شفاء السّقام في زيارة خير الأنام صلى الله عليه وآله

علي بن عبدالكافي بن علي أبوالحسن الأنصاري الخزرجي المصري الشافعي [ تقي الدين السبكي ]

شفاء السّقام في زيارة خير الأنام صلى الله عليه وآله

المؤلف:

علي بن عبدالكافي بن علي أبوالحسن الأنصاري الخزرجي المصري الشافعي [ تقي الدين السبكي ]


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دائرة المعارف العثمانيّة
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٣٢

وعظمتي وجبريائي ، لأخرجنّ من قال : لا إله إلّا الله» هذا لفظ مسلم (١).

وقال البخاريّ في الاولى : «مثقال شعيرة من إيمان».

وفي الثانية : «مثقال ذرّة وخردلة من إيمان».

وفي الثالثة : «أدنى أدنى أدنى مثقال حبّة من خردلة من إيمان ، فأُخرجه من النار ، من النار ، من النار ، فأنطلق فأفعل» ولم يقل فيه : «ليس ذلك إليك» قال : «وعزّتي وجلالي ، وكبريائي وعظمتي ، لُاخرجنّ من قال : لا إله إلّا الله» (٢).

وخرّج البخاريّ ومسلم حديث أنس من طريق آخر ، وفيه ذكر نوح بعد آدم ، كما في حديث أبي هريرة ، وفيه من قول عيسى : «ائتوا محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عبدٌ قد غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر».

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «فيأتوني ، فأستأذن على ربّي فيؤذن لي ، فإذا أنا رأيته وقعت ساجداً ، فيدعني ما شاء الله.

فيقال : يا محمّد ، ارفع رأسك قل يسمع لك ، وسل تعطه ، واشفع تشفّع!

فأرفع رأسي فأحمد ربّي بتحميد يعلّمنيه ، ثمّ أشفع فيحدّ لي حدّاً فأُخرجهم من النار ، وادخلهم الجنّة ، ثمّ أعود فأقع ساجداً».

وفيه في الثالثة والرابعة : «فأقول : يا ربّ ، ما بقي في النار إلّا من حبسه القرآن» أي وجب عليه الخلود ، هكذا في رواية.

وفي رواية عند البخاريّ في الرابعة : «ثمّ أرجع فأقول : يا ربّ ، ما بقي في النار إلّا من حبسه القرآن ؛ ووجب عليه الخلود» (٣).

__________________

(١) صحيح مسلم (١ / ١٢٥) كتاب الايمان.

(٢) صحيح البخاري (٩ / ٨٢١) كتاب التوحيد ، باب ١٢٣١.

(٣) صحيح البخاري (٩ / ٧٨٨) كتاب التوحيد ، باب (١٢١٣) ح ٢٢١٢.

ومسلم (١ / ١٢٣) كتاب الايمان ، من أهل الجنّة منزلة.

٣٨١

وفي البخاريّ في رواية ذكر الشفاعة ثلاث مرّات ، وفيه في الثلاث : «فأستأذن على ربّي في داره فيؤذن لي عليه».

وفيه : ثمّ تلا هذه الآية (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) قال : «هذا المقام المحمود الذي وعده نبيّكم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» (١).

وفي رواية عند مسلم عن أنس : أنّ نبيّ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «يجمع الله المؤمنين يوم القيامة ، فيلهمون لذلك يقولون : لو استشفعنا على ربّنا» (٢).

وفي «مسند أبي عوانة» عن حذيفة بن اليمان ، عن أبي بكر الصدّيق رضي الله عنهم قال : أصبح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذات يوم ، فصلّى الغداة ، ثمّ جلس ، حتّى إذا كان من الضحى ضحك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ جلس مكانه حتّى صلّى الاولى ، والعصر ، والمغرب ، كلّ ذلك لا يتكلّم ، حتّى صلى العشاء الآخرة ، ثمّ قام إلى أهله.

فقال الناس لأبي بكر : سل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما شأنه صنع اليوم شيئاً لم يصنعه قطّ؟

فسأله فقال : «نعم ، عرض عليّ ما هو كائن من أمر الدنيا وأمر الآخرة ، فجمع الأوّلون والآخرون في صعيد واحد ، ففزع الناس لذلك ، حتّى انطلقوا إلى آدم والعرق كاد يلجمهم فقالوا : يا آدم ، أنت أبو البشر ، وأنت اصطفاك الله ، اشفع لنا إلى ربّك.

قال : قد لقيت مثل الذي لقيتم ، انطلقوا إلى أبيكم بعد أبيكم ، انطلقوا إلى نوح ...» وذكر الحديث قريباً من رواية أنس إلى أن انتهى إلى عيسى ، قال : «ليس ذاكم عندي ، ولكن انطلقوا إلى سيّد ولد آدم».

وفيه قال : فينطلق فيأتي جبرئيل ، فيقول الله له : «ائذن له ، وبشّره بالجنة».

__________________

(١) صحيح البخاري (٩ /) ب ١٢١٨ ح ٢٢٣٩.

(٢) صحيح مسلم (١ / ١٢٣) الايمان ، باب أدنى أهل الجنّة منزلة.

٣٨٢

قال : فينطلق به جبرئيل ، فيخرّ ساجداً قدر جمعة ، ثمّ يقول الله : «يا محمّد ، ارفع رأسك ، وقل يسمع ، واشفع تشفّع».

قال : فيرفع رأسه ، فإذا نظر إلى ربّه خرّ ساجداً قدر جمعة اخرى ، فيقول الله : «يا محمّد ، ارفع رأسك ، وقل يسمع ، واشفع تشفّع».

قال : فيذهب ليقع ساجداً ، فيأخذ جبرئيل عليه‌السلام بضبعيه ، فيفتح الله عليه من الدعاء شيئاً لم يفتحه على بشر قطّ ، قال فيقول : «أي ربّ ، جعلتني سيّد ولد آدم ولا فخر ، وأوّل من تنشقّ عنه الأرض يوم القيامة ، ولا فخر ، حتّى أنّه ليرد على الحوض أكثر ممّا بين صنعاء وأيلة» (١).

وهذا الحديث يشير إلى أمر عظيم ممّا رآه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأعلمه في ذلك اليوم ، لا يحيط به إلّا الله تعالى ومن أعلمه إيّاه ، وأنّ ما اشتمل عليه حديث أنس وأبي هريرة رضى الله عنه وغيرهما من التفاصيل ، جزء يسير ممّا علمه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أحوال يوم القيامة ، أعاننا الله تعالى عليه.

والظاهر أنّ هذه السجدة الاولى المذكورة في هذه الرواية ، لم تذكر في حديث أنس وأبي هريرة ، ويكون المراد في حديث أنس وأبي هريرة : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقوم في مقام الشفاعة أربع مرّات ، والمذكور هنا تفصيل المرّة الاولى منها.

وجاءت أحاديث اخر فيها بعض أحوال يوم القيامة أيضاً :

منها حديث عن حذيفة بن اليمان وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يجمع الله الناس ، فيقوم المؤمنون حين تزلف لهم الجنّة ، فيأتون آدم فيقولون : يا أبانا استفتح لنا الجنّة.

فيقول : لست بصاحب ذلك ، اذهبوا إلى ابني إبراهيم خليل الله».

__________________

(١) مسند أحمد (١ / ٥).

٣٨٣

قال : «فيقول إبراهيم : لست بصاحب ذلك ، اعمدوا إلى موسى الذي كلّمه الله تكليماً.

فيأتون موسى فيقول : لست بصاحب ذلك ، اذهبوا إلى عيسى كلمة الله وروحه.

فيقول عيسى : لست بصاحب ذلك.

فيأتون محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيقوم ويؤذن له ، وترسل الأمانة والرحم ، فتقومان جنبتي الصراط يميناً وشمالاً ، فيمرّ أوّلكم كالبرق الخاطف ، ثمّ كمرّ الريح ، ثمّ كمرّ الطير ، وشدّ الرجال تجري بهم أعمالهم ، ونبيّكم قائم على الصراط يقول : يا ربّ سلّم سلّم ، حتّى تعجز أعمال العباد ؛ حتى يجيء الرجل فلا يستطيع السير إلّا زحفاً».

قال : «وفي حافتي الصراط كلاليب معلّقة مأمورة بأخذ من امرت به ، فمخدوش ناج ، ومكروس في النار».

رواه مسلم وانفرد بقوله : «يقوم المؤمنون حين تزلف لهم الجنّة» وبذكر الأمانة والرحم ، وقيامهما جنبتي الصراط ، وبذكر قيام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الصراط ، وبقيّته رواه البخاريّ من طرق اخرى (١).

وعن أبي سعيد الخدريّ رضى الله عنه في حديث الرؤية قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا كان يوم القيامة أذّن مؤذّن ليتّبع كلّ امّة ما كانت تعبد ، فلا يبقى أحد كان يعبد غير الله من الأصنام والأنصاب إلّا يتساقطون في النار ، حتّى إذا لم يبقَ إلّا من كان يعبد الله من برّ وفاجر وغير أهل الكتاب ، فتدعى اليهود فيقال لهم : ما كنتم تعبدون؟

__________________

(١) صحيح مسلم (١ / ١٣٠) ولاحظ (١ / ١١٢) ، لاحظ البخاري (١ / ١٩٦) و (٧ / ٢٠٥) و (٨ / ١٨٠) ، وانظر مستدرك الحاكم (٤ / ٥٨٣).

٣٨٤

قالوا : كنّا نعبد عزير ابن الله.

فيقال لهم : كذبتم ، ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد ، فما ذا تبغون؟

قالوا : عطشنا يا ربّنا ، فاسقنا.

فيشار إليهم ألا تردون ، فيحشرون إلى النار ، فيتساقطون في النار.

ثمّ تدعى النصارى فيقال لهم ، ما كنتم تعبدون؟

قالوا : المسيح ابن الله.

فيقال لهم : كذبتم ، ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد.

فيقال لهم : ما تبغون؟

فيقولون : عطشنا يا ربّنا ، فاسقنا.

قال : فيشار إليهم ألا تردون ، فيحشرون إلى جهنّم ، فيتساقطون فيها ، حتى إذا لم يبق إلّا من كان يعبد الله من برّ وفاجر أتاهم ربّ العالمين».

وفيه : «فيكشف عن ساق ، فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه ، إلّا أذن الله له بالسجود ، ولا يبقى من كان يسجد اتقاء ورياء ، إلّا جعل الله ظهره طبقة واحدة ؛ كلّما أراد أن يسجد خرّ على قفاه ، ثمّ يضرب الجسر على جهنّم ، وتحلّ الشفاعة ، ويقولون : اللهمّ سلّم سلّم».

قيل : وما الجسر يا رسول الله؟

قال : «دحض مزلّة فيه خطاطيف وكلاليب وحسكة ، فيمرّ المؤمنون كطرف العين ، وكالبرق ، وكالريح ، وكالطير ، وكأجاويد الخيل والركاب ، فناج مسلم ، ومخدوش مرسل ، ومكدوس في النار ، حتّى إذا خلص المؤمنون من النار ، فوالذي نفسي بيده ما من أحد منكم بأشدّ مناشدة لله في استيفاء الحقّ من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار ، فيقولون : ربّنا ، كانوا يصومون معنا ، ويصلّون ، ويحجّون.

٣٨٥

فيقال لهم : أخرجوا من عرفتم ، فتحرّم صورهم على النار ، فيخرجون خلقاً كثيراً قد أخذت النار إلى نصف ساقيه ، وإلى ركبتيه ، فيقولون : ربّنا ، ما بقي فيها أحد ممّن أمرتنا به.

فيقول : ارجعوا ، فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه ، فيخرجون خلقاً كثيراً.

ثمّ يقول : ارجعوا ، فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من خير فأخرجوه ، فيخرجون خلقاً كثيراً.

ثمّ يقول : ارجعوا ، فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرّة من خير فأخرجوه ، فيخرجون خلقاً كثيراً.

ثمّ يقولون : ربّنا ، لم نذر فيها خيّراً.

فيقول الله عزوجل : شفعت الملائكة ، وشفع النبيّون ، وشفع المؤمنون ، ولم يبق إلّا أرحم الراحمين ، فيقبض قبضة من النار ، فيخرج قوماً لم يعملوا خيراً قطّ قد عادوا حمماً ، فيلقيهم في نهر الحياة ، فيخرجون كاللؤلؤ في رقابهم الخواتيم ، يعرفهم أهل الجنّة ، يقولون : هؤلاء عتقاء الله أدخلهم الجنّة بغير عمل عملوه ، ولا خير قدّموه.

ثمّ يقول : ادخلوا الجنّة ، فما رأيتموه فهو لكم.

فيقولون : ربّنا أعطيتنا ما لم تعط أحداً من العالمين.

فيقول : لكم عندي أفضل من هذا.

فيقولون : يا ربّنا ، وأيّ شيء أفضل من هذا؟

فيقول : رضائي فلا أسخط عليكم بعده أبداً».

قال أبو سعيد الخدريّ : بلغني أنّ الجسر أدقّ من الشعرة ، وأحدّ من السيف ،

٣٨٦

لفظ مسلم (١).

وللبخاريّ قريب منه (٢).

وقال : «دينار من إيمان» و «نصف دينار من الإيمان» و «ذرة من إيمان» (٣).

وفي رواية البخاريّ من حديث أبي هريرة في الرواية عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يجمع الله الناس فيقال : من كان يعبد شيئاً فليتبعه».

وفي آخره : «فيضرب الصراط بين ظهري جهنّم».

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «فأكون وامّتي من يجيز ، ولا يتكلّم يومئذٍ إلّا الرسل ، ودعوى الرسل يومئذٍ : اللهمّ سلّم سلّم» (٤).

قوله : «يجيز» يقال : جاز وأجاز لغتان.

وقوله : «ذرّة» بفتح الذال المعجمة ، وتشديد الراء ، ومن قال خلاف ذلك فقد صحّف.

وقال بعضهم في هذه الأحاديث : إنّ المعاني التي في الدنيا تظهر يوم القيامة للحسّ والعيان ، فلذلك تشاهد الأنبياء والمؤمنون ما في القلوب على هذه الأوزان المخصوصة.

وجعل قول أبي سعيد في الصراط : «إنّه أدقّ من الشعرة ، وأحدّ من السيف» راجعاً إلى صعوبة الاستقامة على الصراط في الدنيا ، وأنّ الكلاليب والحسك التي حوله هي الأغراض والأهواء التي في الدنيا.

__________________

(١) صحيح مسلم (١ / ١١٧).

(٢) صحيح البخاري (٩ / ٧٩٨) ب ١٢١٨ ح ٢٢٣٩.

(٣) صحيح البخاري (٨ / ١٨٢).

(٤) صحيح البخاري (٢ / ٣٨١) كتاب الصلاة ، باب (٥٢٢) فضل السجود ح ٧٦٢.

وكتاب التوحيد (٩ / ٧٩٦) باب (١٢١٨) ح ٢٢٣٨.

٣٨٧

وقوله : «تحلّ الشفاعة» قيل : هو من الحِلّ نقيض الحرمة ؛ أي يؤذن فيها.

وقيل : من الحلول ؛ أي تحصل وتقع.

وفي البخاريّ : «حرم الله على النار أن تأكل أثر السجود» (١) واختلف في تفسيره ، والصحيح أنّ المراد بها دارات الوجوه ، كما ورد مصرّحاً به.

وعن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنا أوّل الناس خروجاً إذا بعثوا ، وأنا خطيبهم إذا وفدوا ، وأنا مبشّرهم إذا يئسوا ، لواء الحمد بيدي ، وأنا أكرم ولد آدم على ربّي ، ولا فخر».

رواه الترمذيّ وقال : حسن (٢).

وعن أبيّ بن كعب عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إذا كان يوم القيامة كنت إمام النبيّين وخطيبهم ، وصاحبَ شفاعتهم ، من غير فخر».

رواه الترمذيّ وقال : حسن (٣).

وعن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنا سيّد ولد آدم يوم القيامة ، وبيدي لواء الحمد ، ولا فخر ، وما من نبيّ يومئذٍ ـ آدم فمن سواه ـ إلّا تحت لوائي».

رواه الترمذيّ وقال : حسن (٤).

وعن ابن عبّاس رضي الله عنهما عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «أنا حبيب الله ، ولا فخر ، وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة ، ولا فخر ، وأنا أوّل شافع وأوّل مشفَّع يوم القيامة ، ولا فخر ، وأوّل من يحرّك حلق الجنة ، فيفتح الله لي فيدخلنيها ومعي

__________________

(١) كتاب التوحيد (٩ / ٧٩٦) باب (١٢١٨) ح ٢٢٣٨.

(٢) سنن الترمذي (٥ / ٢٤٥) ح (٣٦٨٩).

(٣) سنن الترمذي (٥ / ٢٤٧) ح (٣٦٩٢).

(٤) سنن الترمذي (٥ / ٢٤٧) ح (٣٦٩٤) ولاحظ (٤ / ٣٧٠) ح (٥١٥٦).

٣٨٨

فقراء المؤمنين ، ولا فخر ، وأنا أكرم الأوّلين والآخرين ، ولا فخر».

رواه الترمذيّ (١).

وعن أنس بن مالك رضى الله عنه قال : سألت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يشفع لي يوم القيامة.

فقال : «أنا فاعل».

قال قلت : يا رسول الله ، فأين أطلبك؟

قال : «اطلبني أوّل ما تطلبني على الصراط».

قال قلت : فإن لم ألقك على الصراط؟

قال : «فاطلبني عند الميزان».

قلت : فإن لم ألقك عند الميزان؟

قال : «فاطلبني عند الحوض ، فإنّي لا اخطئ هذه الثلاث المواطن».

رواه الترمذيّ وقال : حسن غريب (٢).

وعن أبي هريرة رضى الله عنه قال قلت : يا رسول الله ، من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟

قال : «لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أولى منك ؛ لما رأيت من حرصك على الحديث ، إنّ أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال : «لا إله إلّا الله» خالصاً من قبل نفسه».

رواه البخاريّ (٣).

وعن أبي سعيد الخدريّ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يخلّص المؤمنون من

__________________

(١) سنن الترمذي (٥ / ٢٤٨) ح (٣٦٩٥).

(٢) سنن الترمذي (٤ / ٤٢) ح (٢٥٥٠).

(٣) صحيح البخاري (٨ / ٥٠١) كتاب الرقاق ، باب (٨٢٢) صفة الجنّة والنار ح (١٤٣١) وانظر (١ / ٣٣) باب الحرص على الحديث. وفيه : من قلبه أو نفسه.

٣٨٩

النار ، فيحبسون على قنطرة بين الجنّة والنار ، فيقتصّ لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا ، حتّى إذا هذّبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنّة» انفرد به البخاريّ (١).

وعن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يخرج من النار من قال : لا إله إلّا الله ، وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة ، ثمّ يخرج من النار من قال : لا إله إلّا الله ، وكان في قلبه من الخير ما يزن برّة ، ثمّ يخرج من النار من قال : لا إله إلّا الله ، وكان في قلبه من الخير ما يزن ذرّة» متّفق عليه (٢).

زاد البخاريّ بعد ذكر هذا الحديث : قال أبان : حدثنا قتادة ، حدثنا أنس ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «من إيمان» مكان «خير» وترجم عليه «باب زيادة الإيمان ونقصانه» (٣).

وعن أنس رضى الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «إذا كان يوم القيامة شفعت فقلت : يا ربّ أدخل الجنّة من في قلبه خردلة ، فيدخلون ، ثمّ أقول : أدخل الجنّة من كان في قلبه أدنى شيء».

رواه البخاريّ (٤).

وعن جابر رضى الله عنه قال : هل سمعت بمقام محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنّه مقام محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المحمود الذي يخرج الله به من يخرج (٥).

__________________

(١) صحيح البخاري (٨ / ٤٩٣) باب الرقاق ، باب (٨١٩) القصاص يوم القيامة ح ١٤٠٠ وفي (٧ / ١٩٧).

(٢) أخرجه البخاري (٨ / ١٧٣) وانظر (١ / ١٦) ، وصحيح مسلم (١ / ١٢٥) وسنن ابن ماجة (٢ / ١٤٤٣) ، والترمذي (٤ / ١١٢) ، وانظر كنز العمال (١٤ / ٣٩٧).

(٣) صحيح البخاري (١ / ٨٥) كتاب الإيمان ، باب (٣٤) زيادة الإيمان ونقصانه ح ٤٣.

(٤) صحيح البخاري (٩ / ٨٢١) كتاب التوحيد ، باب (١٢٣١) كلام الرب يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم ح ٢٣٠٨.

(٥) أخرجه صحيح مسلم (١ / ١٢٣).

٣٩٠

وعن عمران بن حصين رضي الله عنهما عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «يخرج قوم من النار بشفاعة محمّد ، فيدخلون الجنّة».

رواه البخاريّ في باب صفة الجنّة والنار (١).

وعن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنا أوّل الناس يشفع في الجنّة ، وأنا أكثر الأنبياء تبعاً».

رواه مسلم (٢).

وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : نحن يوم القيامة على تلّ مشرفين على الخلق.

ذكره عبد الحقّ ، وهو في مسلم ، لكنّه وقع فيه إشكال لعلّه على بعض الرواة ، فأسقط اللفظ المذكور حتّى صار لا يفهم معناه ، وقال : على كذا (٣).

وعن ابن عمر قال : فيرقى هو ـ يعني محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وامّته على كوم فوق الناس ، وقد ورد مبيّناً من طرق : منها عن كعب بن مالك ، رواه أحمد في مسنده (٤) :

أنا الإمام الحافظ أبو محمّد مسعود بن أحمد بن مسعود الحارثيّ رحمه‌الله قراءة عليه وأنا أسمع قال : أخبرنا أبو الفرج عبد اللطيف بن عبد المنعم الحراني ، قراءة عليه وأنا أسمع ، قال : أنا أبو محمّد عبد الله بن أحمد بن أبي المجد الحربيّ ، أنا هبة الله بن عبد الواحد بن الحصين ، أنا أبو عليّ الحسن بن عليّ بن محمّد المذهب ، أنا أبو بكر أحمد بن جعفر بن حمدان بن مالك القطيعيّ ، حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال :

__________________

(١) صحيح البخاري (٨ / ٥٠٠) كتاب الرقاق باب (٨٢٢) صفة الجنة والنار ، ح ١٤٢٨ ، وفي آخره : يسمّون الجهنميّين ، وفي طبعة (٧ / ٢٠٣).

(٢) صحيح مسلم (١ / ١٣٠).

(٣) صحيح مسلم (١ / ١٢٢).

(٤) مسند أحمد (٣ / ٤٥٦) ، ومستدرك الحاكم (٢ / ٣٦٣) ، ومجمع الزوائد (٧ / ٥١) عن أحمد.

٣٩١

حدّثني أبي ، حدثنا يزيد بن عبد الربّ قال : حدّثني محمّد بن حرب ، حدثنا الزبيديّ ، عن الزهريّ ، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك ، عن كعب بن مالك رضى الله عنه : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «يبعث الناس يوم القيامة ، فأكون أنا وامّتي على تلّ ، ويكسوني ربّي حلّة خضراء ، ثمّ يؤذن لي فأقول ما شاء الله أن أقول ، فذلك المقام المحمود».

وفي مسلم بقيّة الحديث عن جابر : «يعطى كلّ إنسان منهم ـ منافق أو مؤمن ـ نوراً ، وعلى جسر جهنّم كلاليب وحسك تأخذ من شاء الله ، ثمّ يطفأ نور المنافقين ، ثمّ ينجو المؤمنون ، فينجو أوّل زمرة وجوههم كالقمر ليلة البدر ؛ سبعون ألفاً لا يحاسبون» (١).

وفي البخاريّ عن ابن عمر رضي الله عنهما : إذا كان يوم القيامة كان الناس حثيّاً ، تتبع كلّ امّة نبيّها ؛ يا فلان اشفع ، يا فلان اشفع ، حتّى ينتهى إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢).

والأحاديث في الشفاعة كثيرة ، ومجموعها يبلغ مبلغ التواتر.

وأعني بالتواتر هنا ما اشتركت فيه الروايات من الشفاعة ، لا لفظاً واحداً منها بخصوصه ، وهذا النوع من التواتر في السنّة كثير ، وأمّا التواتر في لفظ حديث مخصوص فعزيز.

وقد تضمّنت هذه الأحاديث من المناقب الشريفة والمآثر الجليلة والفوائد الجمّة ، ما لا يسعه هذا المكان ، ولكنّا نشير إلى شيء منه على سبيل الاختصار :

أمّا قوله في أوّله : «يجمع الله الناس» وفي رواية اخرى : «يجمع المؤمنون» :

__________________

(١) صحيح مسلم (١ / ١٢٢).

(٢) صحيح البخاري كتاب التفسير ، باب (٣٩٤) ح ١١٤٣ تفسير قوله تعالى : (أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) وفي طبعة (٥ / ٢٢٨) ، وفي طبعة الميمنية (٦ / ١٠٨) تفسير سورة بني إسرائيل.

٣٩٢

ففيه إشارة إلى أنّ الذي يتوجّه إلى الأنبياء ويخاطبهم بسؤال الشفاعة ؛ هم المؤمنون وإن كان الغمّ والكرب قد عمّ جميع الناس من الكفّار ، والمؤمنين ؛ الأوّلين ، والآخرين ، واختصاص المؤمنين بسؤال الأنبياء مناسب لأمرين :

أحدهما : ما لهم من الصلة بهم بالإيمان.

والثاني : أنّه يحصل لهم بإراحتهم من ذلك المكان خير ، والكفّار ينتقلون إلى ما هو أشدّ عليهم.

فهذه الشفاعة العظمى وإن ترتّب عليها فصل القضاء لعموم الناس ، فليس الكفّار مقصودين بها ، قال تعالى : (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ).

وقال تعالى حكاية عنهم : (فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ).

وقد قيل : إنّ جميع الناس يُسألون ؛ مؤمنهم ، وكافرهم.

فصل] التوسّل بالأنبياء [

وفي التجاء الناس إلى الأنبياء في ذلك اليوم ، أدلّ دليل على التوسّل بهم في الدنيا والآخرة ، وأنّ كلّ مذنب يتوسّل إلى الله عزوجل بمن هو أقرب إليه منه.

وهذا لم ينكره أحد ، وقد قدّمنا طرفاً من ذلك في باب الاستغاثة ، ولا فرق بين أن يسمّى ذلك «تشفّعاً» أو «توسّلاً» أو «استغاثة».

وليس ذلك من باب تقرّب المشركين إلى الله تعالى بعبادة غيره ، فإنّ ذلك كفر ، والمسلمون إذا توسّلوا بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو بغيره من الأنبياء والصالحين ، لم يعبدوهم ، ولا أخرجهم ذلك عن توحيدهم لله تعالى ؛ وأنّه هو المتفرّد بالنفع والضرر ، وإذا جاز ذلك جاز قول القائل : «أسأل الله تعالى برسوله» لأنّه سائل الله تعالى ، لا لغيره.

٣٩٣

فصل [سؤال الأنبياء قبل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟]

وأمّا إلهامهم سؤال آدم ومن بعده صلوات الله تعالى وسلامه عليهم ، ولم يلهموا في الابتداء سؤال نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟

فالحكمة فيه ـ والله تعالى أعلم ـ أنّهم لو سألوه ابتداء لأمكن أن يقول قائل : يحتمل أنّ غيره يقدر على هذا.

فأمّا إذا بذلوا الجهد في السؤال والاسترشاد ، وسألوا غيره من رسل الله تعالى وأصفيائه واولي العزم ، فامتنعوا ، ولم يألوهم جهداً في النصح والإرشاد ، فانتهوا إليه وأجاب ، وحصل غرضهم ، حصل العلم لكلّ أحد بنهاية مرتبته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وارتفاع منزلته ، وكمال قربه ، وعظم إجلاله وانسه ، وتفضيله على جميع المخلوقين من الرسل الآدميّين والملائكة.

وحقّ لصاحب هذا المقام أن يكون سيّد الامم ، وأن يسافر إلى زيارته على الرأس ، لا على القدم.

فصل [عصمة الأنبياء من الصغائر والكبائر]

وأمّا ما يذكره الأنبياء عليهم‌السلام

فنبّه القاضي عياض رحمه‌الله تعالى فيه على فائدة جليلة تؤكّد القول المختار أنّهم معصومون من الكبائر والصغائر.

فإنّ هذه الأشياء التي ذكروها : ـ أكل آدم عليه‌السلام من الشجرة ناسياً ، ودعوة نوح عليه‌السلام على قوم كفّار ، وقتل موسى لكافر لم يؤمر بقتله ، وكان ذلك قبل النبوّة ، ومدافعة إبراهيم عليه‌السلام على الكفّار بقولٍ عرّض به هو فيه صادق من وجه ـ وهذه كلّها في حقّ غيرهم ليست بذنوب ، لكنّهم أشفقوا منها ؛ إذ لم تكن عن أمر الله تعالى ، وعتب على بعضهم فيها لعلوّ منزلتهم من معرفة الله تعالى ، ولو صدر منهم

٣٩٤

شيء غير ذلك لذكروه في ذلك المقام ، فليتأمّل الناظر هذه الفائدة ، وليأخذها بكلتا يديه.

وما اختاره القاضي عياض من عصمتهم من الصغائر كعصمتهم من الكبائر ، هو الذي أعتقده وأدين الله به وإن كان أكثر المتكلّمين على خلافه ، ولا يحتمل هذا المكان التطويل بالاستدلال له.

قال القاضي عياض : ولا يهولنّك أن نسب قوم هذا المذهب إلى الخوارج ، والمعتزلة ، وطوائف من المبتدعة ، إذ منزعهم فيه منزع آخر من التكفير بالصغائر ، ونحن نتبرّأ إلى الله تعالى من هذا المذهب.

فصل [ترتيب الشفاعات حسب الروايات]

وأمّا قوله عليه‌السلام عقب رفع رأسه : «يا ربّ ، امّتي امّتي» فظاهره أنّ أوّل شفاعته في امّته.

وفي حديث حذيفة المتقدّم : أنّه يقوم «وترسل الأمانة والرحم ، فيقومان جنبتي الصراط».

ومال القاضي عياض إلى أنّ هذا في الأوّل ؛ لأنّ هذه الشفاعة هي التي لجأ الناس إليه فيها ؛ وهي الإراحة من الموقف ، والفصل بين العباد.

ثمّ بعد ذلك حلّت الشفاعة في امّته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المذنبين ، وحلّت شفاعة الأنبياء والملائكة وغيرهم.

وجاء في الأحاديث المتقدّمة : اتباع كلّ امّةٍ ما كانت تعبد ، ثمّ تمييز المؤمنين من المنافقين ، ثمّ حلول الشفاعة ووضع الصراط ، فيحتمل أنّ الأمر باتباع الامم ما كانت تعبد ، هو أوّل الفصل والإراحة من هول الموقف ، وهو أوّل المقام المحمود ، وأنّ الشفاعة التي ذكر حلولها ، هي الشفاعة في المذنبين على الصراط ، وهو ظاهر

٣٩٥

الأحاديث ، وأنّها لنبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولغيره ، كما نصّ عليه في الأحاديث السابقة.

ثمّ ذكر بعدها الشفاعة فيمن دخل النار.

وبهذا تجتمع متون الأحاديث ، وتترتّب معانيها إن شاء الله تعالى.

هذا كلام القاضي رحمه‌الله ، وهو ترتيب حسن ، وليس فيه ما يعارض شفاعته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لُامّته عقب رفع رأسه من السجود في المرّة الاولى ، فإنّه يحتمل أن يكون ذلك ابتداء فصل القضاء ، فقد صحّ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ امّته هي المقضيّ لهم قبل الخلائق.

فيكون صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ لمّا يدنو للشفاعة في فصل القضاء ، ويؤذن له في الشفاعة ـ يبتدئ بالسؤال لمن يقضى له أوّلاً ، فيجاب : بأن يدخل الجنّة من امّته من لا حساب عليه ، هذا في المرّة الاولى ، ويكون إعلامه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك في أوّل الأمر ، من كمال الإكرام.

ثمّ بعد ذلك تتّبع كلّ امّة ما كانت تعبد ، ويوضع الصراط ، ويؤذن في الشفاعة للمذنبين ، فيشفع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأنبياء والملائكة في نجاة من يشاء الله من النار.

ثمّ بعد ذلك يدخل أهل الجنّة الجنّة ، وأهل النار النار ، ومن شاء الله تعالى من المذنبين ، فيقع بعد ذلك الشفاعة في إخراج المذنبين من النار.

ولعلّ سؤال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لُامّته في الثانية والثالثة والرابعة حينئذٍ ، ويشفع الأنبياء أيضاً والملائكة والمؤمنون في إخوانهم.

ويحتمل أن يكون اقتصار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ذكر امّته ، من كمال الأدب مع ربّه سبحانه وتعالى ، فإنّهم الأخصّون به ، وهو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعلم أنّه يحصل في ضمن ذلك ما قصد إليه ولجأ الناس بسببه ؛ من فصل القضاء العامّ.

على أنّه قد ورد في حديث آخر ذكره القاضي عياض في «الشفاء» : «أما ترضون أن يكون إبراهيم وعيسى فيكم يوم القيامة!!».

ثمّ قال : «إنّهما في امّتي يوم القيامة ؛ أمّا إبراهيم فيقول : أنت دعوتي وذرّيتي ،

٣٩٦

فاجعلني من امّتك ، وأمّا عيسى فالأنبياء إخوة بنو علات ، امّهاتهم شتّى ، وأنّ عيسى أخي ليس بيني وبينه نبيّ ، وأنا أولى الناس به» (١).

ويحتمل أن يكون السؤال للأنبياء مرّتين : مرّة من جميع الناس في فصل القضاء ، ثمّ مرّة من المؤمنين بعد تميّزهم في استفتاح الجنّة ، وسقط من الحديث ذكر الشفاعة الاولى.

وقد ورد هذا مصرّحاً به ؛ روى عليّ بن معبد في كتاب «الطاعة والمعصية» عن المسيّب بن شريك ، عن إسماعيل بن رافع المدنيّ ، عن عبد الله بن يزيد ، عن محمّد بن كعب القرظيّ ، عن أبي هريرة ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حديثاً طويلاً فيه : «فتوقفون في موقف حفاة عراة غرلاً مقدار سبعين (٢) عاماً ، لا ينظر الله إليكم ، ولا يقضى بينكم ، فتبكي الخلائق حتّى تنقطع الدموع ، ثمّ يدمع دماً ، ويعرقون حتّى يبلغ منهم الآذان ، أو يلجمهم ، فيضجّون ويقولون : من يشفع لنا إلى ربّنا فيقضي بيننا؟

فيؤتى آدم فيطلب ذلك إليه فيأبى ، ثمّ يستقرون الأنبياء نبيّاً نبيّاً ؛ كلّما جاءوا نبيّاً أبى».

فقال رسول الله : «حتّى يأتوني ، فإذا جاءوني انطلقت فأخرّ قدام العرش لربّي ساجداً ، حتّى يبعث الله إليّ ملكاً فيأخذ بعضدي فيرفعني.

فيقول لي حين يرفعني الملك : ما شأنك يا محمّد؟ وهو أعلم.

فأقول : يا ربّ ، وعدتني الشفاعة ، فشفّعني في خلقك فاقض بينهم.

فيقول الله تعالى : قد شفّعتك ، أنا آتيكم فأقضي بينكم».

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «فأرجع فأقف مع الناس ، فبينا نحن وقوف إذا سمعنا

__________________

(١) الشفاء للقاضي عياض.

(٢) في (ه) : اربعين.

٣٩٧

حسّاً شديداً من السماء فهالنا ، فنزل أهل سماء الدنيا بمثلي من فيها من الإنس والجنّ ، ثمّ ينزلون على قدر ذلك من التضعيف ، ثمّ يضع عرشه حيث شاء من الأرض.

ثمّ يقول : وعزّتي وجلالي ، لا يجاورني اليوم أحد بظلم».

وفيه : «ثمّ يقضي الله عزوجل بين خلقه كلّهم إلّا الثقلين الجنّ والإنس ، ثمّ يقضي بين الثقلين ، فيكون أوّل ما يقضي فيه الدماء».

وفيه بعد ذلك : «حتّى إذا لم يبقَ لأحد عند أحد تبعة نادى منادٍ : ليلحق كلّ قوم بآلهتهم ، ويجعل ملك على صورة عيسى ، فيتّبعه النصارى».

وفيه : «حتّى إذا لم يبقَ إلّا المؤمنون وفيهم المنافقون».

وفيه بعد ذلك : «ثمّ يضرب الصراط فيمرّون».

وفيه بعد ذلك : «فإذا أفضى أهل الجنّة إلى الجنّة قالوا : من يشفع لنا إلى ربّنا ليدخلنا الجنّة؟

فيؤتى آدم : فيقول : عليكم بنوح ...» وذكر مثل ما في الأحاديث المشهورة : نوح ، ثمّ إبراهيم ، ثمّ موسى ، ثمّ عيسى إلى أن قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

«فيأتوني ولي عند الله ثلاث شفاعات ، فأنطلق آتي باب الجنّة ، فآخذ بحلقة الباب واستفتح ، فيفتح لي ، فأُحَيّى ويرحّب بي ، فإذا دخلت خررت ساجداً ...» إلى أن قال في الثالثة : «فأقول : يا ربّ ، وعدتني الشفاعة فشفّعني في أهل الجنّة.

فيقول : قد شفّعتك ، قد أذنت لهم في دخول الجنّة.

ثمّ أشفع فأقول : يا ربّ ، من وقع في النار من امّتي ...» وذكر بقيّة الحديث (١).

__________________

(١) قد مرّ تخريج أحاديث الشفاعة ويأتي.

٣٩٨

فصل [أهل «لا إله إلّا الله»]

وأمّا قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المرّة الرابعة : «ائذن لي فيمن قال : لا إله إلّا الله» ففيه أقوال :

أحدها : أنّهم الذين معهم مجرّد الإيمان ، قاله القاضي عياض.

قال : وهم الذين لم يؤذن في الشفاعة فيهم ، وإنّما دلّت الآثار على أنّه أذن لمن عنده شيء زائد من العمل على مجرّد الإيمان ، وجعل للشافعين من الملائكة والنبيّين صلوات الله عليهم وسلامه عليه دليلاً عليه ، وتفرّد الله عزوجل بعلم ما تكنّه القلوب ، والرحمة لمن ليس عنده إلّا مجرّد الإيمان ، وضرب بمثال ذرّة المثل لأقلّ الخير ، فإنّها أقلّ المقادير.

قال : والصحيح : أنّ معنى «الخير» شيء زائد على مجرّد الإيمان ؛ لأنّ مجرّد الإيمان الذي هو التصديق لا يتجزّأ ، وإنّما يكون هذا التجزّؤ بشيء زائد عليه : من عمل صالح ، أو ذكر خفيّ ، أو عمل من أعمال القلب ، من شفقة على مسكين ، أو خوف من الله تعالى ، ونيّة صادقة.

ويدلّ على قوله في الرواية الاخرى : «يخرج من النار من قال : لا إله إلّا الله ، وكان في قلبه من الخير ما يزن ... كذا».

وهذا الذي قاله القاضي يشكل عليه امور :

أحدها : رواية البخاريّ المتقدّمة ، وقوله : «إيمان» مكان «خير» والروايات يفسّر بعضها بعضاً.

والخير أعمّ من الإيمان ، فيصدق على من ليس عنده إلّا مجرّد الإيمان أنّ عنده خيراً.

فلو لم يرد إلّا هذه الرواية كانت دالّة على إخراج جميع المؤمنين ، فكيف وقد رد وصحّ التصريح بالإيمان؟!

٣٩٩

وحمل الإيمان على الزائد عليه مجازاً ، من غير دليل ، لا يسوغ.

الثاني : ما يلزمه من تخصيص شفاعة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ببعض المؤمنين ، والأحاديث التي وردت في ذلك عامّة ، وكثرتها تبعد تخصيصها ، ولا ضرورة إلى التخصيص ؛ لما سنبيّنه.

الثالث : أنّ الذي تكنّه القلوب من أعمال القلوب والإيمان ، سواء في الخفاء ، فإذا جعل الله لبعض خلقه أمارة على أعمال القلوب الخفيّة الزائدة على الإيمان ، فلا بدّ أن يجعل له دليلاً على الإيمان.

وإنّما ألجأ القاضي إلى هذا : أنّ من يخرجه الله بغير شفاعة لا بدّ أن يكون الإيمان في قلبه.

وهذا صحيح ؛ لأنّه لا يتعيّن أن يكون من هذه الامّة.

وأمّا ما تمسّك به من أنّ الإيمان لا يتجزّأ.

فجمهور السلف على أنّه يزيد وينقص ، وحقيقته غير متجزّئة ، وليس هذا محلّ تحقيق ذلك.

نعم ، لا بدّ في الردّ على القاضي من تحقيق أنّ الإيمان القائم بالقلب ، يقبل القوّة والضعف ، وإلّا فيصحّ ما قاله.

القول الثاني : أنّ المراد من قال : «لا إله إلّا الله» من غير هذه الامّة ، قاله أبو طالب عقيل بن عطيّة.

وهو الصحيح عندي ـ والعلم عند الله تعالى ـ تمسّكاً بدلالة الألفاظ ، فإنّه لم يقل : «من امّتي» ، وقد سبق أنّه قال : «ما بقي في النار إلّا من حبسه القرآن» والظاهر أنّ المراد من امّته ؛ أي لم يبقَ منهم أحد.

فيكون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طلب بعد ذلك أن يؤذن له في غير امّته ممّن قال : لا إله إلّا الله ، فقيل : «ليس ذلك إليك».

٤٠٠