المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٢

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ١٥٤

الفصل الثالث عشر

في

إثبات أنه يمتنع كونه تعالى حالا في غيره

نقول : أما تفسير الحلول فقد سبق (١) على الاستقصاء ونقول : أما الجمهور فقد عولوا في نفي الحلول على أن قالوا : لو حل لحلّ إما مع وجوب أن يحل [أو مع جواز أن يحل (٢) والقسمان باطلان ، فبطل القول بالحلول ، وإنما قلنا : إنه لا يجوز أن يحل مع وجوب أن يحل ، وذلك لوجهين :

الأول : إنه لو حلّ مع وجوب أنه يحل ، لكان مفتقرا في ذاته إلى ذلك المحل ، والمفتقر إلى الغير ممكن لذاته ، فيلزم أن يكون الواجب لذاته. هذا خلف.

والثاني : إنه تعالى لما حلّ في المحل مع وجوب أن يحل فيه ، لزم من قدم الله ، قدم ذلك المحل [ومن افتقار ذات الله إليه ، كونه واجب لذاته ، لأن ذاته تعالى واجبة لذاته (٣)]. وإذا كان مفتقرا إلى ذلك المحل ، فمن المعلوم أن الذي يفتقر الواجب لذاته إليه يكون أولى بالوجوب الذاتي ، وحينئذ يصير واجب الوجود ، أكثر من واحد. وذلك محال.

__________________

(١) سبق (س) تم (و).

(٢) من (س).

(٣) من (و).

١٠١

وإنما قلنا : إنه يمتنع أن يحل في محل ، مع جواز أن يحل فيه. وذلك لأن الحال في الشيء ، يجب أن يكون محتاجا إليه ، والذي لا يحل في شيء ، هو الذي يكون غنيا عنه. فإذا قلنا في الشيء : إنه قد يحل في المحل مع جواز أن لا يحل فيه ، صار المعنى : أن الغني عن الشيء ، يجوز أن يصير محتاجا إليه. وذلك محال.

لأن الغني عن الشيء يمتنع أن ينقلب محتاجا إليه ، فيثبت : أنه تعالى لو حل في شيء لحل إما مع وجوب أن يحل ، أو مع جواز أن يحل ، والقسمان فاسدان ، فالقول بالحلول باطل. فإن قيل : الإنسان إنه لو حل في شيء مع وجوب أن يحل فيه ، لكان محتاجا إلى المحل ، وذلك لأنه [لا (١)] يمتنع أن توجب ذاته ، ذات ذلك المحل. ثم إن ذلك المحل يوجب حلوله في نفسه ، أو يقال : ذاته توجب ذات ذلك المحل ، وتوجب حلول نفسه في ذلك المحل ، بشرط وجود ذلك المحل ، وتوجب حلول نفسه في ذلك المحل ، بشرط وجود ذلك المحل. وبهذا التقدير فإنه لا يلزم افتقار [ذاته إلى ذلك المحل. لأن لوازم الشيء وآثاره واجبة الحصول عند حصول ذلك المؤثر ، مع أنه لا يلزم افتقار المؤثر إلى (٢)] الأثر. ثم نقول : لم لا يجوز أن يحل في الشيء مع جواز حلوله فيه؟ قوله : «لأن الحال في المحل ، مفتقر إلى ذلك المحل ، والذي لا يكون حالا فيه ، يكون غنيا عنه ، وكون الشيء الواحد بالنسبة إلى الشيء الواحد ، غنيا عنه ، ومحتاجا إليه : محال» فنقول : لم قلتم : إن الحال في الشيء يكون محتاجا إليه؟ ألا ترى أن الجسم المعين ، يحصل في الحيز المعين ، بعد أن كان غير حال فيه ، مع أنه لا يكون محتاجا لذاته إلى الحلول في ذلك الحيز المعين؟ فإذا عقل هذا في الحصول في الحيز ، فلم لا يعقل مثله في الحلول في المحل؟ واعلم أن هذه السؤالات واردة على هذه الطريقة ويصعب الجواب عنها.

فالأولى : أن نقول : البحث عن أنه هل يجوز أن يصير حالا في شيء ، أم لا : مسبوق بالبحث عن ماهية الحلول؟ فنقول : المعقول من الحلول

__________________

(١) من (س).

(٢) من (و).

١٠٢

أمران : الأول : كون الصورة حاصلة في الحيز المعين ، تبعا لحصول محلها فيه. فإذا قلنا اللون حال في الجسم ، فإن معناه أن اللون حصل في ذلك الحيز المعين ، تبعا لحصول ذلك الجسم فيه. والحلول بهذا التفسير إنما يعقل في الشيء الذي يكون حاصلا في الجهة والحيز ، فإذا كان الباري تعالى منزها عن هذه الصفة ، كان إثبات الحلول في حقه محالا. والتفسير الثاني للحلول : كونه مختصا به ، مع كونه محتاجا إليه كقولنا : إن صفة العلم والقدرة حالة في ذات العالم القادر. والحلول بهذا الوجه مفسر باحتياج الصفة إلى الموصوف ، ولما كان الإله تعالى واجب الوجود لذاته ، ممتنع الافتقار إلى الغير ، كان حصول الحلول في حقه بهذا التفسير محالا. وهذا هو المعقول من لفظ الحلول ، وقد ثبت أن ذلك في حق الله تعالى ممتنع. فأما الحلول بتفسير ثالث فهو غير معقول ولا متصور ، فكان الكلام في إثباته ونفيه محالا. فهذا هو الكلام الملخص في هذا الباب.

ثم نقول : إذا جوزتم الحلول على ذات الله ، وجب أن تكونوا شاكين في أنه هل حل في هذه البقة ، وفي هذه النملة ، وفي هذه البعوضة؟ أقصى ما في الباب أن يقال : إنه لم يظهر من هذه النملة حال عظيمة مهيبة ، إلا أنا نقول : هذا إشارة إلى أنه لم يوجد ما يدل على حصول هذا الحلول ، ولا يلزم من عدم علمنا بحصول الدليل ، عدم المدلول. فيثبت : أن من جوّز الحلول لزمه أن يبقى شاكا في كل واحد من هذه الأجسام الخسيسة ، أنه تعالى هل صار حالا فيها أم لا؟ ولما كان ذلك باطلا ، كان القول بالحلول باطلا.

١٠٣

الفصل الرابع

في

عشر في نفي الاتحاد

اعلم أن قولنا : إن هذا الشيء صار شيئا آخر : له تفسيران : أحدهما : أن تكون الذات المعينة موصوفة بصفة ، ثم زالت عنه تلك الصفة ، وحدثت فيه صفة أخرى. وهذا معقول. كقولنا : إن الماء صار هواء ، فإن معناه : أن الجسم المعين كان موصوفا بالصفة المائية وزالت هذه الصفة عن ذلك الجسم ، وحدثت فيه الصفة الهوائية ، وهذا معقول جائز. وأما التفسير الثاني : وهو أن تصير نفس هذه الحقيقة بعينها نفس حقيقة أخرى ، فهذا قول باطل. والدليل عليه : أنهما عند الاتحاد إما أن يكونا باقيين ، أو يكونا معدومين ، أو يكون أحدهما باقيا ، والآخر معدوما ، فإن كانا عند الاتحاد باقيين ، فهما أثنان لا واحدا ، فكان القول بالاتحاد باطلا. وإن كانا معدومين فهما قد عدما وهذا الذي حصل وحدث ، شيء ثالث مغاير لهما ، وهذا معقول ، إلا أنه ليس هذا من باب الاتحاد ، وأما إن قلنا : إن عند الاتحاد يكون أحدهما باقيا ، ويكون الثاني فانيا ، فهذا أيضا باطل لأنهما لو اتحدا ، لزم أن يقال : إن الموجود عين المعدوم ، وذلك باطل قطعا ، فثبت : أن القول بالاتحاد محال. ولقائل أن يقول : القول بالاتحاد له تفسير معقول صحيح وذلك لأنه ثبت أن الوجود زائد على الماهية ، فإذا كان لكل واحدة من هاتين الماهيتين ، وجود على حدة ، كان ذلك مبطلا للاتحاد ، وأما إذا حصل لهما معا وجود واحد ، فهذا هو الاتحاد. وذلك لأنه لما كان لكل واحد منهما وجود على

١٠٤

حدة ، ثم إنه زال عن كل واحد منهما ما قام به من الوجود ، وحصل لمجموعها وجود واحد ، فهذا هو الاتحاد. وإذا كان هذا قسما من الأقسام المعلومة ، فما لم يقيموا الدليل على فساده ، لم يكن القول بالاتحاد باطلا.

إذا عرفت هذا فنقول : القول بالاتحاد في حق الله تعالى محال ، لأن ذلك [إنما يعقل(١)] إذا زال عنه الوجود القائم به ، وحصل لمجموع حقيقته مع حقيقة أخرى صفة الوجود.

إلا أن ذلك محال ، لأنه لما كان واجب الوجود لذاته ، كان زوال ذلك الوجود عنه محالا ، فكان اتصافه بذلك الوجود الذي هو منفرد به ، واجبا لذاته ، ومتى كان الأمر كذلك كان الاتحاد في حقه محالا.

__________________

(١) من (س).

١٠٥

الفصل الخامس عشر

في

بيان أنه يمتنع كونه تعالى محلّا لغيره

هاهنا أبحاث

البحث الأول : أنه هل يعقل أن يكون محلا للحوادث؟ قالوا : إن هذا قول لم يقل به أحد إلا الكرامية (١). وأنا أقول : إن هذا قول قال به أكثر أرباب أهل المذاهب.

أما الأشعرية : فإنهم يدعون الفرار من هذا القول ، إلا أنه لازم عليهم من وجوه :

الأول : إنه تعالى كان قادرا على إيجاد الجسم المعين من الأزل إلى الأبد ، فإذا حلق ذلك الجسم المعين ، يمتنع أن يقال : إنه بقى قادرا على إيجاده ، لأن إيجاد الوجود محال. والمحال لا قدرة عليه ، فتعلق قادريته بإيجاد ذلك الجسم قد زال وفني.

والثاني : إنه في الأزل يمتنع أن يقال : إنه كان يطلب من زيد إقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة في الحال. ثم إن عند دخول زيد في الوجود ، يصير مطالبا له بإقامة الصلاة في الحال ، وإيتاء الزكاة. وهذا الطلب إلزام ، والإلزام الحاصل ، ما كان حاصلا ثم حصل ، وهذا يقتضي حدوث الصفة في ذات الله

__________________

(١) في (و) الكرامية : قال الإمام الداعي إلى الله : وأنا أقول ... الخ.

١٠٦

تعالى. ولو قال قائل : إن كونه مطالبا لزيد في الحال بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة تعلق خاص ونسبة خاصة ، والحادث هو النسب والتعلقات ، لا الصفات. فنقول : هذه النسب والتعلقات ، هل لها وجود في نفس الأمر أو ليس كذلك؟ والثاني يقتضي نفي كونه تعالى مطالبا في الحال بإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة. وأما الأول فيقتضي حدوث الصفة في ذات الله.

والثالث : وهو أنه تعالى يمتنع أن يسمع صوت زيد قبل وجوده ، وأن يرى صورة زيد قبل وجودها ، فكونه سامعا لذلك [الصوت ، إنما حدث عند حدوث ذلك الصوت ، وكونه رائيا لتلك الصورة إنما حدث عند حدوث تلك الصورة (١) وهذا] يقتضي حدوث هذه الصفات في ذات الله تعالى.

وأما المعتزلة : فقد ذهب أبو علي وأبو هاشم إلى أنه يحدث في ذاته صفة المريدية والكرامية ، ويحدث في ذاته كونه سامعا مبصرا لهذه الأصوات الحادثة ، ولهذه الألوان الحادثة. وأما أبو الحسين البصري فقد صرح بأن علم الله يتغير عند تغير المعلومات ، وأن تلك العلوم إنما تحدث في ذات الله تعالى.

وأما الفلاسفة : فإنهم مع كونهم أبعد الناس عن هذا المذهب ، قد قالوا به من حيث لم يشعروا به. وبيانه : وهو أن الإضافات صفات موجودة في الأعيان عندهم ، ولا شك أن الباري تعالى موجود مع كل حادث يحدث ويدخل في الوجود. ولا شك أنه كان موجودا قبل حدوث ذلك الحادث ، وسيبقى موجودا بعد فناء ذلك الحادث ، وهذه القبلية والمعية والبعدية ، إضافات حادثة في ذات الله تعالى ، وإذا كانت الإضافات موجودات في الأعيان، كان هذا قولا بحدوث المعاني والصفات ، وفي ذات الله تعالى.

فيثبت بهذا البحث الذي ذكرناه : أن القول بحدوث الصفات في ذات الله قول قال به جميع الفرق.

__________________

(١) من (و).

١٠٧

إذا عرفت هذا فنقول : اعلم أن الصفات على ثلاثة أقسام :

أحدها : الصفات الحقيقية العارية عن الإضافات ، مثل اللون والطعم والرائحة. ومثل: الوجود والحياة.

وثانيها : الصفات الحقيقية الموصوفة بالإضافات والنسب وذلك مثل : العلم عند من يقول : إنه صفة لها تعلق بالمعلوم. فإن على هذا القول : العلم صفة حقيقية وحصل بين تلك الصفة وبين المعلوم نسبة خاصة ، وتعلق خاص.

وثالثها : الصفات التي هي محض النسب والإضافات مثل : كون زيد يمينا لعمرو ، أو يسارا له ، مثل ما إذا تزوج أخو زيد بامرأة ، وحصل له ولد ، فإن زيدا يصير عمّا لذلك الولد ، بعد أن كان عاريا عن هذه الصفة ، وهذا يقتضي حدوث هذه الإضافات المختصة في ذات زيد.

إذا عرفت هذا فنقول : أما القول بحدوث الصفات الإضافية فذاك أمر يجب الاعتراف به ، ولا يمكن إنكاره البتة يقينا مع الصفات الحقيقية ، سواء حصلت لها إضافات إلى الغير ، أو لم يحصل. وهاهنا محل الخلاف. فمن الناس من جوز حدوث مثل هذه الصفات في ذات الله تعالى ، ومنهم من منع منه. هذا هو تلخيص محل الخلاف.

واحتج القائلون بامتناع قيام الحوادث بذات الله تعالى بوجوه :

الحجة الأولى : أن نقول : كل ما كان قابلا للحوادث ، فإنه لا يخلو عنها ، وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث. أما قولنا : إن كل ما كان قابلا للحوادث ، فإنه لا يخلو عنها. فالدليل عليه : أن نقول : إن تلك الذات التي لا يمكن خلوها عن قابليه الحوادث [حادثة. فيلزم أن يقال : كل ما كان قابلا للحوادث ، فإنه لا ينفك عن الحوادث (١)] وأما بيان أن كل ذات تقبل الحوادث فإنها لا تنفك عن تلك القابلية.

__________________

(١) من (و).

١٠٨

فالدليل عليه : أن تلك القابلية إما أن تكون من لوازم تلك الذات ، وإما أن لا تكون [من لوازمها (١)] فإن كانت من لوازمها ، فحينئذ لا تنفك تلك الذات عنها ، وذلك هو المطلوب.

وأما إن قلنا : إن تلك القابلية ليست من لوازم تلك الذات ، بل هي من الصفات المفارقة ، كانت الذات قابلة لتلك القابلية ، فكونها قابلة لتلك القابلية. إن كانت من لوازم الذات [فحينئذ تكون القابلية من لوازم الذات (٢)] وإن لم تكن من لوازمها كان الكلام فيها كما في الأول ، فيلزم أن تكون قبل كل قابلية أخرى ، ويلزم التسلسل ، وهو محال. فيثبت بهذا : أن هذه القابليات وجب انتهاؤها إلى قابلية تكون من لوازم تلك الذات. وهو المطلوب.

وأما بيان أن تلك القابلية صفة حادثة ، فالدليل عليه : إن قابلية الصفة الحادثة يمتنع حصولها ، إلّا عند إمكان حصول الصفة الحادثة وإمكان [حصول الحادث له أول لأن (٣)] حصول الحادث في الأزل محال. لأن الحادث هو الذي له أول. والأزل هو الذي لا أول له ، والجمع بينهما محال. فيثبت : أن صحة حدوث الحوادث لها أول ، فقابلية هذه الصفة أيضا لها أول ، لأن إمكان اتصاف الشيء بشيء آخر ، مشروط بكون ذلك الشيء في نفسه ممكن الحصول ، لأن إمكان حصوله لغيره فرع على إمكان حصوله في نفسه ، لأن ما لا وجود له في نفسه ، امتنع وجوده لغيره ، ولما كان حصول الحادث في الأزل محالا ، كان إمكان كون الذات قابلة للحادث في الأزل محالا. فثبت بما ذكرناه : أن كل ما كان قابلا للحوادث ، فإنه يمتنع خلوه عن قابليته للحوادث [وثبت أيضا : أن قابلية الحوادث لها أول فيثبت بما ذكرناه : أن كل ما كان قابلا للحوادث فإنه يمتنع خلوه عن الحوادث (٤)] ثم من المتفق عليه بين

__________________

(١) من (و).

(٢) من (س).

(٣) من (س).

(٤) من (و).

١٠٩

المتكلمين : أن كل ما لا يخلو عن المحدث فهو محدث ، فيلزم القطع بأن كل ما يقبل الحوادث ، فإنه يكون محدثا ، ولما ثبت أنه تعالى منزه عن الحوادث ، ثبت أنه يمتنع كونه قابلا للحوادث.

الحجة الثانية في المسألة : إن الصفة التي حدثت في ذات الله تعالى ، إما أن تكون من صفات الكمال ، وإما أن لا تكون من صفات الكمال ، فإن كانت من صفات الكمال ، كانت تلك الذات قبل حدوث تلك الصفة فيها خالية عن صفة الكمال ، والخلو عن صفة الكمال نقصان فيلزم كون تلك الذات ناقصة. والنقصان على الله محال. وإن كانت تلك الصفة ليست من صفات الكمال ، كان إثباتها في حق الله تعالى حالا ، لحصول الاتفاق على أن صفات الله تعالى بأسرها يجب أن تكون من صفات الكمال والمدح.

الحجة الثالثة : كل صفة يشير العقل إليها ، فإما أن تكون ذات الله كافية في استلزام حصولها ، أو كانت كافية في استلزام عدمها ، أولا تكون كافية في واحد منهما ، فإن كان الأول لزم دوام وجود تلك الصفة بسبب دوام تلك الذات ، وإن كان الثاني لزم دوام عدم تلك الصفة بسبب دوام تلك الذات ، وإن كان الثالث فحينئذ لا تكون تلك الذات كافية لا في وجود تلك الصفة ولا في عدمها. معلوم : أن تلك الذات لا تنفك عن وجود تلك الصفة وعن عدمها. ونقول : الذات موقوفة على حصول أحد هذين القسمين ، إما وجود تلك الصفة وإما عدمها ، لكن وجودها وعدمها لما لم يكف فيه تلك الذات ، فلا بد فيه من سبب منفصل فتكون تلك الذات موقوفة على أحد هذين القسمين ، وكل واحد منهما موقوف على سبب منفصل ، والموقوف على الموقوف على الشيء ، يجب كونه موقوفا على الشيء ، فيلزم كون ذات الله تعالى موقوفة على سبب منفصل ، والموقوف على الغير ممكن لذاته ، فواجب الوجود لذاته ممكن الوجود لذاته ، وذلك محال. فيثبت : أن ذات الله تعالى لا تقبل الصفات الحادثة ، وأنه كما أن ذاته دائم لم يزل ولا يزال ، فكذلك صفاته دائمة لم تزل ولا تزال.

الحجة الرابعة : قال بعضهم : لو حدث صفة في ذات الله تعالى ، لزم

١١٠

وقوع التغير وذلك محال بالاتفاق ، فوجب أن يكون حدوث تلك الصفة في ذات الله تعالى محالا. ولقائل أن يقول : إن عنيتم بهذا التغير حدوث صفة في ذات الله تعالى ، بعد عدمها. فهذا يفيد إلزام الشيء على نفسه ، وذلك لا يفيد ، وإن عنيتم به وقوع التبدل في نفس تلك الذات المخصوصة ، فمعلوم أن هذا غير لازم. فيثبت أن هذا الكلام ضعيف.

وأما القائلون بحدوث الصفات فقد بنوا كلامهم على مسائل : أحدها : أنه تعالى عالم بالجزئيات ، والعلم يجب تغيره عند تغير المعلوم ، وهذا يقتضي حدوث العلوم في ذات الله. وثانيها : أنه تعالى مريد وثبت أن القصد إلى إحداث الشيء ، لا يحصل إلّا حال الإحداث، وهذا يقتضي حدوث الإرادة ، لكن الإرادة والمريدية صفة لله فيلزم حدوث هذه الصفة في ذات الله. وثالثها : إنه تعالى سميع بصير ، وسماع الكلام قبل حدوثه محال ، وإبصار الصورة قبل حدوثها محال فيثبت : أن ذلك السماع إنما حدث عند حدوث ذلك الصوت ، وأن ذلك الإبصار إنما حدث عند حدوث ذلك المرئي. وأما الدلائل الدالة على أنه لا يحدث في ذات الله تعالى شيء ، فهي بأسرها مشكلة الصفات الإضافية. فإنا قد بينا : أنه لا بدّ من الاعتراف بحدوثها ، مع أن الدلائل التي ذكرتموها قائمة فيه. [وهذا آخر هذه المسألة ، والله أعلم (١)]

__________________

(١) من (و).

١١١

الفصل السادس عشر

في

بيان أن الألم واللذة محالان على الله تعالى

أما الألم فقد أطبقوا على أنه محال على الله ، وأما اللذة فقسمان : لذة جسمانية ، ولذة روحانية. أما اللذة الجسمانية فقد أطبقوا على أنها محال على الله. واحتجوا على امتناع هذا الألم وهذه اللذة على الله تعالى بوجهين :

الأول : إن اللذة عن إدراك الملائم ، والألم عبارة عن إدراك المنافي ، وإدراك الملائم والمنافي في مشروط بحصول الملائم والمنافي ، وحصول الملائم والمنافي ، مشروط بكون الذات قابلة للزيادة والنقصان. وذلك إنما يعقل في حق الجسم الذي يقبل الزيادة والنقصان والنمو والذبول. ولما كان واجب الوجود لذاته ، منزها عن الجسمية ، كان ثبوت الألم واللذة في حقه محالا. ولقائل أن يقول : إنا نجد عند إدراك الملائم حالة طيبة مسماة باللذة ، وعند إدراك المنافي حالة مكروهة مسماة بالألم. ونحن لا نعرف أن تلك الحالة الطيبة المسماة باللذة ، هل هي نفس ذلك الإدراك ، أو حالة مغايرة لذلك الإدراك حاصلة عند حصول ذلك الإدراك؟ [وبتقدير أن يكون الحق هو أن اللذة حالة مغايرة للإدراك حاصلة عند حصول الإدراك (١)] فإنه لا يلزم من عدم حصول الملائم والمنافي ، عدم اللذة والألم. لأن إدراك الملائم على هذا التقدير يكون سببا لحصول اللذة ، وإدراك المنافي يكون سببا لحصول الألم. ولا يلزم من انتفاء

__________________

(١) من (و).

١١٢

السبب المعين انتفاء المسبب. لاحتمال أن يحصل ذلك المسبب بسبب آخر ، فيثبت بما ذكرنا : أن هذا الدليل ضعيف.

الحجة الثانية على امتناع حصول اللذة في حق الله تعالى : أن نقول : لو التذ الله تعالى بشيء ، لكان الملتذ به إما أن يكون حاصلا في الأزل ، وإما أن لا يكون. والقسمان باطلان ، فالقول بكونه ملتذا باطل. بيان أنه يمتنع كونه ملتذا في الأزل : ذلك لأن الالتذاذ بالشيء ، مشروط بحصول الملتذ به ، فلو كانت اللذة أزلية [لكان المتلذذ به أزليا (١)] فيلزم قدم العالم ، وقد أبطلناه. وبيان أنه يمتنع القول بأن كونه ملتذا : صفة حادثة : وذلك لأن حصول الالتذاذ في حق من يصح عليه الالتذاذ أمر مطلوب الحصول. فإذا كان الله تعالى عالما في الأزل بأنه يمكنه تحصيل الالتذاذ ، ولا مانع له من تحصيل ذلك الشيء البتة ، وجب أن يحدث ذلك الملتذ به. وهذا محال ، لأنه لا وقت يفرض أن الله تعالى يحدثه فيه ، إلا والداعي إلى إحداثه كان حاصلا قبل ذلك ، وكانت الموانع المانعة عن إحداثه زائلة ، وإذا كان الأمر كذلك [وجب أن يحدثه قبل ذلك الوقت ، فلزم أن يقال : إنه لا وقت إلا والله تعالى قد أحدث ذلك الملتذ به قبل ذلك الوقت ، وإذا كان الأمر كذلك (٢)] لزم أن يقال : إن الله أحدثه في الأزل ، وحينئذ يرجع الكلام إلى القسم الأول ، وهو أن الملتذ به كان حاصلا في الأزل ، ويلزم منه قدم العالم. وقد أبطلناه ، فثبت أن القول بصحة كونه تعالى ملتذا أمر يفضى إلى أحد هذين القسمين ، وثبت كونهما باطلين ، فكان القول بجواز اللذة على الله تعالى محالا. هذا هو الكلام في اللذات الحسية.

وأما اللذات العقلية : فهي مثل الالتذاذ بحصول صفات الكمال والجلال له. وهذا النوع من الالتذاذ قد أطبقت الفلاسفة على إثباته في حق الله تعالى. والمتكلمون أطبقوا على إنكاره. أما الفلاسفة فقد احتجوا على إثباته بأنه تعالى عالم بكونه موصوفا بصفات الكمال والجلال ، [وهذا العلم يوجب البهجة والالتذاذ ، فوجب أن يحصل هذا النوع من البهجة في حق الله تعالى. أما أنه

__________________

(١) من (س).

(٢) من (و).

١١٣

موصوفا بصفات الكمال والجلال (١)] فهذا بناء على مقدمتين : إحداهما : كونه تعالى موصوفا بصفات الجلال والكمال. [والثانية : أنه تعالى عالم بهذه الأحوال. أما عن صفات الجلال والكمال (٢)] فالأمر فيه ظاهر ، لأن أعظم صفات الكمال والجلال ، وجوب الوجود في الذات وفي الصفات ، وكمال العلم وكمال القدرة وكمال الفردانية في هذه الصفات. وكل ذلك حاصل في حق الله تعالى. وأمّا أنه تعالى عالم [بهذه الأحوال فلأنه تعالى لما ثبت. أنه عالم (٣)] بذاته وبجميع صفاته ، وجب كونه عالما بهذه الأحوال. وأما أن كونه عالما بكونه موصوفا بصفات الكمال والجلال ، يوجب الابتهاج واللذة والسرور ، فالاستقراء يدل عليه ، لأنا متى علمنا من أنفسنا هذه الأحوال ، حصل أنواع من البهجة والفرح والسرور. فإذا كانت الكمالات في حق الله تعالى لا نسبة لها إلى كمالات البشر ، وعلم الله لا نسبة له إلى علم البشر في القوة والظهور ، وجب القطع بأنه لا نسبة لتلك البهجة والفرح إلى ما يحصل للبشر من هذا النوع. [فهذا تمام الكلام في هذا الباب (٤)] ولقائل أن يقول : كمالاتنا مخالفة بالماهية ، لكمالات الله تعالى فوجب أن يكون علمنا بكمالاتنا ، مخالفا لعلم الله تعالى بكمالات النفس ، ولا يلزم من ثبوت حكم ما في ماهية ثبوت مثل ذلك الحكم فيما يخالف تلك الماهية [فهذا محصول الكلام في هذا الباب (٥)]

__________________

(١) من (و).

(٢) زيادة.

(٣) من (و).

(٤) من (و).

(٥) من (و).

١١٤

الفصل السابع عشر

في

أنه هل يصح إطلاقه لفظ الجوهر على الله تعالى أم لا؟

اعلم : أن الجوهر قد يذكر ويراد به أحد أمور أربعة : التفسير الأول : المتحيز الذي لا يقبل القسمة ، وهذا على قول من يثبت الجوهر الفرد ، ولما دللنا على أنه تعالى يمتنع أن يكون متحيزا ، وجب القطع بأنه ليس بجوهر. والتفسير الثاني : أن يقال : الجوهر هو الذات القابلة لتوارد الصفات المتضادة عليه ، وهذا إنما يعقل ثبوته إذا كانت الذات قابلة للصفات المتجددة المتعاقبة ، ولما دللنا على أن تعاقب الصفات على ذات الله تعالى محال ، امتنع أن يكون جوهرا ، بهذا الوجه. والتفسير الثالث للجوهر : إنه الماهية التي إذا وجدت في الأعيان كانت لا في موضع. وهذا المفهوم إنما يصدق على الشيء الذي تكون ماهيته غير وجوده ولما كان مذهب الشيخ أبي علي : أن وجود الله ـ تعالى ـ نفس ماهيته وليس صفة مغايرة لماهيته ، امتنع كونه تعالى جوهرا بهذا الوجه ، وأما عندنا فلما كان الجوهر ، هو أن وجود الله تعالى صفة قائمة بذاته المخصوصة كان جوهرا بهذا الوجه. والتفسير الرابع للجوهر : إنه الموجود والغني عن محل يحل فيه ، وأحق الأشياء بأن يكون جوهرا بهذا التفسير هو الله تعالى لأنه غني عن المحل الذي يحل فيه وعن الحيز الذي يحصل فيه ، وعن الفاعل الذي يوجده ، وعن الصورة التي تتممه ، فكان أحق الأشياء بالجوهرية بهذا هو الله تعالى.

ومن الناس من يعبر عن هذا المعنى بكونه قائما بالنفس ، [فيطلق على

١١٥

واجب الوجود لذاته كونه قائما بالنفس (١)] ولا يطلق عليه لفظ [الجوهر ، وهذا النزاع بعيد ، لأن لفظ (٢)] القائم بالنفس مجاز من وجهين : أحدهما : إن إطلاق لفظ القائم بالنفس لإفادة معنى الاستغناء مجاز. والثاني : إن إطلاق لفظ النفس لإرادة الذات والماهية ، اطلاق للفظ المشترك لإرادة أحد مفهوميه ، لأن لفظ النفس [قد يراد به الجسد والدم ، وقد يراد به الذات والحقيقة. فيثبت : أن لفظ القائم بالنفس (٣)] مجاز من وجهين. وأما لفظ الجوهر فهو مأخوذ من الجهارة والظهور ، وكل ما كان أكمل في الاستغناء عن الغير ، كان أبقى وأدوم ، فكان معنى الجهارة فيه أكثر ، فكان أولى بإطلاق هذا اللفظ عليه. فهذا هو الكلام في تفسير لفظ الجوهر.

فإن قال قائل : المفهوم من الجوهر : جنس لما تحته ، فلو صدق عليه تعالى كونه جوهرا لكان داخلا تحت الجنس ، وكل ما كان داخلا تحت الجنس كان امتيازه عن سائر الأنواع بالفصل ، فيلزم كون ذاته مركبة من الجنس والفصل ، وذلك محال ، لما ثبت أن كل مركب فهو ممكن ، ولا شيء من واجب الوجود بممكن. والجواب : إن الجنس عبارة عن الجزء المشترك ، فالجنس جزء من أجزاء الماهية ، والاستغناء عن المحل مفهوم عدمي ، والمفهوم العدمي يمتنع أن يكون جزءا من أجزاء الماهية [الموجودة فيثبت أن الجوهر بهذا المعنى ليس جزءا من أجزاء الماهية والجنس جزء من أجزاء الماهية (٤)] فيمتنع كون الجوهر بهذا المعنى جنسا [فهذا تمام الكلام في هذا الباب والله أعلم (٥)].

__________________

(١) من (و ، س).

(٢) من (س).

(٣) من (و).

(٤) من (و).

(٥) من (و).

١١٦

القسم الثاني

في بيان أنّه سبحانه وتعالى

منزّه عن الضّدّ والنّدّ

١١٧
١١٨

الفصل الأول

في

أن واجب الوجود لذاته ليس إلّا الواحد

اعلم (١) أن الناس ذكروا أنواعا من الدلائل على وحدانية الله تعالى ، ونحن نذكرها على الاستقصاء :

أما الحجة الأولى : التي عليها تعويل الفلاسفة فهي أن قالوا : لو فرضنا موجودين يكون كل واحد منهما واجب الوجود لذاته ، لكانا متشاركين في المفهوم من الوجوب الذاتي، ولا بد وأن يختلفا بالتعين والتشخص ، إذ لو كان كون هذا حاصلا لذاك ، لكان هذا عين ذاك ، ولكان ذاك عين هذا. وحينئذ يكون الكل شيئا واحدا ، فيثبت أنا لو فرضنا موجودين يكون كل واحد منهما واجب الوجود لذاته ، لوجب كونهما متشاركين في الوجوب الذاتي ، وكون كل واحد منهما [للآخر في نفسه وتشخصه ، وما به المشاركة غير ما به المخالفة فيكون كل واحد منهما (٢)] مركبا من الوجوب الذي به يشارك غيره ، ومن التعين الذي به يخالف غيره ، وهذا محال لوجوه :

الأول : إن كل مركب فإنه مفتقر إلى كل واحد من أجزائه ، وكل واحد من أجزائه غيره ، فكل مركب فإنه مفتقر إلى غيره [وكل مفتقر إلى غيره (٣)]

__________________

(١) في الأصل : الفصل الثامن عشر. ولاحظ : أن المؤلف قال في هذا الجزء : أنه مقسم إلى قسمين.

(٢) من (و).

(٣) من (و ، س).

١١٩

فإنه ممكن ، فثبت أنا لو فرضنا موجودين يكون كل واحد منهما واجبا لذاته ، لوجب كون كل واحد منهما ممكنا لذاته ، وما أفضى ثبوته إلى عدمه كان باطلا ، فيثبت أن فرض موجودين. يكون كل واحد منهما واجبا لذاته : فرض باطل محال فيثبت أن وجود موجودين واجبي الوجود قول باطل.

الثاني : إنه إما أن يكون كل واحد من تلك الأجزاء واجب الوجود لذاته ، وإما أن لا يكون كذلك والقسم الثاني باطل ، لأن المركب مفتقر إلى كل واحد من أجزائه ، فلو كان [شيء من أجزائه (١)] ممكنا لذاته ، مع أنه يكون مفتقرا إلى [ذلك الجزء ، لزم كونه في ذاته مفتقرا إلى (٢)] الممكن لذاته ، والمفتقر إلى الممكن أولى بالإمكان ، فيلزم أن يكون [الواجب لذاته ، ممكنا لذاته. وذلك محال فيثبت : أن كل واحد من تلك الأجزاء يكون (٣)] واجبا لذاته ، فتلك الأجزاء متشاركة في الوجوب الذاتي ، ومتباينة بخصوصياتها التي باعتبارها يخالف بعضها بعضا ، وما به المشاركة غير ما به المخالفة ، فيلزم كون كل واحد من تلك الأجزاء مركبا [من جزءين آخرين ، والكلام في تلك الاجزاء كما في الأول ، فيلزم كون كل واحد منهما مركب (٤)] من أجزاء غير متناهية [وذلك محال. لأن كل كثرة متناهية أو غير متناهية (٥)] فإن الواحد فيها موجود إلا أن أي شيء صدق ، يحكم العقل بأنه واحد وهذا في نفسه ليس بواحد ، لأن ذلك الواحد لا بدّ وأن يشارك سائر الأجزاء في الوجوب الذاتي ، ويخالفه في التعين فيكون ذلك الشيء مركبا ، فلا يكون الواحد واحدا. هذا خلف.

والوجه الثالث في إبطال كون كل واحد منهما مركبا من الوجوب الذي به تحصل المشاركة ومن التعين الذي به تحصل المخالفة : هو أنه لما كان كل واحد منهما مركبا من هذين الجزءين ، فإما أن يكون الوجوب الذي به المشاركة يستلزم ذلك التعين لعينه ، وإما أن يكون [ذلك التعين الذي به المخالفة ، يستلزم

__________________

(١) من (و).

(٢) من (و).

(٣) من (و).

(٤) من (و).

(٥) من (و).

١٢٠