصول أمرين : أحدهما : كونه تعالى محبا لذاته.

والثاني : كونه تعالى مبتهجا بكمالاته ملتذا بها. أما الأول فتقريره : أن علم الشيء بكون الشيء كاملا يوجب محبة ذلك الشيء. ودليله : الاستقرار. فإنا إذا سمعنا بشجاعة رستم ، واسفنديار ، حصل في قلبنا حب شديد وميل عظيم ، وليس هناك إلا أن اعتقادنا لثبوت الكمالات لهم ، أفاد ذلك الحب.

إذا ثبت هذا فنقول : علمه تعالى أفضل العلوم ، وكماله أفضل الكمالات. فإذا علم بذلك العلم الكامل ذلك الكمال التام لذاته ، وجب أن يترتب على ذلك العلم التام : حصول الحب التام. وأما الثاني وهو كونه مبتهجا بذاته ، ملتذا بكمالاته. فتقريره : أن علم الشيء بكمال نفسه ، كما يوجب الحب الشديد له ، فكذلك يوجب الابتهاج والالتذاذ. ولما حصل ذلك العلم

__________________

(١) الفصل الثامن عشر (س).

١٨٣

في حق الله تعالى وجب أن يحصل ذلك الابتهاج وذلك الالتذاذ.

إذا عرفت هذا فنقول : يتفرع على هذا الأصل فرعان :

الفرع الأول : إن نسبة ابتهاجه والتذاذه بكمالات ذاته إلى ابتهاج الواحد منا بكمالات ذاته ، كنسبة علمه إلى علمنا ، وكنسبة كمالات ذاته إلى كمالات ذواتنا ، ولما كان لا نسبة لعلمه وكماله إلى علم غيره وكمالات غيره ، فكذلك لا نسبة لابتهاجه بكمالات ذاته إلى ابتهاج غيره بكمالات ذاته.

الفرع الثاني : إن الموجودات المفارقة المسماة في لسان الشريعة : بالملائكة. وفي لسان الفلاسفة : بالعقول والنفوس كلها مبتهجة بأنفسها ملتذة بكمالاتها. إلا أن درجات ابتهاجات بأنفسها ، على حسب درجاتها في كمالاتها ، وكما أن أكمل الموجودات هو الله ـ سبحانه ـ فكذلك أجل مبتهج بذاته هو الأول.

١٨٤

الباب الخامس

في

كونه تعالى سميعا بصيرا

هذا البحث أيضا ينقسم إلى ثلاثة أقسام :

أولها : البحث عن ماهية السمع والبصر.

وثانيها : البحث عن الدلائل الدالة على إثبات تلك الصفة لله ـ سبحانه ـ

وثالثها : البحث عن دلائل من ينكر ثبوتها لله ـ سبحانه ـ

١٨٥
١٨٦

البحث عن ماهية السمع والبصر

أما (١) البحث الأول : فاعلم أنا إذا نظرنا إلى صورة زيد ، وحصل علمنا بتلك الصورة على أكمل الوجوه ، ثم غمضنا العين وجدنا تفرقة بديهية بين الحالتين ، مع أن العلم بتلك الصورة حاصل في الوقتين فعلمنا بهذا الطريق أن الإبصار حالة زائدة على العلم. واختلف الناس فيه. فقال بعضهم : إن ذلك التفاوت يرجع إلى أن صورة المرئي وشكله يحصل في الحدقة وينطبع فيها ، فالتفاوت عائد إلى تأثر الحدقة بتلك الصورة. واحتجوا على إثبات هذا الانطباع بوجوه :

الأول : إن من نظر إلى قرص الشمس نظر طويلا تاما ، ثم غمض عينيه فإنه يجد قرص الشمس منطبعا في خياله انطباعا تاما ، حتى أنه بعد تغميض العين كأنه ينظر إلى ذلك القرص ويشاهده ولو أراد الإنسان دفع ذلك الخيال لم يقدر عليه ، فعلمنا أن صورة المرئي ترتسم في الحدقة.

الثاني : إن من نظر إلى روضة خضراء نظرا طويلا بالاستقصاء التام ، ثم حول حدقته إلى شيء أبيض اللون ، فإنه يرى ذلك الأبيض كأنه لون ممزوج

__________________

(١) الفصل التاسع (م) (الفصل التاسع في كونه سميعا بصيرا. هذا البحث أيضا ينقسم إلى ثلاثة أقسام. أولها) : سقط (ت) (البحث عن ماهية السمع والبصر. وثانيها : البحث عن الدلائل على إثبات) : سقط (س) والمناسب ذكر الباب.

١٨٧

بالبياض مع الخضرة ، ولو لا أن العين قد تأثرت بتلك الخضرة ، لما حصل هذا الامتزاج ، أما لما تكيفت الحدقة بلون الخضرة ، ثم نظر إلى الجسم الأبيض امتزجت الخضرة الحاصلة في الحدقة بالبياض القائم بذلك الثوب ، فصار المرئي كأنه ملون بلون ممتزج من هذين اللونين.

الثالث : إنا إذا نظرنا إلى الحدقة المقابلة لوجه الانسان رأينا صورة الوجه في تلك الحدقة وذلك يدل على أن صورة المريء انتقشت في الحدقة وارتسمت فيها.

الرابع : إنا إذا نظرنا إلى قرص الشمس وهورها الكامل ، تأثرت الحدقة وضعفت. وإذا داومنا على ذلك النظر حصل في الحدقة كلال وضعف ، وتفرق في أجزائه وذلك يدل على أن الحدقة تتأثر من صورة المرئي.

إذا عرفت هذا فنقول : من الناس من قال : التفرقة الحاصلة بين الحالتين عائدة إلى أن الحدقة تتأثر من المريء حال النظر إليه ، ولم يحصل هذا التأثر في الحالة الثانية.

ومن الناس من قال : إن هذا التأثر حاصل ، ولا نزاع فيه ، ولكن مع ذلك فالإدراك البصري في نفسه حالة مغايرة للإدراك العلمي. والذي يدل عليه وجوه :

الأول : إنا نبصر نصف كرة العالم بالعين ، ومن المعلوم أن صورة نصف كرة العالم يمتنع انطباعها في العين ، لأن العظيم لا ينطبع في الصغير ، فيثبت أن صورة نصف كرة العالم غير منطبعة في العين ، مع أن رؤية نصف كرة العالم حاصلة ، فوجب أن تكون الرؤية مغايرة للانطباع. ثم إن الحالة المسماة بالرؤية ممتازة عن الحالة المسماة بالعلم ، امتيازا معلوما بالضرورة ، فعلمنا أن هذا التفاوت عائد إلى الإدراكين في أنفسهما.

والثاني : إن تأثر العين وانفصاله عن الشيء لا معنى له ، إلا أنه حصلت صورة مساوية لصورة ذلك المريء فيها ، وقبولها لتلك الصورة بعد عدمها ، وحصولها فيها بعد لا حصولها هو المسمى بالتأثر والقبول والتصور. وهذه الحالة

١٨٨

ليست من باب الانكشاف والتجلي. وأما الرؤية فإنها من باب الانكشاف والتجلي فوجب أن تكون الرؤية حالة مغايرة لهذا الانطباع والتأثر.

والثالث : إنه لو كانت الحالة المسماة بالإبصار والرؤية عبارة عن هذا التأثر ، لوجب أن يقال : كلما كان التأثر أكمل ، وجب أن يكون حصول الإبصار أكمل وليس الأمر كذلك. لأنا إذا نظرنا إلى قرص الشمس فإنه يقوي ذلك التأثر ويكمل ، لا لأن الحالة المسماة بالإبصار والرؤية تضعف فعلمنا أن هذا التأثر والانطباع حالة مغايرة للإبصار والإدراك. فهذا هو الكلام في تحقيق معنى الإبصار.

وأما السماع فنقول : إنا قبل سماع للصوت قد نعلم حقيقة الصوت وماهيته. فإذا سمعنا بالأذن ، علمنا حصول تفرقة بديهية بين الحالتين ، أعني حالة العلم وحالة السماع. وهذه التفرقة (معلومة بالبديهية.

ثم من الناس من قال ، تلك التفرقة) (١) عائدة إلى أن الصوت إنما يحدث عند تموج الهواء. فإذا تأدى ذلك التموج إلى سطح الصماخ قرع ذلك السطح فذلك القرع ـ وهو الحركة العنيفة ـ هو الذي لأجله حصل التفاوت بين الحالتين. والدليل على حصول هذا التأثر : إنه إذا قوي الصوت ظهر الأثر الشديد في الأذن ، حتى أنه ربما تمزق سطح الصماخ عند قوته. وعند سماع أصوات البوقان ، يحس الإنسان كأن دماغه يظهر فيه شيء من التمزق والتفرق ، فيثبت أن عند حصول السماع يحصل هذا الانطباع والانفعال. وعند هذا قال بعضهم : التفاوت الحاصل (بين الحالتين) (٢) عائد إليه.

ومن الناس من قال : هذا التفاوت مسلم لا نزاع فيه ، إلا أنا ندعي حصول التفاوت بين هذين النوعين من الإدراك ، أعني النوع المسمى بالعلم ، والنوع المسمى بالسماع. والدليل عليه : أن السماع أمر مغاير لهذا النوع ، ويدل عليه وجوه :

__________________

(١) من (س).

(٢) من (م).

١٨٩

الأول : أن الإنسان إذا تكلم من وراء الجدار ، فإنا قد نسمع كلامه بالتمام والكمال، ومن المحال أن يتأدى ذلك التموج إلينا بكماله وتمامه. لأن الجدار الحائل بين القائل وبين السامع عائق عن ذلك وليس لهم أن يقولوا : إنه حصل في الجدار مسام ومنافذ وثقب. فلا يمتنع (تأدي) (١) ذلك الهواء المتموج في تلك الثقب والمنافذ إلى سطح الصماخ. قالوا : والدليل عليه : أن الإنسان إذا جلس في بيت (مظلم) (٢) ولذلك البيت باب ، وتكلم إنسان خارج ذلك البيت ، فإن كان باب البيت مفتوحا كان السمع أكمل ، وإن كان باب البيت مردودا صار السمع أضعف وأخفى. وذلك يدل على ما قلناه.

فإنا نقول : هذا القدر باطل. وذلك لأن الجدار جسم كثيف فالتموج الحاصل بسبب نطق ذلك المتكلم وكلامه (إذا وصل إلى ذلك الجدار فإنه لا يبقى على صورته وعلى شكله ، فإن الشكل الحاصل في الهواء اللطيف) (٣) ممتنع البقاء عند وصوله إلى الجدار الكثيف ، والذي ينفذ من ذلك الهواء في ثقب الجدار ، وفي مسامه الضيقة ، لا يبقى على ذلك الشكل الذي حدث خارج البيت ، فوجب أن يمتنع سماع ذلك الكلام على شكله ونظمه ، وحيث حصل ، علمنا أن الذي قالوه باطل.

الحجة الثانية : وهو أنا إذا سمعنا الصوت ، فإنا نعلم أنا سمعناه من الجانب الأيمن أو الجانب الأيسر. وهذا يدل على أنا سمعنا الصوت في مكانه الذي حدث فيه. إذ لو قلنا : بأن المسموع ليس إلا القرع الذي حدث في داخل الصماخ فقط ، فإنه يجب أن لا يعرف بحسب القوة السامعة مكان ذلك الصوت وجهته ، كما أن القوة اللامسة لما لم تحس إلا بالكيفية الملموسة حال وصولها إلى العضو فإنها لا تميز بين الجهة التي منها جاءت تلك الكيفية المحسوسة وبين غيرها. فيثبت بهذا أن الإدراك المسمى بالسماع حالة مغايرة لتأثر الصماخ وانفصاله من التموج الواصل إليه.

__________________

(١) من (ت).

(٢) من (س).

(٣) من (م ، س).

١٩٠

الحجة الثالثة : ما ذكرناه في الإبصار وهو أنه لو كانت الحالة المسماة بالسماع عبارة عن هذا التأثر ، وجب أن يقال : كلما كان التأثر أقوى وأمكن (وجب أن يكون السماع أكمل وأقوى) (١) ولما كان الثاني باطلا. كان المقدم باطلا. فيثبت بهذه الوجوه التي أوضحناها ، أن الإبصار حالة زائدة على العلم ، وعلى تأثر العين ، أو أن السماع حالة زائدة على العلم وعلى تأثر الأذن. ولا شك أنها حالة تفيد نوعا من الانكشاف والتجلي ، أكمل وأقوى من الحالة المسماة بالعلم.

البحث الثاني : في أنه هل دل الدليل على إثبات هذا النوع من التجلي والانكشاف لله تعالى؟

اعلم. أنا وإن دللنا على أن هذه الحالة مغايرة لتأثر العين والأذن ، إلا أنا متوفقون في مقام آخر ، فإنه من المحتمل أن يكون حصول هذه الحالة مشروطا بحصول هذا التأثر في العين والأذن. والدليل عليه : أنه كلما اختلت هذه الآلات اختلت هذه الإدراكات ، وكلما كانت الآلات سليمة كانت) (٢) الإدراكات سليمة ، فهذا يوهم كونها مشروطة بسلامة هذه الآلات ، ويحتمل أيضا : أن يقال : إن حصول هذا النوع من الإدراكات للنفس البشرية ، وإن كانت مشروطة بسلامة هذه الآلات ، إلا أنه (٣) لا يمتنع حصولها في حق المفارقات (٤) من غير هذه الآلات ، كما أن حصول الوجود لهذه الممكنات مشروط بتأثير المؤثر فيه ، ثم إن الوجود حاصل لواجب الوجود لذاته ، من غير حصول إلى حصول هذا المؤثر.

فهذان الاحتمالان قائمان. وعلى التقدير الأول يكون إثبات هذه الصفة لله محالا.

وعلى التقدير الثاني لا يكون محالا ، فلا جرم وجب التوقف. إلا أن المقدمة المبنية على الأولى والأخلق يقتضي إثباتها لله تعالى. وذلك لأنه سبحانه

__________________

(١) من (م).

(٢) من (م).

(٣) يمتنع (س) لا يمتنع (م).

(٤) أنظر الأرواح العالية والسافلة.

١٩١

أكمل الموجودات ، فوجب أن يكون موصوفا بكل صفات ، الكمالات ، ومعلوم أن الحالة المسماة بالإبصار والسماع صفة من صفات الكمال. فإنا بينا أن من علم شيئا ثم رآه ، فإنه يجد في نفسه كأنه انتقل من نقصان إلى كمال ، ومن خفاء إلى جلاء ، فإذا كانت هذه الحالة من صفات الكمال ، وكان عدمها من صفات النقصان ، وكان الحق سبحانه وتعالى منزها عن جميع صفات النقص ، واجب الاتصاف بجميع صفات الكمال ، لزم بمقتضى العقل الأول أن نعتقد كونه تعالى موصوفا به ، منزها عن النقص الحاصل بسبب فقدانه.

البحث الثالث : في الدليل الذي يمنع من كونه تعالى موصوفا به ، وتقريره : أن إبصار الشيء قبل حصوله محال ، وسماع الكلام قبل حصوله محال ، إذا ثبت هذا (نقول : إنهم) (١) قالوا : إن هذا يمنع من كونه تعالى موصوفا به لوجهين :

الأول : إنه تعالى لو كان موصوفا بهذا الإدراك لكانت هذه الصفة متغيرة ، لأنه يكون رائيا للشيء حال وجوده ، وما كان رائيا له قبل وجوده. وكذلك يكون سامعا للصوت حال حصوله (٢) ، ولا يكون سامعا له قبل حصوله ، فيلزم وقوع التغير في صفة الله ، وهو محال ، للدلائل التي ذكرناها في أن وقوع التغير في كل صفات الله محال.

الحجة الثانية : وهي إن إدراك الشيء (مشروط بحصول المدرك في نفسه ، فلو اقتضت ذاته حصول هذا الإدراك ، وثبت أن حصول هذا الإدراك) (٣) موقوف على حصول المدرك في نفسه ، فحينئذ لا تكون ذات الله كافية في اقتضاء هذه الصفة ، بل كان هذا الاقتضاء موقوفا على حال الغير ، فنقول : ذاته موقوفة على تلك الصفة ، وتلك الصفة موقوفة على الغير. والموقوف على الموقوف على الغير موقوف على الغير ، وكل ما كان موقوفا على

__________________

(١) فقالوا (م).

(٢) ولذلك يكون تبليغا للصوت حال حصوله (م).

(٣) من (م).

١٩٢

الغير كان ممكنا لذاته ، فالواجب لذاته ممكن لذاته. هذا خلف. وهذا مجموع ما لخصناه من المباحث العقلية في هذا الباب.

وللمتكلمين وجهين ضعيفين في هذا الباب نذكرهما وننبه على ضعفهما :

فالطريق الأول : وهو الذي عول عليه الأشعرية. قالوا : إنه تعالى حيّ ، وكلّ من كان حيا فإنه يصح عليه السمع والبصر. وكل من صح عليه وصف ، فإنه يجب أن يكون موصوفا بتلك الصفة ، وإن لم يكن موصوفا بها ، فإنه يجب أن يكون موصوفا بضدها ، وضد السمع (الصمم ، وضد) (١) البصر العمى وذلك نقص. والنقص على الله محال ، فوجب كونه موصوفا بالسمع والبصر. هذا تقدير كلام القوم.

ولقائل أن يقول : السؤال عليه من وجوه :

السؤال الأول : ما الذي تريدون بقولكم : إنه تعالى حيّ؟ إن عنيتم به : أنه تعالى لا يمتنع أن يعلم ويقدر. فهذا مسلّم. لكن لم قلتم : إن كل من لا يمتنع أن يعلم ويقدر ، فإنه لا يمتنع أن يسمع ويبصر؟ وهل النزاع وقع إلا فيه؟ وإن عنيتم بكونه حيا معنى سوى ما قلنا إنه لا يمتنع أن يعلم ويقدر. فلا بد من تفسيره ، فإنه محمول التصور ، فضلا عن كونه معلوم التصديق.

السؤال الثاني : إن سلمنا أن كونه حيّا صفة زائدة على سبب (٢) ذلك الامتناع فلم قلتم : إنه لما حصلت الحياة ، وجب أن يحصل هناك صحة أن يسمع ويبصر؟ وبيانه من وجوه :

الأول : أن حياته تعالى مخالفة لحياة الواحد منا ، ولا يلزم من كون حياة الواحد منا مؤثرة في صحة السمع والبصر أن تكون حياته كذلك لما ثبت أن المختلفات في الماهية ، لا يجب (٣) استواؤها في اللوازم والأحكام. ألا ترى أن حياة الواحد منا تقتضي صحة الشهوة والنفرة والألم واللذة والجهل والظن ، مع

__________________

(١) وضد السمع والبصر صمم وعمى (م).

(٢) سلب (س).

(٣) يجب (م).

١٩٣

أن حياة الله تعالى ، تصحح (١) هذه الصفات ، وما ذاك إلا لأن حياة الله تعالى مخالفة لحياتنا ، فلم يلزم من كون حياتنا مقيدة بصحة هذه الصفات كون حياته كذلك ، وإذا ثبت هذا التفاوت في تلك الصورة ، فلم يجوز مثله هاهنا؟

الوجه الثاني : إن بتقدير حصول المماثلة بين الحياتين ، إلا أنا نقول : كما يعتبر في حصول الصحة قيام المصحح ، فكذلك يعتبر فيها كون الذات قابلة. فهب أن الحياة المصححة حاصلة هناك ، إلا أنه لا يمتنع أن يقال : تلك الذات المخصوصة (المخالفة) (٢) بخصوصها لسائر الذوات ، غير (٣) قابلة لهذه الصفة ، ولأجل كون تلك الذات المخصوصة غير قابلة لهذه الصحة انتفت هذه الصحة. والدليل عليه : أن الوجود يصحح جميع الصفات ، ثم إن الوجود حاصل في حق الله تعالى. مع أن أكثر الصفات ممتنعة في حق الله تعالى (وما ذاك إلا لأجل أن تلك الذات المخصوصة غير قابلة لهذه الصفات) (٤) فكذا هاهنا.

والوجه الثالث : هب أن الحياة المصححة لهاتين الصفتين ، والذات المخصوصة قابلة لها من حيث هي هي ، إلا أنه لا يمتنع أن يكون حصول هذه الصحة مشروطا (٥) بشرط مخصوص ، ويكون ذلك الشرط ، ممتنع الحصول في حق الله تعالى ، ففات ذلك الإمكان لفوات الشرط ، لا لفوات المصحح. ولقائل : أن يقول : وإذا كانت هذه الاحتمالات قائمة فقد سقط هذا الدليل.

السؤال الثالث : سلمنا أن صحة هذه الصفة حاصلة في ذات الله تعالى. ولكن ما المراد بالصمم والعمى اللذين جعلتموهما ضدين للسمع والبصر؟ إن عنيتم بالصمم عدم السمع ، وبالعمى عدم البصر ، فحينئذ يرجع حاصل قولكم إلى أن السمع والبصر لو لم يحصلا لكان عدمهما حاصلا ، وعدمهما

__________________

(١) لا تصح [الأصل].

(٢) من (م).

(٣) غير (س).

(٤) من (م).

(٥) من (س).

١٩٤

نقص. وذلك محال على الله. فيقال لكم : وهل النزاع وقع إلا فيه؟ وهو أن حصول هاتين الصفتين. هل هو واجب أم لا؟ وعدمهما هل هو ممتنع أم لا؟ وإذا كان حاصل دليلكم يرجع إلى عدم هاتين الصفتين محال في حق الله تعالى ، كان هذا إعادة لنفس الدعوى. ومعلوم أنه باطل. وإن ادعيتم أن الصمم معنى وجودي يضاد السماع ، وأن العمى معنى وجودي يضاد الإبصار ، فكل ذلك ممنوع. وما الدليل على صحته؟

السؤال الرابع : سلمنا كون الصمم والعمى معنيين وجوديين مضادين للسمع والبصر. فلم قلتم : إن الذات القابلة للضدين يجب اتصافها بأحدهما؟ وما الدليل على صحة هذه

المقدمة؟ ثم نقول : الذي يدل على فساده : أن الأجسام بأسرها متساوية (فتكون متساوية) (١) في قبول الصفات. فجسم الهواء قابل للطعوم المختلفة والألوان المختلفة ، مع أنه غير موصوف بشيء منها ، وكذلك الواحد منا ، يصح أن يكون موصوفا بالإرادة والكراهية. ثم إنا نعلم أفعال أهل السوقة ، مع أنا لا نريدها ولا نكرهها.

السؤال الخامس : قولكم الصمم والعمى نقص. فما المراد من النقص؟ فإن عنيتم بالنقص حصول أمر يمنع من كونه تعالى فاعلا للعالم وخالقا له. فلم قلتم : إن حصول هاتين الصفتين يمنع من كونه تعالى خالقا للعالم (وفاعلا للعالم؟) (٢) وإن عنيتم به معنى آخر. فلا بد من بيانه.

السؤال السادس : ما الدليل على أن النقص على الله محال؟ ثم هاهنا منهم من ادعى البديهة فيه ، ومنهم من عول على الدلائل السمعية. أما الأول فنقول : إن صح ادعاء البديهة فيه. فههنا طريق آخر أقرب منه : وهو أن يقال : الحيّ الذي يكون سميعا بصيرا كامل والذي لا يكون كذلك ناقص والبديهة حاكمة بأنه يجب وصف الله بصفة الكمال ، لا بصفة النقصان ،

__________________

(١) من (م).

(٢) من (س).

١٩٥

فوجب وصفه بكونه سميعا بصيرا. وإذا ثبت هذا ظهر أن ذكر هذا الطريق أولى من ذكر الطريق (الطويل) الذي ذكرتموه. وأما الذين عولوا في تقرير هذه المقدمة على الإجماع. فكلامهم ضعيف ، لأن الآيات الدالة على كون الإجماع حجة أضعف دلالة بكثير من الآيات الدالة على كونه سميعا بصيرا.

وأقول : فإن كان الاكتفاء بالمقدمة السمعية (جائزا) (١) فالاكتفاء بتلك الآيات أولى ، لأنها أدل على المقصود ، وأولى من المقدمات. فهذا هو الكلام في هذا الدليل.

(والطريق الثاني. طريق المعتزلة) (٢)

وأما المعتزلة فقالوا : الله تعالى حيّ لا آفة به ، وكل من كان حيا ، لا آفة به ، فإنه يجب أن يكون مدركا للمدركات عند حضورها ينتج أنه تعالى يدركها عند حضورها. أما المقدمة الأولى ، وهي أنه تعالى حيّ لا آفة به ، فقد ثبتت. وأما المقدمة الثانية وهي أن كل من كان حيا لا آفة به ، فإنه يدرك المدركات عند حضورها. فقد احتجوا عليه بأن الواحد منا إذا كان حيا ، وكان سليما عن الآفات فإنه لا بد وأن يدرك. ألا ترى أن الحي إذا كان سليم العين ، وحضر المرئي مع الشرائط فإنه يبصره ، وإذا كان سليم الأذن وحضر المسموع فإنه يسمعه ، وإذا كان سليم الأعضاء ، ووضع الجمر على جسده ، فإنه يحس بتلك الحرارة ، فيثبت بما ذكرنا : أن الحي إذا كان سليما عن الآفة ، فإنه يجب أن يدرك المدركات عند حضورها.

ولقائل أن يقول :

(السؤال الأول) (٣) كون الواحد منا حيّا ، يخالف كون الله تعالى حيا. وأيضا : فذات الواحد مخالفة لذات الله تعالى بالماهية ، ولا يلزم من ثبوت حكم

__________________

(١) من (س).

(٢) زيادة.

(٣) زيادة.

١٩٦

في ماهية ، ثبوت مثله فيما يخالف تلك الماهية.

السؤال الثاني : هب أن الحياة صفة مشتركة ، بين الشاهد والغائب ، إلا أنه لا يمتنع أن يكون إيجاب الحياة لصفة المدركية ، موقوف على شرائط تمنع ثبوتها في حق الله تعالى ، وحينئذ يمتنع حصول ذلك الحكم في الغائب لفوات تلك الشرائط.

وقال بعض المتأخرين من المعتزلة : إن تلك الأشياء لما كانت ممتنعة الثبوت في حق الله تعالى خرجت عن كونها شرائط بصحة الإدراك ، لأن المعدوم يمتنع كونه شرط لتأثر المقتض ، وإذا خرجت عن كونها شرائط ، وكان المقتضى حاصلا وجب ترتب الأثر عليه (١).

ونقول : هذا باطل. لأن بتقدير أن يكون الشيء مشروطا لشيء ، فعند فوات الشرط ، يجب فوات المشروط ـ إلا أنه يحصل المشروط بدونه ـ ولو صححنا ما ذكرتم لبطل قياس الخلف ، فإنا إذا قلنا : لم يوجد اللازم (فوجب أن لا يوجد الملزوم. فيقال : لم لم يوجد اللازم) (٢) فقد خرج عن كونه لازما ، فوجب أن يحصل الملزوم بدونه ، فثبت : أن الكلام الذي ذكرتم ، لو صح لبطل قياس الخلف.

السؤال الثالث : هب أن كون الحيّ حيا يوجب المدركية ، إلا أن هذا إنما يجري في الإدراك الحسي ، فإن كون الحي حيا يوجب هذا النوع من الإدراك. فأما الإبصار والسماع ، فلا يحصلان لمجرد كون الحي حيا. فبطل قولكم : إن الموجب لهذا الإدراك ، مجرد كونه حيا. وهذا تمام الكلام في هذا الباب. والله أعلم.

__________________

(١) الأثر (س).

(٢) من (م).

١٩٧
١٩٨

الباب السّادس

في

كونه تعالى متكلما

١٩٩
٢٠٠