شفاء السّقام في زيارة خير الأنام صلى الله عليه وآله

علي بن عبدالكافي بن علي أبوالحسن الأنصاري الخزرجي المصري الشافعي [ تقي الدين السبكي ]

شفاء السّقام في زيارة خير الأنام صلى الله عليه وآله

المؤلف:

علي بن عبدالكافي بن علي أبوالحسن الأنصاري الخزرجي المصري الشافعي [ تقي الدين السبكي ]


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دائرة المعارف العثمانيّة
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٣٢

ويحتاج هنا إلى ذكر الشفاعة الاخرويّة ، ولكنّي أؤخّر الكلام فيها (١) ؛ لئلّا يملّ الناظر قبل كمال مقصوده من الزيارة.

الحديث الثاني : «من زار قبري حلّت له شفاعتي»

[سند الحديث]

رواه الإمام أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزّار في مسنده (٢) ، قال : حدّثنا قتيبة ، حدثنا عبد الله بن إبراهيم ، حدثنا عبد الرحمن بن زيد ، عن أبيه ، عن ابن عمر رضي الله عنهما ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من زار قبري حلّت له شفاعتي».

وهذا هو الحديث الأوّل بعينه ، ولذلك عزاه عبد الحقّ رحمه‌الله إلى الدارقطنيّ والبزّار جميعاً ، إلّا أنّ في الحديث الأوّل : «وجبت» وفي هذا : «حلّت» فلذلك أفردته.

وقد نقلته من نسخة معتمدة سمعها الحافظ القاضي أبو عليّ الحسين بن محمّد الصدفيّ على الشيخ الفقيه صاحب الأحكام ؛ أبو محمّد عبد الله بن محمّد بن إسماعيل ابن فُورْتش في سنة ثمانين وأربعمائة بسرقسطة ، وعليها خطّ أبي محمّد عبد الله بن فُورْتش بسماع الصدفيّ عليه ، وأنّه حدّثه بها عن الشيخ أبي عمر أحمد بن محمّد

__________________

(١) عقد المؤلّف (الباب العاشر) من هذا الكتاب ، لذكر (الشفاعة) مفصّلاً لورودها في هذا الحديث ، فراجع.

(٢) مسند البزّار (لاحظ كشف الأستار للهيثمي ٢ / ٥٧) وسنن الدارقطني (٢ / ٢٧٨).

قال السيوطي في الدرّ المنثور (١ / ٢٣٧) ط اولى :

وأخرج الحكيم الترمذي ، والبزار ، وابن خزيمة ، وابن عدي والدارقطني ، والبيهقي ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من زار قبري وجبت له شفاعتي».

وانظر مجمع الزوائد (٤ / ٢).

٨١

المقرئ الطلمنكيّ إجازة : أنا أبو عبد الله محمّد بن أحمد بن يحيى بن معرّج (١) ، حدثنا أبو الحسين محمّد بن أيّوب بن حبيب بن يحيى الرقّي الصموت ، حدثنا أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزّار.

وعلى هذه النسخة : أنّها قوبلت بأصل القاضي أبي عبد الله بن معرّج الذي فيه سماعه على الرقّي محمّد بن أيّوب ، وأكثر أصل ابن معرّج بخطّ الرقّي.

وقد حدّث القاضي أبو عليّ الصدفيّ بهذه النسخة مرّات ، وعليها الطباق عليه ، وممّن قرأها على الصدفيّ محمّد بن خلف بن سليمان بن فتحون في سنة ثلاث وخمسمائة.

وقد حدّث بهذه النسخة أيضاً الفقيه العالم المتقن أبو محمّد بن حوط الله ، قرأها عليه محمّد بن محمّد بن سَماعة في سنة ستّ وستمائة بمرسية.

وفُوْرْتش بضمّ الفاء بعدها واو ساكنة ، ثمّ راء ساكنة ، ثمّ تاء مثنّاة من فوق ، ثمّ شين معجمة.

وقتيبة شيخ البزّار هو ابن المرزبان ، روى عنه أحاديث غير هذا.

وعبد الله بن إبراهيم هو الغفاريّ يقال : إنّه من ولد أبي ذر رضى الله عنه روى له أبو داود والترمذيّ ، قال أبو داود : منكر الحديث.

وقال ابن عديّ : عامّة ما يرويه لا يتابعه عليه الثقات (٢).

وقال البزّار عقب ذكره هذا الحديث : عبد الله بن إبراهيم حدّث بأحاديث لم يتابع عليها ، وإنّما يكتب من حديثه ما لا يحفظ إلّا عنه.

وعبد الرحمان بن زيد بن أسلم روى له الترمذيّ وابن ماجة ، وضعّفه

__________________

(١) كذا في المطبوعتين هنا وما يلي ، لكن أثبتها في (الصارم ص ٤٠) : مفرج.

(٢) الكامل (٤ / ١٥٠٨) ترجمة عبد الله بن ابراهيم ، وانظر المجروحين لابن حبان (٢ / ٣٦).

٨٢

جماعة (١) ، وقال ابن عديّ : إنّه له أحاديث حسان ، وإنّه ممّن احتمله الناس وصدّقه بعضهم ، وإنّه ممّن يكتب حديثه (٢).

وصحّح الحاكم رحمه‌الله تعالى حديثاً من جهته سنذكره في التوسّل بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣).

وإذ كان المقصود من هذا الحديث تقوية الأوّل به وشهادته له ، لم يضرّ ما قيل في هذين الرجلين ؛ إذ ليس راجعاً إلى تهمة كذب ، ولا فسق ، ومثل هذا يحتمل في المتابعات والشواهد (٤).

الحديث الثالث : «من جاءني زائراً لا يعمله حاجة إلّا زيارتي ، كان حقّاً

عليّ أن أكون له شفيعاً يوم القيامة».

[سند الحديث]

رواه الطبرانيّ في معجمه الكبير (٥) ، والدارقطنيّ في أماليّه (٦) ، وأبو بكر ابن

__________________

(١) الكامل (٤ / ١٥٨٥).

(٢) الكامل (٤ / ١٥٨٥) ترجمة عبد الرحمن بن زيد.

(٣) راجع ص ٢٩٤ ـ ٢٩٥ ، في الباب الثامن.

(٤) وبهذا تبرّأ الإمام السبكي من الحكم على هذا الحديث بالصحّة ، فهو لا يريد ذلك ، ولذا ذكر كلام من ضعفه برمّته ، فقول ابن عبد الهادي في ردّه : «ان المستدل بالحديث عليه أن يبيّن صحّته» (الصارم ص ٤٢) هراء وخروج عن قواعد البحث ، فالسبكي لا يُريد أن يستدل بهذا ولا حكم بصحّته ، بل جعله شاهداً ومتابعاً ، والمتابعة لا يشترط فيها الصحّة ، وهذا واضح للمبتدئ بعلم الحديث!! وكتب السيّد

(٥) المعجم الكبير للطبراني (١٢ / ٢٩١) رقم ١٣١٤٩.

وقال المعلّق ورواه في الأوسط (١٥٧) ولاحظ مجمع الهيثمي (٤ / ٢).

(٦) أمالي الدارقطني.

٨٣

المقرئ في معجمه ، وصحّحه سعيد بن السكن (١).

وهو من رواية مسلمة الجهنيّ عن عبيد الله العمريّ ، ففيه متابعة لموسى بن هلال في شيخه ، وبيان لأنّه لم يتفرّد بالحديث ، وكان ينبغي لأجل ذلك أن نذكره مع الأوّل ، لكن لمّا تضمّن زيادة معنى أفردناه.

وقد ورد في بعض الروايات : «لا يعمله» وفي بعضها : «لا ينزعه».

واختلف على مسلمة في عبيد الله وعبد الله ، كما اختلف على موسى بن هلال ، فرواه عبد الله بن محمّد العُباديّ البصريّ عن مسلمة ، عن عُبيد الله مصغّراً ، عن نافع.

والعُباديّ بضمّ العين المهملة ، وفتح الباء المخفّفة المنقوطة بواحدة ، وفي آخره الدال ، نسبة إلى عباد بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن عليّ بن بكر.

قال أبو سعد ابن السمعانيّ : والمشهور بالنسبة إليهم : عبد الله بن محمّد العُباديّ ، يروي عن الحسن بن حبيب بن ندبة ، حدّث عنه عبدان وغيره (٢).

وقال الصوريّ : بتشديد الباء. قال ابن ماكولا : ما نعرفه إلّا مخفّفاً.

أخبرنا أبو الفضل إسحاق بن أبي بكر بن إبراهيم ابن النحّاس الأسديّ بقراءتي عليه بجامع دمشق في عاشر صفر سنة ثمان وسبعمائة ، قلت له : أخبرك الحافظ أبو الحجّاج يوسف بن خليل بن عبد الله الدمشقيّ قراءة عليه وأنت تسمع ، أنا أبو عبد الله بن أبي زيد بن حُمَيْد (٣) بن نصر الكرانيّ ، أنا أبو منصور محمود بن إسماعيل بن محمّد الصيرفيّ ، أنا أبو الحسين أحمد بن محمّد بن الحسين بن فاذشاه ،

__________________

(١) لاحظ رفع المنارة (ص ٣٠١).

(٢) الأنساب للسمعاني (العبادي) (ص ٣٨٠) طبعة مرجليوت.

(٣) في (ه) : حمد.

٨٤

أنا أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيّوب بن مطير اللخميّ الطبرانيّ ، حدثنا عبدان بن أحمد ، حدثنا عبد الله بن محمّد العُباديّ البصريّ ، حدثنا مسلمة بن سالم الجهنيّ ، حدّثني عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن سالم ، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من جاءني زائراً لا تعمله حاجة إلّا زيارتي ، كان حقّاً عليّ أن أكون له شفيعاً يوم القيامة» (١).

وأخبرنا به أيضاً عليّ بن أحمد العراقيّ (٢) في كتابه : أنا ابن عماد ، أنا ابن رفاعة ، أنا الخلعيّ (ح).

وكتب إليّ عثمان بن محمّد : أنّه قرأ على الحافظ يحيى بن عليّ القرشيّ : أنا عبد الله بن محمّد وابن عماد قالا : أنا ابن رفاعة ، أنا الخلعيّ ، أنا أبو النعمان تراب بن عمر بن عبيد بن محمّد بن عبّاس العسقلانيّ ، حدثنا أبو الحسن عليّ بن عمر بن أحمد ابن مهديّ الدارقطنيّ البغداديّ إملاءً بمصر ، حدثنا يحيى بن محمّد بن صاعد ، حدثنا أبو محمّد عبد الله بن محمّد العُباديّ من بني عباد بن ربيعة في بني مرّة بالبصرة سنة

__________________

(١) تلخيص الحبير (٧ / ٤١٧) عن الطبراني ، وقال : وجزم الضياء في الأحكام وقبله البيهقي بأن عبد الله بن عمر المذكور هو المكبّر ، ورواه الخطيب في الرواة عن مالك في ترجمة النعمان بن شبل ، وقال : إنّه تفرّد به عن مالك عن نافع عن ابن عمر بلفظ «من حج ولم يزرني فقد جفاني».

ذكره ابن عدي وابن حبان في ترجمة النعمان.

ورواه البيهقي عن حديث أبي داود الطيالسي عن سوار بن ميمون ، وفي الباب عن أنس : أخرجها ابن أبي الدنيا في كتاب «القبور» مرفوعاً «من زارني بالمدينة محتسباً كنت له شفيعاً وشهيداً يوم القيامة».

وقال ابن حجر : طرق هذا الحديث كلّها ضعيفة ، لكن صحّحه من حديث ابن عمر أبو علي بن السكن في إيراده إيّاه في أثناء (السنن الصحاح) له وعبد الحق في (الأحكام) في سكوته عنه ، والشيخ تقي الدين السبكي (وهو المؤلف) من المتأخرين باعتبار مجموع الطرق.

(٢) في (ه) : الغرافي.

٨٥

خمسين ومائتين ، حدّثنا مسلمة بن سالم الجهنيّ إمام مسجد بني حرام ومؤدّبهم ، حدثنا عبيد (١) الله بن عمر ، عن نافع ، عن سالم ، عن أبيه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من جاءني زائراً لم تنزعه حاجة إلّا زيارتي ، كان حقّاً عليّ أن أكون له شفيعاً يوم القيامة».

وأخبرنا أيضاً عبد المؤمن وغيره إذناً عن أبي نصر ، أنبأنا ابن عساكر ، أنا خالي أبو المعالي محمّد بن يحيى بن عليّ ، أنا عليّ بن الحسن بن الحسين الخلعيّ ... فذكره بإسناده ومتنه.

وفي هذين الطريقين ـ أعني طريق عبدان ، وطريق يحيى بن محمّد بن صاعد ـ : «نافع ، عن سالم».

ورواه غيرهما فقال فيه : عن نافع وسالم ، كذلك قرئ على أبي الفضل إسحاق بن أبي بكر بن إبراهيم بن هبة الله بن طارق بن سالم بن النحّاس الأسديّ الحنفيّ في معجم ابن المقرئ وأنا أسمع بدمشق ، أنّ الحافظ أبا الحجّاج يوسف بن خليل الدمشقيّ أخبره قراءة عليه وهو يسمع بحلب ، أنا أبو مسلم المؤيّد بن عبد الرحيم بن أحمد ابن الإخوة ، وزوجته عين الشمس بنت أبي سعيد بن الحسن قالا : أنا أبو الفرح سعيد بن أبي الرجاء الصيرفيّ ـ قال المؤيّد : سماعاً ، وقالت زوجته : إجازةً ـ قال : أنا الشيخان أبو طاهر أحمد بن محمود الثقفيّ ، وأبو الفتح منصور بن الحسين بن عليّ بن القاسم ، قالا : أنا أبو بكر محمّد بن إبراهيم ابن عليّ ابن عاصم بن المقرئ.

(ح) وأخبرنا عبد المؤمن بن خلف وغيره إذناً ، عن أبي نصر ، أنا عليّ بن الحسن بن هبة الله ، أخبرناه أبو الفرج سعيد بن أبي الرجاء الأصبهاني ، أنا منصور

__________________

(١) في (ه) : عبد.

٨٦

ابن الحسين وأبو طاهر بن محمود ، قالا : أنا أبو بكر ابن المقرئ ، حدثنا محمّد بن أحمد ابن محمّد الشطويّ ببغداد ، حدثنا عبد الله بن يزيد الخثعمي ، حدثنا عبد الله بن محمّد ، حدّثني مسلمة بن سالم الجهنيّ إمام مسجد بني حرام ومؤدّبهم بالبصرة قال : حدّثني عبيد الله بن عمر العمريّ ، عن نافع وسالم ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من جاءني زائراً لا ينزعه إلّا زيارتي ، كان حقّاً على الله عزوجل أن أكون له شفيعاً يوم القيامة».

وفي رواية ابن عساكر «حقّ» بالرفع.

وهذه الطرق كلّها متفقة عن عبد الله بن محمد العُباديّ ، عن مسلمة ، عن «عُبيد الله» مصغّراً.

ورواه مسلم بن حاتم الأنصاريّ ، عن مسلمة ، عن «عبد الله»

أخبرنا بذلك ابن خلف وغيره إذناً ، عن ابن هبة الله ، أنا الدمشقيّ ، أنا أبو عليّ الحدّاد في كتابه ، ثمّ حدثني عبد الرحيم بن عليّ أبو مسعود عنه ، أنا أبو نعيم الحافظ ، حدّثنا أبو محمّد بن حيّان ، حدثنا محمّد بن أحمد بن سليمان الهرويّ ، حدثنا مسلم ابن حاتم الأنصاري ، حدثنا مسلمة بن سالم الجهنيّ ، حدّثني عبد الله ـ يعني العمريّ ـ حدّثني نافع ، عن سالم ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من جاءني زائراً لم تنزعه حاجة إلّا زيارتي ، كان حقّاً عليّ أن أكون له شفيعاً يوم القيامة».

هذه طرق هذا الحديث.

وقد ذكره الإمام الحافظ أبو عليّ سعيد بن عثمان بن سعيد بن السكن البغداديّ المصريّ البزّار [توفّي بمصر ٣٥٣] في كتابه المسمّى ب «السنن الصحاح المأثورة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» وهو كتاب محذوف الأسانيد ، قال في خطبته :

أمّا بعد ، فإنّك سألتني أن أجمع لك ما صحّ عندي من السنن المأثورة التي نقلها الأئمّة من أهل البلدان ، الذين لا يطعن عليهم طاعن فيما نقلوه ، فتدبّرت ما سألتني

٨٧

عنه ، فوجدت جماعة من الأئمّة قد تكلّفوا ما سألتني من ذلك ، وقد وعيت جميع ما ذكروه ، وحفظت عنهم أكثر ما نقلوه ، واقتديت بهم ، وأجبتك إلى ما سألتني من ذلك ، وجعلته أبواباً في جميع ما يحتاج إليه من أحكام المسلمين.

فأوّل من نصب نفسه لطلب صحيح الآثار البخاريّ ، وتابعه مسلم ، وأبو داود ، والنسائي ، وقد تصفّحتُ ما ذكروه ، وتدبّرتُ ما نقلوه ، فوجدتُهم مجتهدين فيما طلبوه ، فما ذكرته في كتابي هذا مجملاً فهو ممّا أجمعوا على صحّته ، وما ذكرته بعد ذلك ممّا يختاره أحد من الأئمّة الذين سمّيتهم ، فقد بيّنت حجّته في قبول ما ذكره ، ونسبته إلى اختياره دون غيره ، وما ذكرته ممّا يتفرد به أحد من أهل النقل للحديث فقد بيّنت علّته ، ودلّلت على انفراده دون غيره ، وبالله التوفيق.

قال في هذا الكتاب في آخر كتاب الحجّ : «باب ثواب من زار قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من جاءني زائراً لم تنزعه حاجة إلّا زيارتي ، كان حقّاً عليّ أن أكون له شفيعاً يوم القيامة».

ولم يذكر ابن السكن في هذا الباب غير هذا ، وذلك منه حكم بأنّه مجمع على صحّته ؛ بمقتضى الشرط الذي شرطه في الخطبة (١).

__________________

(١) لقد تغافل ابن عبد الهادي في ردّه ، عن تصحيح ابن السكن للحديث وراح على عادة السلفية المتزمّتين ، يلوك بذكر الجروح في الرواة ، وغاية ما طرحه : أن هناك حديثاً واحداً ، رواه شيخان : أحدهما فيه زيارة القبر من دون «تعمله» والآخر فيه «تعمله» بلا ذكر القبر ، فمع ضعف الرواة لا يمكن الاعتماد عليه! لاحظ (الصارم ٥٠).

أقول : مع اعترافه بوحدة الحديث ، لا وجه لإغفاله تصحيح حافظ جليل مثل ابن السكن ولا الإعراض عن الطرق الكثيرة المذكورة هنا ، وفي الحديث الأول المتحد معه في الرواة.

وأما الدلالة : فمقتضى الجمع بين الدلالتين ، هو أن يكون مدلولهما الإعمال إلى زيارة القبر الشريف ، وهو الذي فهمه العلماء المحقّقون ، فأثبتوا هذه الأحاديث في أبواب زيارة القبر ،

٨٨

وابن السكن هذا إمام حافظ ثقة ، كثير الحديث ، واسع الرحلة ، سمع بالعراق والشام ومصر وخراسان وما وراء النهر من خلائق ، وهو بغداديّ سكن مصر ، ومات بها في النصف من المحرّم سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة.

[دلالة الحديث]

وتبويب ابن السكن يدلّ على أنّه فهم منه أنّ المراد بعد الموت ، أو أنّ ما بعد الموت داخل في العموم ، وهو صحيح (١).

الحديث الرابع : «من حجّ فزار قبري بعد وفاتي فكأنّما زارني

في حياتي»

رواه الدارقطنيّ في سننه وغيرها ، ورواه غيره أيضاً :

__________________

والسفر إليها.

وأما التفرقة بينها بجعل بعضها لمطلق الزيارة بلا قبر ، وبعضها للقبر بلا إعمال ، فهو عمل البُلداء ممّن لا يعرفون الحديث ولا فقهه!

ثمّ إن من خبط ابن عبد الهادي وتمويهه تعرّضه لأحاديث اخرى عن ابن عمر في سكنى المدينة والموت بها.

فهل ثبوت هذه الأحاديث مهما صحّت وكثرت ، فيها أدنى دلالة على نفي أحاديث الزيارة؟! حتى يطوّل فيها بلا طائل ، مع أن لها دلالة من طرف آخر ، على خلاف غرضه ، حيث أنّ فيها الترغيب في سكنى المدينة ، ولا ريب أنه يستحبّ لساكنها زيارة القبر ، فتكون بالتالي دالّة على الترغيب في الزيارة ، ولو مع واسطة السكنى في المدينة ، كما سيأتي ذيل الحديث الخامس في كتابنا هذا. والتيميّة لا يُوافقون على ذلك ، فليدقّق.

(١) قال العلّامة ممدوح : عند ما رتب ابن حزم كتب السُنّة ، جعل (صحيح ابن السكن) ثالث الكتب ، بعد الصحيحين ، راجع : تذكرة الحفاظ للذهبي (٣ / ١١٥٣). كما في رفع المنارة (ص ٣٠١ ه‍ (١)) وقال في المتن : الحافظ بن السكن صحّح هذا الطريق بمفرده ، فما بالك؟ وهذا الطريق متابع لموسى بن هلال البصري؟! فهو مقبول ، حسب القواعد.

٨٩

أخبرنا عبد المؤمن بن خلف الحافظ ، أنا يوسف بن خليل الحافظ ، أنا ناصر ابن محمّد أبو برح ، أنا إسماعيل بن الفضل بن الإخشيد ، أنا أبو طاهر بن عبد الرحيم ، أنا عليّ بن عمر الحافظ الدارقطنيّ قال : حدّثنا عبد الله بن محمّد بن عبد العزيز ، حدثنا أبو الربيع الزهرانيّ.

(ح) وقرأت على أبي محمّد إسحاق بن يحيى بن إسحاق بن إبراهيم الآمديّ ـ واللفظ له ـ : أخبرك يوسف بن خليل الحافظ ، أنا محمّد بن أبي زيد الكرانيّ ، أنا محمود الصيرفيّ ، أنا ابن فاذشاه ، أنبأنا الطبرانيّ ، حدثنا الحسين بن إسحاق التستريّ ، حدثنا أبو الربيع الزهرانيّ ، حدثنا حفص بن أبي داود ، عن ليث ، عن مجاهد ، عن ابن عمر ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من حجّ فزار قبري بعد وفاتي كان كمن زارني في حياتي» (١).

وكتب إليّ عثمان بن محمّد ، من مكّة : أنّه قرأ على الحافظ أبي الحسين بمصر قال : أنا أبو البركات الحسن بن محمّد بن الحسن الشافعيّ ، أنا أبو طاهر عبد الرحمن بن أحمد بن عبد القادر بن يوسف البغداديّ ، أنا أبو بكر محمّد بن عبد الملك بن بشران ، أنا أبو الحسن الدارقطنيّ ، حدّثنا عبد الله بن محمّد بن عبد العزيز ، حدثنا أبو الربيع ، حدثنا حفص بن أبي داود ، عن ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من حجّ فزار قبري بعد وفاتي فكأنّما زارني في حياتي».

وأخبرناه عبد المؤمن وغيره إذناً عن الشيرازيّ ، أنا الحافظ الدمشقيّ ، أنا أبو عبد الله الخلّال ، أنا إبراهيم بن منصور ، أنا أبو بكر ابن المقرئ ، أنا أبو يعلى الموصليّ ، حدثنا أبو الربيع ، حدثنا حفص بن أبي داود ، عن ليث ، عن مجاهد ، عن ابن

__________________

(١) سنن الدارقطني (٣ / ٣٧٨) ح ١٩٣ ، كتاب الحج ، وانظر المعجم الكبير للطبراني (١٢ / ٤٠٦) ح ١٣٤٩٧.

٩٠

عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من حجّ فزارني بعد وفاتي كان كمن زارني في حياتي» (١).

وكذلك رواه أبو أحمد بن عديّ في «الكامل» : أخبرنا أبو محمّد التونيّ ـ هو الحافظ الدمياطيّ ـ وآخرون إذناً ، عن أبي الحسن النجّار ، عن أبي الكرم المبارك ابن الحسن الشهرزوريّ ، أنا إسماعيل بن مسعدة الإسماعيلي ، أنا حمزة بن يوسف السهميّ ، أنا أبو أحمد عبد الله بن عديّ الجرجاني ، أنا الحسن بن سفيان ، حدثنا عليّ ابن حجر.

وثنا عبد الله بن محمّد البغويّ ، حدثنا أبو الربيع الزهرانيّ.

قال عليّ : حدثنا حفص بن سليمان ، وقال أبو الربيع : حدثنا حفص بن أبي داود.

وقالا : عن ليث ، عن مجاهد ، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من حجّ فزار قبري بعد موتي كان كمن زارني في حياتي وصحبني». واللفظ لابن سفيان (٢).

وذكر أبو بكر البيهقيّ في السنن رواية ابن عديّ هذه من الطريقين ، عن أبي سعد المالينيّ ، عن ابن عديّ.

وذكر ابن عديّ ذلك في ترجمة حفص بن سليمان الأسديّ الغاضريّ القارئ ، وذلك حكم منه بأنّه حفص بن أبي داود المذكور في الإسناد ، وقال ـ أعني ابن عديّ ـ : إنّ أبا الربيع الزهرانيّ يسمّيه حفص بن أبي داود ؛ لضعفه ، وهو حفص بن سليمان.

__________________

(١) مسند أبي يعلى الموصلي.

انظر المطالب العالية (١ / ٣٧٢).

(٢) الكامل لابن عدي (٣ / ٧٨٩ ـ ٧٩٠) ترجمة حفص بن سليمان ، ورواه في الترغيب والترهيب (١ / ٤٤٧) والفاكهي في أخبار مكة (١ / ٤٣٧).

٩١

وقال البيهقيّ : تفرّد به حفص ، وهو ضعيف (١).

وكذلك الحافظ ابن عساكر ، ورواه مسمّىً : أخبرنا الدمياطيّ إذناً ، أنبأنا ابن هبة الله الشيرازيّ ، أنا ابن عساكر ، أنا الخلّال ، أنا إبراهيم بن منصور السلميّ ، أنا أبو بكر ابن المقرئ ، أنا أبو سعيد المفضّل بن محمّد بن إبراهيم الجندي ، حدثنا مسلمة ـ وهو ابن شبيب ـ حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا أبو عمر حفص بن سليمان.

(ح) قال ابن عساكر : وأنا أبو القاسم ابن السمرقنديّ ، أنا أبو القاسم إسماعيل ابن مسعدة ، أنا حمزة بن يوسف السهميّ.

قالا : أنا أبو أحمد بن عديّ ، أنا الحسن بن سفيان ، حدثنا عليّ بن حجر.

(ح) قال ابن عساكر : وأنا أبو القاسم الشحاميّ ، أنا أبو بكر البيهقيّ ، أنا عليّ ابن أحمد بن عبدان ، حدثنا أحمد بن عبيد ، حدّثني محمّد بن إسحاق الصفّار ، حدثنا ابن بكّار ، حدثنا حفص بن سليمان ، عن ليث ، عن مجاهد ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من حجّ فزار قبري بعد موتي كان كمن زارني في حياتي».

زاد السهميّ : «وصحبني» (٢).

ورواه البيهقيّ في السنن بدون هذه الزيادة ، عن عبد الله بن يوسف ، أنا محمّد ابن نافع الخزاعيّ ، حدثنا المفضّل الجنديّ ـ فذكره سنداً ومتناً ، كما ذكره ابن عساكر من طريق ابن المقرئ (٣).

وكتب إليّ عثمان بن محمّد التوزريّ من مكّة شرّفها الله تعالى : أنّه قرأ على أبي

__________________

(١) السنن الكبرى للبيهقي (٥ / ٢٤٦) باب زيارة قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من كتاب الحجّ ، وانظر شعب الإيمان له.

(٢) تاريخ دمشق لابن عساكر ، لاحظ مختصره لابن منظور (٢ / ٤٠٦).

(٣) السنن للبيهقي (٥ / ٢٤٦).

٩٢

اليمن ابن عساكر بها قال : أنا الحسن بن محمّد ، أنا عليّ بن الحسن ، أنا أبو القاسم إسماعيل بن محمّد ، نا أحمد بن عبد الغفّار بن أشتة ، أنا أبو سعيد النقاش ، أنا أبو بكر محمّد بن عبد الله بن إبراهيم الجوزجانيّ ، حدثنا الحسن بن الطيّب البلخيّ ، حدثنا عليّ بن حجر ، حدثنا حفص بن سليمان ، عن ليث ، عن مجاهد ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من زار قبري بعد موتي كان كمن زارني في حياتي».

وقال ابن النجّار الحافظ البغداديّ في كتاب «الدرة الثمينة في أخبار المدينة» (١) : أنبأنا عبد الرحمن بن عليّ ، أنا أبو الفضل الحافظ ، عن أبي عليّ الفقيه ، أنبأنا أبو القاسم الأزهريّ ، أنا القاسم بن الحسن ، حدثنا الحسن بن الطيّب ، حدثنا عليّ ابن حجر ، حدثنا حفص بن سليمان ، عن ليث ، عن مجاهد ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من حجّ فزار قبري بعد موتي ، كان كمن زارني في حياتي وصحبني».

قال أبو اليمن ابن عساكر رحمه‌الله بالإسناد المتقدّم إليه : وقد روى هذا الحديث الحسن بن الطيّب عن عليّ بن حجر ، فزاد فيه زيادة منكرة ، قال فيه : «من حجّ فزار قبري بعد موتي ، كان كمن زارني في حياتي وصحبني» تفرّد بقوله «وصحبني» الحسن بن الطيّب ، وفيه نظر.

قلت : وقد ذكرنا هذه الزيادة من طريق الحسن بن سفيان ، فلا تفرّد فيها.

وعبد الرحمان الذي روى عنه ابن النجّار هو ابن الجوزيّ رحمه‌الله وقد رأيته بخطّه في كتابه «مثير العزم الساكن إلى أشرف الأماكن» بالإسناد المذكور (٢).

وقد روي هذا الحديث من وجه آخر عن حفص بن سليمان ، عن كثير بن

__________________

(١) الدرة الثمينة لابن النجار (ص ٣٩٧) الباب (١٦) فضل زيارة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(٢) مثير العزم الساكن لابن الجوزي ، ولاحظ كنز العمّال (١٥ / ٦٥١) ح ٢٥٨٢.

٩٣

شنظير ، عن ليث بن أبي سليم :

أخبرنا بذلك الحافظ أبو محمّد الدمياطيّ إجازة ، أنبأنا أبو نصر مكاتبة ، أنا ابن عساكر سماعاً ، أنا الشحاميّ ، أنا الجنزروديّ ، أنا ابن حمدان ، أنا أبو يعلى الموصليّ ، حدثنا يحيى بن أيّوب ، حدثنا حسّان بن إبراهيم ، حدثنا حفص بن سليمان ، عن كثير بن شنظير ، عن ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من حجّ فزارني بعد وفاتي عند قبري ، فكأنما زارني في حياتي».

وأشار ابن عساكر إلى أن الصواب الأوّل (١).

أمّا كون حفص بن سليمان القارئ الغاضريّ ، هو حفص بن أبي داود ، فكذلك قال البخاريّ ، وابن أبي حاتم ، وابن عديّ ، وابن حبّان ، وغيرهم.

وأمّا كونه هو الراوي لهذا الحديث ، فكذلك قاله ابن عديّ ، وابن عساكر ، وأشار إليه البيهقيّ ، وهو السابق إلى الذهن.

لكن ابن حبّان في كتاب «الثقات» ذكر ما يقتضي التوقّف في ذلك ، فإنّه قال : حفص بن سليمان البصريّ المنقريّ يروي عن الحسن ، مات سنة ثلاثين ومائة ، وليس هذا بحفص بن سليمان البزّاز أبي عمر القارئ ، ذاك ضعيف ، وهذا ثبت.

ثمّ قال في الطبقة التي بعد هذه : حفص بن أبي داود يروي عن الهيثم بن حبيب ، عن عون بن أبي جحيفة ، روى عنه أبو ربيع الزهرانيّ (٢).

هذا كلام ابن حبّان ، ومقتضاه أنّ حفص بن أبي داود المذكور في الطبقة الأخيرة ثقة ، وأنّه غير القارئ الضعيف المذكور في الطبقة التي قبله على سبيل التمييز بينه وبين المنقريّ البصريّ ، ولعلّ أبا الربيع الزهرانيّ روى عنهما جميعاً ؛ أعني حفص بن سليمان المنقريّ ، وحفص بن أبي داود ، وإن اختلفت طبقتهما.

__________________

(١) تاريخ دمشق لابن عساكر.

(٢) الثقات لابن حبّان (٦ / ١٩٥) ، ولاحظ التاريخ الكبير للبخاري (١ / ٢ / ٣٦٠).

٩٤

وقد ذكر ابن حبّان حفص بن سليمان المقرئ في كتاب المجروحين ، وذكر ضعفه وقال : إنّه ابن أبي داود (١).

ويبعد القول بأنّه اشتبه عليه وجعلهما اثنين : أحدهما ثقة ، والآخر ضعيف ، على أنّ هذا الاستبعاد مقابل بأنّ ابن عديّ ذكر في ترجمة حفص القارئ حديثاً من رواية أبي الربيع الزهرانيّ ، عن حفص بن أبي داود ، عن الهيثم بن حبيب ، عن عون بن أبي جحيفة ، عن أبيه قال : مرّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم برجل يصلّي قد سدل ثوبه ، فعطفه عليه (٢).

ويبعد أيضاً أن يكونا اثنين ، ويشتبه على ابن عديّ فيجعلهما واحداً.

والموضع موضع نظر ، فإن صحّ مقتضى كلام ابن حبّان زال الضعف فيه ، ولا ينافي هذا كونه جاء مسمّى في رواية هذا الحديث ؛ لجواز أن يكون قد وافق حفصاً القارئ في اسم أبيه وكنيته.

وإن كان هو القارئ كما حكم به ابن عديّ وغيره ، وهو ابن امرأة عاصم ، فقد أكثر الناس الكلام فيه ، وبالغوا في تضعيفه ، حتّى قيل عن عبد الرحمن بن يوسف بن خِراش : إنّه كذّاب متروك يضع الحديث.

وعندي أنّ هذا القول سرف ، فإنّ هذا الرجل إمام قراءة ، وكيف يعتقد أنّه يقدم على وضع الحديث والكذب ، ويتّفق الناس على الأخذ بقراءته؟! (٣)

__________________

(١) المجروحين لابن حبان (٢ / ٢٥٠) ولاحظ (١ / ٢٥٥).

(٢) الكامل لابن عدي (٢ / ٧٨٩) ترجمة حفص بن سليمان.

(٣) وهكذا تجدهم ، لا يحفظون حُرْمَة القرآن ، فيتهمون أكبر قرّائه بمثل هذا ، من دون أن يتنبهوا إلى ما ذا يجرّ عملهم؟! فهذا (حفص) هو صاحب القراءة المتداولة بين المسلمين المعروفة بقراءة (حفص عن عاصم) ولكن كلا الرجلين مجروحان عند هؤلاء ، لأنّهما من الشيعة ،

٩٥

وإنّما غايته أنّه ليس من أهل الحديث ، فلذلك وقعت المنكرات والغلط الكثير في روايته.

وقد قال عبد الله بن أحمد بن حنبل : سألته ـ يعني أباه ـ عن حفص بن سليمان المنقريّ ، فقال : هو صالح.

وروى عثمان بن أحمد الدقّاق عن حنبل بن إسحاق ، قال : قال أبو عبد الله : وما كان بحفص بن سليمان المنقريّ بأس.

وحسبك بهذين القولين من أحمد رحمه‌الله وهما مقدّمان على من روى عن أحمد خلاف ذلك فيه.

[متابعات للحديث]

ولو ثبت ضعفه ـ كما هو المشهور ـ فإنّه لم يتفرّد بهذا الحديث.

وقول البيهقيّ رحمه‌الله تعالى : إنّه تفرّد به ، [فهو] بحسب ما اطلع عليه.

وقد جاء في معجمي الطبرانيّ الكبير والأوسط متابعته : أخبرنا به في «المعجم الكبير» أبو محمد إسحاق بن يحيى الآمديّ بقراءتي عليه بسفح قاسيون في

__________________

والحمد لله.

وقد حاول الذهبي في (سير أعلام النبلاء ٥ / ٢٦٠) في ترجمة عاصم ، أن يعتذر عن هذا العمل الشنيع ، بقوله : ما زال في كل وقت يكون العالم إماماً في كلّ فنّ مقصّراً في فنون ، وكذلك كان (حفص بن سليمان) ثبتاً في القراءة ، واهياً في الحديث ، وكان الأعمش بخلافه كان ثبتاً في الحديث ليّناً في الحروف. انتهى.

أقول : وهذا العذر أقبح من الفعل ، لأنّ الوَهْي في (حفص) لو كان بمثل (الكذب) والوضع في الحديث ، فإنّه يسلب الثقة عن نقله ، ومهما كان المنقول أهم وأعظم ، لزم كون ناقله أوثق ، فاعتماد الناس على حفص في القراءة دليل واضح على ثقته بأتمّ شكل ، كما صرّح المؤلّف رحمه‌الله.

وكتب السيّد

٩٦

يوم السبت رابع عشر صفر سنة ثمان وسبعمائة ، قلت له : أخبرك الحافظ أبو الحجّاج قراءة عليه وأنت تسمع ، أنا ابن أبي زيد الكراني ، أنا محمود الصيرفيّ ، أنا ابن فاذشاه ، أنا الطبرانيّ رحمه‌الله حدثنا أحمد بن رشدين ، حدثنا عليّ بن الحسن بن هارون الأنصاريّ ، حدثنا الليث ابن بنت الليث بن أبي سليم قال : حدّثتني جدّتي عائشة بنت يونس امرأة الليث ، عن ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد ، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من زار قبري بعد موتي كان كمن زارني في حياتي» (١).

وأخبرناه أيضاً عبد المؤمن وغيره إذناً ، عن ابن مميل ، أنا الحافظ عليّ بن الحسن ، أنا أبو الفتح أحمد بن محمّد بن أحمد بن سعيد الحدّاد في كتابه ، أنا عبد الرحمن بن محمّد بن حفص الهمذانيّ ، حدثنا سليمان بن أيّوب ، وهو الطبرانيّ ، فذكره.

وقد روى بعضهم هذا الحديث فقال فيه : «جعفر بن سليمان الضبعيّ» كذلك وقع في جزء أبي بكر محمّد بن السريّ ، أخبرنا به عبد المؤمن الحافظ إذناً ، عن يوسف بن خليل الحافظ ، أنا أبو الفتوح نصر بن أبي الفرج بن عليّ الحصريّ ، أنا أبو محمّد محمّد بن أحمد بن عبد الكريم التميميّ ، أنا أبو نصر محمّد بن محمّد بن عليّ الزينبيّ.

__________________

(١) المعجم الكبير للطبراني (١٢ / ٤٠٦) رقم ١٣٤٩٦ ، وقال المعلق : رواه في الأوسط (١ / ٢٠١) رقم (١٥٧) ، ولاحظ مجمع الزوائد (٤ / ٢).

وروى الطبراني بعده : «من حجّ فزار قبري بعد وفاتي كان كمن زارني في حياتي».

المعجم الكبير (١٢ / ٤٠٦ ـ ٤٠٧) رقم ١٣٤٩٧ ، وخرجه المعلق عن الأوسط (١٥٧) وابن عدي () والدارقطني في سننه (٢ / ٢٧٨) والبيهقي في سننه (٥ / ٢٤٦) والسلفي في الثاني عشر من المشيخة البغدادية (٥٤ / ٢).

٩٧

(ح) وأنبأنا عبد المؤمن أيضاً قال : أنبأنا أبو نصر ، أنا ابن عساكر ، أنا أبو الفرج عبد الخالق بن أحمد بن عبد القادر بن محمّد بن يوسف ، أنا الزينبيّ.

(ح) وأنبأنا عالياً أبو جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين بن سالم السلميّ المرداسي ابن الموازنيّ (١) مكاتبة ومشافهة قال : أنبأنا أبو القاسم الحسين بن هبة الله ابن محفوظ بن صصري ، أنا عبد الخالق بن يوسف وأبو المظفّر بن الترنكيّ (٢) كلاهما عن الزينبيّ.

(ح) ووجدته بخطّ إسماعيل ابن الأنماطيّ : أنا محمّد بن علوان ، أنا سعيد بن محمّد ، حدثنا أبو سعد ابن السمعانيّ إملاء بهراة ، أنا المظفّر بن أحمد ومحمّد بن القاسم قالا : أنا الزينبيّ ، أنا أبو بكر محمّد بن عمر بن خلَف بن زنبور الكاغذيّ ، أنا أبو بكر محمّد بن السريّ بن عثمان التمّار ، حدثنا نصر بن شعيب مولى العبديّين ، حدثنا أبي ، حدثنا جعفر بن سليمان الضبعيّ ، عن ليث ، عن مجاهد ، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من حجّ بعد وفاتي وزار قبري كان كمن زارني في حياتي».

قال ابن عساكر : كذا قال : «جعفر بن سليمان الضبعيّ» وهو وهم ، وإنّما هو حفص بن سليمان أبو عمر الأسديّ الغاضريّ القارئ (٣).

الحديث الخامس : «من حجّ البيت ولم يزرني فقد جفاني»

رواه ابن عديّ في «الكامل» وغيرُه (٤).

أخبرناه إذناً ومشافهة عبد المؤمن وآخرون ، عن أبي الحسن ابن المقير

__________________

(١) في (ه) : الموازيني.

(٢) في (ه) : التريكي.

(٣) تاريخ ابن عساكر.

(٤) الكامل لابن عدي (٧ / ٢٤٨٠) ترجمة النعمان بن شبل.

٩٨

البغداديّ ، عن أبي الكرم ابن الشهرزوريّ ، أنا إسماعيل بن مسعدة الإسماعيليّ ، أنا حمزة بن يوسف السهميّ ، أنا أبو أحمد بن عديّ ، حدثنا عليّ بن إسحاق ، حدثنا محمّد بن محمّد بن النعمان ، حدّثني جدّي قال : حدّثني مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من حجّ البيت ولم يزرني فقد جفاني».

وذكر ابن عديّ أحاديث النعمان ثمّ قال : هذه الأحاديث عن نافع ، عن ابن عمر ، يحدّث بها النعمان بن شبل عن مالك ، ولا أعلم رواه عن مالك غير النعمان بن شبل ، ولم أرَ في أحاديثه حديثاً غريباً قد جاوز الحدّ فأذكره.

وروى في صدر ترجمته عن عمران بن موسى الزجاجيّ : أنّه ثقة ، وعن موسى بن هارون : أنّه متّهم.

وهذه التهمة غير مفسّرة فالحكم بالتوثيق مقدّم عليها.

وذكر أبو الحسن الدارقطنيّ رحمه‌الله هذا الحديث في أحاديث مالك بن أنس الغرائب التي ليست في «الموطّأ» وهو كتاب ضخم (١).

قال : حدثنا أبو عبد الله الأيليّ وعبد الباقي قالا : حدثنا محمّد بن محمّد بن النعمان بن شبل ، حدثنا جدّي ، حدثنا مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر رضي الله عنهما ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من حجّ البيت ولم يزرني فقد جفاني».

قال الدارقطنيّ : تفرّد به هذا الشيخ ، وهو منكر.

هذه عبارة الدارقطنيّ ، والظاهر أنّ هذا الإنكار منه بحسب تفرّده وعدم

__________________

(١) غرائب مالك التي ليست في الموطأ ، للدارقطني.

قال ابن حجر في تلخيص الحبير (٧ / ٤١٧) : رواه الخطيب في (الرواة عن مالك) في ترجمة ابن النعمان بن شبل ، وقال : بأنّه تفرّد به عن مالك عن نافع عن ابن عمر بلفظ : «من حجّ ولم يزرني فقد جفاني».

ولاحظ تاريخ جرجان للسهمي (ص ٢١٧).

٩٩

احتماله بالنسبة إلى الإسناد المذكور ، ولا يلزم من ذلك أن يكون المتن في نفسه منكراً ، ولا موضوعاً.

وقد ذكره ابن الجوزيّ في «الموضوعات» (١) وهو سرف منه ، ويكفي في الردّ عليه ما قاله ابن عديّ.

وقال ابن الجوزيّ : عن الدارقطنيّ أنّ الحمل فيه على محمّد بن محمّد بن النعمان ، لا على جدّه.

وكلام الدارقطنيّ الذي ذكرناه محتمل لذلك ، ولأن يكون المراد تفرّد النعمان ، كما قاله ابن عديّ.

وأمّا قول ابن حبّان : إنّ النعمان يأتي عن الثقات بالطامّات (٢) ، فهو مثل كلام الدارقطنيّ ، إلّا أنّه بالغ في الإنكار ، وقد روى ابن حبّان في كتاب «المجروحين» عن أحمد بن عبيد ، عن محمّد بن محمّد.

وقول ابن الجوزيّ في كتاب الضعفاء : «إنّ الدارقطنيّ طعن في محمّد بن محمّد ابن النعمان» (٣) ، فالذي حكيناه من كلام الدارقطنيّ رحمه‌الله هو الإنكار ، لا التضعيف.

فتحصّل من هذا إبطال الحكم عليه بالوضع ، لكنّه غريب ، كما قال الدارقطنيّ ، وهو لأجل كلام ابن عديّ صالح لأن يعتضد به غيره.

وهذا الحديث كان ينبغي تقديمه بعد الأوّل ؛ لكونه من طريق نافع ، ولكنّا أخّرناه لأجل ما وقع فيه من الكلام.

وممّا يجب أن يتنبّه له : أنّ حكم المحدّثين بالإنكار والاستغراب ، قد يكون بحسب تلك الطريق ، فلا يلزم من ذلك ردّ متن الحديث ، بخلاف إطلاق الفقيه «أنّ

__________________

(١) الموضوعات لابن الجوزي (٢ / ٢١٧).

(٢) المجروحين لابن حبان (٣ / ٧٣) ترجمة النعمان.

(٣) الضعفاء لابن الجوزي (٣ / ٩٧) رقم ٣١٨٣.

١٠٠