علي بن عبدالكافي بن علي أبوالحسن الأنصاري الخزرجي المصري الشافعي [ تقي الدين السبكي ]
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دائرة المعارف العثمانيّة
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٣٢
قال : «إن شئتَ دعوتُ ، وإن شئتَ صبرتَ ، فهو خير لك».
قال : فادعه.
قال : فأمره أن يتوضّأ فيحسن وضوءه ، ويدعو بهذا الدعاء : «اللهمّ إنّي أسألك وأتوجّه إليك بنبيّك محمّد نَبِيّ الرحمة ، يا محمّد ، إنّي توجّهت بك إلى ربّي في حاجتي ليقضي لي ، اللهمّ شفّعه في».
قال الترمذيّ : هذا حديث حسن صحيح غريب ، لا نعرفه إلّا من هذا الوجه من حديث أبي جعفر الخطميّ.
ورواه النسائي في اليوم والليلة (١) عن محمود بن غيلان بإسناده نحوه.
وعن محمّد بن معمر ، عن حبّان ، عن حمّاد ، عن أبي جعفر ، عن عمارة بن خزيمة ، عن عثمان بن حنيف نحوه.
وعن زكريّا بن يحيى ، عن ابن مثنى ، عن معاذ بن هشام ، عن أبيه ، عن أبي جعفر ، عن أبي امامة بن سهل بن حنيف ، عن عمّه عثمان نحوه.
وأخرجه ابن ماجة في الصلاة (٢) عن أحمد بن منصور بن سيّار ، عن عثمان بن عمر بإسناده نحوه.
وروّيناه في «دلائل النبوة» (٣) للحافظ أبي بكر البيهقيّ ، ثمّ قال البيهقيّ : وزاد محمّد بن يونس في روايته : فقام وقد أبصر.
قال البيهقي : ورويناه في «كتاب الدعوات» (٤) بإسناد صحيح عن روح بن
__________________
(١) اليوم والليلة ، للنسائي (ص ٤١٧). ومسند أحمد (٤ / ١٣٨) والبخاري في تاريخه (٦ / ٢٠٩).
(٢) سنن ابن ماجة (١ / ٤٤١) باب ما جاء في صلاة الحاجة ورواه أحمد في المسند (٤ / ١٣٨) وسنن الترمذي (٥ / ٢٢٩) ومستدرك الحاكم (١ / ٣١٣ و ٥٢٦).
(٣) دلائل النبوّة للبيهقي (٦ / ١٦٦) وفيه : فيجلي لي بصري. ورواه أحمد في مسنده (٤ / ١٣٨) وقد مرّ تخريجه عن الترمذي وغيره.
(٤) الدعوات الكبير للبيهقي (ص ٢٥١) ح ٢٠٤.
عبادة ، عن شعبة قال : ففعل الرجل فبرأ.
قال : وكذلك رواه حمّاد بن سلمة عن أبي جعفر الخطميّ.
ثمّ روى بإسناده عن روح بن القاسم ، عن أبي جعفر المدينيّ ـ وهو الخطميّ ـ عن أبي امامة بن سهل بن حنيف ، عن عمّه عثمان بن حنيف فذكره ، وفي آخره : «يا محمّد ، إنّي أتوجّه بك إلى ربّي فيجلي عن بصري ، اللهمّ شفّعه فيَّ ، وشفّعني في نفسي».
قال عثمان : فو الله ما تفرّقنا ولا طال الحديث حتّى دخل الرجل وكأنّه لم يكن به ضرّ قطّ.
وسنذكر هذا الحديث أيضاً في التوسّل بالنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم بعد موته من طريق الطبرانيّ والبيهقيّ.
وقد كفانا الترمذيّ والبيهقيّ رحمهماالله بتصحيحهما مئونة النظر في تصحيح هذا الحديث ، وناهيك به حجّة في المقصود.
فإن اعترض معترض : بأنّ ذلك إنّما كان لأنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم شفع فيه ، فلهذا قال له أن يقول : «إنّي توجّهت إليك بنبيّك».
قلت : الجواب من وجوه :
أحدها : سيأتي أنّ عثمان بن عفّان وغيره استعملوا ذلك بعد موته صلىاللهعليهوآلهوسلم وذلك يدلّ على أنّهم لم يفهموا اشتراط ذلك.
الثاني : أنّه ليس في الحديث أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم بيّن له ذلك.
الثالث : أنّه ولو كان كذلك لم يضرّ في حصول المقصود ؛ وهو جواز التوسّل إلى الله بغيره ؛ بمعنى السؤال به ، كما علّمه النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وذلك زيادة على طلب الدعاء منه ، فلو لم يكن في ذلك فائدة لما علّمه النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وأرشده إليه ، ولقال له : إنّي قد شفّعت فيك ، ولكن لعلّه صلىاللهعليهوآلهوسلم أراد أن يحصل من صاحب الحاجة التوجّه بِذُلّ الاضطرار
والافتقار والانكسار ، ومستغيثاً بالنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم فيحصل كمال مقصوده.
ولا شكّ أنّ هذا المعنى حاصل في حضرة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وغيبته في حياته وبعد وفاته ؛ فإنّا نعلم شفقته صلىاللهعليهوآلهوسلم على امّته ، ورفقه بهم ، ورحمته لهم ، واستغفاره لجميع المؤمنين وشفاعته ، فإذا انضمّ إليه توجّه العبد به حصل هذا الغرض الذي أرشد النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم الأعمى إليه.
[التوسّل بالنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بعد موته]
الحالة الثالثة : أن يتوسّل بذلك بعد موته صلىاللهعليهوآلهوسلم
لما رواه الطبرانيّ رحمهالله في «المعجم الكبير» (١) في ترجمة (عثمان بن حنيف) ، وذلك في الجزء الخمسين ، فإنّ أوّل الجزء الخمسين مَنْ اسمه (طفيل) ، وآخره «جعلني إمامهم وأنا أصغرهم» قبل ترجمة (عمّار بن طلحة) ، قال في هذا الجزء الخمسين :
حدثنا طاهر بن عيسى بن قريش (٢) المصريّ المقرئ ، حدثنا أصبغ بن الفرج ، حدثنا ابن وهب ، عن أبي سعيد المكّي ، عن روح بن القاسم ، عن أبي جعفر الخطميّ المدنيّ ، عن أبي امامة بن سهل بن حنيف ، عن عمّه عثمان بن حنيف : أنّ رجلاً كان يختلف إلى عثمان بن عفان رضى الله عنه في حاجة له ، فكان عثمان لا يلتفت إليه ، ولا ينظر في حاجته ، فلقي ابن حنيف فشكا ذلك إليه.
فقال له عثمان بن حنيف : ايت الميضاة فتوضّأ ، ثمّ ايت المسجد فصلّ فيه
__________________
(١) المعجم الكبير للطبراني (٩ / ١٧) رقم ٨٣١١ ، وخرجه المعلق : رواه الطبراني في المعجم الصغير (١ / ١٨٣) وصحّحه ، وفي كتاب الدعاء له. ورواه ابن السني في عمل اليوم والليلة (ص ٢٠٩) رقم (٦٢٨) والحاكم في المستدرك (١ / ٥٢٦) والبيهقي في دلائل النبوّة (٦ / ١٦٧).
(٢) في (ه) : قبرس.
ركعتين ، ثمّ قل : اللهمّ إنّي أسألك وأتوجّه إليك بنبيّنا محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم نبيّ الرحمة ، يا محمّد ، إنّي أتوجّه إليك إلى ربّك فيقضي حاجتي.
وتذكر حاجتك ، ورُحْ حتّى أروح معك.
فانطلق الرجل ، فصنع ما قال له ، ثمّ أتى باب عثمان بن عفّان ، فجاءه البوّاب حتّى أخذ بيده ، فأدخله على عثمان بن عفّان ، فأجلسه معه على الطنفسة فقال : ما حاجتك؟ فذكر حاجته ، وقضاها له ، ثمّ قال له : ما ذكرت حاجتك حتّى كان الساعة ، وقال : ما كانت لك من حاجة فاذكرها.
ثمّ إنّ الرجل خرج من عنده ، فلقي عثمان بن حنيف فقال له : جزاك الله خيراً ، ما كان ينظر في حاجتي ولا يلتفت إليّ حتّى كلّمته في.
فقال عثمان بن حنيف : والله ما كلّمته ، ولكنّي شهدت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وأتاه ضرير فشكا إليه ذهاب بصره فقال له النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم : «أو تصبر؟».
فقال : يا رسول الله ، إنّه ليس لي قائد ، وقد شقّ عليّ.
فقال له النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم : «ايت الميضاة فتوضّأ ، ثمّ صلّ ركعتين ، ثمّ ادع بهذه الدعوات».
قال ابن حنيف : فو الله ، ما تفرّقنا وطال بنا الحديث حتّى دخل علينا الرجل كأنّه لم يكن به ضرر قطّ.
حدثنا إدريس بن جعفر العطّار ، حدثنا عثمان بن عمر بن فارس ، حدثنا شعبة ، عن أبي جعفر الخطميّ ، عن أبي امامة بن سهل بن حنيف ، عن عمّه عثمان بن حنيف ، عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم نحوه.
ورواه البيهقيّ (١) بإسناده عن أبي جعفر المدينيّ ، عن أبي امامة بن سهل بن
__________________
(١) دلائل النبوة للبيهقي
حنيف : أنّ رجلاً كان يختلف إلى عثمان بن عفّان ، فذكره بنحو ممّا سبق.
رواه من طريقين ؛ أحدهما : عن عبد الملك بن أبي عثمان الزاهد ، أنا أبو بكر محمّد بن عليّ بن إسماعيل الشاشيّ القفال ، أنا أبو عروبة ، حدثنا العبّاس بن الفرج ، حدثنا إسماعيل بن شبيب ، حدثنا أبي ، عن روح بن القاسم ، عن أبي جعفر.
والاحتجاج من هذا الأثر ؛ لفهم عثمان رضي الله تعالى عنه ومن حضره الذين هم أعلم بالله ورسوله ، وفعلهم.
النوع الثاني : التوسّل به ؛ بمعنى طلب الدعاء منه ، وذلك في أحوال :
[حديث الاستسقاء بالنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في حياته]
إحداها : في حياته صلىاللهعليهوآلهوسلم
وهذا متواتر ، والأخبار طافحة به ، ولا يمكن حصرها ، وقد كان المسلمون يفزعون إليه ويستغيثون به في جميع ما نابهم ، كما في «الصحيحين» (١) : أنّ رجلاً دخل المسجد يوم الجمعة ، ورسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قائم يخطب ، فاستقبل رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قائماً قال : يا رسول الله ، هلكت الأموال ، وانقطعت السبُل ، فادع الله تعالى يغيثنا.
فرفع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يديه ، ثمّ قال : «اللهمّ أغثنا ، اللهمّ أغثنا».
فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس ، فلمّا توسّطت السماء انتشرت ، ثمّ أمطرت.
قال : فلا والله ما رأينا الشمس سبتاً ... الحديث.
__________________
(١) الصحيحان : البخاري (٢ / ٤٥٥) كتاب الاستسقاء ، باب (٦٤٣) الاستسقاء يوم الجمعة ، وفيه : ستّاً. ومسلم (٢ / ٢٤) كتاب صلاة الاستسقاء.
وروى البيهقي في دلائله (١) عن أبي وجزة يزيد بن عبد (٢) السلميّ (٣) قال : لمّا قفل رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم من غزوة تبوك أتاه وفد بني فزارة ... إلى أن قال : فقالوا : يا رسول الله ، أسنتت بلادنا ، وأجدبت جنّاتنا ، وعريت عيالنا ، وهلكت مواشينا ، فادع ربّك أن يغيثنا ، واشفع لنا إلى ربّك ، ويشفع ربّك إليك.
فقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «سبحان الله ، ويلك ، إن أنا شفعت إلى ربّي فمن ذا الذي يشفع ربّنا إليه؟! الله لا إله إلّا هو العظيم ، وسع كرسيّه السموات والأرض ، وهو يَئِطُّ من عظمته وجلاله ...» وذكر بقيّة الحديث.
إلى أن قال : فقام رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فصعد المنبر ، وفيه : كان ممّا حفظ من دعائه : «اللهمّ اسق بلدك وبهيمتك ، وانشر رحمتك ، وأحي بلدك الميّت ...» وذكر دعاء وحديثاً طويلاً.
وفي «سنن أبي داود» (٤) في كتاب السنّة عن جبير بن مطعم قال : أتى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أعرابيّ فقال : يا رسول الله ، جهدت الأنفس ، وضاعت العيال ، ونهكت الأموال ، وهلكت الأنعام ، فاستسق الله لنا ؛ فإنّا نستشفع بك على الله ، ونستشفع بالله عليك.
قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «ويحك ، أتدري ما تقول؟! إنّه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه ؛ شأن الله أعظم من ذلك ...» وذكر حديث الأطيط.
وفي إسناده محمّد بن إسحاق وعنعنته ، فإن ثبت فهو موافق لمقصودنا ، فإنّه لم ينكر الاستشفاع به ، وإنّما أنكر الاستشفاع بالله ، ولعلّ سبب ذلك أنّ شأن الشافع
__________________
(١) دلائل النبوّة للبيهقي (٦ / ١٤٣) باب استسقاء النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وفيه : السلمي بدل (السعدي).
(٢) في (ه) : عبيد.
(٣) في (ه) : السعديّ.
(٤) سنن أبي داود (٤ / ٢٣٢) كتاب السنّة ، باب الجهميّة ح ٤٧٢٦ وهو حديث الأطيط!
أن يتواضع للمشفوع عنده.
وروي عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال : جاء أعرابيّ إلى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فقال : يا رسول الله ، أتيناك وما لنا صبيّ يصطبح ، ولا بعير يئطّ ، وأنشد :
أتيتك والعذراء تدمي لبانها |
|
وقد شغلت امّ الصبيّ عن الطفل |
وألقى بكفّيه الفتى لاستكانة |
|
من الجوع هوناً ما يمرّ ولا يحلي |
ولا شيء ممّا يأكل الناس عندنا |
|
سوى الحنظل العامي والعلهز الفسل |
وليس لنا إلّا إليك فرارنا |
|
واين فرار الناس إلّا إلى الرسل |
فقام رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يجرّ رداءه حتّى صعد المنبر ، فرفع يديه ثمّ قال : «اللهمّ اسقنا ...» وذكر الدعاء إلى أن قال : فما ردّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم يده حتّى ألقت السماء بأرواقها ، وجاء أهل البطانة يضجّون (١) : الغرق ، الغرق.
فقال النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم : «حوالينا ولا علينا» فانجاب السحاب عن المدينة حتّى أحدق بها كالإكليل ، وضحك النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم حتّى بدت نواجذه.
ثمّ قال : «لله درّ أبي طالب ، لو كان حيّاً قرّت عيناه ، من ينشدنا قوله؟».
فقال علي بن أبي طالب رضى الله عنه : يا رسول الله ، كأنّك تريد قوله :
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه |
|
ثمال اليتامى عصمة للأرامل |
يطوف به الهلّاك من آل هاشم |
|
فهم عنده في نعمة وفواضل |
كذبتم وبيت الله نبزي محمداً |
|
ولمّا نطاعن حوله ونناضل |
ونسلمه حتّى نصرّع حوله |
|
ونذهل عن أبنائنا والحلائل |
فقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «أجل» (٢).
__________________
(١) في (ه) : يصيحون.
(٢) دلائل النبوّة للبيهقي (٦ / ١٤٠ ـ ١٤٢) وفيه اختلاف في متن الأشعار.
فقام رجل من كنانة رضي الله تعالى عنه فقال :
لك الحمد والحمد ممّن شكر |
|
سقينا بوجه النبيّ المطر |
دعا الله خالقه دعوة |
|
إليه وأشخص منه البصر |
فلم يك إلّا كما ساعة |
|
وأسرع حتّى رأينا الدرر |
دفاف العَزاليّ جمّ البعاق |
|
أغاث به الله عَليا مضر |
فكان كما قاله عمّه |
|
أبو طالبٍ أبيض ذو غرر |
فمن يشكر الله يلقى المزيد |
|
ومن يكفر الله يلقى الغبر |
فقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «إن يك شاعر أحسن فقد أحسنت».
والأحاديث والآثار في ذلك أكثر من أن تحصى ، ولو تتبّعتها لوجدت منها ألواناً.
ونصّ قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ ...) الآية ، صريح في ذلك.
[استسقاء عمر بالعبّاس عم النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم]
وكذلك يجوز ويحسن مثل هذا التوسّل بمن له نسبة من النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم كما كان عمر ابن الخطّاب رضى الله عنه إذا قحط استسقى بالعبّاس بن عبد المطّلب رضى الله عنه ويقول : اللهمّ إنّا كنّا إذا قحطنا توسّلنا بنبيّنا فتسقينا ، وإنّا نتوسّل إليك بعمّ نبيّنا محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم فاسقنا.
قال : فيسقون ، رواه البخاريّ من حديث أنس (١).
__________________
(١) صحيح البخاري (٢ / ٤٥٣) كتاب الاستسقاء ، باب (٦٤٠) سؤال الناس الإمام إنْ قُحطوا ، ح (٩٤٧).
واستسقى به عام الرمادة فسقوا ، وفي ذلك يقول عبّاس بن عتبة بن أبي لهب :
بعمّي سقى الله الحجاز وأهله |
|
عشيّة يستسقي بشيبته عمر (١) |
واستسقى حمزة بن القاسم الهاشميّ ببغداد فقال : «اللهمّ إنّا من ولد ذلك الرجل الذي استسقى بشيبته عمر بن الخطّاب فسقوا» ، فما زال يتوسّل بهذه الوسيلة حتّى سقوا.
وروي أنّه لمّا استسقى عمر بالعبّاس ، وفرغ عمر من دعائه ، قال العباس : اللهمّ إنّه لم ينزل من السماء بلاء إلّا بذنب ، ولا يكشف إلّا بتوبة ، وقد توجّه بي القوم إليك لمكاني من نبيّك صلىاللهعليهوآلهوسلم وهذه أيدينا إليك بالذنوب ، ونواصينا بالتوبة ... وذكر دعاء ، فما تمّ كلامه حتّى ارتخت (٢) السماء بمثل الجبال.
وكذلك يجوز مثل هذا التوسّل بسائر الصالحين ، وهذا شيء لا ينكره مسلم ، بل متديّن بملّة من الملل.
فإن قيل : لِمَ توسّل عمر بن الخطّاب بالعبّاس ، ولم يتوسّل بالنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أو بقبره؟
قلنا : ليس في توسّله بالعبّاس إنكار للتوسّل بالنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أو بالقبر.
وقد روي عن أبي الجوزاء قال : قحط أهل المدينة قحطاً شديداً فشكوا إلى
__________________
و (٥ / ٨٢) كتاب فضائل أصحاب النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم باب (٤١) ذكر العبّاس ح ٢٢٩ ، وانظر فتح الباري (٢ / ٤٩٤) ، وأورده البغوي في شرح السنة (٣ / ٤٠٩) والبيهقي في دلائل النبوّة (٦ / ١٤٧) وفي السنن الكبرى (٣ / ٣٥٢).
(١) مرّ حديثه ، وأورده الحاكم في المستدرك (٣ / ٣٣٤) وفيه قول عمر : واتخذوه وسيلة إلى الله فيما نزل بكم.
ولاحظ مِنَح المدح لابن سيد الناس (ص ١٩١ ـ ١٩٢)
(٢) في الهندية : ارتجت.
عائشة رضي الله عنها ، فقالت : فانظروا قبر النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم فاجعلوا منه كوى إلى السماء حتّى لا يكون بينه وبين السماء سقف.
ففعلوا فمطروا ، حتّى نبت العشب ، وسمن الإبل ، حتّى تفتّقت من الشحم ، فسمّي «عام الفتق».
ولعلّ توسّل عمر بالعبّاس لأمرين :
أحدهما : ليدعو كما حكينا من دعائه.
والثاني : أنّه من جملة من يستسقي وينتفع بالسقاء ، وهو محتاج إليها ، بخلاف النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم في هذه الحالة ، فإنّه مستغنٍ عنها ، فاجتمع في العبّاس الحاجة وقربُهُ من النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وشيبته ، والله تعالى يستحي من ذي الشيبة المسلم ، فكيف من عمّ نبيّه صلىاللهعليهوآلهوسلم!! ويجيب دعاء المضطرّ ، فلذلك استسقى عمر بشيبته.
[التفرقة بين الألفاظ!]
فإن قال المخالف : أنا لا أمنع التوسّل والتشفّع ؛ لما قدّمتم من الآثار والأدلّة ، وإنّما أمنع إطلاق «التجوّه» و «الاستغاثة» لأنّ فيهما إيهام أنّ المتجوّه به والمستغاث به ، أعلى من المتجوّه عليه والمستغاث عليه.
قلنا : هذا لا يعتقده مسلم ، ولا يدلّ لفظ «التجوّه» و «الاستغاثة» عليه.
فإنّ «التجوّه» من الجاه والوجاهة ، ومعناه علوّ القدر والمنزلة ، وقد يتوسّل بذي الجاه إلى من هو أعلى جاهاً منه.
و «الاستغاثة» طلب الغوث ، فالمستغيث يطلب من المستغاث به أن يحصل له الغوث من غيره ، وإن كان أعلى منه.
فالتوسّل والتشفّع والتجوّه والاستغاثة بالنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وسائر الأنبياء والصالحين ، ليس لها معنى في قلوب المسلمين غير ذلك ، ولا يقصد بها أحد منهم
سواه ، فمن لم ينشرح صدره لذلك فليبك على نفسه ، نسأل العافية.
وإذا صحّ المعنى فلا عليك في تسميته «توسّلاً» أو «تشفّعاً» أو «تجوّهاً» أو «استغاثة».
ولو سُلّمَ أنّ لفظ «الاستغاثة» يستدعي النصر على المستغاث منه ، فالعبد يستغيث على نفسه وهواه والشيطان وغير ذلك ممّا هو قاطع له عن الله تعالى بالنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وغيره من الأنبياء والصالحين ، متوسّلاً بهم إلى الله تعالى ليغيثه على من استغاث منه من النفس وغيرها ، والمستغاث به في الحقيقة هو الله تعالى والنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم واسطة بينه وبين المستغيث.
[التوسّل بالنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم في عرصات القيامة]
الحالة الثانية : بعد موته صلىاللهعليهوآلهوسلم في عرصات القيامة ؛ بالشفاعة منه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وذلك ممّا قام الإجماع عليه ، وتواترت الأخبار به ، وسنذكر تفاصيل الشفاعة المجمع عليها والمختلف فيها في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى (١).
[التوسّل بالنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم في البرزخ]
الحالة الثالثة : المتوسّطة في مدّة البرزخ
وقد ورد في هذا النوع فيها أيضاً : أنا أبو بكر بن يوسف بن عبد العظيم المعروف ب «ابن الصباح» بقراءتي عليه في المجلّد الحادية عشرة من «دلائل النبوّة» للبيهقيّ قال : أنا أبو الكرم لاحق بن عبد المنعم بن قاسم الأرتاحيّ قراءة عليه وأنا أسمع ، أنا أبو محمّد المبارك بن عليّ بن الحسين البغدادي المعروف ب «ابن الطبّاخ» أنا
__________________
(١) راجع الباب العاشر.
الشيخ السديد أبو الحسن عبيد الله بن محمّد بن أحمد البيهقيّ ، أنا جدّي الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقيّ ، أنا أبو نصر بن قتادة وأبو بكر الفارسيّ قالا : أخبرنا أبو عمر بن مطر ، حدثنا إبراهيم بن عليّ الذهليّ ، حدثنا يحيى بن يحيى ، أنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن مالك الدار قال : أصاب الناس قحط في زمان عمر بن الخطّاب رضى الله عنه فجاء رجل إلى قبر النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم فقال : يا رسول الله ، استسق الله لُامّتك فإنّهم قد هلكوا.
فأتاه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في المنام فقال : «ائت عمر فأقرئه السلام ، وأخبره أنّهم مسقون ، وقل له : عليك الكيس ، الكيس».
فأتى الرجل عمر فأخبره ، فبكى عمر رضى الله عنه ثمّ قال : يا ربّ ما آلو إلّا ما عجزت عنه (١).
ومحلّ الاستشهاد من هذا الأثر طلبه الاستسقاء من النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم بعد موته في مدّة البرزخ ، ولا مانع من ذلك ؛ فإنّ دعاء النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم لربّه تعالى في هذه الحالة غير ممتنع ، وقد وردت الأخبار على ما ذكرنا ، ونذكر طرفاً منه.
وعلمه صلىاللهعليهوآلهوسلم بسؤال من يسأله ورد أيضاً.
ومع هذين الأمرين فلا مانع من أن يسأل الله صلىاللهعليهوآلهوسلم الاستسقاء ، كما كان يسأل في الدنيا.
__________________
(١) دلائل النبوّة للبيهقي (٧ / ٤٧) وقد أورده ابن أبي شيبة في المصنف (١٢ / ٣١ ـ ٣٢) وابن حجر في الإصابة (٣ / ٤٨٤) والقرطبي في الاستيعاب (٢ / ٤٦٤). وانظر فتح الباري (٢ / ٤٩٥) ، والبداية والنهاية لابن كثير (٧ / ١٠١) ، وجامع المسانيد ـ مسند عمر ـ (١ / ٢٢٣) ، وقد أقر ابن تيمية بثبوته في اقتضاء الصراط له (ص ٣٧٣).
وقد فصل الاستاذ المحمود السعيد الممدوح في رفع المنارة (ص ٢٦٢ ـ ٢٧٨) في الكلام عليه وعلى إسناده ، وردّ في نحر الألباني المتمسلف في تضعيفه ، فراجع.
[التوسُّل بالنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم بتسبُّبه]
النوع الثالث من التوسّل : أن يطلب منه ذلك الأمر المقصود بمعنى أنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم قادر على التسبّب فيه بسؤاله ربّه وشفاعته إليه.
فيعود إلى النوع الثاني في المعنى وإن كانت العبارة مختلفة.
ومن هذا قول القائل للنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم : أسألك مرافقتك في الجنّة ، قال : «أعنّي على نفسك بكثرة السجود».
والآثار في ذلك كثيرة أيضاً.
ولا يقصد الناس بسؤالهم ذلك إلّا كون النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم سبباً وشافعاً ، وكذلك جواب النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وإن ورد على حسب السؤال.
كما روّينا في «دلائل النبوّة» (١) للبيهقيّ بالإسناد إلى عثمان بن أبي العاص قال : شكوت إلى النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم سوء حفظي للقرآن ، فقال : «شيطان يقال : خنزب ، ادن منّي يا عثمان». ثمّ وضع يده على صدري ، فوجدت بردها بين كتفيّ ، وقال : «اخرج يا شيطان من صدر عثمان».
قال : فما سمعت بعد ذلك شيئاً إلّا حفظته.
فانظر أمر النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم بالخروج للشيطان ؛ للعلم بأنّ ذلك بإذن الله تعالى وخلقه وتيسيره.
وليس المراد نسبة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى الخلق والاستقلال بالأفعال!! هذا لا يقصده مسلم ، فصرف الكلام إليه ومنعه ، من باب التلبيس في الدين ، والتشويش على عوام الموحّدين.
__________________
(١)
دلائل النبوّة للبيهقي (٥ / ٣٠٧) باب تعليم النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم عثمان بن أبي العاص.
[لا حرجَ في الألفاظ كلها]
وإذ قد تحرّرت هذه الأنواع والأحوال في الطلب من النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وظهر المعنى ، فلا عليك في تسميته «توسّلاً» أو «تشفّعاً» أو «استغاثة» أو «تجوّهاً» أو «توجّهاً» لأنّ المعنى في جميع ذلك سواء :
أمّا التشفّع : فقد سبق في الأحاديث المتقدّمة قول وفد بني فزارة للنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم : تشفّع لنا إلى ربّك ، وفي حديث الأعمى ما يقتضيه أيضاً.
والتوسّل : في معناه.
وأمّا التوجّه والسؤال : ففي حديث الأعمى.
والتجوّه : في معنى التوجّه ، قال تعالى في حقّ موسى عليهالسلام : (وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً).
وقال في حقّ عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام : (وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ).
وقال المفسّرون وَجِيهَاً أي ذا جاه ومنزلة عنده.
وقال الجوهريّ في فعل «وجه» : وجه إذا صار وجيهاً ذا جاه وقدرٍ.
وقال الجوهريّ أيضاً في فعل «جوه» : الجاه القدر والمنزلة ، وفلان ذو جاه ، وقد أوجهته ووجّهته أنا ؛ أي جعلته وجيهاً (١).
وقال ابن فارس : فلان وجيه ؛ ذو جاه (٢).
إذا عرف ذلك ؛ فمعنى «تجوّه» توجّه بجاهه ، وهو منزلته وقدره عند الله تعالى إليه.
__________________
(١) الصحاح للجوهري (٦ / ٢٢٣١) جوه.
(٢) مجمل اللغة (٣ / ٩١٧) (وجه) وما يثلّثها.
[الاستغاثة]
وأمّا الاستغاثة : فهي طلب الغوث.
وتارة : يطلب الغوث من خالقه ؛ وهو الله تعالى وحده ، كقوله تعالى : (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ).
وتارة : يطلب ممّن يصحّ إسناده إليه على سبيل الكسب ، ومن هذا النوع الاستغاثة بالنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم في هذين القسمين.
وتعدّي الفعل تارة : بنفسه ، كقوله تعالى : (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ). (فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ) وتارة : بحرف الجرّ ، كما في كلام النحاة في المستغاث به ، وفي «كتاب سيبويه» رحمهالله تعالى : فاستغاث بهم ليشتروا له كليباً.
فيصحّ أن يقال : «استغثت النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم» و «أستغيث بالنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم» بمعنى واحد ؛ وهو طلب الغوث منه بالدعاء ونحوه على النوعين السابقين في التوسّل من غير فرق ، وذلك في حياته وبعد موته.
ويقول : «استغثت الله» و «أستغيث بالله» بمعنى طلب خلق الغوث منه ، فالله تعالى مستغاث ، فالغوث منه خلقاً وإيجاداً ، والنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم مستغاث ، والغوث منه تسبّباً وكسباً ، ولا فرق في هذا المعنى بين أن يستعمل الفعل متعدّياً بنفسه ، أو لازماً ، أو تعدّى بالباء.
وقد تكون الاستغاثة بالنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم على وجه آخر ؛ وهو أن يقول : «استغثت الله بالنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم» كما يقول : «سألت الله بالنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم» فيرجع إلى النوع الأوّل من أنواع التوسّل ، ويصحّ قبل وجوده وبعد وجوده ، وقد يحذف المفعول به ويقال : «استغثت بالنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم» بهذا المعنى.
فصار لفظ «الاستغاثة بالنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم» له معنيان :
أحدهما : أن يكون مستغاثاً.
والثاني : أن يكون مستغاثاً به ، والباء للاستعانة.
فقد ظهر جواز إطلاق «الاستغاثة» و «التوسّل» جميعاً ، وهذا أمر لا يشكّ فيه ؛ فإنّ «الاستغاثة» في اللغة طلب الغوث ، وهذا جائز لغة وشرعاً من كلّ من يقدر عليه بأيّ لفظ عبّر عنه ، كما قالت امّ إسماعيل : أغث إن كان عندك غواث.
وقد روّينا في «المعجم الكبير» (١) للطبرانيّ حديثاً ظاهره قد يقدح في هذا :
قال الطبرانيّ : حدثنا أحمد بن حمّاد بن زغبة المصريّ ، حدثنا سعيد بن عفير ، حدثنا ابن لهيعة ، عن الحارث بن يزيد ، عن عليّ بن رباح ، عن عبادة قال : قال أبو بكر رضى الله عنه : قوموا نستغيث برسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم من هذا المنافق.
فقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «إنّه لا يستغاث بي ، إنّما يستغاث بالله عزوجل».
وهذا الحديث في إسناده عبد الله بن لهيعة ، وفيه كلام مشهور ، فإن صحّ الحديث فيحتمل معاني :
أحدها : أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم كان قد أجرى على المنافقين أحكام المسلمين بأمر الله تعالى ، فلعلّ أبا بكر ومن معه استغاثوا بالنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ليقتله ، فأجاب بذلك ؛ بمعنى أنّ هذا من الأحكام الشرعيّة التي لم ينزل الوحي بها ، وأمرها إلى الله تعالى وحده ، والنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أعرف الخلق بالله تعالى ، فلم يكن يسأل ربّه تغيير حكم من الأحكام الشرعيّة ، ولا يفعل فيها إلّا ما يؤمر به ، فيكون قوله : «لا يستغاث بي» عامّاً مخصوصاً ؛ أي لا يستغاث بي في هذا الأمر ؛ لأنّه ممّا يستأثر الله تعالى به.
ولا شكّ أنّ من أدب السؤال أن يكون المسئول ممكناً ، فكما أنّا لا نسأل الله تعالى إلّا ما هو في ممكن القدرة الإلهيّة (٢) ، كذلك لا نسأل النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم إلّا ما يمكن أن
__________________
(١) المعجم الكبير للطبراني.
(٢) أي في ما قدّر الله تعالى إمكانَه ، فلو قدّر امتناعَهُ فهو جارٍ على ما قدّر من الامتناع ، وتعالى أن يتناقض تقديره وفعله ، فلاحظ. وكتب السيّد
يجيب إليه.
والثاني : أن يكون ذلك من باب قوله : «ما أنا حملتكم ، ولكنّ الله حملكم» أي أنا وإن استغيث بي ، فالمستغاث به في الحقيقة هو الله تعالى ، وكثيراً ما تجيء السنّة بنحو هذا من بيان حقيقة الأمر ، ويجيء القرآن بإضافة الفعل إلى مكتسبه ، كقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «لن يُدخل أحداً منكم الجنّة عمله» مع قوله تعالى : (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).
وقال صلىاللهعليهوآلهوسلم لعلّي : «لإن يهدي الله بك رجلاً واحداً ...».
فسلك الأدب في نسبة الهداية إلى الله تعالى ، وقد قال تعالى : (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) فنسب الهداية إليهم ، وذلك على سبيل الكسب ، ومن هذا قوله تعالى لنبيّه صلىاللهعليهوآلهوسلم : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ).
وأمّا قوله تعالى : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) فالأحسن أن يكون المراد به التسلية ، والحمل عن قلب النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم في عدم إسلام عمّه أبي طالب!!! فكأنّه قد قيل : «أنت وفيت بما عليك ، وليس عليك خلق هدايته ؛ لأنّ ذلك ليس إليك ، فلا تذهب نفسك عليه».
وبالجملة : إطلاق لفظ «الاستغاثة» بالنسبة لمن يحصل منه غوث ـ إمّا خلقاً وإيجاداً ، وإمّا تسبّباً وكسباً ـ أمر معلوم لا شكّ فيه لغة وشرعاً ، ولا فرق بينه وبين السؤال ، فتعيّن تأويل الحديث المذكور.
وقد قيل : إنّ في البخاريّ في حديث الشفاعة يوم القيامة (١) : فبينما هم كذلك استغاثوا بآدم ، ثمّ بموسى ، ثمّ بمحمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم وهو حجّة في إطلاق لفظ «الاستغاثة».
ولكنّ ذلك لا يحتاج إليه ؛ لأنّ معنى «الاستغاثة» و «السؤال» واحد سواء عبّر
__________________
(١) صحيح البخاري (٤ / ١١٣) و (٥ / ٢٢٨) ومفصّلاً في (٨ / ٢٠١).
عنه بهذا اللفظ ، أم بغيره ، والنزاع في ذلك نزاع في الضروريات ، وجوازه شرعاً معلوم ، فتخصيص هذه اللفظة بالبحث ممّا لا وجه له ، وإنكار السؤال بالنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم مخالف لما قدّمناه من الأحاديث والآثار وما أشرنا إليه ممّا لم نذكره.
الباب التاسع :
في
حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام
[والشهداء ، وحال سائر الموتى]
قد تضمّنت الأحاديث المتقدّمة أنّ روح النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم تردّ عليه ، وأنّه يسمع ويردّ السلام ، فاحتجنا إلى النظر فيما قد قيل في ذلك بالنسبة إلى الأنبياء وسائر الموتى ، وقد رتّبنا الكلام في هذا الباب على فصول :