علي بن عبدالكافي بن علي أبوالحسن الأنصاري الخزرجي المصري الشافعي [ تقي الدين السبكي ]
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دائرة المعارف العثمانيّة
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٣٢
الفصل الأول :
فيما ورد في حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام
صنّف الحافظ أبو بكر البيهقيّ رحمهالله في ذلك جزءاً ، وروى فيه أحاديث منها : «الأنبياء صلوات الله عليهم أحياء في قبورهم يصلّون».
ورواه ابن عديّ في «الكامل» (١) أنا غير واحد إذناً عن ابن المقير ، عن ابن الشهرزوريّ ، أنا إسماعيل بن مسعدة ، أنا حمزة بن يوسف ، أنا أحمد بن عديّ الحافظ ، قال : حدثنا قسطنطين بن عبد الله الروميّ مولى المعتمد على الله أمير المؤمنين ، حدثنا الحسين بن عرفة ، حدّثني الحسن بن قتيبة المدائنيّ ، حدثنا المتسلّم بن سعيد الثقفيّ ، عن الحجّاج الأسود ، عن ثابت البنانيّ ، عن أنس قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «الأنبياء صلوات الله عليهم أحياء في قبورهم يصلّون».
قال ابن عديّ : وللحسن بن قتيبة هذا أحاديث غرائب حسان ، فأرجو أنّه لا بأس به.
__________________
(١) الكامل في الضعفاء لابن عدي.
وذكره ابن أبي حاتم ، ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً ، وذكره الخطيب في «التأريخ» (١) وقال : عن البرقانيّ عن الدارقطنيّ : أنّه متروك الحديث.
وروى البيهقيّ هذا الحديث في صدر «الجزء الذي صنّفه» عن أبي سعيد ؛ أحمد ابن محمّد بن الخليل الصوفيّ عن ابن عديّ بسنده المذكور ، ثمّ قال البيهقيّ : هذا حديث يعدّ في أفراد الحسن بن قتيبة.
وقد روي عن يحيى بن أبي بكير ، عن المتسلم بن سعيد ، وهو فيما أنا الثقة من أهل العلم ، أنا أبو عمرو بن حمدان ، أنا أبو يعلى الموصليّ ، حدثنا أبو جهم الأزرق بن علي ، حدثنا يحيى بن أبي بكير ، حدثنا المتسلّم بن سعيد ، عن الحجّاج ، عن ثابت البنانيّ ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «الأنبياء أحياء في قبورهم يصلّون» (٢).
قلت : ويحيى بن أبي بكير : ثقة ، والمتسلّم بن سعيد : ثقة ، والحجّاج (٣) : إن كان ابن أبي زناد فثقة ، وإن كان غيره فلم أعرفه.
قال البيهقيّ : وروي كما أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، أنا أبو حامد أحمد بن عليّ الحسنويّ إملاء ، حدثنا أبو عبد الله محمّد بن العبّاس الحمصيّ بحمص ، حدثنا أبو الربيع الزهرانيّ ، حدثنا إسماعيل بن طلحة بن يزيد ، عن محمّد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن ثابت ، عن أنس رضى الله عنه ، عن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : «إنّ الأنبياء لا يتركون في قبورهم بعد أربعين ليلة ، ولكنّهم يصلّون بين يدي الله تعالى حتّى ينفخ في الصور».
__________________
(١) تاريخ بغداد (٧ / ٤٠٤) رقم ٣٩٤٨.
(٢) مجمع الزوائد (٨ / ٢١١) وقال رواه أبو يعلى والبزار ورجال أبي يعلى ثقات.
(٣) قال في الفتح في باب واذكر في الكتاب مريم من أحاديث الأنبياء : أخرجه البزار لكن وقع عنده عن الحجّاج الصواف وهو وهم ، والصواب الحجاج الأسود لما وقع التصريح به في رواية البيهقي وصحّحه البيهقي.
قال البيهقيّ : وهذا إن صحّ بهذا اللفظ ، فالمراد به ـ والله أعلم ـ : لا يتركون لا يصلّون إلّا هذا المقدار ، ثمّ يكونون مصلّين فيما بين يدي الله تعالى.
قال البيهقيّ : ولحياة الأنبياء بعد موتهم ، شواهد من الأحاديث الصحيحة.
ثمّ ذكر البيهقي بأسانيده حديث : «مررت بموسى وهم قائم يصلّي في قبره».
وحديثَ : «قد رأيتني في جماعة من الأنبياء ، فإذا موسى قائم يصلّي ، وإذا رجل ضرب جعد كأنّه من رجال شنوءة ، وإذا عيسى بن مريم قائم يصلّي ، أقرب الناس به شبهاً عروة بن مسعود الثقفيّ ، وإذا إبراهيم قائم يصلّي أشبه الناس به صاحبكم ـ يعني نفسه ـ فحانت الصلاة فأممتهم ، فلمّا فرغت من الصلاة قال قائل لي : يا محمّد ، هذا مالك صاحب النار فسلّم عليه ، فالتفتّ إليه فبدأني بالسلام» أخرجه مسلم (١).
وفي حديث سعيد بن المسيّب وغيره : أنّه لقيهم في بيت المقدس ، وفي حديث أبي ذر في صفة المعراج : أنّه لقيهم في السماوات ، وكلّموه وكلّمهم.
وكلّ ذلك صحيح لا يخالف بعضه بعضاً ، فقد رَأى موسى عليهالسلام قائماً يصلّي في قبره ، ثمّ يُسرى بموسى وغيره إلى بيت المقدس ، كما أُسري بنبيّنا صلىاللهعليهوآلهوسلم ثمّ يعرج بهم إلى السماوات ، كما عرج بنبيّنا عليه الصلاة والسلام فيراهم فيها كما أخبر.
وحلولهم في أوقات بمواضع مختلفات ، فإنّه في العقل كما ورد في خبر الصادق ، وفي كلّ ذلك دلالة على حياتهم.
وممّا يدلّ على ذلك ما ساق إسناده إلى أوس بن أوس قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «أفضل أيّامكم يوم الجمعة ، وفيه خلق آدم ، وفيه قبض ، وفيه النفخة ، وفيه الصعقة ، فأكثروا عليَّ من الصلاة فيه ؛ فإنّ صلاتكم معروضة».
__________________
(١) صحيح مسلم (١ / ١٠٦ ـ ١٠٨) كتاب الايمان ، باب من ذكر المسيح.
قالوا : وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ ـ يقولون : بليت ـ
فقال : إنّ الله تعالى حرّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء ، أخرجه أبو داود (١).
قال البيهقيّ : وله شواهد ، منها :
ما أنا أبو عبد الله ، أنا ابن إسحاق الفقيه ، أنا الأبار ، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن ، حدثنا الوليد ، حدثنا أبو رافع ، عن سعيد المقبريّ ، عن أبي مسعود الأنصاريّ ، عن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أنّه قال : «أكثروا الصلاة عليَّ في يوم الجمعة ، فإنّه ليس يصلّي عليّ أحد يوم الجمعة إلّا عرضت عليَّ صلاته».
وأنا عليّ بن أحمد ، أنا أحمد بن عبيد ، حدثنا الحسين بن سعيد ، حدثنا إبراهيم ، حدثنا حمّاد ، عن برد ، عن مكحول ، عن أبي امامة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «أكثروا عليَّ من الصلاة في كلّ يوم جمعة ، فإنّ صلاة امتي تعرض عليَّ في كلّ يوم جمعة ، فمن كان أكثرهم عليَّ صلاة كان أقربهم منّي منزلة» (٢).
وأنا الإسفرايينيّ ، حدّثني والدي ، أنا اسامة بمصر ، حدثنا محمّد بن إسماعيل الصائغ ، حدّثتنا حكامة بنت عثمان بن دينار ، عن مالك بن دينار ، عن أنس قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «إنّ أقربكم منّي يوم القيامة في كلّ موطن ، أكثركم عليَّ صلاة في الدنيا ، فمن صلّى عليَّ يوم الجمعة وليلة الجمعة ، قضى الله له مائة حاجة : سبعين من حوائج الآخرة ، وثلاثين من حوائج الدنيا ، ثمّ يوكل الله بذلك ملكاً يدخله في قبري ، كما تدخل عليكم الهدايا ؛ يخبر عمّن صلّى عليّ باسمه ونسبه إلى عشيرته ، فأُثبته عندي في صحيفة بيضاء».
ثمّ ذكر البيهقيّ حديث : «فإنّ صلاتكم تبلغني حيث ما كنتم».
__________________
(١) سنن أبي داود (٢ / ٨٨) كتاب الصلاة ، باب في الاستغفار ح ١٥٣١.
(٢) السنن الكبرى للبيهقي (٣ / ٢٤٩) كتاب الجمعة ، باب ما يدخر به في ليلة الجمعة ويومها.
وحديث : «ما من أحد يسلّم عليَّ إلّا ردّ الله عليَّ روحي حتّى أردّ».
قال البيهقيّ ، وإنّما أراد ـ والله أعلم ـ إلّا وقد ردّ الله علي روحي حتّى أردّ عليه (١).
قلت : وقد تقدّم احتمال آخر.
ثمّ ذكر البيهقيّ حديث : «إنّ لله ملائكة سيّاحين يبلغوني عن امّتي السلام».
وقولَ ابن عبّاس : ليس أحد من امّة محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم صلّى عليه صلاة إلّا وهي تبلغه ، يقول له الملك : فلان يصلّي عليك كذا وكذا صلاة.
وحديث : «من صلّى عليَّ عند قبري سمعته» من طريق أبي عبد الرحمن ، وقال : هو محمّد بن مروان السدّي فيما أرى ، وفيه نظر ، وقد مضى ما يؤكّده.
هذا قول البيهقيّ.
وذكر ما قدّمناه عن سليمان بن سحيم ، ثمّ قال : وممّا يدلّ على حياتهم ما أنا أبو عبد الله الحافظ ... وساق إسناده ، وذكر حديث : «فإذا موسى باطش بجانب العرش ، فلا أدري أكان فيمن صعق فأفاق قبلي ، أو كان ممّن استثنى الله عزوجل» رواه البخاريّ ومسلم (٢).
قال البيهقيّ : وهذا إنّما يصحّ على أنّ الله عزوجل ردّ على الأنبياء صلوات الله عليهم أرواحهم ، فهم أحياء عند ربّهم كالشهداء ، فإذا نفخ في الصور النفخة الاولى صعقوا فيمن صعق ، ثمّ لا يكون ذلك موتاً في جميع معانيه إلّا في ذهاب الاستشعار ، فإن كان موسى عليهالسلام ممّن استثنى الله بقوله : (إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) فإنّه لا يذهب استشعاره في تلك الحالة ، فيحاسبه بصعقة يوم الطور.
ويقال : إنّ الشهداء من جملة من استثنى الله عزوجل بقوله تعالى : (إِلَّا مَنْ
__________________
(١) السنن الكبرى (٥ / ٢٤٥) كتاب الحج ، باب زيارة قبر النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم.
(٢) صحيح البخاري (٤ / ١٣١) و (٧ / ١٩٣) و (٨ / ١٩٢) وصحيح مسلم (٧ / ١٠١).
شاءَ اللهُ) ورُوّينا في ذلك خبراً مرفوعاً.
هذا جملة ما ذكره الحافظ أبو بكر البيهقيّ في كتاب «حياة الأنبياء في قبورهم» لم نحذف منه إلّا بعض الأسانيد ، أو بعض الزيادة في الأسماء.
وقد قدّمناه في حديث من «سنن ابن ماجة» (١) فيه : «فنبيّ الله حيّ يرزق».
وقال البيهقيّ في «دلائل النبوّة» (٢) : وفي الحديث الصحيح عن سليمان التيميّ وثابت البنانيّ ، عن أنس بن مالك : أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : «أتيت على موسى ليلة اسري بي عند الكثيب الأحمر ، وهو قائم يصلّي في قبره».
وروّينا في الحديث الصحيح عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة : أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : «وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء ، فإذا موسى قائم يصلّي ...» وذكر إبراهيم وعيسى ووصفهم ، ثمّ قال : «فحانت الصلاة فأممتهم».
وروّينا في حديث ابن المسيّب : أنّه لقيهم في بيت المقدس.
وروّينا في حديث أنس : أنّه بعث له آدم فمن دونه من الأنبياء ، فأمّهم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم تلك الليلة.
وروّينا في الحديث الصحيح عن أنس ، عن مالك بن صعصعة ، وعن أنس ، عن أبي ذر رضي الله عنهم : أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم رأى موسى بن عمران في السماء السادسة.
وليس بين هذه الأخبار منافاة ، فقد يراه في مسيره قائماً يصلّي في قبره ، ثمّ يسرى به إلى بيت المقدس ، كما اسري بالنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم فرآه فيه ، ثمّ يعرج به إلى السماء السادسة ، كما عرج بالنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم فرآه في السماء ، وكذلك سائر من رآه من الأنبياء في الأرض ثمّ في السماء ، والأنبياء صلوات الله عليهم أحياء عند ربّهم كالشهداء ، فلا
__________________
(١) سنن ابن ماجة (١ / ٥٢٤) ح ١٦٣٧ ، تقدم.
(٢) دلائل النبوة للبيهقي.
ينكر حلولهم في أوقات بمواضع مختلفات ، كما ورد خبر الصادق به ، هذا كلام البيهقيّ.
[أحاديث الاسراء ولقاء الأنبياء أحياء]
وقد ثبت في الصحيح في حديث الإسراء : أنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم وجد آدم في السماء الدنيا ، وقال فيه : «فإذا رجل عن يمينه أسودة ، وعن يساره أسودة ، فإذا نظر قِبل يمينه ضحك ، وإذا نظر قِبل شماله بكى ، فقال : مرحباً بالنبيّ الصالح والابن الصالح» ووجد إبراهيم في السابعة مسنداً ظهره إلى البيت المعمور.
وقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : «مررت ليلة اسري بي على موسى بن عمران ؛ رجل آدم طوال جعد كأنّه من رجال شنوءة ، ورأيت عيسى بن مريم ؛ مربوع الخلق إلى الحمرة والبياض ، سبط الرأس».
وقال في حديث آخر : «لقيت موسى فإذا برجل» حسبته قال : «مضطرب رَجِل الرأس كأنّه من رجال شنوءة ، ولقيت عيسى فإذا ربعة أحمر كأنّما خرج من ديماس» ـ يعني حمّاماً «ورأيت إبراهيم وأنا أشبه ولده به».
وفي حديث آخر : «أراني ليلة عند الكعبة ، فرأيت رجلاً آدم ؛ كأحسن ما أنت راءٍ من الرجال ، له لمّة ، كأحسن ما أنت راءٍ من اللّمم قد رجلها ، فهي تقطر ماءً متّكئاً على رجلين» أو «على عواتق رجلين يطوف بالبيت ، فسألت : من هذا؟ فقيل : هذا المسيح ابن مريم».
وفي حديث : «لقد رأيتني في الحِجْر وقريش تسألني عن مسراي ، فسألتني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها ، فكربت كرباً ما كربت مثله قطّ» قال : «فرفعه الله أنظر إليه ما يسألوني عن شيء إلّا أنبأتهم ، وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء ، فإذا موسى قائم يصلّي ، فإذا رجل ضرب جعد كأنّه من رجال شنوءة ،
وإذا عيسى بن مريم قائم يصلّي ؛ أقرب الناس به شبهاً عروة بن مسعود الثقفيّ ، وإذا إبراهيم قائم يصلّي أشبه الناس به صاحبكم» يعني نفسه «فحانت الصلاة فأممتهم ، فلمّا فرغت من الصلاة قال قائل : يا محمّد ، هذا مالك صاحب النار فسلّم عليه ، فالتفت إليه فبدأني بالسلام».
وفي حديث آخر : أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم مرّ بوادي الأزرق فقال : «كأنّي أنظر إلى موسى هابطاً من الثنيّة ، وله جؤار إلى الله بالتلبية».
ثمّ أتى على ثنيّة هَرْشَى فقال : «كأنّي أنظر إلى يونس بن متّى على ناقة حمراء جعدة ، عليه جبّة من صوف ، خطام ناقته خليّة ، وهو يلبّي».
وفي حديث آخر : «كأنّي أنظر إلى موسى واضعاً إصبعيه في اذنيه».
وهذه الأحاديث كلّها في الصحيح.
وقد تقدّم في موسى وعيسى وجميع الأنبياء المذكورين شيء كثير من صفات الأجسام ، وكذلك صلاتهم قياماً ، وإمامة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم لهم.
ولا يقال : إنّ ذلك رؤيا منام ، وإنّ قوله : «أراني» فيه إشارة إلى النوم ؛ لأنّ الإسراء وما اتفق فيه كان يقظة على الصحيح الذي عليه جمهور السلف والخلف.
ولو قيل : بأنّه نوم ، فرؤيا الأنبياء حقّ.
وقوله : «أراني» لا دلالة فيه على المنام ؛ بدليل قوله : «رأيتني في الحِجْر» وكان ذلك في اليقظة ، كما يدلّ عليه بقيّة الكلام.
وقال تعالى : (فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ) وفي «صحيح مسلم» (١) : كان قتادة يفسّرها أنّ نبيّ الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قد لقي موسى.
وقد قيل في قوله تعالى : (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا) : أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم سألهم ليلة الإسراء.
__________________
(١) صحيح مسلم (١ / ١٠٥).
قال القاضي عياض رحمهالله :
فإن قيل : يحجّون ويلبّون وهم أموات ، وهم في الدار الآخرة ، وليست دار عمل.
فاعلم أنّ للمشايخ وفيما ظهر لنا عن هذا ، أجوبةً :
أحدها : أنّهم كالشهداء ، بل أفضل منهم ، والشهداء أحياء عند ربّهم ، فلا يبعد أن يحجّوا ويصلّوا ، كما ورد في الحديث الآخر ، وأن يتقرّبوا إلى الله تعالى بما استطاعوا ؛ لأنّهم ـ وإن كانوا قد توفّوا ـ فهم في هذه الدنيا التي هي دار العمل ، حتى إذا فنيت مدّتها وتعقّبتها الآخرة التي هي دار الجزاء ، انقطع العمل.
والوجه الثاني : أنّ عمل الآخرة ذكر ودعاء ، قال الله تعالى : (دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَ).
الثالث : أن يكون رؤيا منام ، فهو في غير ليلة الإسراء.
الرابع : أنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم أُري حالهم التي كانت في حياتهم ، ومثلوا له في حال حياتهم كيف كانوا ، وكيف كان حجّهم وتلبيتهم.
الخامس : أن يكون أخبر عمّا اوحي إليه صلىاللهعليهوآلهوسلم من أمرهم ، وما كان منهم ؛ وإن لم يرهم رؤية عين.
هذا كلام القاضي.
والوجه الأوّل والثاني يلزم منهما الحياة ، والثالث لا يأتي في ليلة الإسراء ، والرابع والخامس إنّما يأتيان في الحجّ والتلبية ونحوهما ، وأمّا فيما حصل ليلة الإسراء فلا.
والجواب الصحيح في الصلاة ونحوها أحد جوابين :
إمّا أن نقول : البرزخ ينسحب عليه حكم الدنيا في استكثارهم من الأعمال ؛ وزيادة الاجور ، وهو الجواب الأوّل الذي ذكره القاضي.
وإمّا أن نقول : إنّ المنقطع في الآخرة إنّما هو التكليف ، وقد تحصل الأعمال من غير تكليف ؛ على سبيل التلذّذ بها والخضوع لله تعالى ، ولهذا إنّهم يسبّحون ، ويدعون ، ويقرءون القرآن.
وانظر إلى سجود النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وقت الشفاعة ، أليس ذلك عبادة وعملاً!!
وعلى كلا الجوابين ، لا يمتنع حصول هذه الأعمال في مدّة البرزخ.
وقد صحّ عن ثابت البنانيّ التابعيّ أنّه قال : اللهمّ إن كنت أعطيت أحداً أن يصلّي في قبره فأعطني ذلك.
فرُئي بعد موته يصلّي في قبره.
وتكفي رؤية النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم لموسى قائماً يصلّي في قبره.
ولأنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وسائر الأنبياء ، لم يقبضوا حتّى خيّروا بين البقاء في الدنيا ، وبين الآخرة ، فاختاروا الآخرة ، ولا شكّ أنّهم لو بقوا في الدنيا لازدادوا من الأعمال الصالحة ، ثمّ انتقلوا إلى الجنّة ، فلو لم يعلموا أنّ انتقالهم إلى الله أكمل ما اختاروا ، ولو كان انتقالهم من هذه الدار يفوّت عليهم زيادة فيما يقرّب إلى الله ، لما اختاروه.
فهذه نبذة من الأحاديث الصحيحة الدالّة على حياة الأنبياء.
والكتاب العزيز يدلّ على ذلك أيضاً ، قال تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ).
وإذا ثبت ذلك في الشهيد ثبت في حقّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم بوجوه :
أحدها : أنّ هذه رتبة شريفة اعطيت للشهيد ؛ كرامةً له ، ورتبة أعلى من رتبة الأنبياء ، ولا شكّ أنّ حال الأنبياء أعلى وأكمل من حال جميع الشهداء ، فيستحيل أن يحصل كمال للشهداء ، ولا يحصل للأنبياء ، لا سيّما هذا الكمال الذي يوجب زيادة القرب والزلفى والنعيم والانس بالعليّ الأعلى.
الثاني : أنّ هذه الرتبة حصلت للشهداء أجراً على جهادهم وبذلهم أنفسهم لله تعالى ، والنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم هو الذي سنّ لنا ذلك ، ودعانا إليه ، وهدانا له بإذن الله تعالى وتوفيقه ، وقد قال صلىاللهعليهوآلهوسلم : «من سنّ سنّة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ، ومن سنّ سنة سيّئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة».
وقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل اجور من يتّبعه ؛ لا ينقص ذلك من اجورهم شيئاً ، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم آثام من يتّبعه ؛ لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً».
والأحاديث الصحيحة في ذلك كثيرة مشهورة ، فكلّ أجر حصل للشهيد حصل للنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم لسعيه مثله ، والحياة أجر ، فيحصل للنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم مثلها زيادة على ما له صلىاللهعليهوآلهوسلم من الأجر الخاصّ من نفسه على هدايته للمهتدي ، وعلى ما له من الاجور على حسناته الخاصّة ؛ من الأعمال والمعارف والأحوال التي لا تصل جميع الامّة إلى عرف نشرها ، ولا يبلغون معشار عشرها.
وهكذا نقول : إنّ جميع حسناتنا وأعمالنا الصالحة وعبادات كلّ مسلم ، تسطّر في صحائف نبيّنا محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم زيادة على ما له من الأجر ، ويحصل له صلىاللهعليهوآلهوسلم من الاجور بعدد امّته أضعافاً لا يحصرها إلّا الله تعالى ، ويقصر العقل عن إدراكها ، فإنّ كلّ مهتدٍ وعامل إلى يوم القيامة يحصل له أجر ، ويتجدّد لشيخه في الهداية مثل ذلك الأجر ، ولشيخ شيخه مثلاه ، وللشيخ الثالث أربعة ، وللرابع ثمانية ، وهكذا يضعّف في كلّ مرتبة بعدد الاجور الحاصلة بعده ... إلى أن تنتهي إلى النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم.
فإذا فرضت المراتب عشرةً بعد النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم كان للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم من الأجر ألف وأربعة وعشرون ، فإذا اهتدى بالعاشر حادي عشر صار أجر النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ألفين وثمانية وأربعين ، وهكذا كلّما ازداد واحد يتضاعف ما كان قبله أبداً إلى يوم القيامة.
وهذا أمر لا يحصره إلّا الله تعالى ، ويقصر العقل عن كنه حقيقته ، فكيف إذا اخذ مع كثرة الصحابة ، وكثرة التابعين ، وكثرة المسلمين في كلّ عصر!! فكلّ واحد من الصحابة يحصل له بعدد الاجور التي يترتّب على فعله إلى يوم القيامة ، وكلّ ما يحصل لجميع الصحابة حاصل بجملته للنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وبهذا يظهر رجحان السلف على الخلف ؛ فإنّه كلّما ازداد الخلف ازداد أجر السلف ، وتضاعف بالطريق الذي نبّهنا عليه.
ومن تأمّل هذا المعنى ، ورزق التوفيق ، انبعثت همّته إلى التعليم ، ورغب في نشره ؛ ليتضاعف أجره في حياته وبعد موته على الدوام ، ويكفّ عن إحداث البدع والمظالم من المكوس وغيرها ، فإنّها تضاعف عليه بالطريق التي ذكرناها ما دام يعمل بهذا ، فليتأمّل المسلم هذا المعنى ، وسعادة الهادي إلى الخير ، وشقاوة الداعي إلى الشرّ.
الثالث : أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم شهيد ، فإنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم لمّا سمّ بخيبر ، وأكل من الشاة المسمومة ، وكان ذلك سمّاً قاتلاً من ساعته ، مات منه بشر بن البراء رضى الله عنه ، وبقي النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وذلك معجزة في حقّه ، صار ألم السمّ يتعاهده إلى أن مات به صلىاللهعليهوآلهوسلم [وقال] في مرضه الذي ماتَ فيه : «ما زالت أكلة خيبر تعاودني حتّى كان الآن أوان قطعت أبهري».
قال العلماء : فجمع الله له بذلك بين النبوّة والشهادة.
وتكون الحياة الثابتة للشهداء لا تختصّ بمن قتل في المعركة ، فإنّا إنّما اشترطنا ذلك في الأحكام الدنيويّة ، كالغسل ، والصلاة ، أمّا الآخرة فلا ، وهذا لا شكّ فيه بالنسبة إلى النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وأمّا غيره وغير شهداء المعركة ؛ ممّن شهد له الشرع بالشهادة ، كالمطعون ، والمبطون ، والغريق ، ونحوهم ، فهل نقول : إنّ الحياة الثابتة للمقتولين في سبيل الله
تثبت لهم؟
هذا يحتاج إلى توقيف.
و «الشهيد» فعيل إمّا بمعنى الفاعل ، أو بمعنى المفعول ، وقد اختلف في سبب هذه التسمية :
فنقل عن النضر بن شميل : أنّ الشهيد هو الحيّ ؛ لأنّ كلّ من كان حيّاً كان شاهداً ، أو مشاهداً للأحوال ، والشهيد حيي بعد أن صار مقتولاً ، واستدلّ بالآية.
فعلى مقتضى هذا القول ، كلّ من ورد الشرع بأنّه شهيد ، ثبت له هذا الوصف ؛ وهو كونه حيّاً.
وقيل على كونه فاعلاً : إنّه شهيد على الامم الخالية يوم القيامة ، وإنه شاهد لطف الله ورحمته.
وقيل على كونه بمعنى مفعولاً : إنّ ملائكة الرحمة يحضرونه ، ويرفعون روحه إلى منازل القدس ، وكلّ هذه المعاني موجودة في حقّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وقيل في سبب التسمية غير ما ذكرنا.
واعلم : أنّه لا بد من تفسير الحياة التي نثبتها للنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم والحياة التي نثبتها للشهيد وحياة سائر الموتى أيضاً :
فأمّا النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم فعدّ صاحب «التلخيص» من الشافعيّة في خصائصه : أنّ ماله بعد موته قائم على نفقته وملكه.
وقال إمام الحرمين رحمهالله : إنّ ما خلّفه بقي على ما كان في حياته ، فكان ينفق أبو بكر رضى الله عنه منه على أهله وخدمه ، وكان يرى أنّه باقٍ على ملك رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فإنّ الأنبياء أحياء.
وأعلم : أنّ هذا القول يقتضي إثبات الحياة في أحكام الدنيا ، وذلك زائد على حياة الشهيد.
والقرآن العزيز ناطق بموته صلىاللهعليهوآلهوسلم قال تعالى : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ).
وقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : «إنّي مقبوض».
وقال الصدّيق رضى الله عنه : فإنّ محمّداً قد مات.
وأجمع المسلمون على إطلاق ذلك.
فالوجه إذا ثبت القول المذكور أن يقال : إنّ ذلك موت غير مستمرّ ، وإنه احيي بعد الموت ، ويكون انتقال الملك ونحوه مشروطاً بالموت المستمرّ ، وإلّا فالحياة الثابتة حياة اخرويّة ، ولا شكّ أنّها أعلى وأكمل من حياة الشهيد.
وهي ثابتة للروح بلا إشكال.
والجسد : قد ثبت أن أجساد الأنبياء لا تبلى.
وعود الروح إلى البدن سنذكره في سائر الموتى ، فضلاً عن الشهداء ، فضلاً عن الأنبياء ، وإنّما النظر في استمرارها في البدن ، وفي أنّ البدن يصير حيّاً بها ، كحالته في الدنيا ، أو حيّاً بدونها ، وهي حيث شاء الله تعالى ، فإنّ ملازمة الحياة للروح أمر عاديّ لا عقليّ ، فهذا ممّا يجوّزه العقل ، فإن صحّ به سمع اتّبع ، وقد ذكرناه عن جماعة من العلماء ، وشهد له صلاة موسى عليهالسلام في قبره ، فإنّ الصلاة تستدعي جسداً حيّاً ، وكذلك الصفات المذكورة في الأنبياء ليلة الإسراء ، كلّها صفات الأجسام.
ولا يلزم من كونها حياة حقيقيّة أن تكون الأبدان معها ـ كما كانت في الدنيا ـ من الاحتياج إلى الطعام ، والشراب ، والامتناع عن النفوذ في الحجاب الكثيف ، وغير ذلك من صفات الأجسام التي نشاهدها ، بل قد يكون لها حكم آخر ، فليس في العقل ما يمنع من إثبات الحياة الحقيقيّة لهم.
وأمّا الإدراكات ـ كالعلم ، والسماع ـ فلا شكّ أنّ ذلك ثابت ، وسنذكر ثبوته لسائر الموتى ، فكيف بالأنبياء!!
الفصل الثاني : في الشهداء
أجمع العلماء على إطلاق لفظ «الحياة» على الشهيد ، كما نطق به القرآن ، ولكن اختلفوا هل هي حياة حقيقيّة ، أو مجازيّة؟
وعلى تقدير كونها حقيقيّة ، هل هي الآن ، أو يوم القيامة؟
وعلى تقدير كونها الآن ، هل هي للروح ، أو للجسد؟
فهذه أربعة أقوال ، لا خامس لها.
أضعفها قول من قال : إنّ المراد أنّهم يصيرون أحياء يوم القيامة ، وليس المراد أنّهم أحياء الآن.
وهذا قول باطل بوجوه :
منها : قوله تعالى : (وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ) فهذا خطاب للمؤمنين بأنّهم لا يشعرون بحياة من قُتِلَ في سبيل الله ، وكلّ المؤمنين يشعرون ويعلمون بحياتهم يوم القيامة ، وإنّما الغريب الذي لا يُشْعَرُ به : حياتهم الآن.
ومنها : قوله تعالى : (وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ) والمراد
إخوانهم الذين في الدنيا ، ولم يموتوا بعدُ.
ومنها : الأحاديث الصحيحة عن ابن عبّاس قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «لمّا اصيب إخوانكم بأُحد ، جعل الله أرواحهم في جوف طير خضر ترد أنهار الجنّة ، تأكل من ثمارها ، وتأوي إلى قناديل من ذهب معلّقة في ظلّ العرش ، فلمّا وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم قالوا : من يبلغ إخواننا عنّا أنّا أحياء في الجنّة نرزق ؛ لئلّا يزهدوا في الجهاد ، ولا ينكلوا عن الحرب.
فقال الله تعالى : أنا ابلغهم عنكم ، فأنزل الله عزوجل (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً ...)» الآية ، رواه أبو داود ، وأخرجه الحاكم في صحيحه (١).
وفي «صحيح مسلم» (٢) عن مسروق قال : سألنا عبد الله بن مسعود عن هذه الآية (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)؟
فقال : أما أنا قد سألنا عن ذلك فقال : «أرواحهم في جوف طير خضر ، لها قناديل معلّقة بالعرش ، تسرح من الجنّة حيث شاءت ، ثمّ تأوي إلى تلك القناديل ، فاطّلع إليهم ربّهم اطّلاعة فقال : هل تشتهون شيئاً؟
قالوا : أيّ شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنّة حيث نشاء!!
فيقول ذلك لهم ثلاث مرّات.
فلمّا رأوا أنّهم لم يتركوا من أن يسألوا ، قالوا : يا ربّ ، نريد أن تردّ أرواحنا في أجسادنا حتّى نقتل في سبيلك مرّة اخرى.
فلمّا رأى أنّ ليست لهم حاجة تركوا».
__________________
(١) سنن أبي داود (١ / ٥٦٦). والمستدرك على الصحيحين للحاكم (٢ / ٨٨) و (٢ / ٢٩٧) وأورده البيهقي في السنن الكبرى (٩ / ١٦٣).
(٢) صحيح مسلم (٦ / ٣٨) كتاب الإمارة ، باب في بيان أن أرواح الشهداء في الجنّة.
وهذان الحديثان صريحان في أنّ ذلك حصل فيما مضى.
وعن جابر بن عبد الله رضيّ الله عنهما قال : لقيني رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فقال : «يا جابر ، ما لي أراك منكّساً؟».
قلت : يا رسول الله ، استشهد أبي قبل يوم احد ، وترك عيالاً ، وعليه دين.
قال : «أفلا ابشّرك بما لقي الله عزوجل به أباك؟».
قلت : بلى يا رسول الله.
قال : «إنّ الله ما كلّم أحداً قطّ إلّا من وراء حجاب ، وأحيا أباك وكلّمه كفاحاً ، فقال له : يا عبدي ، تمنّ عليّ أعطك.
فقال : يا رب ، تحييني فاقتل فيك مرّة ثانية.
قال الربّ عزوجل : قد سبق منّي أنّهم لا يرجعون».
قال : وانزلت هذه الآية : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً) رواه الترمذيّ وقال : حسن غريب من هذا الوجه (١).
وقوله : «أحيا أباك» يقتضي تجدّد حياة ، والروح باقية لم تمت ، فإمّا أن يحمل على الجسد ، وإمّا على أنّ مفارقتها الجسد حياة لها.
ومنها : ما سنذكره في سائر الموتى ؛ وأنّهم منقسمون في القبور إلى منعّم ومعذّب.
فثبت بهذه الوجوه أنّ الحياة حاصلة للشهيد الآن.
ولكن من الناس من قال : إنّها حياة مجازيّة ، ثمّ سلكوا في وجه المجاز وجوهاً :
إمّا لأنّهم في حكم الله مستحقّون للنعيم في الجنّة.
أو لأنّ ثناءهم باقٍ.
أو غير ذلك من وجوه المجازات.
__________________
(١) سنن الترمذي (٤ / ٢٩٨) ، ورواه ابن ماجة (٢ / ٩٣٦) ح (٢٨٠٠).
وكلّها ضعيفة ؛ لأنّها عدول عن الحقيقة إلى المجاز بغير دليل.
فلم يبق إلّا أنّها حياة حقيقيّة الآن ، وأنّ الشهداء أحياء حقيقة ، وهو قول جمهور العلماء.
[حياة الشهداء : للروح أو للجسد؟]
لكن هل ذلك للروح فقط ، أو للجسد معها؟ فيه قولان :
أحدهما : للروح فقط ؛ لما ذكرناه من حديث ابن عبّاس وابن مسعود رضي الله عنهما وأنّ الروح في أجواف طير خضر ، وحياة الجسد إنّما تكون بعود الروح إليه.
والثاني : للجسد معها.
وسنذكر مثل ذلك في سائر الموتى وإثبات حياتهم في قبورهم ؛ وأنّ عذاب القبر ونعيمه للجسد والروح جميعاً ، وإذا كان نعيم غير الشهيد كذلك فنعيم الشهيد أتمّ وأولى وأكمل.
وذكر القرطبيّ : أنّ أجساد الشهداء لا تبلى ، وقد صحّ عن جابر أنّ أباه وعمرو بن الجموح رضي الله عنهم ـ وهما ممّن استشهد بأُحد ، ودفنا في قبر واحد ـ حفر السيل قبرهما ، فوجدا لم يتغيّرا ، وكان أحدهما قد جرح ، فوضع يده على جرحه ، فدفن وهو كذلك ، فاميطت يده عن جرحه ثمّ ارسلت ، فرجعت كما كانت ، وكان بين ذلك وبين احد ستّ وأربعون سنة (١).
__________________
(١) ذكر المؤرخ المتتبع عاتق بن غيث البلادي ـ مؤرخ مكّة المكرّمة وجغرافيّها اليوم ـ أنه لما حُفرت منطقة الشهداء في مكة لتأسيس بعض المباني ، عُثر على قبر فيه جسد طريّ ، ويدُ المدفون على صدره ، فلما أزيحت اليد عن الصدر انبعث الدم ، وكلّما اعيدَت إلى موضعها انقطع الدم ، فتركوا الجسد في الموضع ، وعُفّي عليه. وهذا الموضع هو المعروف باسم «فخّ» الذي كانت فيه معركة بين جماعة من أهل البيت ، والامويين عام (١٣١) للهجرة. وكتب السيّد
ولمّا أجرى معاوية رضى الله عنه العين التي استنبطها بالمدينة ، وذلك بعد احد بنحو من خمسين سنة ، ونقل الموتى ، أصابت المسحاة قدم حمزة رضى الله عنه فسال منه الدم.
ووجد عبد الله بن حرام كأنّما دفن بالأمس.
وروى كافّة أهل المدينة أنّ جدار قبر النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم لمّا انهدم أيّام الوليد ، بدت لهم قدم عمر بن الخطّاب رضى الله عنه وكان قتل شهيداً.
ولا حاجة إلى الإكثار من ذلك ؛ فقد صحّ أنّ الأنبياء لا تأكل الأرض أجسادهم ، وورد مثله في الشهداء.
ويعني بالشهيد من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا.
فلا يرد علينا : أنّا قد نرى من يقاتل وتأكله الأرض لكن بقاء الجسد لا يدلّ على حياته والكلام هنا إنّما هو في الحياة ، وقد صحّ في الشهداء أنّهم يقولون : نريد أن تردّ أرواحنا إلى أجسادنا ، وهذا يردّ قول من يقول : إنّ جسد الشهيد حيّ بروحه ، كما كان في الدنيا.
اللهمّ إلّا أن يقال : إنّه حيّ بغير تلك الروح ، نوعاً من الحياة مخالفاً للحياة الدنيويّة.
وقد جاء في أرواح الشهداء : «أنّها في أجواف طير تسرح في الجنّة حيث شاءت ، ثمّ تأوي إلى قناديل من تحت العرش».
فمن العلماء من قال : أرواح الشهداء في أجواف طير في الجنّة ، وأرواح غيرهم من المؤمنين في قبورهم ، وممّن ذكر ذلك القرطبيّ في «التذكرة».
ومنهم من طعن في الحديث وقال : إنّه لم يصحّ كونها في حواصل طير ، وزعم أنّها بذلك تكون محبوسة ، نقل ذلك عن أبي الحسن القاليّ وغيره من المالكيّة.
وهو مردود ؛ لأنّ الحديث صحيح.
ومنهم من أوّل «في» بمعنى «على».
ومنهم من قال : إنّها ليست في طير ، ولكنّها نفس الطير ؛ لقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «إنّما نسمة المؤمن طائر تعلق».
ومنهم من يقول : أرواح الشهداء مختلفة :
منها : ما هو طائر تعلق من شجر الجنّة.
ومنها : ما هو في حواصل طير خضر.
ومنها : ما تأوي إلى قناديل تحت العرش.
ومنها : ما هو في حواصل طير بيض.
ومنها : ما هو في حواصل طير كالزرازير.
ومنها : ما هو في أشخاص وصور من صور الجنّة.
ومنها : ما هو في صور تخلق لهم من ثواب أعمالهم. ومنها ما يسرح ويتردّد إلى جثّتها يزورها.
ومنها : ما يتلقّى أرواح الموتى. وممّن سوى ذلك ما هو في كفالة ميكائيل عليهالسلام.
ومنها : ما هو في كفالة آدم عليهالسلام.
ومنها : ما هو في كفالة إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
قال القرطبيّ رحمهالله تعالى : وهذا قول حسن ، فإنّه يجمع الأخبار حتى لا تدافع ، والله تعالى أعلم.