علي بن عبدالكافي بن علي أبوالحسن الأنصاري الخزرجي المصري الشافعي [ تقي الدين السبكي ]
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دائرة المعارف العثمانيّة
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٣٢
وعظمتي وجبريائي ، لأخرجنّ من قال : لا إله إلّا الله» هذا لفظ مسلم (١).
وقال البخاريّ في الاولى : «مثقال شعيرة من إيمان».
وفي الثانية : «مثقال ذرّة وخردلة من إيمان».
وفي الثالثة : «أدنى أدنى أدنى مثقال حبّة من خردلة من إيمان ، فأُخرجه من النار ، من النار ، من النار ، فأنطلق فأفعل» ولم يقل فيه : «ليس ذلك إليك» قال : «وعزّتي وجلالي ، وكبريائي وعظمتي ، لُاخرجنّ من قال : لا إله إلّا الله» (٢).
وخرّج البخاريّ ومسلم حديث أنس من طريق آخر ، وفيه ذكر نوح بعد آدم ، كما في حديث أبي هريرة ، وفيه من قول عيسى : «ائتوا محمّداً صلىاللهعليهوآلهوسلم عبدٌ قد غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر».
قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «فيأتوني ، فأستأذن على ربّي فيؤذن لي ، فإذا أنا رأيته وقعت ساجداً ، فيدعني ما شاء الله.
فيقال : يا محمّد ، ارفع رأسك قل يسمع لك ، وسل تعطه ، واشفع تشفّع!
فأرفع رأسي فأحمد ربّي بتحميد يعلّمنيه ، ثمّ أشفع فيحدّ لي حدّاً فأُخرجهم من النار ، وادخلهم الجنّة ، ثمّ أعود فأقع ساجداً».
وفيه في الثالثة والرابعة : «فأقول : يا ربّ ، ما بقي في النار إلّا من حبسه القرآن» أي وجب عليه الخلود ، هكذا في رواية.
وفي رواية عند البخاريّ في الرابعة : «ثمّ أرجع فأقول : يا ربّ ، ما بقي في النار إلّا من حبسه القرآن ؛ ووجب عليه الخلود» (٣).
__________________
(١) صحيح مسلم (١ / ١٢٥) كتاب الايمان.
(٢) صحيح البخاري (٩ / ٨٢١) كتاب التوحيد ، باب ١٢٣١.
(٣) صحيح البخاري (٩ / ٧٨٨) كتاب التوحيد ، باب (١٢١٣) ح ٢٢١٢.
ومسلم (١ / ١٢٣) كتاب الايمان ، من أهل الجنّة منزلة.
وفي البخاريّ في رواية ذكر الشفاعة ثلاث مرّات ، وفيه في الثلاث : «فأستأذن على ربّي في داره فيؤذن لي عليه».
وفيه : ثمّ تلا هذه الآية (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) قال : «هذا المقام المحمود الذي وعده نبيّكم صلىاللهعليهوآلهوسلم» (١).
وفي رواية عند مسلم عن أنس : أنّ نبيّ الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : «يجمع الله المؤمنين يوم القيامة ، فيلهمون لذلك يقولون : لو استشفعنا على ربّنا» (٢).
وفي «مسند أبي عوانة» عن حذيفة بن اليمان ، عن أبي بكر الصدّيق رضي الله عنهم قال : أصبح رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ذات يوم ، فصلّى الغداة ، ثمّ جلس ، حتّى إذا كان من الضحى ضحك رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ثمّ جلس مكانه حتّى صلّى الاولى ، والعصر ، والمغرب ، كلّ ذلك لا يتكلّم ، حتّى صلى العشاء الآخرة ، ثمّ قام إلى أهله.
فقال الناس لأبي بكر : سل رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ما شأنه صنع اليوم شيئاً لم يصنعه قطّ؟
فسأله فقال : «نعم ، عرض عليّ ما هو كائن من أمر الدنيا وأمر الآخرة ، فجمع الأوّلون والآخرون في صعيد واحد ، ففزع الناس لذلك ، حتّى انطلقوا إلى آدم والعرق كاد يلجمهم فقالوا : يا آدم ، أنت أبو البشر ، وأنت اصطفاك الله ، اشفع لنا إلى ربّك.
قال : قد لقيت مثل الذي لقيتم ، انطلقوا إلى أبيكم بعد أبيكم ، انطلقوا إلى نوح ...» وذكر الحديث قريباً من رواية أنس إلى أن انتهى إلى عيسى ، قال : «ليس ذاكم عندي ، ولكن انطلقوا إلى سيّد ولد آدم».
وفيه قال : فينطلق فيأتي جبرئيل ، فيقول الله له : «ائذن له ، وبشّره بالجنة».
__________________
(١) صحيح البخاري (٩ /) ب ١٢١٨ ح ٢٢٣٩.
(٢) صحيح مسلم (١ / ١٢٣) الايمان ، باب أدنى أهل الجنّة منزلة.
قال : فينطلق به جبرئيل ، فيخرّ ساجداً قدر جمعة ، ثمّ يقول الله : «يا محمّد ، ارفع رأسك ، وقل يسمع ، واشفع تشفّع».
قال : فيرفع رأسه ، فإذا نظر إلى ربّه خرّ ساجداً قدر جمعة اخرى ، فيقول الله : «يا محمّد ، ارفع رأسك ، وقل يسمع ، واشفع تشفّع».
قال : فيذهب ليقع ساجداً ، فيأخذ جبرئيل عليهالسلام بضبعيه ، فيفتح الله عليه من الدعاء شيئاً لم يفتحه على بشر قطّ ، قال فيقول : «أي ربّ ، جعلتني سيّد ولد آدم ولا فخر ، وأوّل من تنشقّ عنه الأرض يوم القيامة ، ولا فخر ، حتّى أنّه ليرد على الحوض أكثر ممّا بين صنعاء وأيلة» (١).
وهذا الحديث يشير إلى أمر عظيم ممّا رآه النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وأعلمه في ذلك اليوم ، لا يحيط به إلّا الله تعالى ومن أعلمه إيّاه ، وأنّ ما اشتمل عليه حديث أنس وأبي هريرة رضى الله عنه وغيرهما من التفاصيل ، جزء يسير ممّا علمه النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم من أحوال يوم القيامة ، أعاننا الله تعالى عليه.
والظاهر أنّ هذه السجدة الاولى المذكورة في هذه الرواية ، لم تذكر في حديث أنس وأبي هريرة ، ويكون المراد في حديث أنس وأبي هريرة : أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم يقوم في مقام الشفاعة أربع مرّات ، والمذكور هنا تفصيل المرّة الاولى منها.
وجاءت أحاديث اخر فيها بعض أحوال يوم القيامة أيضاً :
منها حديث عن حذيفة بن اليمان وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «يجمع الله الناس ، فيقوم المؤمنون حين تزلف لهم الجنّة ، فيأتون آدم فيقولون : يا أبانا استفتح لنا الجنّة.
فيقول : لست بصاحب ذلك ، اذهبوا إلى ابني إبراهيم خليل الله».
__________________
(١) مسند أحمد (١ / ٥).
قال : «فيقول إبراهيم : لست بصاحب ذلك ، اعمدوا إلى موسى الذي كلّمه الله تكليماً.
فيأتون موسى فيقول : لست بصاحب ذلك ، اذهبوا إلى عيسى كلمة الله وروحه.
فيقول عيسى : لست بصاحب ذلك.
فيأتون محمّداً صلىاللهعليهوآلهوسلم فيقوم ويؤذن له ، وترسل الأمانة والرحم ، فتقومان جنبتي الصراط يميناً وشمالاً ، فيمرّ أوّلكم كالبرق الخاطف ، ثمّ كمرّ الريح ، ثمّ كمرّ الطير ، وشدّ الرجال تجري بهم أعمالهم ، ونبيّكم قائم على الصراط يقول : يا ربّ سلّم سلّم ، حتّى تعجز أعمال العباد ؛ حتى يجيء الرجل فلا يستطيع السير إلّا زحفاً».
قال : «وفي حافتي الصراط كلاليب معلّقة مأمورة بأخذ من امرت به ، فمخدوش ناج ، ومكروس في النار».
رواه مسلم وانفرد بقوله : «يقوم المؤمنون حين تزلف لهم الجنّة» وبذكر الأمانة والرحم ، وقيامهما جنبتي الصراط ، وبذكر قيام النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم على الصراط ، وبقيّته رواه البخاريّ من طرق اخرى (١).
وعن أبي سعيد الخدريّ رضى الله عنه في حديث الرؤية قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «إذا كان يوم القيامة أذّن مؤذّن ليتّبع كلّ امّة ما كانت تعبد ، فلا يبقى أحد كان يعبد غير الله من الأصنام والأنصاب إلّا يتساقطون في النار ، حتّى إذا لم يبقَ إلّا من كان يعبد الله من برّ وفاجر وغير أهل الكتاب ، فتدعى اليهود فيقال لهم : ما كنتم تعبدون؟
__________________
(١) صحيح مسلم (١ / ١٣٠) ولاحظ (١ / ١١٢) ، لاحظ البخاري (١ / ١٩٦) و (٧ / ٢٠٥) و (٨ / ١٨٠) ، وانظر مستدرك الحاكم (٤ / ٥٨٣).
قالوا : كنّا نعبد عزير ابن الله.
فيقال لهم : كذبتم ، ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد ، فما ذا تبغون؟
قالوا : عطشنا يا ربّنا ، فاسقنا.
فيشار إليهم ألا تردون ، فيحشرون إلى النار ، فيتساقطون في النار.
ثمّ تدعى النصارى فيقال لهم ، ما كنتم تعبدون؟
قالوا : المسيح ابن الله.
فيقال لهم : كذبتم ، ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد.
فيقال لهم : ما تبغون؟
فيقولون : عطشنا يا ربّنا ، فاسقنا.
قال : فيشار إليهم ألا تردون ، فيحشرون إلى جهنّم ، فيتساقطون فيها ، حتى إذا لم يبق إلّا من كان يعبد الله من برّ وفاجر أتاهم ربّ العالمين».
وفيه : «فيكشف عن ساق ، فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه ، إلّا أذن الله له بالسجود ، ولا يبقى من كان يسجد اتقاء ورياء ، إلّا جعل الله ظهره طبقة واحدة ؛ كلّما أراد أن يسجد خرّ على قفاه ، ثمّ يضرب الجسر على جهنّم ، وتحلّ الشفاعة ، ويقولون : اللهمّ سلّم سلّم».
قيل : وما الجسر يا رسول الله؟
قال : «دحض مزلّة فيه خطاطيف وكلاليب وحسكة ، فيمرّ المؤمنون كطرف العين ، وكالبرق ، وكالريح ، وكالطير ، وكأجاويد الخيل والركاب ، فناج مسلم ، ومخدوش مرسل ، ومكدوس في النار ، حتّى إذا خلص المؤمنون من النار ، فوالذي نفسي بيده ما من أحد منكم بأشدّ مناشدة لله في استيفاء الحقّ من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار ، فيقولون : ربّنا ، كانوا يصومون معنا ، ويصلّون ، ويحجّون.
فيقال لهم : أخرجوا من عرفتم ، فتحرّم صورهم على النار ، فيخرجون خلقاً كثيراً قد أخذت النار إلى نصف ساقيه ، وإلى ركبتيه ، فيقولون : ربّنا ، ما بقي فيها أحد ممّن أمرتنا به.
فيقول : ارجعوا ، فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه ، فيخرجون خلقاً كثيراً.
ثمّ يقول : ارجعوا ، فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من خير فأخرجوه ، فيخرجون خلقاً كثيراً.
ثمّ يقول : ارجعوا ، فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرّة من خير فأخرجوه ، فيخرجون خلقاً كثيراً.
ثمّ يقولون : ربّنا ، لم نذر فيها خيّراً.
فيقول الله عزوجل : شفعت الملائكة ، وشفع النبيّون ، وشفع المؤمنون ، ولم يبق إلّا أرحم الراحمين ، فيقبض قبضة من النار ، فيخرج قوماً لم يعملوا خيراً قطّ قد عادوا حمماً ، فيلقيهم في نهر الحياة ، فيخرجون كاللؤلؤ في رقابهم الخواتيم ، يعرفهم أهل الجنّة ، يقولون : هؤلاء عتقاء الله أدخلهم الجنّة بغير عمل عملوه ، ولا خير قدّموه.
ثمّ يقول : ادخلوا الجنّة ، فما رأيتموه فهو لكم.
فيقولون : ربّنا أعطيتنا ما لم تعط أحداً من العالمين.
فيقول : لكم عندي أفضل من هذا.
فيقولون : يا ربّنا ، وأيّ شيء أفضل من هذا؟
فيقول : رضائي فلا أسخط عليكم بعده أبداً».
قال أبو سعيد الخدريّ : بلغني أنّ الجسر أدقّ من الشعرة ، وأحدّ من السيف ،
لفظ مسلم (١).
وللبخاريّ قريب منه (٢).
وقال : «دينار من إيمان» و «نصف دينار من الإيمان» و «ذرة من إيمان» (٣).
وفي رواية البخاريّ من حديث أبي هريرة في الرواية عن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم : «يجمع الله الناس فيقال : من كان يعبد شيئاً فليتبعه».
وفي آخره : «فيضرب الصراط بين ظهري جهنّم».
قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «فأكون وامّتي من يجيز ، ولا يتكلّم يومئذٍ إلّا الرسل ، ودعوى الرسل يومئذٍ : اللهمّ سلّم سلّم» (٤).
قوله : «يجيز» يقال : جاز وأجاز لغتان.
وقوله : «ذرّة» بفتح الذال المعجمة ، وتشديد الراء ، ومن قال خلاف ذلك فقد صحّف.
وقال بعضهم في هذه الأحاديث : إنّ المعاني التي في الدنيا تظهر يوم القيامة للحسّ والعيان ، فلذلك تشاهد الأنبياء والمؤمنون ما في القلوب على هذه الأوزان المخصوصة.
وجعل قول أبي سعيد في الصراط : «إنّه أدقّ من الشعرة ، وأحدّ من السيف» راجعاً إلى صعوبة الاستقامة على الصراط في الدنيا ، وأنّ الكلاليب والحسك التي حوله هي الأغراض والأهواء التي في الدنيا.
__________________
(١) صحيح مسلم (١ / ١١٧).
(٢) صحيح البخاري (٩ / ٧٩٨) ب ١٢١٨ ح ٢٢٣٩.
(٣) صحيح البخاري (٨ / ١٨٢).
(٤) صحيح البخاري (٢ / ٣٨١) كتاب الصلاة ، باب (٥٢٢) فضل السجود ح ٧٦٢.
وكتاب التوحيد (٩ / ٧٩٦) باب (١٢١٨) ح ٢٢٣٨.
وقوله : «تحلّ الشفاعة» قيل : هو من الحِلّ نقيض الحرمة ؛ أي يؤذن فيها.
وقيل : من الحلول ؛ أي تحصل وتقع.
وفي البخاريّ : «حرم الله على النار أن تأكل أثر السجود» (١) واختلف في تفسيره ، والصحيح أنّ المراد بها دارات الوجوه ، كما ورد مصرّحاً به.
وعن أنس قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «أنا أوّل الناس خروجاً إذا بعثوا ، وأنا خطيبهم إذا وفدوا ، وأنا مبشّرهم إذا يئسوا ، لواء الحمد بيدي ، وأنا أكرم ولد آدم على ربّي ، ولا فخر».
رواه الترمذيّ وقال : حسن (٢).
وعن أبيّ بن كعب عن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : «إذا كان يوم القيامة كنت إمام النبيّين وخطيبهم ، وصاحبَ شفاعتهم ، من غير فخر».
رواه الترمذيّ وقال : حسن (٣).
وعن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «أنا سيّد ولد آدم يوم القيامة ، وبيدي لواء الحمد ، ولا فخر ، وما من نبيّ يومئذٍ ـ آدم فمن سواه ـ إلّا تحت لوائي».
رواه الترمذيّ وقال : حسن (٤).
وعن ابن عبّاس رضي الله عنهما عن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : «أنا حبيب الله ، ولا فخر ، وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة ، ولا فخر ، وأنا أوّل شافع وأوّل مشفَّع يوم القيامة ، ولا فخر ، وأوّل من يحرّك حلق الجنة ، فيفتح الله لي فيدخلنيها ومعي
__________________
(١) كتاب التوحيد (٩ / ٧٩٦) باب (١٢١٨) ح ٢٢٣٨.
(٢) سنن الترمذي (٥ / ٢٤٥) ح (٣٦٨٩).
(٣) سنن الترمذي (٥ / ٢٤٧) ح (٣٦٩٢).
(٤) سنن الترمذي (٥ / ٢٤٧) ح (٣٦٩٤) ولاحظ (٤ / ٣٧٠) ح (٥١٥٦).
فقراء المؤمنين ، ولا فخر ، وأنا أكرم الأوّلين والآخرين ، ولا فخر».
رواه الترمذيّ (١).
وعن أنس بن مالك رضى الله عنه قال : سألت النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يشفع لي يوم القيامة.
فقال : «أنا فاعل».
قال قلت : يا رسول الله ، فأين أطلبك؟
قال : «اطلبني أوّل ما تطلبني على الصراط».
قال قلت : فإن لم ألقك على الصراط؟
قال : «فاطلبني عند الميزان».
قلت : فإن لم ألقك عند الميزان؟
قال : «فاطلبني عند الحوض ، فإنّي لا اخطئ هذه الثلاث المواطن».
رواه الترمذيّ وقال : حسن غريب (٢).
وعن أبي هريرة رضى الله عنه قال قلت : يا رسول الله ، من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟
قال : «لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أولى منك ؛ لما رأيت من حرصك على الحديث ، إنّ أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال : «لا إله إلّا الله» خالصاً من قبل نفسه».
رواه البخاريّ (٣).
وعن أبي سعيد الخدريّ قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «يخلّص المؤمنون من
__________________
(١) سنن الترمذي (٥ / ٢٤٨) ح (٣٦٩٥).
(٢) سنن الترمذي (٤ / ٤٢) ح (٢٥٥٠).
(٣) صحيح البخاري (٨ / ٥٠١) كتاب الرقاق ، باب (٨٢٢) صفة الجنّة والنار ح (١٤٣١) وانظر (١ / ٣٣) باب الحرص على الحديث. وفيه : من قلبه أو نفسه.
النار ، فيحبسون على قنطرة بين الجنّة والنار ، فيقتصّ لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا ، حتّى إذا هذّبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنّة» انفرد به البخاريّ (١).
وعن أنس قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «يخرج من النار من قال : لا إله إلّا الله ، وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة ، ثمّ يخرج من النار من قال : لا إله إلّا الله ، وكان في قلبه من الخير ما يزن برّة ، ثمّ يخرج من النار من قال : لا إله إلّا الله ، وكان في قلبه من الخير ما يزن ذرّة» متّفق عليه (٢).
زاد البخاريّ بعد ذكر هذا الحديث : قال أبان : حدثنا قتادة ، حدثنا أنس ، عن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم «من إيمان» مكان «خير» وترجم عليه «باب زيادة الإيمان ونقصانه» (٣).
وعن أنس رضى الله عنه قال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يقول : «إذا كان يوم القيامة شفعت فقلت : يا ربّ أدخل الجنّة من في قلبه خردلة ، فيدخلون ، ثمّ أقول : أدخل الجنّة من كان في قلبه أدنى شيء».
رواه البخاريّ (٤).
وعن جابر رضى الله عنه قال : هل سمعت بمقام محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم فإنّه مقام محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم المحمود الذي يخرج الله به من يخرج (٥).
__________________
(١) صحيح البخاري (٨ / ٤٩٣) باب الرقاق ، باب (٨١٩) القصاص يوم القيامة ح ١٤٠٠ وفي (٧ / ١٩٧).
(٢) أخرجه البخاري (٨ / ١٧٣) وانظر (١ / ١٦) ، وصحيح مسلم (١ / ١٢٥) وسنن ابن ماجة (٢ / ١٤٤٣) ، والترمذي (٤ / ١١٢) ، وانظر كنز العمال (١٤ / ٣٩٧).
(٣) صحيح البخاري (١ / ٨٥) كتاب الإيمان ، باب (٣٤) زيادة الإيمان ونقصانه ح ٤٣.
(٤) صحيح البخاري (٩ / ٨٢١) كتاب التوحيد ، باب (١٢٣١) كلام الرب يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم ح ٢٣٠٨.
(٥) أخرجه صحيح مسلم (١ / ١٢٣).
وعن عمران بن حصين رضي الله عنهما عن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : «يخرج قوم من النار بشفاعة محمّد ، فيدخلون الجنّة».
رواه البخاريّ في باب صفة الجنّة والنار (١).
وعن أنس قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «أنا أوّل الناس يشفع في الجنّة ، وأنا أكثر الأنبياء تبعاً».
رواه مسلم (٢).
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : نحن يوم القيامة على تلّ مشرفين على الخلق.
ذكره عبد الحقّ ، وهو في مسلم ، لكنّه وقع فيه إشكال لعلّه على بعض الرواة ، فأسقط اللفظ المذكور حتّى صار لا يفهم معناه ، وقال : على كذا (٣).
وعن ابن عمر قال : فيرقى هو ـ يعني محمّداً صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ وامّته على كوم فوق الناس ، وقد ورد مبيّناً من طرق : منها عن كعب بن مالك ، رواه أحمد في مسنده (٤) :
أنا الإمام الحافظ أبو محمّد مسعود بن أحمد بن مسعود الحارثيّ رحمهالله قراءة عليه وأنا أسمع قال : أخبرنا أبو الفرج عبد اللطيف بن عبد المنعم الحراني ، قراءة عليه وأنا أسمع ، قال : أنا أبو محمّد عبد الله بن أحمد بن أبي المجد الحربيّ ، أنا هبة الله بن عبد الواحد بن الحصين ، أنا أبو عليّ الحسن بن عليّ بن محمّد المذهب ، أنا أبو بكر أحمد بن جعفر بن حمدان بن مالك القطيعيّ ، حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال :
__________________
(١) صحيح البخاري (٨ / ٥٠٠) كتاب الرقاق باب (٨٢٢) صفة الجنة والنار ، ح ١٤٢٨ ، وفي آخره : يسمّون الجهنميّين ، وفي طبعة (٧ / ٢٠٣).
(٢) صحيح مسلم (١ / ١٣٠).
(٣) صحيح مسلم (١ / ١٢٢).
(٤) مسند أحمد (٣ / ٤٥٦) ، ومستدرك الحاكم (٢ / ٣٦٣) ، ومجمع الزوائد (٧ / ٥١) عن أحمد.
حدّثني أبي ، حدثنا يزيد بن عبد الربّ قال : حدّثني محمّد بن حرب ، حدثنا الزبيديّ ، عن الزهريّ ، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك ، عن كعب بن مالك رضى الله عنه : أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : «يبعث الناس يوم القيامة ، فأكون أنا وامّتي على تلّ ، ويكسوني ربّي حلّة خضراء ، ثمّ يؤذن لي فأقول ما شاء الله أن أقول ، فذلك المقام المحمود».
وفي مسلم بقيّة الحديث عن جابر : «يعطى كلّ إنسان منهم ـ منافق أو مؤمن ـ نوراً ، وعلى جسر جهنّم كلاليب وحسك تأخذ من شاء الله ، ثمّ يطفأ نور المنافقين ، ثمّ ينجو المؤمنون ، فينجو أوّل زمرة وجوههم كالقمر ليلة البدر ؛ سبعون ألفاً لا يحاسبون» (١).
وفي البخاريّ عن ابن عمر رضي الله عنهما : إذا كان يوم القيامة كان الناس حثيّاً ، تتبع كلّ امّة نبيّها ؛ يا فلان اشفع ، يا فلان اشفع ، حتّى ينتهى إلى النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم (٢).
والأحاديث في الشفاعة كثيرة ، ومجموعها يبلغ مبلغ التواتر.
وأعني بالتواتر هنا ما اشتركت فيه الروايات من الشفاعة ، لا لفظاً واحداً منها بخصوصه ، وهذا النوع من التواتر في السنّة كثير ، وأمّا التواتر في لفظ حديث مخصوص فعزيز.
وقد تضمّنت هذه الأحاديث من المناقب الشريفة والمآثر الجليلة والفوائد الجمّة ، ما لا يسعه هذا المكان ، ولكنّا نشير إلى شيء منه على سبيل الاختصار :
أمّا قوله في أوّله : «يجمع الله الناس» وفي رواية اخرى : «يجمع المؤمنون» :
__________________
(١) صحيح مسلم (١ / ١٢٢).
(٢) صحيح البخاري كتاب التفسير ، باب (٣٩٤) ح ١١٤٣ تفسير قوله تعالى : (أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) وفي طبعة (٥ / ٢٢٨) ، وفي طبعة الميمنية (٦ / ١٠٨) تفسير سورة بني إسرائيل.
ففيه إشارة إلى أنّ الذي يتوجّه إلى الأنبياء ويخاطبهم بسؤال الشفاعة ؛ هم المؤمنون وإن كان الغمّ والكرب قد عمّ جميع الناس من الكفّار ، والمؤمنين ؛ الأوّلين ، والآخرين ، واختصاص المؤمنين بسؤال الأنبياء مناسب لأمرين :
أحدهما : ما لهم من الصلة بهم بالإيمان.
والثاني : أنّه يحصل لهم بإراحتهم من ذلك المكان خير ، والكفّار ينتقلون إلى ما هو أشدّ عليهم.
فهذه الشفاعة العظمى وإن ترتّب عليها فصل القضاء لعموم الناس ، فليس الكفّار مقصودين بها ، قال تعالى : (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ).
وقال تعالى حكاية عنهم : (فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ).
وقد قيل : إنّ جميع الناس يُسألون ؛ مؤمنهم ، وكافرهم.
فصل] التوسّل بالأنبياء [
وفي التجاء الناس إلى الأنبياء في ذلك اليوم ، أدلّ دليل على التوسّل بهم في الدنيا والآخرة ، وأنّ كلّ مذنب يتوسّل إلى الله عزوجل بمن هو أقرب إليه منه.
وهذا لم ينكره أحد ، وقد قدّمنا طرفاً من ذلك في باب الاستغاثة ، ولا فرق بين أن يسمّى ذلك «تشفّعاً» أو «توسّلاً» أو «استغاثة».
وليس ذلك من باب تقرّب المشركين إلى الله تعالى بعبادة غيره ، فإنّ ذلك كفر ، والمسلمون إذا توسّلوا بالنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أو بغيره من الأنبياء والصالحين ، لم يعبدوهم ، ولا أخرجهم ذلك عن توحيدهم لله تعالى ؛ وأنّه هو المتفرّد بالنفع والضرر ، وإذا جاز ذلك جاز قول القائل : «أسأل الله تعالى برسوله» لأنّه سائل الله تعالى ، لا لغيره.
فصل [سؤال الأنبياء قبل الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم؟]
وأمّا إلهامهم سؤال آدم ومن بعده صلوات الله تعالى وسلامه عليهم ، ولم يلهموا في الابتداء سؤال نبيّنا محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم؟
فالحكمة فيه ـ والله تعالى أعلم ـ أنّهم لو سألوه ابتداء لأمكن أن يقول قائل : يحتمل أنّ غيره يقدر على هذا.
فأمّا إذا بذلوا الجهد في السؤال والاسترشاد ، وسألوا غيره من رسل الله تعالى وأصفيائه واولي العزم ، فامتنعوا ، ولم يألوهم جهداً في النصح والإرشاد ، فانتهوا إليه وأجاب ، وحصل غرضهم ، حصل العلم لكلّ أحد بنهاية مرتبته صلىاللهعليهوآلهوسلم وارتفاع منزلته ، وكمال قربه ، وعظم إجلاله وانسه ، وتفضيله على جميع المخلوقين من الرسل الآدميّين والملائكة.
وحقّ لصاحب هذا المقام أن يكون سيّد الامم ، وأن يسافر إلى زيارته على الرأس ، لا على القدم.
فصل [عصمة الأنبياء من الصغائر والكبائر]
وأمّا ما يذكره الأنبياء عليهمالسلام
فنبّه القاضي عياض رحمهالله تعالى فيه على فائدة جليلة تؤكّد القول المختار أنّهم معصومون من الكبائر والصغائر.
فإنّ هذه الأشياء التي ذكروها : ـ أكل آدم عليهالسلام من الشجرة ناسياً ، ودعوة نوح عليهالسلام على قوم كفّار ، وقتل موسى لكافر لم يؤمر بقتله ، وكان ذلك قبل النبوّة ، ومدافعة إبراهيم عليهالسلام على الكفّار بقولٍ عرّض به هو فيه صادق من وجه ـ وهذه كلّها في حقّ غيرهم ليست بذنوب ، لكنّهم أشفقوا منها ؛ إذ لم تكن عن أمر الله تعالى ، وعتب على بعضهم فيها لعلوّ منزلتهم من معرفة الله تعالى ، ولو صدر منهم
شيء غير ذلك لذكروه في ذلك المقام ، فليتأمّل الناظر هذه الفائدة ، وليأخذها بكلتا يديه.
وما اختاره القاضي عياض من عصمتهم من الصغائر كعصمتهم من الكبائر ، هو الذي أعتقده وأدين الله به وإن كان أكثر المتكلّمين على خلافه ، ولا يحتمل هذا المكان التطويل بالاستدلال له.
قال القاضي عياض : ولا يهولنّك أن نسب قوم هذا المذهب إلى الخوارج ، والمعتزلة ، وطوائف من المبتدعة ، إذ منزعهم فيه منزع آخر من التكفير بالصغائر ، ونحن نتبرّأ إلى الله تعالى من هذا المذهب.
فصل [ترتيب الشفاعات حسب الروايات]
وأمّا قوله عليهالسلام عقب رفع رأسه : «يا ربّ ، امّتي امّتي» فظاهره أنّ أوّل شفاعته في امّته.
وفي حديث حذيفة المتقدّم : أنّه يقوم «وترسل الأمانة والرحم ، فيقومان جنبتي الصراط».
ومال القاضي عياض إلى أنّ هذا في الأوّل ؛ لأنّ هذه الشفاعة هي التي لجأ الناس إليه فيها ؛ وهي الإراحة من الموقف ، والفصل بين العباد.
ثمّ بعد ذلك حلّت الشفاعة في امّته صلىاللهعليهوآلهوسلم في المذنبين ، وحلّت شفاعة الأنبياء والملائكة وغيرهم.
وجاء في الأحاديث المتقدّمة : اتباع كلّ امّةٍ ما كانت تعبد ، ثمّ تمييز المؤمنين من المنافقين ، ثمّ حلول الشفاعة ووضع الصراط ، فيحتمل أنّ الأمر باتباع الامم ما كانت تعبد ، هو أوّل الفصل والإراحة من هول الموقف ، وهو أوّل المقام المحمود ، وأنّ الشفاعة التي ذكر حلولها ، هي الشفاعة في المذنبين على الصراط ، وهو ظاهر
الأحاديث ، وأنّها لنبيّنا صلىاللهعليهوآلهوسلم ولغيره ، كما نصّ عليه في الأحاديث السابقة.
ثمّ ذكر بعدها الشفاعة فيمن دخل النار.
وبهذا تجتمع متون الأحاديث ، وتترتّب معانيها إن شاء الله تعالى.
هذا كلام القاضي رحمهالله ، وهو ترتيب حسن ، وليس فيه ما يعارض شفاعته صلىاللهعليهوآلهوسلم لُامّته عقب رفع رأسه من السجود في المرّة الاولى ، فإنّه يحتمل أن يكون ذلك ابتداء فصل القضاء ، فقد صحّ عن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أنّ امّته هي المقضيّ لهم قبل الخلائق.
فيكون صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ لمّا يدنو للشفاعة في فصل القضاء ، ويؤذن له في الشفاعة ـ يبتدئ بالسؤال لمن يقضى له أوّلاً ، فيجاب : بأن يدخل الجنّة من امّته من لا حساب عليه ، هذا في المرّة الاولى ، ويكون إعلامه صلىاللهعليهوآلهوسلم بذلك في أوّل الأمر ، من كمال الإكرام.
ثمّ بعد ذلك تتّبع كلّ امّة ما كانت تعبد ، ويوضع الصراط ، ويؤذن في الشفاعة للمذنبين ، فيشفع النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم والأنبياء والملائكة في نجاة من يشاء الله من النار.
ثمّ بعد ذلك يدخل أهل الجنّة الجنّة ، وأهل النار النار ، ومن شاء الله تعالى من المذنبين ، فيقع بعد ذلك الشفاعة في إخراج المذنبين من النار.
ولعلّ سؤال النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم لُامّته في الثانية والثالثة والرابعة حينئذٍ ، ويشفع الأنبياء أيضاً والملائكة والمؤمنون في إخوانهم.
ويحتمل أن يكون اقتصار النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم على ذكر امّته ، من كمال الأدب مع ربّه سبحانه وتعالى ، فإنّهم الأخصّون به ، وهو صلىاللهعليهوآلهوسلم يعلم أنّه يحصل في ضمن ذلك ما قصد إليه ولجأ الناس بسببه ؛ من فصل القضاء العامّ.
على أنّه قد ورد في حديث آخر ذكره القاضي عياض في «الشفاء» : «أما ترضون أن يكون إبراهيم وعيسى فيكم يوم القيامة!!».
ثمّ قال : «إنّهما في امّتي يوم القيامة ؛ أمّا إبراهيم فيقول : أنت دعوتي وذرّيتي ،
فاجعلني من امّتك ، وأمّا عيسى فالأنبياء إخوة بنو علات ، امّهاتهم شتّى ، وأنّ عيسى أخي ليس بيني وبينه نبيّ ، وأنا أولى الناس به» (١).
ويحتمل أن يكون السؤال للأنبياء مرّتين : مرّة من جميع الناس في فصل القضاء ، ثمّ مرّة من المؤمنين بعد تميّزهم في استفتاح الجنّة ، وسقط من الحديث ذكر الشفاعة الاولى.
وقد ورد هذا مصرّحاً به ؛ روى عليّ بن معبد في كتاب «الطاعة والمعصية» عن المسيّب بن شريك ، عن إسماعيل بن رافع المدنيّ ، عن عبد الله بن يزيد ، عن محمّد بن كعب القرظيّ ، عن أبي هريرة ، عن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم حديثاً طويلاً فيه : «فتوقفون في موقف حفاة عراة غرلاً مقدار سبعين (٢) عاماً ، لا ينظر الله إليكم ، ولا يقضى بينكم ، فتبكي الخلائق حتّى تنقطع الدموع ، ثمّ يدمع دماً ، ويعرقون حتّى يبلغ منهم الآذان ، أو يلجمهم ، فيضجّون ويقولون : من يشفع لنا إلى ربّنا فيقضي بيننا؟
فيؤتى آدم فيطلب ذلك إليه فيأبى ، ثمّ يستقرون الأنبياء نبيّاً نبيّاً ؛ كلّما جاءوا نبيّاً أبى».
فقال رسول الله : «حتّى يأتوني ، فإذا جاءوني انطلقت فأخرّ قدام العرش لربّي ساجداً ، حتّى يبعث الله إليّ ملكاً فيأخذ بعضدي فيرفعني.
فيقول لي حين يرفعني الملك : ما شأنك يا محمّد؟ وهو أعلم.
فأقول : يا ربّ ، وعدتني الشفاعة ، فشفّعني في خلقك فاقض بينهم.
فيقول الله تعالى : قد شفّعتك ، أنا آتيكم فأقضي بينكم».
قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «فأرجع فأقف مع الناس ، فبينا نحن وقوف إذا سمعنا
__________________
(١) الشفاء للقاضي عياض.
(٢) في (ه) : اربعين.
حسّاً شديداً من السماء فهالنا ، فنزل أهل سماء الدنيا بمثلي من فيها من الإنس والجنّ ، ثمّ ينزلون على قدر ذلك من التضعيف ، ثمّ يضع عرشه حيث شاء من الأرض.
ثمّ يقول : وعزّتي وجلالي ، لا يجاورني اليوم أحد بظلم».
وفيه : «ثمّ يقضي الله عزوجل بين خلقه كلّهم إلّا الثقلين الجنّ والإنس ، ثمّ يقضي بين الثقلين ، فيكون أوّل ما يقضي فيه الدماء».
وفيه بعد ذلك : «حتّى إذا لم يبقَ لأحد عند أحد تبعة نادى منادٍ : ليلحق كلّ قوم بآلهتهم ، ويجعل ملك على صورة عيسى ، فيتّبعه النصارى».
وفيه : «حتّى إذا لم يبقَ إلّا المؤمنون وفيهم المنافقون».
وفيه بعد ذلك : «ثمّ يضرب الصراط فيمرّون».
وفيه بعد ذلك : «فإذا أفضى أهل الجنّة إلى الجنّة قالوا : من يشفع لنا إلى ربّنا ليدخلنا الجنّة؟
فيؤتى آدم : فيقول : عليكم بنوح ...» وذكر مثل ما في الأحاديث المشهورة : نوح ، ثمّ إبراهيم ، ثمّ موسى ، ثمّ عيسى إلى أن قال قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم :
«فيأتوني ولي عند الله ثلاث شفاعات ، فأنطلق آتي باب الجنّة ، فآخذ بحلقة الباب واستفتح ، فيفتح لي ، فأُحَيّى ويرحّب بي ، فإذا دخلت خررت ساجداً ...» إلى أن قال في الثالثة : «فأقول : يا ربّ ، وعدتني الشفاعة فشفّعني في أهل الجنّة.
فيقول : قد شفّعتك ، قد أذنت لهم في دخول الجنّة.
ثمّ أشفع فأقول : يا ربّ ، من وقع في النار من امّتي ...» وذكر بقيّة الحديث (١).
__________________
(١) قد مرّ تخريج أحاديث الشفاعة ويأتي.
فصل [أهل «لا إله إلّا الله»]
وأمّا قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم في المرّة الرابعة : «ائذن لي فيمن قال : لا إله إلّا الله» ففيه أقوال :
أحدها : أنّهم الذين معهم مجرّد الإيمان ، قاله القاضي عياض.
قال : وهم الذين لم يؤذن في الشفاعة فيهم ، وإنّما دلّت الآثار على أنّه أذن لمن عنده شيء زائد من العمل على مجرّد الإيمان ، وجعل للشافعين من الملائكة والنبيّين صلوات الله عليهم وسلامه عليه دليلاً عليه ، وتفرّد الله عزوجل بعلم ما تكنّه القلوب ، والرحمة لمن ليس عنده إلّا مجرّد الإيمان ، وضرب بمثال ذرّة المثل لأقلّ الخير ، فإنّها أقلّ المقادير.
قال : والصحيح : أنّ معنى «الخير» شيء زائد على مجرّد الإيمان ؛ لأنّ مجرّد الإيمان الذي هو التصديق لا يتجزّأ ، وإنّما يكون هذا التجزّؤ بشيء زائد عليه : من عمل صالح ، أو ذكر خفيّ ، أو عمل من أعمال القلب ، من شفقة على مسكين ، أو خوف من الله تعالى ، ونيّة صادقة.
ويدلّ على قوله في الرواية الاخرى : «يخرج من النار من قال : لا إله إلّا الله ، وكان في قلبه من الخير ما يزن ... كذا».
وهذا الذي قاله القاضي يشكل عليه امور :
أحدها : رواية البخاريّ المتقدّمة ، وقوله : «إيمان» مكان «خير» والروايات يفسّر بعضها بعضاً.
والخير أعمّ من الإيمان ، فيصدق على من ليس عنده إلّا مجرّد الإيمان أنّ عنده خيراً.
فلو لم يرد إلّا هذه الرواية كانت دالّة على إخراج جميع المؤمنين ، فكيف وقد رد وصحّ التصريح بالإيمان؟!
وحمل الإيمان على الزائد عليه مجازاً ، من غير دليل ، لا يسوغ.
الثاني : ما يلزمه من تخصيص شفاعة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ببعض المؤمنين ، والأحاديث التي وردت في ذلك عامّة ، وكثرتها تبعد تخصيصها ، ولا ضرورة إلى التخصيص ؛ لما سنبيّنه.
الثالث : أنّ الذي تكنّه القلوب من أعمال القلوب والإيمان ، سواء في الخفاء ، فإذا جعل الله لبعض خلقه أمارة على أعمال القلوب الخفيّة الزائدة على الإيمان ، فلا بدّ أن يجعل له دليلاً على الإيمان.
وإنّما ألجأ القاضي إلى هذا : أنّ من يخرجه الله بغير شفاعة لا بدّ أن يكون الإيمان في قلبه.
وهذا صحيح ؛ لأنّه لا يتعيّن أن يكون من هذه الامّة.
وأمّا ما تمسّك به من أنّ الإيمان لا يتجزّأ.
فجمهور السلف على أنّه يزيد وينقص ، وحقيقته غير متجزّئة ، وليس هذا محلّ تحقيق ذلك.
نعم ، لا بدّ في الردّ على القاضي من تحقيق أنّ الإيمان القائم بالقلب ، يقبل القوّة والضعف ، وإلّا فيصحّ ما قاله.
القول الثاني : أنّ المراد من قال : «لا إله إلّا الله» من غير هذه الامّة ، قاله أبو طالب عقيل بن عطيّة.
وهو الصحيح عندي ـ والعلم عند الله تعالى ـ تمسّكاً بدلالة الألفاظ ، فإنّه لم يقل : «من امّتي» ، وقد سبق أنّه قال : «ما بقي في النار إلّا من حبسه القرآن» والظاهر أنّ المراد من امّته ؛ أي لم يبقَ منهم أحد.
فيكون النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم طلب بعد ذلك أن يؤذن له في غير امّته ممّن قال : لا إله إلّا الله ، فقيل : «ليس ذلك إليك».