المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٢

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ١٥٤

تعالى مباينا للعالم ، منفردا عنه ممتازا عنه وكونه تعالى كذلك ، لا يقتضي وجود أمر آخر سوى ذات الله تعالى ، فبطل قولكم إنه تعالى لو كان حاصلا في الحيز والجهة ، لكان مفتقرا إلى الغير. والذي يدل على صحة ما ذكرناه : أنه لا نزاع في أن العالم مختص بالحيز والجهة ، وكونه كذلك لا معنى له إلا كون بعض الجواهر ممتازا عن البعض ، منفردا عنه وإذا عقلنا هذا المعنى هاهنا ، فلم لا يجوز مثله في كونه تعالى مختصا بالحيز والجهة؟ والجواب : أما قوله : «الحيز والجهة ليس أمرا موجودا في الأعيان» فجوابه : إنا بينا بالبراهين القاطعة : أنها أشياء موجودة في الأعيان ، وبعد قيام البراهين القاطعة على صحة هذه المقدمة ، فإنه لا يبقى في صحتها شك. وأما قوله : «المراد من كونه تعالى مختصا بالحيز والجهة ، كونه تعالى منفردا عن العالم ، أو ممتازا عنه ، أو مباينا عنه».

فنقول : هذه الألفاظ كلها محتملة ، فإن الانفراد والامتياز والمباينة قد تذكر ويراد بها المخالفة في الحقيقة والماهية. وذلك مما لا نزاع فيه ، ولكنه لا يقتضي الجهة. والدليل عليه : أن حقيقة ذات الله تعالى مخالفة لحقيقة الحيز والجهة وهذه المخالفة والمباينة ليست بالجهة. فإن امتياز ذات الله تعالى عن الجهة لا يكون بجهة أخرى. وإلّا لزم التسلسل. وقد تذكر هذه الألفاظ ويراد بها الامتياز في الجهة والحيز ، وهو كون الشيء بحيث يصح أن يشار إليه : أنه هاهنا أو هناك. وهذا مراد الخصم من قوله : إنه تعالى مباين عن العالم ومنفرد عنه ، وممتاز عنه. إلا أنا بينا بالبراهين القاطعة : أن هذا يقتضي كون ذلك الحيز أمرا موجودا [ويقتضي أن يكون الحاصل في ذلك الحيز محتاجا إلى الحيز. وقوله : «الأجسام حاصلة في الأحياز» فنقول : هذا (١)] يقتضي أن تكون الأجسام محتاجة إلى الأحياز ، وهذا غير ممتنع. أما كونه تعالى محتاجا إلى شيء آخر فهو ممتنع. فظهر الفرق.

الحجة الثالثة : لو كان تعالى مختصا بالحيز والجهة ، لكان إما أن يكون غير متناه من كل الجوانب ، أو يكون متناهيا من بعض الجوانب ، وغير متناه من

__________________

(١) من (و).

٤١

سائر الجوانب ، أو يكون متناهيا من كل الجوانب ، والأقسام الثلاثة باطلة فالقول بكونه تعالى مختصا بالحيز والجهة باطل. أما الحصر فظاهر.

وأما بيان فساد القسم الأول ، وهو كونه تعالى غير متناه من كل الجوانب فهو باطل لوجوه :

الأول : الدلائل التي ذكرناها في امتناع وجود أبعاد غير متناهية.

والثاني : إنه لو كان غير متناهي الذات ، من كل الجوانب ، فحينئذ يلزم أن يكون العالم حاصلا في داخل ذات الله تعالى وهو محال. ولأنه يلزم أن تكون ذاته تعالى مخالطة للقاذورات والنجاسات ، وهو محال.

الثالث : إنه إذا كان حاصلا في جميع الجوانب ، فالحيز الذي منه حصل في جانب العلو ، إما أن يكون هو الذي حصل بعينه في السفل ، أو غيره. فإن كان الأول فقد حصل الشيء الواحد دفعة واحدة في أحياز غير متناهية. وذلك باطل. وإن كان الثاني لزم وقوع التركيب والتأليف في ذات الله ، وهو محال.

الرابع : إنا إذا جوزنا وجود شيء له أبعاد غير متناهية ، فحينئذ لا يمكننا إقامة الدلالة على أن أجسام العالم متناهية ، لأن كل دليل يذكر في وجوب تناهي الأجسام ، فإنه بعينه ينتقض بوجود الله تعالى. فإنه على هذا التقدير ممتدا امتدادا لا نهاية له.

وأما بيان فساد القسم الثاني وهو كونه متناهيا [في بعض الجوانب ، وغير متناه (١)] من سائر الجوانب. فهذا أيضا باطل لوجوه :

الأول : إن الدلائل الدالة على وجود أبعاد غير متناهية يبطل القول بها سواء كان غير متناه من جانب واحد أو من كل الجهات والجوانب.

والثاني : إن الجانب الذي هو غير متناه ، [والجانب الذي هو متناه (٢)] إما أن يكونا متساويين في تمام الماهية ، وإما أن لا يكونا كذلك. فإن كان الأول

__________________

(١) من (و).

(٢) من (س).

٤٢

فحينئذ يصح على كل واحد من هذين الجانبين ، عين ما يصح [على الآخر (١)] وحينئذ يلزم أن يصير المتناهي غير متناه ، وأن يصير غير المتناهي متناهيا. وحينئذ يلزم أن يصح عليه التفرق والتمزق ، والنمو (٢) والذبول ، والزيادة والنقصان. وكل ذلك يدل على كونه محدثا متغيرا في نفس الذات. وأما إن كان الثاني فحينئذ يكون كل واحد من هذين الجزءين مخالفا للآخر بماهيته وحقيقته ، فتكون ذات الله تعالى مركبة من الأجزاء المختلفة والأبعاض المتباينة بالطبيعة والماهية ، وذلك محال. وأيضا : فالجزء الذي هو غير متناه ، متصل بالجزء الذي هو متناه ، فغير المتناهي اتصل بالمتناهي بأحد جانبيه ، وذلك الجانب متناه ، إذ لو لم يكن هو من ذلك الجانب متناهيا لامتنع أن يصير متصلا من ذلك الجانب بغيره ، وقد فرضناه متصلا به. هذا خلف. فيثبت أن الجزء الذي هو غير متناه ، وجب أن يكون متناهيا من أحد جانبيه ، مع أن ذلك الحيز طبيعة واحدة ، وحينئذ يعود ما ذكرنا من أنه لا بد وأن تتشابه طبيعتا ذينك الجانبين. وحينئذ يلزم صحة النمو والذبول ، والزيادة والنقصان. وذلك محال.

وأما القسم الثالث ، وهو أن يقال : إنه متناه من كل الجوانب ، فنقول : هذا أيضا محال لوجوه :

الأول : إن كل ما كان متناهيا. فإن وقوعه أزيد مما وقع عليه بمقدار قليل ، أو أنقص منه بمقدار قليل : يكون جائزا. والعلم بهذا الجواز ضروري. وإذا كان الأمر كذلك ، كان وقوعه بذلك المقدار دون الأزيد والأنقص ، لا بدّ وأن يكون لترجيح مرجح ، وتخصيص مخصص. وكل ما كان كذلك فإنه يكون مفتقرا في [وجوده إلى (٣)] الفاعل المختار ، وهو على الله محال.

الثاني : إنه لما أحاطت الحدود والنهايات به من كل الجوانب. فنقول : إن أحد نصفيه لا بد وأن يكون مغايرا للنصف الثاني منه ، ثم أحد ذينك

__________________

(١) من (س).

(٢) من (س).

(٣) من (س).

٤٣

النصفين ، لا بد وأن يماس النصف الثاني منه بأحد وجهيه دون الوجه الثاني ، وكما صح على النصف الأول أن يماس النصف الثاني منه بأحد وجهيه ، وجب أن يصح عليه أن يماسه بوجهه الثاني ، ضرورة أن كل واحد من وجهيه على طبيعة واحدة ، وكل ما صح على الشيء ، وجب أن يصح على مثله. ومتى ثبت ذلك ، ثبت جواز التفرق والتمزق ، والاجتماع والافتراق عليه. وذلك محال.

الثالث : إنه إذا كان متناهيا من كل والجوانب ، فحينئذ يكون متناهيا من جهة فوق ، وحينئذ تكون الأحياز الفارغة حاصلة فوقه. فإذا خلق الله في تلك الأحياز الفارغة عالما آخر ، فحينئذ يلزم وقوع ذلك العالم فوق الباري ، ووقوع الباري تحت العالم. وذلك محال بالاتفاق.

الرابع : إنه إذا كان متناهيا من كل الجوانب ، فحينئذ يصح من الله تعالى أن يخلق أجساما متصلة بتلك الذات من كل الجوانب ، وحينئذ يصح عليه الاجتماع والافتراق. وذلك يدل على الحدوث.

الخامس : إنا إذا جوزنا في الشيء الذي يكون محدودا متناهيا من كل الجوانب : أن يكون إلها لهذا العالم ، فحينئذ لا يمكننا البتة أن نقطع بأن الشمس والقمر ليسا إلهين لهذا العالم ، لأنه لا عيب فيهما إلا أحد أمور ثلاثة : أحدهما : التناهي. والثاني : كونه مركبا من الأجزاء والأبعاض. والثالث : كونه قابلا للحركة والسكون. فإذا جوزنا هذه الثلاثة في حق الإله تعالى فحينئذ لا يمكننا جعل هذه الأشياء عينا في الإلهية. وحينئذ لا يمكننا القدح في إلهية الشمس والقمر وسائر الكواكب. بل على هذا التقدير ، فلعل إله العالم هو العرش نفسه ، من غير حاجة إلى إثبات شيء آخر ، معلوم إن كل ما يلزم منه هذا القول ، فهو باطل بإجماع من العقلاء. فيثبت بما ذكرنا : أن إله العالم لو كان حاصلا في الجهة والحيز ، لوجب وقوعه على أحد هذه الأقسام وثبت بالدليل فسادها بأسرها ، فوجب القطع بأنه يمتنع كون الإله عزوجل حاصلا في الحيز والجهة. فإن قيل : ألستم تقولون : إنه تعالى غير متناه في ذاته فيلزمكم

٤٤

جميع ما ألزمتموه علينا؟ قلنا : الشيء يقال له إنه غير متناهي على وجهين. أحدهما : أنه منزه عن المقدار والحجمية ، والحيز والجهة. ومتى كان الأمر كذلك ، امتنع أن يكون لذاته حد ومقطع ونهاية. والثاني : أن يكون في ذاته حجما ومقدارا ، إلا أنه ممتدا امتدادا بغير النهاية ، بمعنى أنه لا ينتهي إلى حد ومقطع ، إلّا وتجد بعد ذلك منه شيئا آخر. فإذا قلنا : إن ذات الله تعالى غير متناهية : عنينا به الأول. لا الثاني وعلى هذا التقسيم ، فالتفسير الذي ذكرناه في إبطال قولكم غير وارد علينا.

الحجة الرابعة : إنه تعالى لو حصل في شيء من الأحياز والجهات ، لكان إما أنه يحصل في ذلك الحيز المعين ، مع وجوب أن يحصل فيه [أو مع جواز أن يحصل فيه (١)] والقسمان باطلان ، فكان القول بحصوله في الحيز باطلا أما الحصر فظاهر.

وأما القسم الأول وهو أنه يقال : حصل في ذلك الحيز ، مع وجوب أن يحصل فيه: فهو قول باطل. ويدل عليه وجوه :

الأول : إن كل ما كان حجميا ، شاغلا للحيز ، وجب أن يكون مساويا لسائر الأجسام ، ولسائر الأحجام في تمام الماهية ، على ما قررنا هذه المقدمة في الفصول السابقة(٢). وإذا ثبت هذا ، فنقول : لو وجب حصول واحد منها في حيز معين ، لوجب حصول كلها في [ذلك (٣)] الحيز ، ضرورة أن الأشياء المتساوية في تمام الماهية ، يجب اشتراكها في جميع اللوازم ، [وحينئذ يلزم اجتماع الذوات (٤)] الكثيرة في (٥) الحيز الواحد ، وذلك محال.

والثاني : وهو أن الحدود والجوانب المفترضة في الخلاء الصرف ، متشابهة ومتساوية في تمام الماهية. فإن الخلاء الصرف لا حقيقة له ولا ماهية له ، إلا

__________________

(١) من (و).

(٢) السالفة (س).

(٣) من (و).

(٤) من (س).

(٥) في : (س). إلى : (و).

٤٥

مجرد كونه خلاء صرفا. وفضاء صرفا. وإذا كانت الأجزاء المفترضة فيها متشابهة ، فلو وجب حصول ذات في واحد منها ، لوجب حصولها في جميع تلك الأحياز [وحينئذ يلزم حصول ذات الواحد في جميع الأحياز (١)] دفعة واحدة. وذلك محال. فإن قالوا : لم لا يجوز أن يقال: إن الأجزاء المفترضة ، يخالف بعضها بعضا ، بسبب أن بعضها فوق ، وبعضها تحت. والله تعالى يجب حصوله في الفوق ، ويمتنع حصوله في التحت؟ فنقول : الفوق أو التحت إنما يظهر بعد خلق العالم ، فأما قبل خلق العالم ، فليس هناك فوق ولا تحت ، ولا يتميز جانب في الخلاء الذي لا نهاية له ، عن جانب آخر بشيء من الخواص والصفات البتة. [وأيضا : أجزاء الفضاء متشابهة في كونها فضاء صرفا ، وخلاء محضا (٢)] فنقول : لو اختلفت في شيء من الخواص والصفات ، لكان المقتضي لتلك الخاصية المعينة أما أن يكون هو نفس طبيعة الفضاء والخلاء ، فيلزم أن يكون ما به الاشتراك علة لما به الامتياز ، وذلك محال. وإما أن يكون المقتضي هو الشيء الذي يكون محلا لذلك الخلاء والفضاء وذلك أيضا محال لأنا بينا : أن طبيعة البعد والامتداد ، يمتنع أن تكون صفة قائمة بذات أخرى. وأيضا : فعلى هذا التقدير يكون الخلاء جسما لا معنى ، لأنه لا معنى للجسم إلا البعد الحال في المادة ، وإما أن يكون المقتضي هو الذي يكون حالا في ذلك البعد. وحينئذ يعود التقسيم المذكور في المقتضي لذلك الأمر ، وإن كان لأمر آخر ، لزم التسلسل وهو محال. فيثبت بهذا البرهان : أنه يمتنع أن يقع الاختلاف بين أجزاء الخلاء والفضاء. وحينئذ يحصل المقصود.

والوجه الثالث في بيان أنه يمتنع كون ذات الله حاصلة في حيز معين على سبيل الوجوب : أنه لو حصل في حيز معين مع أنه يمتنع عليه أن ينتقل من ذلك الحيز إلى حيز آخر ، لزم أن يقال : إنه كالزمن المقعد ، العاجز (٣) عن

__________________

(١) من (و).

(٢) من (و).

(٣) في (س) بعد كلمة المقعد : باطل غير ملتفت إليه. وهذه العبارة في الفصل السابع ، في الجواب عن الشبهة الأولى والثانية. ونهاية القوس : بعد كلام طويل ، سنشير إليه في نهاية الكلام.

٤٦

الانتقال والحركة والجسم الحي الذي يكون موصوفا بهذه الصفة يكون في غاية النقص والعجز ، وتعالى الله عنه علوا كبيرا.

والوجه الرابع في بيان فساد هذا القسم : إنه لو جاز في شيء مختص بجهة معينة. أن يقال : إن اختصاصه بتلك الجهة واجب ، جاز أيضا ادعاء أن بعض الأجسام حصل في حيز معين ، على سبيل الوجوب ، بحيث يمتنع خروجه عنه. وعلى هذا التقدير فلا يتمشى دليل حدوث الأجسام في كل الأجسام. لأنه يقال : لم لا يجوز وجود أجسام كثيرة مختصة بأحياز خارج العالم ، بحيث يمتنع عليها الانتقال ، وحينئذ لا يجري دليلكم على حدوث الأجسام في كلها؟ وقائل هذا القول لا يمكنه القطع بحدوث كل الأجسام.

الوجه الخامس في بيان فساد هذا القسم : هو أنه لو كان واجب الحصول في حيز معين ، وكان ممتنع الحصول في سائر الأحياز ، فحينئذ يكون ذلك الحيز مخالفا بالماهية لسائر الأحياز ، إذ لو كان مساويا لسائرها ، لوجب تساويها في جميع اللوازم والآثار ، ولو كانت الأحياز مختلفة بالماهية والحقيقة ، لكانت أمورا موجودة. فإذا قلنا : إن الباري تعالى يجب حصوله في الحيز المعين ، فحينئذ يلزم افتقاره في وجوده وتحققه إلى وجود غيره ، ولو كان الأمر كذلك ، لكان ممكنا لذاته ، وذلك محال.

فيثبت بهذه الوجوه الخمسة : أنه يمتنع أن يقال : إنه حصل في حيز معين على سبيل الوجوب.

وأما القسم الثاني وهو أن يقال : إنه حصل في الحيز المعين على سبيل الجواز : فنقول : هذا محال لوجوه :

الأول : إنه لما صح عليه الحركة والسكون ، فحينئذ لا تكون ذاته المخصوصة ، مقتضية لواحد منهما مع أنه يمتنع خلو ذاته عنهما ، فذاته مفتقرة إليهما ، وكل واحد منهما مفتقر إلى سبب منفصل ، والموقوف على الموقوف على الشيء ، موقوف على ذلك الشيء فيلزم افتقار ذات الله تعالى إلى شيء غيره ،

٤٧

وكل ما كان كذلك فهو ممكن لذاته فالواجب لذاته ممكن لذاته وذلك محال.

الثاني : إنه إذا كان حصوله في الحيز المعين من الجائزات ، امتنع أن يحصل في حيز من الأحياز إلّا بتخصيص مخصص ، وبجعل جاعل ، وكل ما حصل بفعل فاعل مختار ، فهو محدث. فيلزم أن يكون حصوله في الحيز المعين محدثا. وإذا امتنع خلو ذاته عن الحصول في الحيز المعين ، وثبت أن الحصول في الحيز المعين محدث ، لزم أن يقال : إن ذاته لا تخلو عن المحدث ، وما لا يخلو عن المحدث فهو محدث ، فيلزم أن تكون ذاته محدثة ، وهو محال. فيثبت بما ذكرنا : أنه تعالى لو حصل في حيز ، لحصل فيه أما مع الوجوب ، أو مع الجواز. وثبت فساد كل واحد من هذين القسمين ، فوجب القطع بامتناع حصوله في الحيز والجهة.

الحجة الخامسة في بيان أنه يمتنع حصول ذات الله تعالى في شيء من الأحياز والجهات : هو أن الأرض كرة ، وإذا كان كذلك امتنع كونه تعالى حاصلا في الحيز والجهة.

أما بيان الأول فقد قررناه بالدلائل الكثيرة ، إلا أنا نذكر هاهنا وجها واحدا ، وهو أنه إذا حصل خسوف قمري ، فإذا سألنا سكان أقصى المشرق عن أوله قالوا : إنه حصل في أول الليل ، وإذا سألنا سكان أقصى المغرب ، قالوا : إنه حصل في آخر الليل ، فعلمنا أن أول الليل في أقصى المشرق هو آخر الليل في أقصى المغرب ، وذلك يوجب كون الأرض كرة. وإنما قلنا : إن الأرض لما كانت كرة ، امتنع كون الله تعالى حاصلا في شيء من الأحياز : هو أن الأرض إذا كانت كرة فالجهة التي هي فوق ، بالنسبة إلى سكان أهل المشرق : هي تحت بالنسبة إلى سكان أهل المغرب ، وعلى العكس ، فلو حصل الباري تعالى في شيء من هذه الجهات ، لكان تعالى في جهة التحت بالنسبة إلى بعض الناس ، وعلى العكس. وذلك باطل باتفاق العقلاء. فيثبت : أنه يمتنع كونه تعالى حيزا ، حاصلا في الحيز والجهة.

الحجة السادسة في إثبات هذا المطلوب : أن نقول : لو حصل الباري

٤٨

تعالى في الحيز ، لحصل إما في العالم ، أو خارج العالم. والقسمان باطلان ، فالقول بحصول الله تعالى في الحيز والجهة محال. أما أنه يمتنع أن يحصل في العالم ، فبالاتفاق ، ولأنه يلزم أيضا أن يكون جزءا من أجزاء العالم ، ومخالطا له ، وذلك محال. وأما أنه يمتنع أن يحصل خارج العالم ، فلأن الخلاء إنا أن يكون متناهيا ، أو غير متناه. فإن كان متناهيا فكل متناه : شكل وشكله ليس من لوازم ذاته ، لأن الخلاء كما بينا طبيعة بسيطة فتكون طبيعة الجزء مساويا لطبيعة الكل ، فل كان المقتضى لذلك الشكل هو تلك الماهية ، أو شيء من لوازمها ، لزم أن يكون شكل الكل مساويا لشكل الجزء ، وذلك محال. فيثبت أن شكله يجب أن يكون حاصلا من الفاعل المختار فيكون محدثا ، والخلاء لا ينفك عن الشكل (١)] وما لا ينفك عن المحدث فهو محدث فالخلاء محدث ، والله تعالى قديم فوجب أن يقال : إنه في الأزل ما كان حاصلا في شيء من الأحياز والجهات [فلو حصل في الأزل في شيء من الأحياز والجهات (٢)] لزم وقوع التغير في تلك الذات من حيث إنها هي. وذلك محال.

وأما القسم الثاني وهو أن الخلاء لا نهاية له : فهذا محال لوجهين :

الأول : إن الدليل دل على امتناع وجود بعد لا نهاية له.

والثاني : إن الخلاء إذا كان متناه فلا يشير العقل إلى حيز معين ، إلا وفوقه حيز آخر ، فلو حصلت ذات الله تعالى في ذلك الحيز ، لكان قد حصل في التحت لا في الفوق، وذلك محال. وإذا كان الأمر كذلك ، امتنع حصوله في حيز معين ، وظاهر أيضا أنه يمتنع حصوله في حيز مبهم ، وحينئذ يلزم القطع بامتناع حصوله في الحيز أصلا. فإن قالوا : فلم لا يجوز أن يقال : إنه يحصل في جميع الأحياز التي لا نهاية لها؟ فنقول : هذا أيضا محال. لأنه إما أن يقال : إن الذات الواحدة حصلت في كل تلك الأحياز ، أو يقال : إنه حصل في كل واحد من تلك الأحياز : جزء من أجزاء تلك الذات. والأول محال لأنه

__________________

(١) هذا القوس نهاية الكلام الطويل.

(٢) من (س).

٤٩

يقتضي حصول الذات الواحدة بتمامها في الأحياز الكثيرة دفعة واحدة ، وذلك محال. ولأنه لما حصل ذلك الواحد في كل تلك الأحياز ، وكل واحد منها تحت حيز آخر ، فحينئذ يلزم أن تكون تلك الذات حصلت في التحت لا في الفوق. وهو محال. والثاني أيضا محال ، لأنه يقتضي كون تلك الذات مركبة مؤلفة. وأيضا : فكل واحد من تلك الأجزاء لما حصل في واحد من تلك الأحياز ، وقد ثبت أن كل واحد من تلك الأحياز المعينة ، فإنه تحت حيز آخر ، فحينئذ يعود ما ذكرنا إلى أنه تعالى حاصل في التحت ، لا في الفوق ، وذلك محال. فيثبت : أن القول بكونه تعالى حاصلا في الحيز والجهة يفضي إلى هذه الأقسام الباطلة ، فوجب أن يكون القول به محالا.

الحجة السابعة : لو كان الله تعالى حاصلا في الحيز والجهة ، لكان المسمى بالحيز والجهة ، إما أن يكون موجودا أو معدوما ، والقسمان باطلان ، فبطل القول بوجوب كونه تعالى في الحيز. أما الحصر فظاهر ، وإما إبطال كون الحيز موجودا. فالدليل عليه : أنه امتنع خلو ذات [الله تعالى عن الحصول في الحيز ، ولو كان الحيز أمرا موجودا ، لزم احتياج ذات الله تعالى (١)] إلى غيره ، وواجب الوجود لذاته يمتنع كونه محتاجا إلى الغير. وأما إبطال كون الحيز معدوما [فلأن المعدوم (٢)] نفي محض وعدم صرف ، فجعله ظرفا لذات الله تعالى ، وجعل ذات الله مظروفا فيه : محال.

فإن قيل : فهذا بعينه وارد في الأجسام فيلزم نفي كونها حاصلة في الأحياز ، وذلك قول باطل. فنقول : الجواب عنه من وجهين :

الأول : إنا نقول : الحيز والجهة أمر موجود ، وهو البعد المجرد والفضاء المحض ، فإذا قلنا : إن الجسم يحتاج إليه لم يلزم منه محال ، لأن الجسم ممكن الوجود لذاته ، والقول بكون الممكن لذاته محتاجا إلى الغير ليس قولا باطلا. أما القول بأن واجب الوجود لذاته يحتاج إلى الغير فهو قول باطل فظهر الفرق.

__________________

(١) من (و).

(٢) من (س).

٥٠

الوجه الثاني في الجواب : أن نقول : المكان إما أن يكون مفسرا بالبعد الذي ينفذ فيه الجسم ، أو بالسطح المحيط. فإن كان الحق هو الأول ، فالجواب ما ذكرناه في الوجه الأول. وهو فرق صحيح ، وإن كان الحق هو الثاني ، قلنا : إن كل العالم ليس في حيز وجهة البتة ، بل هو ذات مركبة من الأجزاء والأبعاض ، فإن حكمتم بكون الباري تعالى كذلك ، كان ذلك قولا بأنه جسم مؤلف من الأجزاء ، وقد سبق بيان أن ذلك قول باطل.

الحجة الثامنة : إن كل ما صحت الإشارة الحسية إليه بأنه هاهنا أو هناك ، فإما أن يكون موصوفا بهذه الصفة على سبيل الأصالة والاستقلال ، أو على سبيل التبعية ، فإن كان الأول فهو الجسم ، وإن كان الثاني فهو العرض ، ولما دللنا في الفصل المتقدم على أنه يمتنع كونه جسما. وظاهر أنه أيضا ليس بعرض ، وإلّا لكان محتاجا إلى المحل ، فحينئذ يلزم منه امتناع كونه حاصلا في الحيز والجهة. وهو المطلوب.

الحجة التاسعة : إن كل ما كان مشارا إليه بحسب الحس ، وكان شيئا عظيما ، فإنه لا بد وأن نفرض فيه الأجزاء والأعضاء ، لأن الشيء الذي منه يحاذي يمين العرش ، غير الشيء الذي منه يحاذي يسار العرش ، وكيف لا نقول ذلك ونقول : بأن هذا الجانب يحاذي يمين العرش لا يساره ، والجانب الآخر منه يحاذي يسار العرش لا يمينه؟ فلو كان الجانبان شيئا واحدا ، لزم اجتماع النفي والإثبات ، وأنه محال.

وإذا ثبت هذا فنقول : كل واحد من النصفين يماس النصف الآخر بأحد وجهيه دون الثاني. والوجهان متساويان في تمام الماهية ، والمتساويان في تمام الماهية ، يجب أن يصح على كل واحد منهما ما يصح على الآخر ، وكما صح على أحد النصفين أن يماس النصف الآخر بأحد وجهيه دون الثاني ، وجب أن يصح عليه أن يماسه بالوجه الثاني دون الأول. ومتى صح ذلك ، لزم صحة التفرق والتمزق عليه ، فيثبت : أن كل ما حصل في الجهة والحيز ، وكان عظيم الذات ، فإنه يكون جسما مؤلفا من الأجزاء ، أو يكون التفرق والتمزق عليه

٥١

جائزا ، ولما كان ذلك على الله محال ، وجب القول بتنزيهه عن الحيز والجهة [والله أعلم (١)].

الحجة العاشرة : لو كان تعالى فوق العرش ، أو مباينا للعرش ببينونة متناهية ، أو مباينا له ببينونة غير متناهية. والأقسام الثلاثة باطلة فالقول بكونه فوق العرش قول باطل. أما الحصر فظاهر. وأما بيان أنه يمتنع أن يكون مماسا للعرش : فالدليل عليه : أن العرش مؤلف من الأجزاء والأبعاض ، فالذي يماسه هذا الجزء من العرش ، غير الذي يماسه الجزء الثاني من العرش ، وكما أن العرش مؤلف من الأجزاء والأبعاض ، وجب أن يكون الله تعالى مؤلفا من الأجزاء والأبعاض. وأيضا : فلو عقل بأن يكون المؤلف من الأجزاء والأبعاض إلها ، فلم لا يجوز أن يقال : إن إله العالم هو العرش نفسه؟ لأنه لو جاز أن يقال : إن الإله مؤلف من الأجزاء والأبعاض ، مع أنه لا يقبل التفرق والتمزق ، فلم لا يجوز أن يقال : العرش وإن كان مؤلفا من الأجزاء والأبعاض إلا أنه لا يقبل التفرق والتمزق ومعلوم أن فتح هذا الباب يفضي إلى نفي الصانع ، وكل صفة يفضي إثباتها إلى نفي الموصوف فهو باطل فيثبت : أن القول بكون الإله مماسا للعرش قول باطل.

وأما القسم الثاني وهو أنه تعالى مباين للعرش ببينونة متناهية : فهذا أيضا باطل ، لأن على هذا التقدير تكون ذات الله تعالى محاذية لذات العرش ، وموازية لها ، وواقعة في مقابلتها ، وكل ما ذكرناه في المماسة فهو بعينه قائم في هذه المحاذات وأيضا : فعلى هذا التقدير لا يمتنع أن يرتفع العالم من حيزه إلى الجانب الأعلى ارتفاعا متناهيا وحينئذ يلزم صحة أن تصير ذات الله مماسا للعرش.

وأما القسم الثالث وهو أن يكون مباينا للعرش ببينونة غير متناهية : فهذا أيضا باطل ، لأنه إذا كان العالم من أحد الجانبين وكانت ذات الله من الجانب الآخر ، فحينئذ يكون البعد بينهما محدودا بهذين الطرفين ، فلو قلنا : إن

__________________

(١) من (و).

٥٢

هذا البعد غير متناه ، لزم أن يقال : إن ما لا نهاية له محصور بين حاصرتين وذلك محال. فثبت فساد هذه الأقسام الثلاثة ، ويلزم من فسادها القول بتنزيه ذات الله تعالى عن المكان والحيز.

فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : إنه مماس للعرش ، أو مباين له بينونة متناهية؟ قوله : «إنه لو كان كذلك ، لكان الذي يماس منه أحد أجزاء العرش ، مغاير للذي يماس منه الجزء الثاني» قلنا : لا نسلم. ولم لا يجوز أن يقال : إنه شيء واحد ، وهو بعينه حاصلا في جميع الأحياز ، وهو بعينه يماس جميع أجزاء العرش ، أو يحاذيها؟ وأقصى ما في الباب أن هذا في الجوهر الفرد محال ، فإن الجوهر الواحد لا يحصل في الأحياز الكثيرة دفعة واحدة. فلم قلتم : إنه لما كان الأمر كذلك في الجوهر ، وجب أن يكون الأمر كذلك في حق الباري تعالى؟ فإن قياس الغائب على الشاهد مطلقا باطل ، لا سيما على مذهبكم فإن الأصل المعتبر في إثبات التنزيه أن قياس الغائب على الشاهد لا يجوز.

سلمنا أنه يلزم منه كونه تعالى مركبا من الأجزاء والأبعاض. فلم قلتم : إن ذلك محال؟ ولم لا يجوز أن يقال : إنه وإن كان مؤلفا من الأجزاء ، إلا أنها لا تقبل التفرق والتمزق بل هي واجبة البقاء على نسق واحد؟

سلمنا أن ذلك باطل إلا أن هذا إنما يلزم ، إذا قلنا : إنه تعالى محاذ للعرش ببعد متناه أما إذا قلنا : إنه مباين للعرش ببعد غير متناه فهذا غير لازم. أما قوله «لو كان كذلك ، لزم أن يكون ما لا نهاية له محصورا بين حاصرين ، وذلك محال» قلنا : أليس أن الله تعالى قديم أزلي؟ فعلى هذا أنه لا أول لوجوده في جانب الأزل ، أما وجوده من الجانب الذي يلينا (١) فإنه مقارن لوجود كل واحد من هذه الحوادث ، فإذا جاز في المدة والزمان أن تكون ذاته مباينة لهذه الحوادث ، من جانب الأزل بينونة غير متناهية ، مع أنه يكون مقارنا للعالم في جانب الأبد. فلم لا يجوز أيضا أن يقال : إن ذاته مباينة للعرش ببعد

__________________

(١) يلينا (س) بينا (و).

٥٣

غير متناه ، مع أنه يكون مختصا بالحيز والجهة؟ والجواب : إنا إذا أشرنا إلى شيء مختص بحيز وجهة ، فقد حصل هناك شيء. وذلك الشيء هل له وجود في سائر الجوانب الستة أم لا؟ أما الثاني فهو باطل. لأنه يلزم عليه أن يكون إله العالم جوهرا فردا ، وجزءا لا يتجزأ؟ وذلك باطل بالاتفاق. بقي القسم الأول فنقول : الحاصل في كل واحد من الأحياز التي لا تنقسم. إما أن يكون عين الحاصل في الحيز الآخر (١) أو غيره؟ فإن كان الأول لزم أن يكون الذات الواحدة حاصلة في الأحياز الكثيرة دفعة واحدة ، وذلك معلوم الامتناع ببديهة العقل. وأيضا : فلو عقل ما ذكرتم ، فلم لا يعقل أيضا أن يقال : العرش جوهر فرد ، وجزء لا يتجزأ وهو بعينه حاصلا في الأحياز الكثيرة؟ وعلى هذا التقدير ، فلم يجوز أن يكون إله العالم هو نفس العرش؟ وحينئذ يلزم إبطال القول بإثبات الصانع وهو باطل. قوله : «لم لا يجوز أن يكون مركبا من الأجزاء إلا أن تلك الأجزاء لا تقبل التفرق والتمزق»؟ قلنا : لأنا بينا أن الأجزاء الشاغلة للحيز ، يجب كونها متساوية في تمام الماهية ، وحينئذ يلزم جواز التفرق والتمزق ، ولأنه لو عقل ما ذكرتم ، فلم لا يجوز أن يقال : إله العالم هو العرش نفسه؟ وهو وإن كان مركبا من الأجزاء والأبعاض إلا أن يقال : إله العالم هو العرش نفسه؟ وهو وأن كان مركبا من الأجزاء والأبعاض إلا أنه لا يقبل التفرق والتمزق ، وحينئذ يلزم نفي الصانع وهو باطل. أما قوله «لم لا يجوز أن يكون الباري تعالى مباينا للعرش بينونة غير متناهية»؟ فنقول : هذا باطل. وذلك لأن ذات الباري تعالى ، لا بد وأن يكون متناهيا محدودا من جانب التحت وإلا لزم أن يكون العالم حاصلا في ذات الباري تعالى وهو محال بالاتفاق ، وإذا ثبت لذات الباري حد ونهاية من جانب التحت ، وثبت أيضا للعالم حد ونهاية ، فحينئذ يلزم أن يكون البعد بين الباري وبين العالم محدودا بهذين الحدين ، وذلك (٢) [لا] يوجب كون ذلك البعد متناهيا ، فالقول بأنه غير متناه يوجب الجمع بين النقيضين وهو محال. وهذا بخلاف قولنا : إنه تعالى

__________________

(١) الجزء الآخر (س) الحيز الأجزاء (و).

(٢) وذلك يوجب كون البعد (و).

٥٤

موجودا في الأزل ، فإن الأزل ليس عبارة عن وقت معين ، وحد محدود ، حتى يقال : البعد بين ذلك الوقت المعين وبين هذا الوقت الذي نحن فيه ، بعد غير متناه ، بل الأزل عبارة عن نفي الأولية من غير أن يكون ذلك عبارة عن وقت معين ، وحد محدود. وأما هاهنا فبتقدير أن تكون ذات الله تعالى مباينة للعالم بالحيز والجهة ، وجب أن يكون ذات الله محدودا من جهة التحت ، فيكون ذلك الحد ظرفا معينا ، وحدا معينا ، فيكون البعد بينه وبين طرف العالم محدودا بهذين الطرفين ، فيمتنع وصفه بكونه غير متناه. وهذا تمام الكلام في تقرير هذا الدليل.

الحجة الحادية عشر : إنه تعالى لو كان حاصلا في حيز معين لكنا إذا فرضنا وصول إنسان إلى طرف ذلك الشيء ، فإما أن يمكنه الدخول فيه ، والنفوذ فيه وإما أن لا يمكن ، فإن كان الأول كان كالهواء اللطيف ، والماء اللطيف ، فحينئذ يكون قابلا للتفرق والتمزق ، وإن كان الثاني فحينئذ يكون صلبا كالحجر الصلد الذي يمتنع النفوذ فيه ، فيرجع حاصل هذا القول : إلى أن إله العالم عند القائلين بالمكان والجهة : شيء رقيق كالماء والهواء [أو شيء صلب كالحجر (١)] فيكون [هذا القابل أما الهواء اللطيف وأما الحجر الصلب (٢)] فيكون حاصل قوله : إنه حصل فوق العرش حجر صلب : جاري مجرى جبل عظيم ، وهو بعينه (٣) ذلك الجبل. ومعلوم أن هذا القول بعيد عن العقل جدا.

الحجة الثانية عشر : وهي حجة استقرائية اعتبارية ـ فنقول : إنا رأينا أن الشيء كلما كان حصول معنى الجسمية فيه أقوى وأكمل ، كانت القوة الفاعلة المؤثرة فيه أضعف وأنقص. وكلما كان حصول معنى الجسمية فيه أنقص وأضعف ، كان حصول القوة الفاعلة فيه أقوى وأكمل ، وتقريره : إنا وجدنا الأرض أكثف الأجسام وأقواها حجمية ، فلا جرم لم يحصل فيها إلا قبول الأثر

__________________

(١) من (و).

(٢) من (و).

(٣) وهو يفيد ذلك الجبل (س).

٥٥

فقط ، فأما أن يكون للأرض الخالية تأثير في غيره ، فقليل جدا. وأما الماء فهو أقل كثافة وحجمية من الأرض ، فلا جرم حصلت فيه قوة مؤثرة ، فإن الماء جاري بطبعه ، فإذا اختلط بالأرض أثر فيه أنواعا من التأثيرات وأما الهواء فإنه أقل حجمية وكثافة من الماء ، فلا جرم كان أقوى في التأثير من الماء.

ولذلك قال بعضهم : «إن الحياة لا تكمل إلا بالنفس» وزعموا : أنه لا معنى للروح إلا الهواء المستنشق ، وأما النار فإنها ألطف من الهواء ، فلا جرم كانت أقوى الأجسام العنصرية في التأثير ، فإن بقوة الحرارة يحصل الطبخ والنضج ، وتكون المواليد الثلاثة ـ أعني : المعادن والحيوان والنبات ـ وأما الأفلاك فإنها لما كانت ألطف من الأجرام العنصرية ، لا جرم كانت هي المستولية على هذه العناصر بالتمزيج والتركيب ، وهذا على قول أكثر الفلاسفة المتقدمين الذين يقولون : أجرام الأفلاك ليست صلبية ، بل هي جارية مجرى الأنوار اللطيفة.

وإذا ثبت هذا. فنقول : هذا الاستقراء يدل على أن الشيء كلما كان أكثر جرمية وحجما كان أقل قوة وتأثيرا ، وكلما كان أقوى قوة وتأثيرا ، كان أقل حجمية وجرمية ، وإذا كان كذلك فهذا الاستقراء يفيد ظنا قويا أنه حيث حصل كمال القوة والقدرة على الإحداث والإيجاد ، وجب أن لا يحصل هناك معنى الحجمية والجرمية ، والاختصاص بالحيز والجهة ، وهذا وإن كان بحثا استقرائيا ، إلا أنه عند الاعتبار العام ، يفيد كونه سبحانه منزها عن الجسمية ، والاختصاص بالحيز ، والجهة. [والله أعلم (١)]

__________________

(١) من (و).

٥٦

الفصل السادس

في

حكاية شبهات مثبتي الجسمية والمكان

اعلم : أن القوم عولوا على وجوه من الكلمات :

فالشبهة الأولى : [من شبهات مثبتى الجسمية (١)] أن قالوا : لما خلق الله تعالى العالم. فإما أن يقال : إنه خلقه في ذاته ، أو في خارج ذاته. والأول باطل بالاتفاق لأنه يلزم أن تكون ذاته مخالطة للقاذورات. والثاني يقتضي كون العالم واقعا خارج ذات الله تعالى ، مباينا عن ذاته ، فيكون الله تعالى مباينا للعالم بالحيز والجهة ، فأما القول بأن العالم واقع [لا (٢) في ذات الله ولا في خارج ذات الله تعالى ، فهذا مما لا يقبله العقل البتة.

الشبهة الثانية : قالوا : لا شك أن هذا العالم موجود ، وذات الله تعالى موجود أيضا ، وكل موجودين فلا بد وأن يكون أحدهما ساريا في الآخر ، أو مباينا عنه بجهة من الجهات الست. وأما الذي لا يكون ساريا ولا مباينا عنه في شيء من الجهات ، فهذا هو العدم المحض ، والنفي الصرف فالقول به تصريح بنفي الصانع ، وذلك باطل ، ألا ترى أنا إذا قلنا في الشيء : إنه غير حاصل في الدار ، وغير حاصل أيضا خارج الدار ، كان هذا تصريحا بكونه عدما محضا

__________________

(١) من (س) وأن (ط).

(٢) من (و).

٥٧

[ونفيا صرفا ، فيثبت أنه تعالى لو لم يوجد خارج العالم كان معدوما محضا (١)] وذلك باطل. فوجب القول بكونه موجودا خارج العالم.

الشبهة الثالثة : لا نزاع بين المسلمين في أنه تعالى عالم بالجزئيات. فنقول : العالم بالجسمانيات لا بدّ وأن يكون جسما حاصلا في الحيز. والدليل عليه : أنا إذا تخيلنا مربعا مجنحا بمربعين متساويين. فنحن نميز في خيالنا بين هذين المربعين الواقعين على هذين الطرفين، وهذا الامتياز إما أن يكون واقعا في الوجود الخارجي ، أو في الوجود الذهني. والأول باطل لأنه يمكننا أن نتخيل هذه الصورة حال كونها معدومة في الخارج. فيثبت : أن هذا الامتياز واقع في الذهن ، وليس ذلك الامتياز بسبب حصول الامتياز في الماهية ولوازمها ، لأن الماهية ولوازمها مشترك فيها بين هذين المربعين ، فوجب أن يكون سبب هذا الامتياز شيء من العوارض. لكن الامتياز في العوارض لا يحصل إلا عند التغاير في القابل فإن الصورتين لو اجتمعتا في محل واحد ، وفي قابل واحد ، لكان كل ما يعرض عارضا لأحدهما ، كان هو بعينه عارضا للآخر ، وحينئذ يصير ذلك العارض مشتركا فيه. فلا يكون موجبا للتغاير والتباين فثبت أنه لا يمكن حصول الامتياز في الذهن بين هذين المربعين الواقعين على الجانبين إلا إذا كان محل أحدهما غير محل الآخر ، فثبت أن المدرك لهذه الصورة لا بد وان يكون جسما منقسما ، فثبت أنه تعالى مدرك للجزئيات ، وثبت أن كل من كان مدركا للجزئيات ، وجب أن يكون جسما حاصلا في الحيز والجهة ، ينتج : أنه تعالى حاصل في الحيز. واعلم : أنه ثبت بالوجه الذي ذكرناه : أن إدراك الجزئيات لا يحصل إلا عند حصول الجسمية. ثم إن الفلاسفة قالوا : لكنه ليس بجسم ، فيمتنع كونه مدركا للجزئيات ، والمجسمة قالوا : لكنه مدرك للجزئيات ، فوجب كونه جسما.

الشبهة الرابعة : إنه تعالى ذات موصوف بالصفات ، وكل ما كان كذلك فلا بد وأن يكون جسما حاصلا في الحيز. بيان الأول : أنه تعالى عالم قادر ،

__________________

(١) من (و).

٥٨

والمعقول من كونه ذاتا قائما بالنفس ، مغاير للمعقول من كونه عالما قادرا. ولذلك فإنه يمكننا أن نعقل كونه ذاتا قائمة بالنفس مع الشك في كونه تعالى عالما قادرا ، والمعلوم مغاير لغير المعلوم ، فيثبت : أن العلم والقدرة صفتان قائمتان بالذات. وبيان أن كل ما كان موصوفا بالصفات فلا بد وأن يكون جسما حاصلا في الحيز : هو أن المعقول من قيام الصفة بالذات كون الصفة حاصلة في تلك الجهة المعينة ، تبعا لحصول محلها في تلك الجهة. فإنا إذا رفعنا هذا المعنى من العقل فحينئذ لا يبقى في العقل تفاوت بين الذات وبين الصفة. وحينئذ لا يكون كون أحدهما ذاتا والآخر يجب أن يكون حاصلا في الحيز ، لزم القطع بكونه تعالى حاصلا في الحيز. والحاصل : أنه ثبت أنه لا معنى لا تصاف الذات بالصفة إلا حصول الصفة في الجهة المعينة ، تبعا لحصول محلها في تلك الجهة.

ثم إن المعتزلة قالوا : لكنه يمتنع كونه تعالى حاصلا في الحيز ، فيمتنع كونه موصوفا بالصفات.

والمجسمة قالوا : لكنه ثبت كونه موصوفا بالصفات ، فوجب الجزم بكونه تعالى حاصلا في الحيز.

الشبهة الخامسة : إني رأيت مناظرة طويلة ، جرت بين مشبه وموحد ، فلخصت تلك المناظرة وضممت إليها زوائد كثيرة. وهي هذه : قالوا : لا شك أن كل موجودين فلا بد وأن يكون أحدهما مجانبا للآخر أو مباينا عنه. والمراد من المجانبة كون كل واحد منهما بجنب الآخر ، أي أن (١) يكون أحدهما ساريا في الآخر. وهذا هو المراد من لفظ المجانبة ، فليكن المراد معلوما منه ، إذا ثبت هذا فنقول : كون كل موجودين في الشاهد كذلك إما أن يكون بخصوص كونه جوهرا ، أو بخصوص كونه عرضا ، أو لأمر مشترك بين الجوهر والعرض ، وذلك المشترك إما الوجود أو الحدوث والكل باطل سوى الوجود ، فوجب أن تكون العلة لذلك الحكم هي الوجود فقط ، والباري تعالى موجود فوجب الجزم بأنه تعالى لا بدّ وأن يكون إما مجانبا للعالم ، أو مباينا عنه بالجهة.

__________________

(١) أي أن : (س) الآخر أن يكون (و).

٥٩

واعلم أن هذا الكلام لا يتم إلا بتقرير مقدمات ، ونحن نذكرها :

أما المقدمة الأولى : وهي قولنا : كل موجودين في الشاهد ، فلا بد وأن يكون أحدهما مجانبا للآخر ، أو مباينا عنه بجهة. فنقول : هذا الحكم لا بد له من علة. والدليل عليه : هو أن المعدوم لا يصح فيه هذا الحكم ، وهذه الموجودات التي في الشاهد يصح فيها هذا الحكم ، ولو لا امتياز ما صح فيه هذا الحكم عما لا يصح فيه هذا الحكم ، وإلا لامتنع حصول هذا الامتياز.

وأما المقدمة الثانية : فهي في بيان أنه يمتنع تعليل هذا الحكم ، بخصوص كونه جوهرا ، أو بخصوص كونه عرضا. والدليل عليه : أن المقتضى لهذا الحكم لو كان هو كونه جوهرا ، لصدق على الجوهر أنه ينقسم إلى ما يكون مجانبا لغيره ، وإلى ما يكون مباينا عنه. ومعلوم أن ذلك باطل ، لأن الجوهر يمتنع أن يكون مجانبا لغيره ، وبهذا الطريق يظهر أن المقتضى لهذا الحكم ، ليس كونه عرضا أيضا ، لامتناع كون العرض مباينا لغيره بالجهة.

المقدمة الثالثة : في بيان أن هذا الحكم غير معلل بالحدوث. ويدل عليه وجوه :

الأول : إن الحادث عبارة عن وجود سبقه عدم ، والعدم غير داخل في العلية وإذا سقط العدم عن درجة الاعتبار ، لم يبق إلا الوجود.

والثاني : إنه لو كان هذا الحكم معللا بالحدوث ، لكان الجاهل بكون السماء محدثة ، وجب أن يكون جاهلا بأن السماء بالنسبة إلى سائر الموجودات ، التي في هذا العالم، إما أن تكون مجانبا لها ، أو مباينا عنه بالجهة ، لأن المقتضى للحكم إذا كان أمرا معينا ، فالجاهل بذلك المقتضى بذلك المقتضى ، يجب أن يكون جاهلا بذلك الحكم ، ألا ترى أن الموجود لما كان هو المستدعي للتقسيم إلى القديم ، وإلى المحدث ، لا جرم كان اعتقاد أنه غير موجود يكون مانعا للتقسيم بالقدم والحدوث ، ولما كان التقسيم إلى الأسود والأبيض مفرعا على كونه ملونا ، لا جرم كان اعتقاد أن الشيء غير ملون ، مانعا من اعتقاد التقسيم إلى الأسود والأبيض. ولما رأينا أن الدهري الذي يعتقد قدم السموات

٦٠