المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٢

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ١٥٤

الفصل العاشر

في

أنه هل يصح أن نرى واجب الوجود لذاته؟

اعلم : أنه قد عظم الشغب فيه بين المتكلمين. ويجب قبل الخوض فيه تقديم مقدمات، لا يتم الكلام إلا بتقديمها.

المقدمة الأولى : في تفسير الرؤية. فنقول : إدراك الشيء يقع على ثلاث مراتب. فالمرتبة الأولى : إنا إذا رأينا البناء ، علمنا أنه لا بد له من باني. وهاهنا المعلوم ليس إلا كونه بانيا فأما حقيقته المخصوصة ، وذاته المعينة من حيث هي هي ، فإنها لا تصير معلومة البتة. والمرتبة الثانية : إنا إذا علمنا الماهية [المخصوصة المسماة باللون عن طريق الإبصار ، وعلمنا الماهية المخصوصة المسماة (١)] بالصوت عن طريق السماع ، ثم أغمضنا العين ، وسددنا الأذن ، فإنا نكون عالمين بحقيقة اللون من حيث إنه هو ، وبحقيقة الصوت من حيث إنه هو ، ولا شك أن هذه المرتبة أقوى في كونه معلوما متصورا مدركا من المرتبة الأولى. فإنا في المرتبة الأولى ما علمنا الشيء إلا بحسب صفة عرضية من صفاته ، وأما في هذه المرتبة فقد علمنا الماهية المخصوصة من حيث إنها هي ، فهذه المرتبة أقوى في المعلومية وفي المتصورية من المرتبة الأولى. وأما المرتبة الثالثة في الإدراك : فهو أن ننظر بالعين إلى اللون ، وأن نسمع بالأذن ذلك الصوت فإنا حال ما غمضنا العين ، كنا عالمين بماهية اللون المخصوص ، علما

__________________

(١) من (س).

٨١

لا شك لنا فيه ، ثم لما فتحنا العين ونظرنا إليه حصلت حالة زائدة على الحالة الأولى في الخلاء والكشف. وصريح العقل حاكم بأن هذه المرتبة الثالثة أكمل وأقوى من المرتبة الثانية ، كما أن المرتبة الثانية كانت أقوى وأكمل من المرتبة الأولى.

إذا عرفت هذا فنقول : إنا إذا علمنا أن العالم ممكن ، علمنا أن كل ممكن فلا بد له من سبب ، وعلمنا أن الدور والتسلسل باطلان ، فحينئذ نعلم أن هذه الممكنات يجب انتهاؤها إلى موجود واجب الوجود لذاته. فههنا المعلوم : إثبات موجود ، يستند غيره إليه ولا يستند هو إلى غيره ، والمعلوم هاهنا أمور ثلاثة : أحدها : الوجود المطلق. والثاني : وجوب استناد غيره إليه ، وهذا نفس الإضافة. والثالث : امتناع استناده إلى غيره وهذا سلب. فيثبت أن المعلوم هاهنا وجود مقيد ، يفيد إضافة ويفيد سلبا ، وكل ذلك مغاير للحقيقة المخصوصة التي لواجب الوجود.

فيثبت : أن الحاصل عندنا من معرفة الله تعالى ليس إلا المرتبة الأولى. وأما المرتبة الثانية فهل هي حاصلة لأحد من الخلق؟ وبتقدير أن لا تكون حاصلة لأحد ، فهل هي ممكنة الحصول للملائكة فقط ، أو لهم وللأنبياء ، أو هي ممكنة الحصول للكل؟ وهذه المباحث لا بد فيها من البحث. أما المرتبة الثالثة فهل هي ممكنة الحصول لأحد من الخلق أم لا؟ هذا هو المراد من قولنا : إن رؤية الله تعالى هل هي ممكنة الحصول أم لا؟ فهذا تمام البحث عن قولنا : إنه هل تصح رؤية الله تعالى أم لا؟.

وأما المقدمة الثانية : فهي في بيان أن رؤية الموجود الذي لا يكون مختصا بالمكان أو الحيز ، هل هو معلوم الامتناع في بديهة العقل أم لا؟ فنقول : القول الصحيح : إن الرؤية بالتفسير الذي ذكرناه ليست معلومة الامتناع في بديهة العقل ، وذلك لأنا في هذه الحياة علمنا الله تعالى علما واقعا في المرتبة الأولى ، وعلمنا أنه منزه عن الجسمية والمكان. فهل يمكن أن نعلم الله تعالى علما واقعا في المرتبة الثانية مع العلم بكونه منزها عن الجسمية والمكان؟ وإذا ثبت هذا فهل يمكن إدراكه على الوجه الواقع في المرتبة الثالثة ، مع كونه منزها عن الجسمية

٨٢

والجهة؟ ومن المعلوم بالضرورة أن امتناع ذلك غير معلوم بالضرورة ، لأنا قد ذكرنا أن المراد بالرؤية نوع من الانكشاف ، نسبته إلى المرتبة الثانية كنسبة رؤية اللون إلى تصور ماهية اللون ولا شك أن الحكم بجواز حصول هذه الحالة ، وبامتناع حصولها ، مما يتوقف العقل فيه ، ولا يمكنه الجزم به ، لا بالنفي ولا بالإثبات ، إلا بالدليل المنفصل.

والتحقيق فيه : إن محض الاستبعاد إن كان حجة في العدم (١) ، كان القول بإثبات موجود لا يكون في الجهة والحيز محالا ، وهذا باطل عند المعتزلة والفلاسفة ، وإن لم يكن حجة ، وجب أن لا يكون محض الاستبعاد هاهنا أيضا حجة ، فالقول بأنه حجة هاهنا وليس حجة هناك : متناقض فاسد.

المقدمة الثالثة : إن رؤية الله تعالى بالتفسير المذكور بتقدير أن تحصل فمحلها هو هذه العين والحدقة أم جوهر النفس؟ والأول كالمستبعد جدا وأما أن محل ذلك الإدراك الشريف هو جوهر النفس الناطقة فهذا أقرب إلى العقل.

فهذه مقدمات لخصناها قبل الشروع في ذكر الدلائل.

ولترجع إلى المقصود فنقول : أما القائلون بأنه تمتنع رؤية الله فقد احتجوا بوجوه :

الحجة الأولى : قالوا : لو صحت رؤيته ، لوجب أن نراه الآن ، والثاني باطل. فالمقدم باطل. بيان الملازمة إنما يظهر عند تقديم مقدمة ، وهي أن نقول : إن عند حصول ثمانية أنواع من الشرائط فإنه يجب حصول الرؤية. أولها : كون الحاسة سليمة. والثانية : كون الشيء بحيث تصح رؤيته. وثالثها : أن لا يحصل القرب القريب. ورابعها : أن لا يحصل البعد البعيد. وخامسها : أن لا يكون المرئي في غاية الصغر. وسادسها : أن لا يكون في غاية اللطافة مثل الهواء. وسابعها : أن لا يتوسط بين الرائي وبين المرئي شيء من الحجب. وثامنها : أن يكون المرئي مقابلا للرائي أو في حكم المقابل.

__________________

(١) القدم (و).

٨٣

إذا عرفت هذا فنقول : عند حصول هذه الشرائط الثمانية يجب الإبصار ، إذ لو لم يجب لجاز أن يكون بحضرتنا تلال وبوقات ونحن لا نراها ولا نسمعها. وذلك يفضى إلى السفسطة. فيثبت أن عند حصول هذه الشرائط الثمانية يجب الإبصار.

إذا عرفت هذا فنقول : لو كانت رؤية الله جائزة لما اعتبر في حصولها إلا الشرطان الأولان ، أعني كون الحاسة سليمة ، وكون المرئي بحيث تصح رؤيته. فأما الشرائط الستة الباقية فإنه يمتنع اعتبارها في حق الله تعالى ، لأنه إنما يمكن اعتبارها بالنسبة إلى الجسم ، وإلى الشيء الذي يكون حاصلا في الحير والجهة ، والباري تعالى مقدس عن هذه الحالة ، فيثبت أنه بتقدير أن تجوز رؤية الله تعالى ، فإن الشرائط الست لا يمكن اعتبارها في حق الله تعالى ، فلم يبق في حصول رؤية الله إلا سلامة الحواس ، وكون المرئي بحيث تصح رؤيته. وهذا أن الشرطان حاصلان في الحال ، فكان يجب أن نراه الآن ، فيثبت بما ذكرناه : أنه لو صحت رؤيته لوجب أن نراه الآن ، ومعلوم أنا لا نراه الآن ، فوجب أن يقال : إنما لا نراه الآن لكونه في نفسه ، بحيث تمتنع رؤيته ، وذلك هو المطلوب.

الحجة الثانية : إن شرط حصول الرؤية كون الرائي مقابلا للمرئي ، أو في حكم المقابل ، والعلم بهذا الاشتراط ضروري ، وهذا الشرط إنما يعقل ثبوته في حق الشيء الذي يكون مختصا بالحيز والجهة ، ولما كان الله تعالى منزها عن هذه الصفة ، كان شرط جواز الرؤية فائتا فوجب القطع بامتناع حصول هذه الرؤية.

الحجة الثالثة : إن الرؤية يمتنع حصولها إلا عند انطباع صورة المرئي في حدقة الرائي ، وهذا إنما يعقل إذا كان المرئي له شكل وصورة ، ولما كان ذلك في حق الله تعالى محالا ، كانت رؤية الله تعالى ممتنعة عقلا.

الحجة الرابعة : المرئي يجب أن يكون لونا أو متلونا ، ويجب أن يكون شكلا ولما كان الحق تعالى منزها عن هذه الأحوال ، وجب القطع بامتناع رؤية

٨٤

الله تعالى [فهذا مجموع دلائل القاطعين بامتناع رؤية الله تعالى (١)].

واعلم : أن هذه الوجوه خسيسة ضعيفة جدا أما الوجه الأول فالاعتراض عليه من وجوه : الأول : إنا لا نسلم أن عند حصول الشرائط الثمانية يجب حصول الابصار ، ويدل عليه وجوه : الأول : إنا إذا وضعنا على الطبق منّا من الدقيق ، فإنا نراه ، ونقول : ذلك الدقيق عبارة عن تلك الذرات الصغيرة المتلاصقة. فرؤية الدقيق عبارة عن رؤية مجموع تلك الذرات ، ورؤية ذلك المجموع عبارة عن رؤية كل واحد من تلك الذرات مع الأخرى ، ونقول : إما أن تكون رؤية كل واحدة من تلك الذرات موقوفة على رؤية الذرة الأخرى وحينئذ يلزم منه الدور ، وإما أن تتوقف رؤية إحدى الذرتين على رؤية الذرة الأخرى ، ولا تتوقف رؤية الذرة الثانية على رؤية الذرة الأولى ، وذلك محال. لأن تلك الذرات متساوية في تمام الماهية ، فتوقيف أحد الجانبين على الجانب الآخر من غير عكس ، يكون حكما بترجيح الممكن من غير مرجح. وهو محال. وإما أن يكون الحق هو أن رؤية كل واحدة من تلك الذرات غير موقوفة على رؤية الذرة الأخرى ، وإذا كان الحق هو هذا القسم وجب الحكم بأنه تصح رؤية كل واحدة منهما حال انفرادها عن كل ما سواها مع أنا لا نراها ، وذلك يوجب القطع بأنه لا يلزم من كون الشيء صحيح الرؤية ، مع سائر الشرائط : وجوب رؤيته. السؤال الثاني : سلمنا هذا الوجوب في رؤية الأجسام والأعراض ، فلم قلتم : بأنه لما وجبت رؤية الأجسام والأعراض عند اجتماع هذه الشرائط الثمانية ، وجب حصول رؤية الله تعالى عند اجتماعها؟ وبيانه : أن بتقدير جواز رؤية الله تعالى ، فإن رؤيته تكون مخالفة بالماهية لرؤية الأجسام والأعراض ، ولا يلزم من ثبوت حكم في ماهية ، ثبوت مثل ذلك الحكم فيما يخالف تلك الماهية ، فعلى هذا لا يلزم من وجوب رؤية الأجسام والأعراض عند اجتماع هذه الشرائط ، وجوب رؤية الله تعالى عند اجتماع هذه الشرائط. وهذا سؤال ظاهر قوي ، وأنا شديد (٢)

__________________

(١) من (و).

(٢) وقال المصنف : أنا ... الخ (س).

٨٥

التعجب من أن القوم كيف غفلوا عنه.

والسؤال الثالث : لم لا يجوز أن يقال : هذه المرتبة الثالثة التي هي الانكشاف التام ، إن حصلت في حق المحسوسات والجسمانيات ، فإنها تكون واجبة الحصول عند سلامة الحاسة الظاهرة وإن اعتبرت في حق المجردات والمفارقات ، فإن تلك الحالة إنما تحصل لجوهر النفس القدسية ، وحصول تلك الحالة لجوهر النفس القدسية ، مشروط بشرائط هي فائتة في هذه [الحالة ، ولأجل فواتها لم تحصل هذه الرؤية ، وهذا محتمل ، ومع تمام هذا الاحتمال يسقط هذا (١)] الاستدلال. فهذا تمام الكلام على الحجة الأولى.

وأما الحجة الثانية : فنقول : إنا قد ذكرنا مرادنا من الرؤية ، وهي : أنها حالة. نسبتها إلى معرفة ذات الله ، كنسبة إبصار اللون المعين إلى العلم بذلك اللون المعين. وإذا ثبت هذا ، فلم قلتم : إن حصول ذلك الانكشاف مشروط بحصول المقابلة؟ بل حصول انكشاف ماهية الشيء المختص بالمكان والحيز ، مشروط بحصول المقابلة فأما حصول انكشاف ماهية الشيء المنزه عن المكان والحيز. فلم قلتم : إنه مشروط بحصول المقابلة؟ وهذا لا يمكن إثباته بحال مناسب ، فضلا عن ادعاء العلم الضروري فيه.

وأما الحجة الثالثة : وهي قوله : «رؤية الشيء لا تحصل إلا عند ارتسام صورة المرئي في حدقة الرائي» فنقول : قد ذكرنا أن الرؤية عبارة عن الكشف التام ، والتجلي التام ، وانكشاف كل حقيقة تكون على وفق تلك الحقيقة ، فإن كان ذلك الشيء موصوفا بشكل وصورة ، ولون ، كانت رؤيته حاصلة بسبب انكشاف ذلك الشكل والصورة [وإن كان ذلك الشيء منزها عن الشكل والصورة ، كان انكشافه منزها عن الشكل والصورة (٢)] وهذا هو بعينه الجواب عن الحجة الرابعة.

__________________

(١) من (و).

(٢) من (س).

٨٦

فظهر بهذه البيانات : أن هذه الدلائل التي تمسك بها نفاة الرؤية في غاية الضعف والسقوط.

وأما مثبتو (١) الرؤية فقد عولوا على أن قالوا : الله تعالى موجود ، وكل موجود فإنه تصح رؤيته ودليلهم في الإثبات : أن كل موجود تصح رؤيته : قد ذكرناه في أحكام الموجودات ، وأوردنا عليه اعتراضات قوية ، لا يمكن دفعها البتة وإذا عرفت ضعف دلائل الفريقين فنقول : بقي هذا البحث في محل التوقف ، إلا أنا رأينا الأنبياء والرسل عليهم‌السلام مخبرين عن حصول هذه الرؤية ، ورأينا أصحاب المكاشفات يخبرون عن وقوع أحوال كأنها جارية مجرى المقدمات لهذه الرؤية ، فقوي الظن في جواز وقوعها وحقائق الأشياء لا يعرفها بتمامها إلا الله الحكيم.

__________________

(١) لا يصح لهم الإثبات بدليل عقلي. لورود النص بمنع الرؤية في قوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) [الأنعام ١٠٣] ولأن القضية الكبرى كاذبة فإن العقل موجود ، ولا يرى والإنسانية لا ترى ، والشجاعة لا ترى. وهي أشياء موجودة على رأى المؤلف وابن سينا. وقول المؤلف : إن الرؤية تثبت ١ ـ بأخبار الأنبياء ٢ ـ ورؤى المتصوفة : قول يدل على منع الرؤية. فإن الرؤى لا تثبت عقائد دينية. وأخبار الأنبياء دلت على منع الرؤية. ففي التوراة في أسفار موسى الخمسة لما طلب موسى عليه‌السلام من الله أن يراه : قال له : لا تقدر أن ترى وجهي لأن الإنسان لا يراني ويعيش. وهذا النص يمنع الرؤية ، لأن الانسان لا يتحمل الرؤية. وفي سفر أشعياء : «حقا :

أنت إله محتجب يا إله إسرائيل» وفي إنجيل يوحنا : «الله لم يره أحد قط» واليهود يقولون : إن الله لا يرى ـ بضم الياء ـ كما يقول العقلاء من المسلمين. والنصارى خالفوا النصوص المقدسة عندهم التي تمنع الرؤية ، وقالوا : بجواز الرؤية ، لأنهم يعتقدون ـ زورا ـ أن الله ظهر للناس في جسد المسيح. فالناس لما رأوا المسيح ، فإنهم قد رأوا الله ـ على زعمهم ـ ودخل زعمهم هذا في عقائد بعض المسلمين ، كما دخل زعمهم في كلمة الله التي هي أقنوم العلم عندهم لقد زعموا إن الكلمة التي هي المسيح ، قديمة مع الله. فيكون المسيح الذي هو الكلمة إلها قديما ـ الله تعالى عما يقولون علوا كبيرا ـ فيكون الكلام زائدا على الذات.

وفي الأحاديث النبوية : أن عائشة ـ رضى الله عنها ـ قالت : من حدثكم أن محمدا قد رأى ربه ، فقد أعظم الفرية. ثم قرأت (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) وهذا النص محكم لأن له تفسيرا واحدا هو منع الإدراك وفي القرآن نصان متشابهان هما : ١ ـ (إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) ٢ ـ (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) والنص الأول يحتمل أنهم محجوبون عن رضا الله ورحمته ، لا عن رؤية وجهه. والنص الثاني يحتمل أنهم ينظرون إلى نعم الله وخيراته على أهل الجنة. والدليل إذا تطرق إليه الاحتمال ، صار متشابها ، ويلزم رده. والحالة هذه إلى المحكم ، لبيان مراد اللهعزوجل.

٨٧

الفصل الحادي عشر

في

أنا في هذه الحياة هل نعرف ذات الله تعالى من حيث إنها

هي : أعني : تلك الحقيقة المخصوصة. وبتقدير أن لا

نعرفها. فهل يمكن حصول تلك المعرفة لأحد من الخلق ، أو

لكلهم. أم لا؟

نقول : أما البحث الأول. وهو أنا في هذه الحياة الدنيا. هل نعرف تلك الحقيقة المخصوصة؟ فنقول : إن هذه المعرفة : غير حاصلة. ويدل عليه وجوه :

الحجة الأولى : إن المعلوم عندنا من الحق سبحانه ، إما الوجود ، أو كيفية ذلك الوجود أو الإضافات أو السلوب. والعلم بهذه المعلومات ليس نفس العلم بذات الله المخصوصة ، ولا أيضا هذه العلوم توجب العلم بتلك الذات المخصوصة ، فوجب أن يقال : إنا لا نعرف تلك الحقيقة المخصوصة.

فنفتقر في تقرير هذا الدليل إلى مقدمات :

المقدمة الأولى : في بيان أنا لا نعرف من الله إلا هذه الأمور الأربعة. فالأول : إنا إذا علمنا أن العالم محدث وكل محدث فله محدث. فههنا قد علمنا وجود الله. وأما الثاني : وهو معرفة كيفية ذلك الوجود فهي من وجهين : الأول : إنا نعرف أنه واجب الوجود لذاته ، وهو عبارة عن معرفة أن ذلك الوجود واجب الثبوت له ، لما هو هو ، وذلك عبارة عن معرفة صفة من صفات ذلك الوجود. والثاني : إنا نعرف كونه قديما أزليا باقيا سرمديا ، وهو عبارة عن كون ذلك الوجود دائما مبرأ عن العدم فيما قبل وفيما بعد ، ويرجع حاصله إلى معرفة صفة من صفات ذلك الوجود.

٨٨

وأما الثالث : وهو معرفة السلوب. فهي مثل علمنا بأنه تعالى ليس بمتحيز ، ولا في مكان ، ولا حال ، ولا في محل ، ولا ملون ، ولا يكيف ، ولا مركب ، ولا مبعض.

وأما الرابع : وهو معرفة الإضافات فهو مثل علمنا بأنه يصح منه الفعل والترك. وهذه الصحة إضافة مخصوصة ، ومثل علمنا بكونه عالما ، والعلم عبارة عن إضافة مخصوصة بين العالم وبين المعلوم. فهذه الأنواع الأربعة من المعارف حاصلة للعقول البشرية.

المقدمة الثانية : إن العلم بهذه المعلومات ليس علما بالذات المخصوصة ، التي هي ذات الله تعالى. أما العلم بالوجود فليس هذا العلم علما بذات الله لأنا قد دللنا على أن وجود الله صفة قائمة بذات الله تعالى ، وأما العلم بكونه واجب الوجود لذاته ، وبكونه دائم الوجود ، فذلك أيضا ليس علما بالذات المخصوصة ، لأنا بينا أن العلم بالوجوب علم بكيفية مخصوصة من كيفيات ذلك الوجود ، وذلك العلم [بالدوام ، علم بكيفية مخصوصة من كيفيات ذلك الوجود ، ولما ثبت أن العلم (١)] بالوجود ، ليس نفس العلم بتلك الذات المخصوصة ، فالعلم بكيفيات ذلك الوجود أولى أن لا يكون نفس العلم بتلك الذات المخصوصة. وأما العلم بتلك السلوب ، فهو ليس نفس العلم بتلك الذات المخصوصة. لأنا إذا قلنا : إنه ليس بجوهر ، ولا بعرض ، فالمفهوم منه : سلب الجوهرية والعرضية. وذاته المخصوصة ، ليست عبارة عن عين هذه السلوب ، والعلم به ضروري.

وأما العلم بتلك الإضافات ، فليس هو نفس العلم بتلك الذات المخصوصة ، لأن الإضافات الحاصلة بين الشيئين ، مغاير لهما معا. فالعلم بتلك الإضافة لا يكون نفس العلم بتلك الذات المخصوصة. فثبت بما ذكرنا : أن هذه العلوم الأربعة ليست عبارة عن العلم بتلك الذات المخصوصة. وأما بيان أن العلم بهذه المعلومات الأربعة ، لا يوجب العلم بالذات المخصوصة ،

__________________

(١) من (و).

٨٩

فهو ظاهر. لأنا عند العلم بهذه المقدمات الأربعة ، لا نجد من أنفسنا إلا أنه شيء ما. لا نعرف أنه ما هو.؟ إلا أنه موصوف بهذه الأنواع الأربعة من الصفات. وذلك يدل على أن العلم بهذه المعلومات ، لا يوجب العلم بالذات المخصوصة.

وأما المقدمة الثالثة : فهي في بيان أنا لا نعرف من الله تعالى إلا هذه الأنواع الأربعة من المعلومات. وهي (١) من رجع إلى نفسه واعتبر حال عقله وفهمه ، علم بالضرورة أنه ليس عنده [من المعارف الإلهية إلا هذه الأنواع الأربعة ، ولما ثبت أنه ليس عنده (٢)] إلا هذه المعارف الأربعة ، وثبت أنها ليست نفس العلم بذات الله تعالى ، ولا أنها توجب العلم بذات الله ، ظهر حينئذ أن العلم بالذات المخصوصة لله تعالى غير حاصل عندنا البتة.

والحجة الثانية في إثبات هذا المطلوب : أن نقول : العلم إما تصور وإما تصديق ، والتصديق هو الحكم على أحد المتصورين ، بإثباته للمتصور الآخر ، أو سلبه عنه. وهو فرع على التصور. وأما التصورات فإنه لا يمكننا أن نتصور شيئا إلا على أحد وجوه أربعة : أحدها : التصورات التي أدركناها وتصورناها بواسطة الحواس الخمس ، مثل تصورنا لحقيقة السواد والبياض ، ومثل تصورنا لحقيقة الصوت والحرف ، وكذلك القول في سائر التصورات المستفادة من الحواس الخمسة. وثانيها : التصورات التي أدركناها من وجدانات النفوس ، مثل علمنا بحقيقة الألم واللذة والشهوة والنفرة والفرح والغم. وغيرها. وثالثها : التصورات التي ندركها بمحض العقل مثل تصوراتنا لمعنى الوجود والعدم والوحدة والكثرة والوجوب والامتناع والإمكان. ورابعها : التصورات التي يركبها الخيال والعقل من تلك المدركات البسيطة. أما تركيبات الخيال فمثل إنسان له ألف رأس ، وذلك لأنا إذا أدركنا صورة [الإنسان وصورة (٣)] الرأس بحواسنا وأدركنا معنى الإنسان بعقولنا ، فالخيال يركب إنسانا له ألف

__________________

(١) زيادة

(٢) من (و).

(٣) من (و).

٩٠

رأس ، لأن هذه التصورات كانت حاضرة عند الإنسان ، فالخيال ركب بعضها مع البعض. وأما تركيبات العقل فمثل تركيب أحد التصورين بالآخر حتى تتركب منهما مقدمة ، وتركيب أحدى المقدمتين بالأخرى حتى يتركب منهما قياسا.

إذا عرفت هذه الأقسام الأربعة من التصورات. فنقول : الإنسان لا يمكنه أن يستحضر نوعا من أنواع التصورات ، إلا على أحد هذه الأقسام الأربعة ، فأما ما يكون مغايرا لهذه الأقسام الأربعة فإنه لا يمكنه [أن يستحضر (١)] تصورها البتة. والدليل عليه : أنا إذا رجعنا إلى انفسنا واعتبرنا أحوال إدراكاتنا وتعقلاتنا ، علمنا أنه لا يمكننا أن نستحضر شيئا من التصورات إلّا على أحد هذه الوجوه الأربعة. فإن قالوا : إنا نحكم بأن شريك الإله ممتنع ، ولو لا أنا تصورنا معنى شريك الإله ، وإلا لما أمكننا أن نحكم عليه بالامتناع ، فيثبت أن معنى شريك الإله : متصور لنا ، مع أنه خارج عن الأقسام الأربعة المذكورة. فنقول : بل هذا من باب تركيب العقل ، وذلك لأنه حصل عنده معنى الشريك ، حيث وجد. وحصل عنده معنى الإله. فنقول عند هذا : حصول شيء : لله تعالى. نسبته إليه كنسبة أحد الشريكين إلى الآخر فيما بيننا : محال. فيثبت أن هذا من باب التصورات المركبة. وإذا ثبت هذا فنقول : حقيقة الإله : ما وجدناها بحواسنا ، ولا من القسم الثاني وهو الوجدانيات النفسانية ، ولا من التصورات العقلية مثل الوجود والعدم ، [ولا من القسم الرابع (٢)] وهو التصورات المركبة من تلك الأقسام الثلاثة. ولما كانت الحقيقة المخصوصة التي هي ذات الله مخالفة لهذه الأقسام الأربعة وثبت بالاستقراء أنه لا يمكننا تحصيل شيء من التصورات ، إلا على أحد تلك الأقسام الأربعة ، وجب الجزم بأن تصور حقيقة تلك الذات المخصوصة غير حاصل للبشر.

__________________

(١) من (س).

(٢) من (و).

٩١

الحجة الثالثة : إن الفلاسفة بينوا أن العلم بماهية العلة ، يوجب العلم بالمعلولات ولا شك أن الممكنات منتهية في سلسلة الحاجات ، ودرجات الافتقارات إلى الحقيقة المخصوصة التي لواجب الوجود لذاته. فلو كانت تلك الحقيقة المخصوصة ، معقولة لأحد من البشر ، لكان ذلك الإنسان عالما بالعلة التامة الحقيقية لجميع الممكنات ، والعلم بالعلة التامة يوجب العلم بالمعلول ، فكان يجب أن يكون ذلك الإنسان عالما بجميع أقسام الممكنات وأجناسها وأنواعها وأصنافها وأشخاصها على الترتيب النازل من عنده طولا وعرضا ، لكن الأمر ليس كذلك. وهو معلوم بالضرورة. فوجب القطع بأنا لا نعرف ماهية الشيء الذي هو علة لجميع الممكنات. ولا شك أن ذاته المخصوصة هي المبدأ لجميع الممكنات. وهذا يفيد الجزم بأنا لا نعرف تلك الحقيقة المخصوصة من حيث هي هي.

الحجة الرابعة : إن الفلاسفة أثبتوا : أن العلم بالشيء عبارة عن حصول صورة مساوية في الماهية للمعلوم في العالم. وإذا ثبت هذا الأصل فنقول : لو عرفنا تلك الحقيقة المخصوصة، لوجب أن تكون تلك الصورة العقلية ، مساوية لذات الله تعالى في تمام الماهية ، وحينئذ تكون تلك الحقيقة المخصوصة نوعا حصل تحته أشخاص ، لكنه ثبت بالبراهين أن ذلك محال ، فوجب القطع بأنه يمتنع حصول العلم بتلك الذات المخصوصة. واعلم أنه لو ثبت أن العلم لا يحصل إلّا عند حصول صورة مساوية للمعلوم في العالم ، لكان هذا برهانا يقينيا في أن معرفة تلك الذات المخصوصة ممتنعة في حق كل المخلوقات.

الحجة الخامسة : ثبت في الحكمة : أن الطبيعة الكلية إذا قيدت بقيد كلي ، كانت الماهية المتقيدة بذلك القيد الكلي ، تكون كلية أيضا مثاله : إن قولنا : الإنسان : طبيعة كلية. وقولنا : العالم : طبيعة أيضا كلية. فإذا قيدنا الإنسان بالعالم ، كان الحاصل هو الإنسان الكلي ، وهو أيضا طبيعة كلية. فإذا قيدنا الإنسان العالم بقيد كونه زاهدا كان الحاصل هو الإنسان الكلي ، وهو أيضا طبيعة كلية. فإذا قيدنا الإنسان العالم بقيد كونه زاهدا كان الحاصل هو الإنسان

٩٢

العالم الزاهد ، وهو أيضا كلي. ولو أضفت إليه قيد [بعد قيد (١)] إلى ألف ألف مرتبة ، كان الحاصل هو الكلي. فهذا إحدى المقدمات.

والمقدمة الثانية : إن الكلي ليس عين الجزئي والشخصي ، والعلم به ضروري.

والمقدمة الثالثة : إن الذات المخصوصة التي هي الله تعالى ليس أمرا كليا ، بل هو ذات معينة وحقيقة مشخصة.

إذا عرفت هذا فنقول : كل ما نعرفه من الله تعالى ، فهو أمر كلي [مقيد بقيد كلي. مثلا : إذا قلنا : موجود فهو كلي (٢)] فإذا قيدناه بقيد كونه موجودا واجب الوجود. كان المجموع هو أنه موجود واجب الوجود لذاته. ثم إذا قيدناه بقيد أنه ليس بجسم ولا بجوهر ولا بعرض ، كان المجموع كليا. فإذا قيدناه بالصفات الإضافية مثل قولنا : إنه عالم ، قادر ، حي ، كان ذلك تقييدا للكلي بالكلي ، فيكون المجموع الحاصل بعد ضم تلك القيود إليه أمرا كليا ، فيثبت : أن كل ما نعلمه من الله تعالى فهو أمر كلي. وثبت : أن هذا الكلي ليس هو نفس تلك الذات المخصوصة.

ثبت : أن العلم بهذه المعلومات الكلية ، ليس علما بتلك الذات المخصوصة. وإذا ثبت أنا لا نعلم إلا ذلك المعلوم الكلي ، وثبت أن العلم بذلك المعلوم الكلي ، ليس نفس العلم بتلك الذات المخصوصة ، لزم القطع بأنا لا نعرف تلك الذات المخصوصة.

فإن قالوا : [لما علمنا أنه سبحانه واحد ، وأنه لا يمكن أن تكون تلك الحقيقة حاصلة لشيء آخر سواه (٣)] فهذا المعلوم مانع من احتمال الشركة ، فلم يكن هذا المعلوم كليا ، بل كان علمنا به من حيث إنه تلك الذات المعينة. فنقول : العلم بأنه سبحانه واحد، وبأنه لا يمكن وقوع الشركة فيما بينها وبين

__________________

(١) من (س).

(٢) من (و).

(٣) من (و).

٩٣

غيرها : علم أيضا بأمر كلي مشترك فيه ، وذلك لأن بتقدير أن يكون ذلك الواحد هو الألف كان ذلك الحكم صادقا [وبتقدير أن لا يكون ذلك الواحد هو الألف بل كان هو الباء ، بدلا عن كونه ألفا ، كان ذلك الحكم أيضا صادقا (١)].

فيثبت بهذا : أن ذلك المعلوم لا يمنع من وقوع الشركة فيه [وأما تلك الذات المخصوصة من حيث إنها تلك الذات المعينة ، فإنها مانعة من وقوع الشركة فيه (٢)] فعلمناه أن العلم بأنها ذات واحدة ، غير قابلة للشركة ، لا يكون علما بتلك الذات المعينة المخصوصة.

الحجة السادسة : قال المتقدمون : إنه تعالى غير متناهي ، والعقول البشرية متناهية ، والمتناهي يمتنع أن يحيط بغير المتناهي. وتفسير هذا الكلام : إن من جملة صفات الله تعالى كونه قديما أزليا ، فإذا أردنا أن يحيط عقلنا بالأزل. ففرضنا مائة ألف ألف سنة ، ونحسب كل لحظة ولمحة من هذه المدة الطويلة ، وفرضنا مائة ألف ألف سنة ، وبالغنا في استحضار هذه الأعداد في عقولنا وأفكارنا وإن كانت مع كثرتها متناهية محدودة ثم أسقطناها من معنى الأزل بقى الأزل كما كان ، من غير أن ينتقص منه شيء ، وإذا كان الأمر كذلك ، فحينئذ ظهر أن كل ما تصل إليه عقولنا وأفكارنا فإنه متناهي. وكل متناهي فإنه خارج عن الأزل. وهذا يفيد أن عقلنا لا يصل البتة إلى تصور معنى الأزل ، بل كل ما يتصوره فإنه يكون خارجا عن معنى الأزلية. وإذا ظهر بهذا البيان [عجز عقول الخلق ، عن معرفة هذه الصفة الواحدة ، وهي معنى الأزلية (٣)] فبأن تكون العقول عاجزة عن معرفة الموصوف ، كان ذلك أليق وأحق.

الحجة السابعة : قالوا : العلم نوع استيلاء على المعلوم ، ألا ترى أن من لم يكن عالما بشيء كانت روحه بالنسبة إلى ذلك المعلوم ، كالعاجز المقهور ، فإذا علمه وأحاط به صار كالمستولى عليه ، والقاهر له؟ إذا ثبت هذا فنقول : لو

__________________

(١) من (و).

(٢) من (و).

(٣) من (و).

٩٤

وصلت العقول إلى كنه حقيقته ، لحصل للخلق استيلاء على الحق من بعض الوجوه ، أما لما عجزت العقول عن معرفته ، كان الخلق أبدا في ذلك القهر وعجز المعرفة ، وكان الاستيلاء والقهر للحق ، وذلك هو الواجب.

الحجة الثامنة : قالوا : العقل لا يقدر على استحضار معلومين دفعة واحدة. بدليل : أنه إذا اشتغل باستحضار معلوم ، امتنع عليه في تلك الساعة استحضار معلوم آخر ، فإذا كان العقل عاجزا عن استحضار معلومين دفعة واحدة فكيف يمكنه الوصول إلى كنه حقيقة أعظم المعلومات ، وأعلاها؟.

واحتج القائلون بكون الخلق عارفين بذاته المخصوصة بوجوه :

الحجة الأولى : إن كل تصديق ، فإنه يجب أن يكون مسبوقا بتصور الموضوع والمحمول. فإذا قال القائل : إن حقيقته غير معقولة للخلق ، كان موضوع هذه القضية : هو قولنا حقيقته. ومحمولها : هو قولنا : غير معقولة للخلق. والحاكم باستناد هذا المحمول إلى هذا الموضوع ، يجب كونه عالما بهذا الموضوع ، وبهذا المحمول ، حتى يمكنه هذا الاستناد. فيثبت : أن صدق قولنا : إن حقيقته غير معلومة للخلق ، يقتضي كون حقيقته معقولة للخلق من حيث إن موضوع القضية يجب أن يكون معلوما ، وما أدى نفيه [إلى ثبوته ، كان نفيه (١)] باطلا. فوجب أن يكون قولنا : [حقيقته (٢)] غير معقوله للخلق : قولا باطلا. فإن قالوا : إن تلك الحقيقة معقولة بحسب بعض صفاتها وأحوالها. فنقول : إذا قلنا إن حقيقته غير معقولة فموضوع هذه القضية ، إما أن يكون تلك الحقيقة من حيث هي هي ، أو تلك الحقيقة بحسب بعض صفاتها وأحوالها. فإن كان الأول لزم كون تلك الحقيقة من حيث إنها هي معقولة للخلق. لما بينا أن موضوع القضية من الاعتبار الذي به صار موضوعا للقضية ، يجب أن يكون متصورا. فإذا كان موضوع هذه القضية هو تلك الحقيقة من حيث إنها هي ، وجب كون تلك الحقيقة من حيث هي هي ،

__________________

(١) من (س).

(٢) من (س).

٩٥

معلومة. وحينئذ يلزم التناقض. وأما إن قيل : إن موضوع هذه القضية هو تلك الحقيقة بحسب بعض صفاتها المعلومة ، أو بحسب بعض أحوالها المعلومة ، فحينئذ قد حكم على الأمر المعلوم من حيث إنه معلوم بأنه غير معلوم ، وذلك أيضا يوجب التناقض. فقد ظهر بما ذكرنا : أن قولنا : إن تلك الحقيقة ، غير معلومة : يوجب التناقض على جميع التقديرات.

الحجة الثانية : إن كل تصديق فإنه مسبوق بتصور الموضوع والمحمول ، فإذا أثبتنا الصفات لتلك الذات ، فالذي يجعل موضوعا لهذه الصفات ، إما أن يكون هو تلك الذات من حيث هي هي ، وإما أن يكون هو تلك الذات بحسب صفات أخرى ، فإن كان الأول فحينئذ يكون الموضوع لتلك المحمولات ، التي هي الصفات ، ليس إلا تلك الذات المخصوصة من حيث هي هي أن تكون معلومة ، وإن كان الثاني وهو أن موضوع هذه الصفات تلك الذات بحسب صفات أخرى ، فحينئذ ينتقل الكلام إلى كيفية استناد تلك الصفات. فإن أسندناها إلى صفات أخرى ، لزم التسلسل وهو محال ، أو الانتهاء إلى صفة نثبتها لتلك الذات من حيث هي هي ، وحينئذ يلزم كون تلك الذات معلومة [متصورة (١)] من حيث إن موضوع القضية يجب كونه معلوما.

الحجة الثالثة : إنا نعلم من الله تعالى شيئا. وذلك المعلوم إما الذات من حيث هي هي ، أو الصفة من حيث هي هي ، لا بحسب استنادها إلى تلك الذات ، أو بحسب استنادها إلى تلك الصفة (٢) فإن كان الأول لزم منه كوننا عالمين بتلك الذات ، وإن كان الثاني ، وهو أن نعلم تلك الصفات ، لا من حيث كونها مستندة إلى تلك الذات ، فهذا أيضا باطل. لأنا إذا علمنا العلم من حيث هو هو ، فهذا مغاير لما إذا علمنا أن الله تعالى موصوف بالعلم. وأما القسم الثالث وهو أنا نعلم تلك الصفات من حيث إنها قائمة بتلك الذات. فهذا العلم بمعرفة تلك الذات ، لأن العلم بحصول شيء لشيء آخر ، مشروط

__________________

(١) من (س).

(٢) الصفة (س) الذات (و).

٩٦

بعلم كل واحد من الشيئين. وهذا يقتضي كوننا عالمين بتلك الذات المخصوصة.

الحجة الرابعة : وهي أنه لا نزاع في أنا نعلم أنه ذات قائمة بالنفس.

والمعلوم بهذا العلم إما تمام تلك الذات ، وإما جزء من أجزاء ماهية تلك الذات ، وإما أمر آخر خارج عن ماهية تلك الذات. فإن كان الأول كان العلم بهذا المعنى علما بتمام الذات ، وهو المطلوب. وإن كان الثاني لزم كون تلك الذات مركبة من جزءين أو أكثر ، وكل مركب ممكن ، فتلك الذات ممكنة. هذا خلف. وإن كان الثالث لزم أن يكون كونه ذاتا ، صفة خارجة عن الذات ، فيلزم أن يقال : إن الذات ليست عبارة عن الذات ، بل عبارة عن الصفة ، التي هي أمر مغاير للذات ، فيلزم أن تكون الذات ليست ذاتا ، بل تكون شيئا غير الذات. وذلك متناقض باطل.

والجواب عن الأول والثاني : إن قولكم : إن موضوع القضية يجب كونه متصورا : منقوض بقولنا : إن ما لا يكون متصورا [لا يمكن الحكم عليه. فإن هذا الكلام قضية ، ولو كان موضوع القضية يجب أن يكون متصورا (١)] وموضوع هذه القضية هو قولنا : ما لا يكون متصورا ، فيلزم أن يكون غير المتصور متصورا ، وذلك جمع بين النقيضين. فإن قالوا : يلزم أن غير المتصور : متصورا منه كونه غير متصور. فنقول : إذا قلنا غير المتصور لا يمكن الحكم عليه ، فههنا المحكوم عليه إما غير المتصور من حيث إنه غير المتصور ، أو من حيث إنه متصور ، فإن كان الأول فحينئذ الموضوع في القضية المعلومة إما أن يكون أمرا غير متصور ، من حيث أنه غير متصور. وذلك ينقض قولكم : إن موضوع القضية يجب أن يكون متصورا. وإن كان الثاني هو أن الموضوع في هذه القضية أمر متصور ، فنقول : فحينئذ وجب أن يكذب عليه قولنا : إنه لا يمكن الحكم عليه ، لأن كل ما كان متصورا ، فإنه يمكن الحكم عليه بكونه

__________________

(١) من (و) وفي (س) : فإن قالوا : إن غير المتصور ، متصور. وذلك لأن غير المتصور ، متصور منه ، كونه غير متصور. فنقول : إذا قلنا ... الخ.

٩٧

متصورا ، أو بكونه ممتازا عن غيره.

فالحاصل : أن موضوع هذه القضية [إن لم يكن متصورا لزم التناقض ، وإن كان متصورا لزم كون هذه القضية (١)] كاذبة ، وكلاهما أمران باطلان.

والجواب عن الثالث : إنا إذا علمنا الذات ، فالمراد منه كونه مستقلا بنفسه ، غير محتاج إلى غيره ، وهذا مفهوم سلبي ، والسلوب خارجة عن الماهيات. وهذا هو بعينه الجواب عن الوجه الرابع.

فهذا تمام الكلام في هذا الباب. ثم نقول : هذا جملة الكلام في أن هذا العلم غير حاصل للبشر ، فأما أنه هل هو حاصل للملائكة أم لا؟ وبتقدير أن يقال : إنه غير حاصل لهم. فهل يمكن حصول هذه المعرفة للملائكة أو للخلق؟ فهذا متوقف فيه.

واعلم : أن المباحث في الإلهيات إذا انتهت إلى هذه المضائق ، فحينئذ تدهش العقول وتقف الأفكار ، وليس بعد ذلك إلا الالتجاء إلى الله تعالى في إفاضة المعارف الحقيقية. [وبالله التوفيق (٢)].

__________________

(١) من (و).

(٢) من (و).

٩٨

الفصل الثاني عشر

في

تنزيه ذات الله تعالى عن الكيفيات

اعلم : أنا لما دللنا على أنه سبحانه ليس بجسم ولا بجوهر كان ذلك يفيد كونه منزها عن الكمية ، ويفيد أيضا كونه منزها عن بعض أقسام الكيفيات ، وهو الشكل والخلقة. وأما سائر الكيفيات مثل الألوان والطعوم والروائح ، فالقول بإثباتها لله تعالى يستبعده العقل ، لأن هذه صفات الأجسام ، فكان إثباتها للذات المنزهة عن الجسمية محالا إلا أن لقائل أن يقول: لا يلزم من ثبوت هذه الصفات للأجسام ، امتناع ثبوتها لما لا يكون جسما ، لأن الماهيات المختلفة لا يمتنع اشتراكها في بعض الصفات.

ومن الناس من قال : إن صفات الإلهية وهي الخلق والتكوين لا تتوقف على حصول هذه الألوان والطعوم. وليس يمكن أن يقال : إن بعض أنواعها من صفات الكمال ، وأضدادها من صفات النقص ، حتى يمكن القول بأن ما كان منها من صفات الكمال فهو ثابت لله تعالى وما كان من صفات النقص فهو منفي عن الله تعالى. وإذا كان كذلك ، فلم يكن ثبوت بعض تلك الصفات لله ، أولى من ثبوت البواقي ، فإما أن يجب ثبوت كلها لله تعالى ، وحينئذ يلزم الجمع بين الضدين ، أو يجب تنزيه الله عن الكل. وذلك هو المطلوب.

ولقائل أن يقول : هذا الدليل ضعيف من وجوه :

الأول : إن كيفية النور من صفات الكمال ، والمدح. وكيفية الظلمة من

٩٩

صفات النقص. وإذا كان كذلك ، فلم لا يجوز أن تكون ذات الله موصوفة بصفة النور مع كونه منزها عن الجسمية والجهة؟ لما ثبت أنه يجب كونه تعالى موصوفا بصفات الكمال والمدح ، ويجب كونه منزها عن صفات النقص.

والثاني : هب أنا سلمنا أنه ليس شيء منها صفة كمال ومدح ، لكن لم لا يجوز أن يكون موصوفا ببعضها دون البعض؟ قوله : «إنه ليس اتصاف ذاته ببعضها أولى من اتصافها بالبواقي» فنقول : قد بينا في علم المنطق أن قول القائل ليس هذا ، أولى من ذلك مقدمة ضعيفة. فإنه إن كان المراد عدم الأولوية في أذهاننا وفي عقولنا ، بمعنى أنا لا نعرف دليلا يدل على أن هذا أولى بالوقوع. فهذا مسلم ، إلا أن هذا لا يفيد إلا الوقف والشك ، وإن كان المراد بعدم الأولوية أنه يمتنع كون أحد الجانبين أولى في نفس الأمر ، فهذا ممنوع. فلم لا يجوز اتصاف ذاته ببعض هذه الأضداد أولى ، وإن كنا لا نهتدي ولا نعرف المعنى الموجب لتلك الأولوية؟.

والسؤال الثالث : لم لا يجوز أن يقال : يحصل السواد والبياض فيه معا ، ثم يحصل من اجتماعهما هيئة (١) مركبة من اجتماعهما؟ ولا بد في إبطال هذا الاحتمال من دليل منفصل. واعلم أنه لما ثبت أنه تعالى منزه عن الجسمية والصول في الحيز ، فحينئذ يمتنع أن يكون اللون القائم به ، لونا ساريا في ذاته منبسطا على سطحه ، فيبقى أن يكون ذلك اللون ماهية ، تخالف (٢) ما شاهدناه في الأجسام ، وحينئذ لا تكون تلك الصفة لونا ، بل صفة أخرى مخالفة لما يعقل من اسم اللون ، وذلك يفيد نفي الألوان على الوجه الذي عقلناه [والله أعلم (٣)].

__________________

(١) ماهية (و) هيئة (س).

(٢) بخلاف (و).

(٣) من (و).

١٠٠