المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٢

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ١٥٤

والأرضين لا يمنعه ذلك من اعتقاد أن السموات إما أن تكون مجانبة للأرضين ، أو مباينا عنها بالجهة ، علمنا : أن هذا الحكم غير معلل بالحدوث.

الوجه الثالث : وهو أن كون هذه السموات والأرضين محدثة ، أمر علم بالدليل. [ووجوب كونها إما مجانية ، وإما مباينة أمر معلوم بالضرورة ، والوصف الذي يعلم بالدليل (١)] يمتنع جعله أصلا للوصف الذين نعلم ثبوته بالضرورة.

فثبت بهذه الوجوه : أن المقتضى لقولنا : إن هذه الأشياء ، إما أن تكون مجانبة ، أو مباينة ، ليس هو الحدوث.

المقدمة الرابعة : إنه لما كان المقتضى لهذا الحكم في الشاهد هو الوجود والباري تعالى موجود ، وكان المقتضى لكونه تعالى إما مجانبا للعالم ، أو مباينا عنه ، حاصلا في حقه ، وجب أن يكون هذا الحكم حاصلا في حق الله تعالى. واعلم أنا نفتقر في تقرير هذه المقدمة إلى بيان أن الموجود حقيقة واحدة في الشاهد وفي الغائب. وهذا غاية ما يمكن ذكره في تقرير هذه الشبهة.

الشبهة السادسة : قالوا : جميع العقلاء مجبولون بأصل الخلقة على اعتقاد أن الله تعالى موجود فوق العالم. فإنا نراهم مع اختلاف أديانهم ، وتباين مذاهبهم ، مجبولين عند الدعاء والخضوع والخشوع على رمي الأبصار إلى جهة فوق ، وعلى رفع الأيدي إلى تلك الجهة ، ولو أن الناس تركوا على أصل الخلقة ، ومقتضى الجبلة الأصلية لم يعتقدوا إلا أن إله العالم موجود في جهة فوق. وإذا كان هذا المعنى مما تشهد به فطرة العقل ، وجب أن يكون القول به حقا.

الشبهة السابعة : إن جميع كتب جميع الأنبياء والرسل عليهم‌السلام مملوءة من كونه في جهة فوق. أما القرآن فقد جاء فيه كونه على العرش بصريح اللفظ

__________________

(١) من (و).

٦١

سبع مرات (١) وذكر أيضا :«وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ(٢) وقوله :«إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ(٣) والألفاظ الدالة على النزول والتنزيل كثيرة جدا والآيات المشتملة على لفظ إلى الدالة على انتهاء الغاية خارجة عن الحد ، وليس في القرآن البتة لفظ يدل على نفي الجهة. فلو كان الدين الحق عنده نفي الجهة ، لكان من الواجب أن يذكر ذلك مرة واحدة. فلما أثبت الجهة في آيات لا حصر لها ، ولا حد لها ، ولم يذكر البتة نفي الجهة ، علمنا أنه تعالى كان مصرا على إثبات الجهة.

وأما الأخبار المنقولة عن الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم فلا حصر لها ولا حد.

وأما التوراة : فمملوءة من هذه المعاني ، وهذا يدل على أن الأنبياء والرسل عليهم السلام كانوا متفقين على إثبات الجهة للّه تعالى.

وليس لقائل أن يقول : إنا نذكر لهذه الألفاظ تأويلات «٤» ، وذلك لأن

__________________

(١) في السور الآتية ١ ـ الأعراف ٢ ـ يونس ٣ ـ الرعد ٤ ـ طه ٥ ـ الفرقان ٦ ـ السجدة ٧ ـ الحديد

(٢) الأنعام ١٨.

(٣) فاطر ١٠.

(٤) اعلم : أن كثيرين من اليهود ، يؤلون ـ والتأويل هو الصحيح ـ لأن على طريقة المحكم والمتشابه. قال موسى بن ميمون المتوفى ٦٠٢ ه في دلالة الحائرين ما نصه :

«ينبغي أن يربى الصغار ، ويعلن في الجمهور : على أن اللّه عز وجل : واحد. ولا ينبغي أن يعبد سواه. كذلك ينبغي أن يقلدوا بأن اللّه ليس بجسم ، ولا شبه بينه وبين مخلوقاته أصلا ، في شيء من الأشياء ، ولا وجوده شبه وجودها ، ولا حياته شبه حياة الحي منها ، ولا علمه شبه علم من له علم منها ، وأن ليس الاختلاف بينه وبينها بالأكثر والأقل فقط. بل بنوع الوجود. أعني أن يقرر عند الكل : أن ليس علمنا وعلمه ، أو قدرتنا وقدرته ، تختلف بالأكثر والأقل والأشد والأضعف ، وما أشبه. إذ القوي والضعيف متشابهان بالنوع ضرورة ، يجمعهما حد ما واحد. وكذلك كل نسبة إنما تكون بين شيئين ، تحت نوع واحد. وقد تبين ذلك أيضا في العلوم الطبيعية. بل كل ما ينسب إليه تعالى مباين لصفاتنا ، من كل جهة ، حتى لا يجمعهما حد أصلا. وكذلك وجوده ووجود ما سواه ، إنما يقال عليهما وجود ، باشتراك الاسم ـ كما سأبين ـ وهذا القدر يكفي الصغار والجمهور في إقرار أذهانهم ، على أن ثم موجودا كاملا ، لا جسم ، ولا قوة في جسم ، هو الإله ، ولا يلحقه نحو من أنحاء النقص ، ولذلك ليس يلحقه انفعال أصلا ...

فاعلم يا هذا. أنك متى اعتقدت تجسيما ، أو حالة من حالات الجسم ، فإنك تستفز غيرة الرب وغضبه وتوقد نار سخطه. وإن كارهه وعدوه وخصمه. أشد من عابد الوثن بكثير. وإن خطر ـ

٦٢

الدين الحق لو كان هو التنزيه الذي ذكرتموه ، لكان من الواجب أن يرد في هذه الكتب الإلهية ما يدل على تقرير هذا الأصل العظيم ، وعلى تأكيده بصريح اللفظ ، حتى يصير الحق معلوما ، وحينئذ نصرف بقية الألفاظ إلى التأويل. ولما لم يرد في شيء من الكتب الإلهية البتة ما يدل على التنزيه الذي تذكرونه (١). ورأيناها مملوءة بالألفاظ الدالة على كونه تعالى موجودا في الفوق. علمنا : أن مذهب الأنبياء والرسل ـ عليهم‌السلام ـ هو هذا المذهب. وأن الذي تقولونه ، مخالف لأديانهم ومذاهبهم. فهذا تقرير شبهات القوم في هذا الباب.

الشبهة الثامنة : ثبت أنه يجوز رؤية الله تعالى ، والرؤية ممتنعة إلا إذا كان الرائي مقابلا للمرئي ، أو في حكم المقابل له ، وذلك يقتضي كون الإله تعالى في الجهة. والحاصل أن جواز الرؤية مشروط بالمقابلة. ثم قالت المشبهة : ثبت جواز الرؤية فوجب القول بكونه تعالى في الجهة. وقالت المعتزلة : يمتنع كونه تعالى في الجهة ، فوجب أن تمتنع رؤيته [والله أعلم بالصواب (٢)]

__________________

ـ ببالك : أن معتقد التجسيم معذور ، لكونه ربي عليه ، أو لجهله ، وقصور إدراكه. فكذلك ينبغي لك أن تعتقد في عابد الوثن ، لأنه ما يعبد ، إلا لجهل ، أو لتربية على منهج آبائهم الذي بين أيديهم. وإن قلت : إن ظاهر النص يلقيهم في هذه الشبهة ، كذلك فلتعلم : أن عابد الوثن ، إنما دعاه لعبادتها خيالات وتصورات ناقصة. فلا عذر لمن لا يقلد المحققين الناظرين ، إن كان مقصرا عن النظر» أه [ص ٨٥ ـ ٩١ ج ١ دلالة الحائرين ـ تحقيق الأستاذ الدكتور حسين آتاي].

هذا. وقد كتب أستاذ علم مقارنة الأديان العلامة الأستاذ الشيخ رحمت الله بن خليل الرحمن الهندي [١٢٣٣ ـ ١٣٠٨ ه‍] في كتابه القيم «إظهار الحق» في الجزء الأول ، فصولا عن المحكم والمتشابه في لغة التوراة والإنجيل. وبين أن أهل الكتاب كتبوا : أن «الله» مشى ، ويقصدون من لفظ «الله» لفظ «ملاك» وأن الله تصارع مع يعقوب ويقصدون أن المصارع ليعقوب هو «ملاك» وأن الله مثل إنسان له رأس ويدين ، ومع هذا الذي كتبوه ، الذي يدل ظاهره على أن الله جسم. كتبوا أيضا أن الله ليس كمثله شيء ولا يشبه البشر.

والإمام ابن تيمية يقول في كتابه «الجواب الصحيح» ما معناه : إن الذي أوقع النصارى في القول بالتثليث : ظاهر آيات في الإنجيل تدل على الأب والابن. ويقول لهم : إذا أولتم وتركتم الظاهر. عرفتم الحق.

(١) تذكرونه في إثباتها (و).

(٢) من (و).

٦٣

الفصل السابع

في

الجواب عن تلك الشبهات

أما الجواب عن الشبهة الأولى والثانية : فقد تقدم في الفصل الأول على سبيل الاستقصاء. وذلك لأن قولنا : إن إثبات موجود لا يحصل في داخل العالم ولا في خارجه : محال ، إما أن يكون العلم بامتناع هذا القسم علما ضروريا ، أو استدلاليا. وبطل كونه ضروريا للوجوه الكثيرة المذكورة فوجب أن يكون استدلاليا. لكن صحة الدلائل التي ذكرتموها موقوفة على إبطال هذا ، فلو ثبت إبطال هذه المقدمة ، بتلك الدلائل ، لزم الدور ، وهذا هو الجواب المعتمد الذي يعول عليه.

وأما الشيخ الرئيس أبو علي بن سينا فإنه سلم : أن الجزم بهذه المقدمة حاصل إلا أنه زعم : أن الجازم بهذه المقدمة هو الوهم لا العقل ، وزعم أن حكم الوهم في غير المحسوسات (١)] باطل غير ملتفت إليه.

ولقائل أن يقول : أتسلمون أن الجزم الحاصل بصحة هذه المقدمة يساوي الجزم الحاصل بالقضايا البديهية الأولية ، أو لا تعترفون؟ فإن كان الحق هو الثاني ، وهو أن الجزم الحاصل في هذه المقدمة أضعف من الجزم الحاصل في البديهيات ، فحينئذ يفتقر الجزم بهذه المقدمة [إلى الدلائل المنفصلة وعند هذا

__________________

(١) انظر التعليق رقم ٧ ورقم ٧ مكرر في الفصل الخامس. وبعد كلمة المحسوسات في (س) : العاجز عن الانتقال والحركة ... الخ أي يوجد تقديم وتأخير. وقد ضبطناه من الفصل الخامس.

٦٤

فلا حاجة بنا في هذا المقام إلى بيان : أن الحاكم بهذه المقدمة (١)] هو الوهم أو غيره. وأما إن اعترفتم بأن الجزم بهذه القضية يساوي الجزم بالبديهيات. فنقول : إن العلم بأن أحد الجزمين حاصل من العقل الصادق ، وأن الجزم الثاني حاصل من الوهم الكاذب ، أهو علم ضروري أو نظري؟ فإن كان علما ضروريا ، كان العلم الضروري حاصلا بأن الحكم [بأن كل موجودين فلا بد وأن يكون أحدهما ساريا في الآخر ، أو مباينا عنه بالجهة حكم (٢)] كاذب. ومتى كان الأمر كذلك ، كان كذب هذه القضية معلوما بالضرورة. وقد كنا فرضنا : أن الجزم بصحتها يساوي الجزم بالبديهيات في القوة. هذا خلف. وإن كان ذلك العلم مستفادا من الحجة والدليل ، فحينئذ تتوقف صحة البديهيات ، على هذا النظر والدليل ، لكن العلم بصحة النظريات ، موقوف على العلم بالبديهيات. فيلزم الدور ، والدور باطل. فكان العلم بصحة هذه البديهيات موقوفا ، على مقدمة باطلة ، والموقوف على الباطل باطل، فيلزم القدح في كل البديهيات ، وذلك باطل قطعا. فعلمنا : أن الجواب الذي عول عليه الشيخ الرئيس هاهنا فيه هذا البحث الغامض [والله أعلم (٣)].

والجواب عن الشبهة الثالثة : إنه بناء على أن إدراك الشيء ، لا يتم إلا عند حصول صورة المعلوم في ذات العالم ، والاستقصاء التام فيه. قد سبق.

والجواب عن الشبهة الرابعة : إنها مبنية على أن معنى حصول الصفة في الموصوف : حصول تلك الصفة في ذلك الحيز ، تبعا لحصول تلك الذات فيه. وهذا باطل. لأن حصول تلك الذات في هذا الحيز صفة لتلك الذات ، قائمة بها ، فلو كان معنى حصول الصفة ما ذكرتم ، لوجب أن يكون حصوله في الحيز مسبوقا بحصول آخر في ذلك الحيز ، وذلك يوجب التسلسل وهو محال.

والجواب عن الشبهة الخامسة : من وجوه :

__________________

(١) من (س).

(٢) من (و).

(٣) من (و).

٦٥

الأول : إن مدار هذه الشبهة على أن كل موجودين في الشاهد ، فإنه يجب أن يكون أحدهما مجانبا للآخر ، أو مباينا له بالجهة. وهذه المقدمة ممنوعة. وبيانها من وجوه : الأول : إن جمهور الحكماء [أثبتوا موجودات غير مجانبة لهذا العالم الجسماني ، ولا مباينة عنه بالجهة. وذلك لأنهم (١)] أثبتوا العقول والنفوس الفلكية ، والنفوس الناطقة ، وأثبتوا الهيولى ، وزعموا أن هذه الأشياء موجودات غير متحيزة ، ولا حالة في المتحيز ، ولا يصدق عليها أنها مجانبة لهذا العالم ، ولا مباينة ، عنه بالجهة. الثاني : إن جمهور المعتزلة أثبتوا إرادات وكراهات موجودة لا في محل ، وفناء لا في محل ، إذا خلقه الله تعالى ـ يعنون به جميع الأجسام ـ وهذه الأشياء لا يصدق عليها أنها مجانبة للعالم ولا أنها مباينة عنه بالجهة. الثالث : إنا نقيم الدلالة القاطعة على أن الإضافات موجودات في الأعيان. ثم نبين أنه يمتنع كونها مجانبة للعالم أو مباينة عنه بالجهة. وذلك يبطل كلامهم.

أما بيان كون الإضافات موجودات في الأعيان : [فقد ذكرناه في باب أقسام الأعراض. وأما بيان أنه لما كانت الإضافات موجودة في الأعيان (٢)] فإنه يمتنع أن يصدق عليها كونها مجانبة للذوات أو مباينة عنها بالجهة ، فهو أنه لو كان الأمر كذلك ، لزم أن يقوم بنصف الأب ، نصف الأبوة ، وبثلثه ثلثها. ومعلوم أن ذلك باطل ، فيثبت أن كون هذه الإضافات سارية في ذات الأب ، قول محال. وأيضا يمتنع أن يقال إن هذه الإضافات مباينة بالجهات عن ذات الأب ، وإلا لزم كون الأبوة جوهرا قائما بذاته وهو محال. فثبت بهذه البيانات : وجود موجودات لا يصدق عليها أنها مجانبة للجسم ، أو أنها مباينة عن ذات الجسم بالجهة ، فيثبت بهذا بطلان هذه المقدمة.

السؤال الثاني : سلمنا : أن كل موجودين في الشاهد ، فلا بد وأن يكون أحدهما مجانبا للآخر ، أو مباينا عنه بالجهة ، لكن كون الشيء بحيث يصدق

__________________

(١) من (و).

(٢) من (و).

٦٦

عليه إما كذا وإما كذا : إشارة إلى كونه قابلا للانقسام إليهما لكن قبول القسمة حكم عدميّ والعدم لا يعلل.

وإنما قلنا : إن قبول القسمة حكم عدمي [لأن الأصل للقبول حكم عدمي (١)] فوجب أن يكون قبول القسمة حكما عدميا. وإنما قلنا : إن أصل القبول حكم عدمي ، لأنه لو كان أمرا ثبوتيا ، لكان صفة من صفات الشيء المحكوم عليه ، بكونه قابلا. والذوات قابلة للصفات القائمة بها ، فيكون قبول ذلك القبول زائدا عليه. ويلزم التسلسل. وهو محال. وإنما قلنا : إنه لما كان أصل القبول حكما عدميا ، كان قبول القسمة أيضا كذلك. لأن قبول القسمة قبول مخصوص (٢)] وتلك الخصوصية. إن كانت صفة موجودة ، لزم قيام الوجود بالعدم ، وهو محال ، وإن كانت عدمية ، لزم القطع بأن قبول القسمة [عدمي. وإذا ثبت أنه حكم عدمي ، امتنع تعليله. لأن العدم نفي محض ، فكان التأثير فيه محالا. فثبت : أن قبول القسمة (٣)] لا يمكن تعليله.

السؤال الثالث : هب أنه من الأحكام المعللة ، فلم لا يجوز أن يكون ذلك معللا بخصوص كونه جوهرا أو بخصوص كونه عرضا؟ قوله : «لأن كونه جوهرا ، يمنع من المجانبة، وكونه عرضا يمنع من المباينة بالجهة ، وما كان علة لقبول الانقسام إلى قسمين يمتنع كونه مانعا من أحد القسمين» قلنا : ما الذي تريدونه بقولكم : الموجود في الشاهد ينقسم إلى المجانب ، وإلى المباين بالجهة؟ إن أردتم به أن الموجود في الشاهد قسمان :

أحدهما : الذي يكون مجانبا لغيره ، وهو العرض. والثاني : الذي يجب أن يكون مباينا لغيره بالجهة وهو الجوهر ، فهذا مسلم. لكنه في الحقيقة إشارة إلى حكمين مختلفين معللين بعلتين مختلفتين ، فإن عندنا وجوب كونه مجانبا بغيره ، معلل بكونه عرضا ، ووجوب كون القسم الثاني مباينا عن غيره

__________________

(١) من (س).

(٢) قبول مخصوص. وما لا ينفك عن المحدث ، فهو محدث ومن أول فتلك الخصوصية في (س) مثل سائر المخطوطات.

(٣) من (و).

٦٧

بالجهة ، معلل بكونه جوهرا ، فبطل قولكم : إن خصوص كونه عرضا ، وخصوص كونه جوهرا لا يصلحان لعلية هذا الحكم ، وإن أردتم به أن إمكان الانقسام إلى هذين الحكمين حكم واحد ، وأنه ثابت في جميع الموجودات التي في الشاهد ، فهذا باطل لأن إمكان الانقسام إلى هذين القسمين ، لم يثبت في شيء من الموجودات التي في الشاهد ، فضلا عن أن يثبت في جميعها ، لأن كل موجود في الشاهد فهو إما جوهر وإما عرض ، فإن كان جوهرا امتنع كونه مجانبا لغيره ، فلم يكن قابلا لهذا الانقسام ، وإن كان عرضا امتنع كونه مباينا لغيره بالجهة ، فلم يكن قابلا لهذا الانقسام ، فثبت بما ذكرنا : أن الذي قالوه مغالطة. والحاصل : أن هذا المستدل أوهم أن قوله الموجود في الشاهد إما أن يكون مجانبا لغيره ، أو مباينا عنه بالجهة إشارة إلى حكم واحد ثم بنى عليه أنه لا يمكن تعليل ذلك الحكم بخصوص كونه جوهرا ، أو بخصوص كونه عرضا. ونحن بينا : أنه إشارة إلى حكمين مختلفين معللين بعلتين مختلفتين.

السؤال الرابع : سلمنا أنه لا يمكن تعليل هذا الحكم بخصوص كونه جوهرا ، ولا بخصوص كونه عرضا. فلم قلتم : إنه لا بد من تعليله إما بالحدوث وإما بالوجود؟ وما الدليل على هذا الحصر؟ أقصى ما في الباب أن يقال : سبرنا وبحثنا فلم نجد قسما آخر إلا أنا بينا في الكتب المنطقية : أن عدم الوجدان لا يوجب وجدان العدم ، وقد قررنا : أن التقسيمات المنتشرة لا تفيد الظن فضلا عن اليقين.

السؤال الخامس : سلمنا أن عدم الوجدان يفيد وجدان العدم ، إلا أنا نذكر وجوها أخرى هاهنا ، سوى الحدوث والوجود. وبيانه من وجهين : ـ

الأول : إنه يحتمل أن يكون المقتضى لقولنا : الشيء إما أن يكون مجانبا للعالم أو مباينا عنه. هو كونه بحيث تصح الإشارة الحسية إليه ، وذلك لأنا نقول : كل شيئين تصح الإشارة الحسية إليهما ، فأما أن تكون الإشارة إلى أحدهما غير الإشارة إلى الآخر (١)] وهذا هو المباينة في الجهة. فيثبت أن

__________________

(١) من (و).

٦٨

المقتضى لقبول هذه القسمة هو كون الشيء مشارا إليه بحسب الحسّ ، وعلى هذا التقدير فما لم تقيموا الدلالة على أنه تعالى مشارا إليه بحسب الحسّ فإنه لا يمكن أن يقال : إنه يجب أن يكون إما مجانبا للعالم أو مباينا عنه بالجهة ، لكن كونه تعالى بحيث تصح الإشارة إليه بحسب الحس ، هو عين ما وقع النزاع فيه ـ وحينئذ يتوقف صحة الدليل على صحة المدلول وذلك يفضى إلى الدور ، وأنه باطل.

الثاني : إنه لا شك أن الجوهر والعرض يخالفان ذات الله تعالى ، والأمر الذي به يخالفان ذات الله وصفاته ، مفهوم مشترك بينهما ، فلم لا يجوز أن يكون المقتضى لقبول القسمة إلى المجانب وإلى المباين ، هو ذلك المفهوم المشترك؟

السؤال السادس : سلمنا الحصر ، فلم لا يجوز أن يكون المقتضى لقبول هذه القسمة هو الحدوث؟] قوله : [الحدوث (١)] ماهية مركبة من العدم والوجود» قلنا الممكن هو الذي تكون ماهيته قابلة للعدم والوجود ، وكون الشيء بحيث ينقسم إلى المجانب والمباين معناه قبول الانقسام إلى هذين القسمين.

فالقابلية إن كانت صفة وجودية كانت كذلك في الموضعين ، وإن كانت صفة عدمية فهي كذلك في الموضعين ، فتعليل أحدهما بالآخر يقتضي إما تعليل وجود بوجود ، أو تعليل عدم بعدم ، ولا امتناع في واحد من هذين الأمرين.

أما قوله ثانيا : «لو كان المقتضى لهذا الحكم هو الحدوث لكان الجهل بحدوث الشيء يوجب الجهل بهذا الحكم» قلنا : لم قلتم : إن الجهل بالمؤثر يوجب الجهل بالأثر؟ ألا ترى أن جهل الناس بموجبات الصحة والمرض ، لا يوجب جهلهم بحصول الصحة والمرض. وجهل الدهريين بكونه تعالى قادرا على الخلق والتكوين ، لا يوجب جهلهم بوجود هذا العالم؟ وأيضا : إن كان الجهل بالمؤثر يوجب الجهل بالأثر ، لكان العلم بالمؤثر ، أولى أن يوجب العلم بالأثر فعلى هذا التقدير لو كان المقتضى للانقسام إلى المجانب وإلى المباين بالجهة

__________________

(١) من (س).

٦٩

هو الوجوب لكان كل من علم كون الله تعالى موجودا ، وجب أن يلزم من ذلك العلم ، علمه بكونه تعالى مجانبا لغيره أو مباينا لحيزه بالجهة ، ومعلوم أن ذلك باطل. لأن جمهور أهل التنزيه على كثرتهم وقوة خواطرهم ، يعلمون كونه تعالى موجودا ، مع أنه لا يخطر ببالهم البتة وجوب كونه تعالى إما مجانبا للعالم أو مباينا عنه بالجهة. فبطل قولهم.

وأما قوله ثالثا : «كونه محدثا وصف معلوم بالدليل ، وكون السموات إما مجانبة للأرض ، أو مباينة عنها بالجهة معلوم بالضرورة ، والشيء المعلوم بالضرورة لا يمكن تعليله بالشيء الذي لا يعلم إلا بالنظر» قلنا : فهذا ممنوع ، فإنا بينا في كثير من الأشياء : أن الأثر معلوم بالضرورة ، والاستدلال معلوم بالنظر.

السؤال السابع : سلمنا أن المؤثر في هذا الحكم [ليس (١)] هو الحدوث. وأنه هو الوجود. لكن لم قلتم : يلزم حصول هذا الحكم في حق الله تعالى؟ وبيانه : أن هذا المطلوب إنما يلزم لو كان وجود الله تعالى مساويا لوجود الممكنات. وهذا إنما يصح إن قلنا : إن وجود الله تعالى صفة قائمة بماهيته. والكرامية لا يقول أكثرهم بذلك.

السؤال الثامن : إنه قد يحصل المقتضى ، ولكن يتخلف عنه الحكم. إما لأن المحل غير قابل ، وإما لأن الشرط فائت ، ألا ترى أن كون الحي حيا يصحح قبول الشهوة والنفرة والألم واللذة والجهل والموت. ثم إنه تعالى حيّ ، مع أن شيئا من هذه الأحكام لا يصح عليه ، إما لأن ذاته تعالى غير قابلة لهذه الأحكام ، أو لأن قبول هذه الأحكام موقوف على شرط ، يمتنع حصوله في حق الله تعالى. فلم قلتم : لا يجوز أن يكون الأمر هاهنا كذلك؟.

السؤال التاسع : [إن ما ذكرتم إن دل على أن المقتضى لقبول هذه القسمة هو الوجود فههنا ما يدل على أنه ليس الأمر كذلك ، فإنه لو كان (٢)]

__________________

(١) من (س).

(٢) من (و).

٧٠

المقتضى لقبول الانقسام إلى المجانب وإلى المباين هو الوجود.

ثم إن الوجود [حاصل بالسوية. فوجب أن ينقسم الجوهر ، إلى ما يكون مجانبا ، وإلى ما يكون (١)] مباينا بالجهة. ومعلوم أن انقسام الجوهر إلى هذين القسمين : محال. ولزم أيضا في العرض أن ينقسم إلى هذين القسمين. ومعلوم أنه محال. فإن قالوا : إن كل جوهر وعرض ، فإنه يصح أن يكون منقسما إلى هذين القسمين ، نظرا إلى كونه موجودا. وإنما يمتنع ذلك الانقسام ، نظرا إلى مانع منع منه ، وهو خصوصية ماهيته. فنقول : فهذا اعتراف بأنه لا يلزم من كون الوجود علة لصحة أمر من الأمور ، أن يصح ذلك الحكم على كل ما كان موصوفا بالوجود ، لاحتمال أن تكون خصوصية تلك الماهية ، مانعة من ذلك الحكم.

السؤال العاشر : إن ما ذكرتموه من الدلائل قائم في صور كثيرة ، مع أن النتيجة المطلوبة باطلة قطعا. فالأول : إن كل ما سوى الله فإنه محدث ، فتكون صحة الحدوث حكما مشتركا بينهما ، فنقول : هذه الصحة حكم مشترك ، فلا بد لها من علة مشتركة والمشترك إما الحدوث وإما الوجود ، ولا يمكن أن يكون المقتضى لصحة الحدوث هو الحدوث ، لأن صحة الحدوث سابقة على الحدوث بالرتبة ، والسابق بالرتبة على الشيء يمتنع كونه معللا بالمتأخر ، فثبت : أن صحة الحدوث لا يمكن أن تكون معللة بالحدوث ، فوجب كونها معللة بالوجود ، فوجب أن يكون كل موجود بحيث يصح أن يكون محدثا ، ومعلوم أنه باطل. والثاني : إن كل موجودين في الشاهد ، فلا بد وأن يكون أحدهما مجانبا للآخر ، أو مباينا عنه في أي جهة كان ثم نذكر التقسيم المتقدم حتى يظهر أن هذا الحكم معلل بالوجود ، والباري تعالى موجود فيلزم أن يصح على الباري كونه مجانبا للعالم أو مباينا عنه بأي جهة كانت ، وذلك يقتضي جواز الحركة على الله تعالى ، وهو محال. والثالث : وهو أن كل موجود في الشاهد ، فهو إما حجم وإما قائم بالحجمية ، ثم نذكر التقسيم الذي ذكرتم إلى آخره ،

__________________

(١) من (س).

٧١

فيلزم أن يكون الباري تعالى ، إما حجما وإما قائما بالحجم. وأكثر الكرامية لا يقولون به.

واعلم أنا إنما طولنا في الكلام على هذه الشبهة ، لأن الكرامية يعوّلون عليها ، ويظنون أنها حجة قاهرة ، ونحن بعد أن بالغنا في تهذيبها وترتيبها ، أوردنا عليها هذه الأسئلة القاهرة ليظهر ضعفها. والله أعلم.

والجواب عن الشبهة السادسة وهي رفع الأيدي إلى السماء. فنقول : إن رفع الأيدي إلى السماء إنما كان لأجل أن السماء منزل البركات والخيرات. فإن الأنوار إنما تنزل منها والماء إنما ينزل منها وإذا ألف الإنسان حصول الخيرات من جانب ، مال طبعه إليه ، فهذا المعنى هو الذي أوجب رفع الأيدي إلى السماء وتوجه الأبصار إليها.

والذي يدل عليه : أن الموضع الذي من السماء : يكون فوقا لأهل بلد ، يكون يمينا لأهل بلد آخر ، ويسارا لأهل بلدة ثالثة. والدليل عليه : أن الشمس إذا كانت في أول السرطان ، فإن الضوء ينزل إلى أعماق الآبار في مكة والمدينة ويضيء جميع جوانب البئر ، وليس الأمر كذلك في البلاد الشمالية ، وهذا مما يعرفه جميع العوام الذين سافروا في البلاد. وإذا ثبت هذا فنقول : إن أهل كل بلد ، يرفعون أيديهم إلى الجانب الذي هو فوقهم ، فإن كان إله العالم كائنا في الموضع الذي هو فوق هذه البلدة ، لزم أن يكون [إله العالم (١)] كائنا لا فوق البلدة الثانية ، بل إما على يمينها ، أو على يسارها ، أو جهة أخرى. وحينئذ لا يلزم من رفع الأيدي إلى السماء كون الإله فوق ذلك الموضع. وأما إن قلنا : إن إله العالم كائن فوق جميع البلاد فهذا القول إنما يتم لو كان إله العالم كرة محيطة بجميع الأرض ، وحينئذ يرجع حاصل هذا القول إلى أن إله العالم فلك من الأفلاك المحيطة بالأرض ، ومعلوم أن العاقل لا يقول ذلك.

والجواب عن الشبهة السابعة : هو أن الدعوة للخلق إلى الحق يجب أن تكون واقعة على أحسن الوجوه وأقربها إلى الصلاح ، ولما كان التصريح بالتنزيه

__________________

(١) من (س).

٧٢

مما لا تقبله عقول العوام ، لا جرم كان الأولى اشتمال الدعوة على ألفاظ توهم التشبيه مع التنبيه على كلمات تدل على التنزيه المطلق.

والجواب عن الشبهة الثامنة : إن الكلام في أنه هل تجوز رؤية الله تعالى؟ سيأتي تقريرها. وبتقدير صحتها فإنا نقول : إن كان مجرد الاستبعاد كافيا ، فلا شك أن الوهم والخيال يستبعد وجود موجود معبود لا داخل العالم ولا خارجه ، فوجب أن يكتفى بهذا القدر من غير حاجة إلى التمسك بالرؤية ، وإن كان غير كافي فنقول. كما أثبتنا موجودا لا في العالم ولا في خارج العالم على خلاف حكم الوهم والخيال ، فكذلك جمع عظيم من الناس أثبتوا رؤية شيء ، لا في الجهة ، فلم قلتم : إن ذلك محال؟ وما الدليل الذي دل على امتناعه؟ فإن أحدا من المخالفين لم يذكر فيه شيئا سوى الاستبعاد. وهذا تمام الأجوبة على شبهات من أثبت الحيز والجهة. [والله أعلم بحقائق الأمور (١)].

__________________

(١) من (و).

٧٣

الفصل الثامن

في

بيان أنه يمتنع أن يكون إله العالم

هو هذا الفضاء الذي لا نهاية له

اعلم : أن من الناس من قال : إن هذا الفضاء الذي لا نهاية له : هو الله سبحانه. قالوا : والسبب في اعتقاد هذا المذهب : إن بديهة العقل حاكمة بأن الموجود ، إما هذا الفضاء ، وإما شيء يحصل في هذا الفضاء. إما حصولا على سبيل الاستقلال وهو الجسم ، أو على سبيل التبعية وهو العرض. قالوا : والصفات والأعراض محتاجة إلى الذوات التي هي الجواهر والأجسام. وهذه الذوات محتاجة في وجودها إلى هذا الفضاء ، وأما هذا الفضاء فإنه غير محتاج إلى شيء آخر ، لأن الفضاء شيء قائم بنفسه ، فلا حاجة به إلى فضاء آخر.

وأيضا : العقل يأبى تصور عدم هذا الفضاء ، لأن بتقدير أن يرتفع هذا الفضاء فهل يتميز هاهنا الجانب الذي هو قدامي عن الجانب الذي هو خلفي ، أو لا يتميز؟ فإن لم يتميز ، فهذا مدفوع في بديهة العقل ، [وإن تميز أحد الجانبين عن الآخر ، فذلك الفضاء موجود لأنا لا نعني بهذا الفضاء إلا الأمر الذي يتميز فيه جهة عن جهة (١)] وجانب عن جانب. وعلى هذا التقدير : الفضاء شيء يلزم من فرض عدمه فرض وجوده ، وهذا محال. والمفضي إلى المحال محال.

فيثبت : أن فرض عدم هذا الفضاء ممتنع لذاته [فيثبت بما ذكر : أن هذا

__________________

(١) من (س).

٧٤

الفضاء واجب الوجود لذاته ، ويثبت : أن ما سواه من الذوات والصفات مفتقر إليه (١)] ويثبت : أنه غني عن كل ما سواه ولا معنى للإله الواجب الوجود لذاته ، إلا ذلك. فيثبت : أن إله العالم ليس إلا هذا الفضاء الذي لا نهاية له. ثم قالوا : إن جميع الصفات اللائقة بالإلهية ، حاصل فيه. فإحداهما : قولنا : الإله يجب أن يكون غير متناهي ، وهذا الفضاء كذلك ، لأنه لو كان متناهيا ، لكان إما أن يتميز جانب عن جانب في الخارج منه ، وإما أن لا يتميز ، فإن حصل ذلك الامتياز فهو موجود حال ما فرض معدوما.

هذا خلف. وإن لم يحصل ذلك الامتياز ، فقد ذكرنا : أن بديهة العقل تحكم بامتناع ذلك. وثانيها : أن من صفات الإله تعالى أنه مع كونه غير متناهي ، يكون غير قابل للفصل والوصل ، والاجتماع والافتراق. وهذا الفضاء كذلك. لأنه مع كونه غير متناهي لا يقبل التفرق والتمزق ، والفصل والوصل ، بل هو باقي أبد الآباد على حالة واحدة. وثالثها : أنه جاء في صفة اللّه تعالى كونه قريبا من عباده ، كما في جاء في الكتاب الإلهي من قوله : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) (٢) ومن قوله : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) (٣) والقول : بأن إله العالم هو هذا الفضاء يحقق هذا الكلام.

وأما قول من يقول : إنه على هذا التقدير تكون ذاته مخالطة للقاذورات. فهو كلام ضعيف. لأن هذا إنما يصير إذا تأثر ذلك الشيء بمخالطة غيره (٤) والفضاء لا تتغير ذاته ولا حقيقته بحسب ما يحصل فيه البتة ، ألا ترى أنه لا نزاع في أنه تعالى موجود (٥) مع كل الحوادث ، ولم يلزم من كونه تعالى مع هذه الحوادث بسبب الوقت والزمان : نقص في ذاته. فكذلك لا يلزم من كونه تعالى معها بحسب الجهة والمكان : حصول نقص فيه. ورابعها : إن على هذا

__________________

(١) من (و)

(٢) الحديد ٤

(٣) ق ١٦.

(٤) بما يخالطه (و).

(٥) من (س).

٧٥

التقدير يكون غنيا عن المكان والحيز ، لأن من المعلوم بالضرورة : أن هذا الفضاء ليس حاصلا في فضاء آخر ، بل هو شيء قائم بنفسه ، غني عن كل ما سواه.

فهذا حكاية شبهات هؤلاء الأقوام.

واعلم أن هذا القول عندنا باطل. لأن هذا الفضاء إما أن يكون محضا ، وإما أن يكون موجودا ، فإن كان عدما محضا ، امتنع القول بكونه إلها للعالم ، وإن كان موجودا فلا شك أنه قابل للمساحة والتقدير والتبعيض. فإن الخلاء الذي بين جداري الصفّة أصغر من الخلاء الذي بين جداري البلد ، وما كان كذلك كان قابلا للقسمة والتجزئة. وما كان كذلك كان مركبا وكل مركب ممكن ، ولا شيء من الممكن بواجب ، ينتج : فلا شيء من الفضاء بواجب الوجود لذاته. وينعكس فلا شيء من الواجب الوجود لذاته بفضاء. وهذا برهان قاطع في إثبات المطلوب.

وأما قولهم : بأن هذا الفضاء غني عن الغير ، وقريب ، وغير متناهي ، والإله غني عن الغير ، وقريب وغير متناهي. فكل ذلك تمسك بقياس من موجبتين في الشكل الثاني ، وأنه غير منتج ، لما ثبت أنه لا يمتنع في العقل اشتراك الماهيات المختلفة في بعض اللوازم. [والله أعلم (١)].

__________________

(١) من (و).

٧٦

الفصل التاسع

في

تفسير قولنا : إن الإله تعالى غير متناهي

اعلم أن هذا اللفظ يطلق في حق الله تعالى تارة بحسب ذاته ، وتارة بحسب دوام وجوده ، وتارة بحسب صفاته ، وقبل الخوض في هذه التفاصيل نقول : إن قولنا للشيء : إنه لا نهاية له قد يذكر بمعنى السلب وقد يذكر بمعنى العدول. أما بمعنى السلب فهو أن يكون المراد : أن الماهية القابلة لمعنى الحد والنهاية مسلوبة عنه. وذلك لأن النهاية عبارة عن طرف مقدار الشيء ومقطعه ، وإذا كان خاليا عن المقدار وجب خلوه عن طرف المقدار ، لأن عند انتفاء المقدار ، يستحيل حصول طرف المقدار وأما بمعنى العدول ، فهو أن يكون الشيء له حجمية ومقدار ، إلا أنه لا ينتهي مقداره إلى مقطع وحد ، بل كلما عددته أو قدرته ، فإنك تجد خارجا عنه شيئا آخر منه من غير حاجة إلى التكرير. إذا عرفت هذا فنقول : إذا قلنا : إن ذات الله تعالى غير متناهي ، فإنا نريد به معنى السلب. نعني : أنه منزه عن المقدار والحجمية والوضع والحيز ، وإذا كان الأمر كذلك فالمعنى الذي لأجله يصح وصف الشيء بأن له حدا أو طرفا ، مسلوب عن ذات الله تعالى ، فكأن ذاته غير متناهية بهذا التفسير. وهذا عند من يقول إنه تعالى منزه عن المقدار والجسمية والوضع والحيز ، أما عند من يقول بهذه المذاهب ، فإنه نفس كونه تعالى غير متناهي ، إما في جميع الجهات ، أو في بعض الجهات بالتفسير الثاني. وهذا هو الكلام في تفسير كونه تعالى غير متناهي ، بحسب الذات.

٧٧

وأما كونه تعالى غير متناهي بحسب الدوام والبقاء ، فإن تفسيره هو الوجه الثاني ، وهو أنا إذا استحضرنا في أوهامنا ، وخيالاتنا أيا من السنين؟ كم سنينا من الأعداء؟ فإنا لا ننتهي إلى طرف وحد إلا ويحكم العقل بأنه تعالى كان موجودا قبل ذلك ، وهذا الحكم باقي أبد الآباد ، فإن قالوا : فهذا الدوام لا يمكن تعقله إلا مع فرض الزمان الدائم ، والمدة المستمرة ، وإذا كان الله تعالى واجب الدوام ، وثبت أن حقيقة الدوام لا تعقل إلا مع المدة والزمان ، فحينئذ يلزم افتقار ذات الله تعالى في الدوام والبقاء ، إلى شيء غيره ، والمفتقر إلى الغير ممكن لذاته ، فيلزم أن يكون الواجب لذاته ، ممكنا لذاته. هذا خلف. ونقول : دوام الشيء لا يتوقف على اعتبار حال الزمان والمدة ، لأن ذلك الزمان إما أن يكون دائما أو لا يكون ، فإن كان دائما فدوامه ليس لأجل دوام زمان آخر ، وإلا لزم أن يكون كل زمان مظروفا لزمان آخر ، إلى غير النهاية [أو كلها يكون موجودا دفعة. وذلك محال. وإذا كان دوام الزمان (١)] ليس لأجل زمان آخر ، فقد عقلنا معنى الدوام من غير اعتبار زمان آخر ، فليعقل مثله في حق واجب الوجود لذاته ، وأما إن قلنا : إن الزمان غير دائم مع أن واجب الوجود دائم لذاته ، فحينئذ لا يكون دوامه مشروطا بشيء آخر ، وذلك يوجب سقوط السؤال المذكور وأما كونه تعالى غير متناهي بحسب الصفات فنقول : إنه تعالى قادر على ما لا نهاية له ، ولا نريد به أن تلك المعدودات أعداد متشخصة بحيث يكون كل واحد منها في نفسه متميزا عن الأخر ، وأنه تعالى قادر عليها ، كما يقوله القائلون : بأن المعدوم شيء بل المراد منه : أنه تعالى لا ينتهي في الخلق والتكوين إلى حد ، إلّا ويبقى بعد ذلك قادرا على الإيجاد والتكوين كما كان قبل ذلك ، وهذا هو المراد من قولنا : إنه تعالى قادر على ما لا نهاية له. ونقول [أيضا : إنه عالم بما لا نهاية له (٢)] والمراد ما ذكرناه ، والإشكال هاهنا أصعب لأن القدرة مؤثرة في المقدور ، فلم يلزم أن يكون المقدور مقدورا في نفسه قبل ذلك التأثير. أما العلم (٣) بأنه يتعلق بالشيء على ما هو عليه ، فوجب تقرير

__________________

(١) من (و).

(٢) من (س).

(٣) الحكم (و).

٧٨

تلك الماهيات المعلومة في أنفسها قبل تعلق ذلك العلم بها ، فهذا موضع بحث غامض.

وأما القائلون بقدم العالم فقد يقولون : إن الحوادث الماضية غير متناهية ، وقد يقولون أيضا : [إن الحوادث المستقبلة غير متناهية. أما إذا قلنا : الحوادث الماضية غير متناهية فلا نريد به (١)] أن ذلك المجموع دخل في الوجود ، مع كونه غير متناهي العدد ، فإن ذلك المجموع البتة لا وجود له. لا في الأعيان ولا في الأذهان ، أما في الأعيان فلأن الموجود منه أبدا ليس إلا الواحد ، وأما المجموع فلا يحصل له وجود البتة في شيء من الأوقات ، وأما في الأذهان فلأن الذهن لا يقوى على استحضار أعداد غير متناهية على التفصيل. نعم الذهن يقوى على استحضار معنى اللانهاية ، إلا أن هذا المعنى شيء واحد ، وحقيقته واحدة. فأما أن يقوى الذهن على استحضار أعداد لا نهاية لها فذلك محال. فيثبت : أن مجموع الحوادث الماضية لا وجود لها في الأعيان ولا في الأذهان. وإذا ثبت هذا فنقول : إنا إذا قلنا : إنه لا نهاية للحوادث الماضية عنينا به : أن الوجود لا ينتهي في طرف الماضي إلى جانب لا يكون مسبوقا بحادث آخر ، بل يكون كل حادث مسبوقا بحادث آخر ، لا إلى أول.

وهذا هو تفسير قولنا : إنه لا نهاية للحوادث في طرف الماضي. وأما قولنا : إنه لا نهاية لها في طرف المستقبل فاعلم أنه يصح أن يقال : إن الحوادث في طرف المستقبل أبدا متناهية بالفعل ، ويصح أن يقال : إنها أبدا متناهية بالقوة [ويصح أن يقال إنها أبدا غير متناهية لا بالفعل ولا بالقوة. أما أنها أبدا متناهية بالفعل (٢)] فلأنها أبدا تكون منتهية إلى حادث معين ، يكون هو آخر لكل ما مضى ، فالحوادث أبدا تكون متناهية بالفعل ، وأما أنها أبدا تكون متناهية بالقوة ، فلأن كل حادث يحدث فستحدث بعده حوادث أخرى بعد ذلك ، وتلك الحوادث المستقبلة تكون بالقوة والجملة الماضية عند كل واحد منها تكون متناهية ، فالجملة الماضية بحسب كل واحد من تلك الآحاد التي هي

__________________

(١) من (و).

(٢) من (و).

٧٩

موجودة بالقوة ، تكون متناهية بالقوة. وأما أنها غير متناهية لا بالقوة ولا بالفعل ، فهي بحسب النهاية [التي لا يوجد بعدها نهاية أخرى ، فإذا كانت هذه النهاية (١)] ممتنعة الحصول ، كان انتهاء الجملة الماضية إلى مثل هذه النهاية لا تكون موجودة لا بالفعل ولا بالقوة. [وكانت الجملة الماضية غير متناهية إلى مثل هذه النهاية لا بحسب الفعل ولا بحسب القوة (٢)] وهذا تمام الكلام في هذا الباب.

ونختم هذا الفصل بذكر ما جاء في الفلسفة القديمة : [وهو (٣)] أن إله العالم هو حقيقة اللانهاية. فنقول : إن عنوا به أن إله العالم هو الذي يصدق عليه كونه غير متناهي في الذات ، وفي الدوام ، وفي الصفات ، على التفاسير المذكورة. فقد صدقوا في هذا القول. وإن عنوا به أن إله العالم هو نفس معنى اللانهاية [فقد أبعدوا ، لأن مجرد معنى اللانهاية (٤)] اعتبار ذهني ، ولا استقلال له في الثبوت والوجود ، فيمتنع القول بكونه إلها واجب الوجود لذاته. [والله أعلم (٥)].

__________________

(١) من (و).

(٢) من (س).

(٣) زيادة.

(٤) من (س).

(٥) من (و).

٨٠