شفاء السّقام في زيارة خير الأنام صلى الله عليه وآله

علي بن عبدالكافي بن علي أبوالحسن الأنصاري الخزرجي المصري الشافعي [ تقي الدين السبكي ]

شفاء السّقام في زيارة خير الأنام صلى الله عليه وآله

المؤلف:

علي بن عبدالكافي بن علي أبوالحسن الأنصاري الخزرجي المصري الشافعي [ تقي الدين السبكي ]


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دائرة المعارف العثمانيّة
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٣٢

ينبغي أن يتردّد فيه.

وقوله : «إنّ أكثر العلماء قالوا : يستقبله عند السلام خاصّة».

التقييد بقوله : «خاصّة» يُطلب بنقله؟

بل مقتضى كلام أكثر العلماء من الشافعيّة والمالكيّة والحنابلة : الاستقبال عند السلام والدعاء.

وذكر النقل في استقبال القبلة عن أبي حنيفة رحمه‌الله ليس في المشهور من كتب الحنفيّة ، بل غالب كتبهم ساكتة عن ذلك.

وقد قدّمنا (١) عن أبي حنيفة رحمه‌الله أنه قال : جاء أيوب السختيانيّ فدنا من قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاستدبر القبلة ، وأقبل بوجهه إلى القبر.

وقال إبراهيم الحربيّ في مناسكه : تولّي ظهرك القبلة ، وتستقبل وسطه ؛ يعني القبر ، ذكره الآجريّ عنه في كتاب الشريعة (٢) ، وذكر السلام والدعاء.

قوله : «ولم يقل أحد من الأئمّة : أنّه يستقبل القبر عند الدعاء ، إلّا في حكاية مكذوبة تروى عن مالك ، ومذهبه بخلافها».

أمّا إنكاره ذلك عن أحد من الأئمّة : فقد قدّمنا (٣) عن أبي عبد الله السامريّ الحنبليّ صاحب كتاب «المستوعب في مذهب أحمد» أنّه قال : يجعل القبر تلقاء وجهه ، والقبلة خلف ظهره ، والمنبر عن يساره ، وذكر كيفيّة السلام والدعاء إلى آخره.

وظاهر ذلك أنّه يستقبل القبلة في السلام والدعاء جميعاً.

وهكذا أصحابنا وغيرهم ، إطلاق كلامهم يقتضي أنّه لا فرق في استقبال القبر

__________________

(١) قدّمناه (ص ١٧٠).

(٢) ص ١٤٩.

(٣) ص ١٥٧.

٢٨١

بين حالتي السلام والدعاء ، وكذا ما قدّمناه الآن عن إبراهيم الحربيّ.

وقد صرّح أصحابنا بأنّه يأتي القبر الكريم ، فيستدبر القبلة ، ويستقبل جدار القبر ، ويبعد من رأس القبر نحو أربعة أذرع ، فيسلّم على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ يتأخّر عن صوب يمينه ، فيسلّم على أبي بكر رضى الله عنه ، ثمّ يتأخر أيضاً ، فيسلّم على عمر رضى الله عنه ، ثمّ يرجع إلى موقفه الأوّل قبالة وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويتوسّل به في حقّ نفسه ، ويستشفع به إلى ربّه سبحانه وتعالى ويقول حكاية العتبيّ (١) ، ثمّ يتقدّم إلى رأس القبر ، فيقف بين القبر والاسطوانة التي هناك ، ويستقبل القبلة ، ويحمد الله تعالى ويمجّده ، ويدعو لنفسه ولوالديه ومن شاء بما أحبّ.

وحاصله : أنّ استقبال القبلة في الدعاء حسن ، واستقبال القبر أيضاً حسن ، لا سيّما حالة الاستشفاع به ومخاطبته ، ولا أعتقد أنّ أحداً من العلماء كره ذلك ، ومن ادعى ذلك فليثبته.

وقوله : «إنّ الحكاية عن مالك مكذوبة».

فقد قدّمنا أنّ هذه الحكاية رواها القاضي عياض ، عن القاضي أبي عبد الله محمّد بن عبد الرحمن الأشعريّ ، وأبي القاسم أحمد بن بقيّ الحاكم ، وغير واحد فيما أجازوه ، قالوا : حدثنا أحمد بن عمر بن دلهاث ، حدثنا عليّ بن فهر ، حدثنا محمّد بن أحمد بن الفرج ، حدثنا أبو الحسن عبد الله بن المنتاب ، حدثنا يعقوب بن إسحاق بن أبي إسرائيل ،

__________________

(١) قصّة العُتْبي مذكورة في أكثر مصادر مسألة الزيارة ، وجاءت في كتب الحديث ، والفقه ، والتاريخ ، فذكرها النووي في (الأذكار) (٥ / ٤٢ ـ ٤٣) المطبوع مع الفتوحات الربّانية وانظر هامشه (ص ٣٩). لكنها محذوفة من طبعة السعوديين السلفيين ، الامناء! في الرياض عام ١٤٠٩ ه‍.

وانظر المغني لابن قدامة (٣ / ٥٨٩) والشرح الكبير (٣ / ٤٩٤) وكشاف القناع للبهوتيّ (٢ / ٥١٥) والثلاثة الأخيرات من كتب فقه الحنبلية. وانظر الأحكام السلطانية للماوردي (ص ١٠٩ ـ ١١٠) ودفع الشبه للحِصْني (ص ١٤٢ ـ ١٤٤).

٢٨٢

حدثنا ابن حميد قال : ناظر أبو جعفر أمير المؤمنين مالكاً في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ... فذكرها.

إلى أن قال أبو جعفر : يا أبا عبد الله ، أستقبل القبلة وأدعو ، أم أستقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟

فقال : ولِمَ تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه‌السلام الى الله تعالى يوم القيامة؟! بل استقبله واستشفع به ، فيشفّعك الله تعالى.

هكذا ذكرها القاضي عياض في «الشفاء» في الباب الثالث في تعظيم أمره ، ووجوب توقيره وبرّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) ولم يعقبها بإنكار ، ولا قال : إنّ مذهبه بخلافها ، بل قال في الباب الرابع (٢) في فصل في حكم زيارة قبره : قال مالك في رواية ابن وهب : وهو إذا سلّم على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودعا ، يقف وجهه إلى القبر ، لا إلى القبلة ، ويدنو ويسلّم ، ولا يمسّ القبر بيده.

فهذا نصّ عن مالك من طريق أجلّ أصحابه ـ وهو عبد الله بن وهب أحد الأئمّة الأعلام ـ صريح في أنّه يستقبل عند الدعاء القبر ، لا القبلة.

وذكر القاضي عياض أنّه قال في «المبسوط» : لا أرى أن يقف عند القبر يدعو ، ولكن يسلّم ويمضي (٣).

قلت : فالاختلاف بين «المبسوط» ورواية ابن وهب في كونه يقف للدعاء أو لا ، وليس في الاستقبال.

وقد قدّمنا عن كثير من كتب المالكيّة أنّه يقف ويدعو ، ولم نرَ أحداً منهم قال : بأنّه إذا وقف عند القبر يستدبره ويدعو ، ولا يجعله إلى جانبه.

__________________

(١) الشفاء للقاضي عياض ، الباب الثالث (٢ / ١٩٨) الفصل ٩.

(٢) الشفاء للقاضي عياض ، الباب الرابع.

(٣) الشفاء (٢ / ١٩٩).

٢٨٣

فكيف يحلّ لذي علم أن يدّعي : أنّ مذهب مالك ، بل مذهب جميع العلماء ، بخلاف الحكاية المذكورة.

ويجعل ذلك وسيلة إلى تكذيبها وتكذيب ناقليها بمجرّد الوهم والخيال! من غير دليل اقتضى له ذلك إلّا مجرّد شيء قام في نفسه؟!

وقد ذكر القاضي عياض إسنادها ، وهو إسناد جيد :

أمّا القاضي عياض : فناهيك به نبلاً وجلالة وثقة وأمانة وعلماً ومجمعاً عليه.

وشيخه أبو القاسم أحمد بن محمّد بن أحمد بن مخلّد بن عبد الرحمن بن أحمد ابن بقيّ بن مخلّد : من بيت العلم والجلالة ، ذكره ابن بشكوال ، وذكر شيوخه الذين سمع منهم ، ثمّ قال : وكتب إليه أبو العباس العذريّ بالإجازة ، وشُوور بالأحكام بقرطبة ، فصار صدر المفتين بها لسنّه وتقدّمه ، وهو من بيت علم ونباهة ، وفضل وصيانة ، وكان ذاكراً للمسائل والنوازل ، دريّاً بالفتوى ، بصيراً بنقد الشروط وعللها ، مقدّماً في معرفتها ، أخذ الناس عنه ، ولد في شعبان سنة ستّ وأربعين وأربعمائة ، وتوفّي في سلخ سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة.

وذكر ابن بشكوال أيضاً أبا عبد الله محمّد بن عبد الرحمن بن عليّ بن سعيد بن عبد الله بن سيرين : يكنى أبا عبد الله ، كان من أهل العلم والمعرفة والفهم ، عالماً بالفروع والاصول ، واستقضي بإشبيلية ، وحمدت سيرته ، توفّي سنة ثلاث وخمسمائة ، كتب إليّ القاضي أبو الفضل بوفاته (١).

قلت : والظاهر أنّه الذي وصفه القاضي عياض بالأشعري.

وشيخهم أبو العباس أحمد بن عمر بن أنس بن دلهاث العدويّ : قال أبو

__________________

(١) الصلة لابن بشكوال.

٢٨٤

القاسم خلف بن عبد الملك بن مسعود بن موسى بن بشكوال : رحل إلى المشرق مع أبويه سنة سبع وأربعمائة ، وصلوا إلى بيت الله الحرام في شهر رمضان سنة ثمان ، وجاوروا أعواماً ، وانصرف عن مكّة سنة ستّ عشرة ، فسمع بالحجاز سماعاً كثيراً ، وصحب الشيخ الحافظ أبا ذر الهرويّ ، وسمع منه «صحيح البخاريّ» سبع مرّات ، وكان معتنياً بالحديث ونقله ، وروايته وضبطه ، مع ثقته وجلالة قدره ، وعلوّ إسناده ، سمع الناس منه ، وحدّث عنه كبار العلماء : ابن عبد البرّ ، وابن حزم ، وأبو عليّ الغسّاني وجماعة.

قال أبو عليّ : أخبرني أبو العبّاس أنّ مولده في ذي القعدة سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة ، وتوفّي في آخر شعبان سنة ثمان وسبعين وأربعمائة ، ودفن بالمدينة.

وشيخه أبو الحسن عليّ بن الحسن بن عليّ بن فهر الرازيّ المصريّ الحافظ : روى عن الحسن بن رشيق ، وإسماعيل بن أبي محمّد الأزديّ ، وروى مسند «الموطّأ» عن مؤلّفه [في] (١) الحرم ، وسمعه منه بمصر ، روى عنه البيهقيّ.

وشيخه محمّد بن أحمد بن محمّد بن الفرج ؛ أبو بكر المعرّي الجزائري القماح (٢) ، توفّي في ذي القعدة سنة ثمان وستّين وثلاثمائة ، وذكره ابن السمعانيّ في الجزائريّ (٣) ، ذكره القراب عن المالينيّ قال : وقال ابن المنذر : هو ثقة.

وشيخه أبو الحسن عبد الله بن المنتاب ؛ هو عبد الله بن محمّد بن المنتاب القاضي ، روى عنه أبو الحسن الجوزيّ ـ أحد أئمّة أصحابنا ـ مقروناً بأبي بكر النيسابوريّ حديثَ : «الإسلام أن تسلم وجهك ، فتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحجّ البيت وتعتمر».

__________________

(١) كلمة [في] ساقطة من النسخ ، فلتلاحظ.

(٢) في (ه) : العماج.

(٣) الأنساب للسمعاني (الجزائري) ظهر ص ١٢٩ ، من طبعة مرجليوث.

٢٨٥

وشيخه يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم بن كامجر المعروف والده ب «إسحاق بن أبى إسرائيل» : حدّث عن أبيه ، وداود بن رشيد ، وأحمد بن عبد الصمد الأنصاريّ ، والحسن بن شبيب ، وعمر بن شبّة النميريّ ، روى عنه المفضّل بن سلمة ، وعبد الصمد الطنيبيّ (١) ، وأبو القاسم الطبرانيّ ، قال الدارقطنيّ : لا بأس به ، ذكره الخطيب (٢).

وشيخه ابن حميد : أظنّ أنّه أبو سفيان محمّد بن حميد المعمّري ؛ فإنّ الخطيب ذكره في الرواة عن مالك ، وأنّه قال : كتب عن مالك موطّأه ، أرانيه فجعل يعرضه عليّ ويقول : قلت في كسوة المسلمين في كفّارة اليمين كذا ، أليس هذا حسناً؟

فإن يكنه فهو ثقة ، روى له مسلم ، توفّي سنة اثنتين ومائتين ، وقيل له : المعمريّ ، لأنّه رحل إلى معمّر.

فانظر إلى هذه الحكاية ، وثقة رواتها ، وموافقتها لما رواه ابن وهب عن مالك ، وحسبك بابن وهب! فقد قيل : كان الناس بالمدينة ؛ يختلفون في الشيء عن مالك ، فينتظرون قدوم ابن وهب حتّى يسألوه عنه.

وقال ابن بكير : ابن وهب أفقه من ابن القاسم.

ولنا هاهنا طرق :

إحداها : الأخذ برواية ابن وهب فقط ؛ لرجحانها.

الثانية : الاعتراف بالروايتين ، وأنّ هذا ليس من الاختلاف في حلال وحرام ، ولا في مكروه ، فإنّ استقبال القبلة حسن ، واستقبال القبر حسن.

الثالثة : لو ثبت له ما زعمه من استقبال القبلة خاصّة ، وعدم استقبال القبر عند الدعاء ، فأيّ شيء يلزم من ذلك؟ وهل هذا إلّا كما إذا قلت : «المصلّي يستقبل

__________________

(١) في (ه) : الطبسيّ.

(٢) تاريخ بغداد (١٤ / ٢٩١) وفيه : الطستي.

٢٨٦

القبلة ، ولا يستقبل القبر» فهل لهذا مدخل في الزيارة؟!

ولفظة [مكذوبة] (١).

مَنْ كان من العوام يربأ بنفسه عن هذا الكلام ، فضلاً عن علماء الإسلام!؟!.

وقد طالعت عدّة كتب من كتب المالكيّة ، فلم أرَ فيها عن أحد المنع من استقبال القبر في الدعاء ، ولا كراهة ذلك ، ولا أنّه خلاف الأولى ، غير ما قدّمته عن «المبسوط» وليس ذلك في أنّه يدعو غير مستقبل ، كما ادعاه ابن تيمية!

والذي ادعى ابن تيمية أنّه مذهب مالك ، ومذهب جميع العلماء ، وأنّه إذا سلّم مستقبل القبر ، وأراد الدعاء استدبر القبر ، ولأجله ردّ الحكاية المذكورة عنه ، لم نلقه في شيء من كتب المالكيّة! ولا من كتب غيرهم.

وقد قدّمت في الباب الرابع من كلام المالكيّة في الزيارة جملة ، وبقيت جملة أذكرها هاهنا :

قال أبو الحسن اللخميّ في «التبصرة» في باب من جاء مكّة ليلاً أو بعد العصر أو الصبح : ويبتدئ في مسجد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بركعتين ـ تحيّة المسجد ـ قبل أن يأتي القبر ويسلّم ، وهذا قول مالك.

وقال ابن حبيب : يقول إذا دخل : «بسم الله ، وسلام على رسول الله» ؛ يريد أنّه يبتدئ بالسلام من موضعه ، ثمّ يركع ، ولو كان دخوله من الباب الذي بناحية القبر ومروره عليه ، فوقف فسلّم ، ثمّ تمادى إلى موضع يصلّي فيه لم يكن ضيّقاً ، انتهى كلام اللخميّ.

__________________

(١) ما بين المعقوفين ساقط من النسخ ومحله في الهندية : (؟) علامة استفهام بين القوسين ، والظاهر أن الإمام السبكي انتقد ابن تيميّة في إطلاقه هذه اللفظة على حكاية مالك ، كما في نص فتواه التي سبق نقلها في ص ٢٨١ ولاحظ ٢٦٨ و ٢٨٢.

٢٨٧

وقال ابن بشير المالكيّ في كتاب «التنبيه على مبادي التوجيه» في دخول مكّة ، وحكم الطواف والركوع والسعي : والأولى لمن دخل المدينة الابتداء بالركوع في مسجده ، ثمّ ينصرف الداخل إلى القبر ، فيسلّم على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويكثر من الصلاة عليه ، ثمّ يدعو في نفسه بما أحبّ ، ثمّ يسلّم على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، ويستحبّ له أن يفعل ذلك عند خروجه من المدينة.

وظاهر هذا الكلام أنّه يدعو مستقبل القبر.

وقال ابن يونس المالكيّ في باب فرائض الحجّ ، والغسل لها ، ودخول المدينة ، وصفة الإحرام والتلبية : قال ابن حبيب : ويقول إذا دخل مسجد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : بسم الله ، السلام على رسول الله ، السلام علينا من ربّنا ، صلّى الله وملائكته على محمّد ، اللهمّ اغفر لي ذنوبي ، وافتح لي أبواب رحمتك وجنّتك ، ي نظفحاو من الشيطان.

ثمّ اقصد إلى الروضة ـ وهي ما بين القبر والمنبر ـ فاركع فيها ركعتين قبل وقوفك بالقبر ؛ تحمد الله تعالى ، وتسأله تمام ما خرجت له ، والعون عليه ، وإن كانت ركعتان في غير الروضة اجزأتا عنك ، وفي الروضة أفضل ، وقد قال عليه‌السلام : «ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنّة ، ومنبري على ترعة من ترع الجنّة».

قال ابن حبيب : ثمّ اقصد إذا قضيت ركعتيك إلى القبر من وجاه القبلة ، فادْن منه ، ثمّ سلّم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأثن عليه ، وعليك السكينة والوقار ؛ فإنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يسمع ويعلم وقوفك بين يديه ، وتسلّم على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، وتدعو لهما ، وأكثر الصلاة في مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام بالليل والنهار ، ولا تدع أن تأتي مسجد قباء وقبور الشهداء ، انتهى.

وناهيك بهذا الكلام من ابن حبيب رحمه‌الله ، وتصريحه وجزمه بأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يسمع كلام المسلّم عليه ، ويعلم وقوفه بين يديه.

٢٨٨

وابن حبيب رحمه‌الله من أجلّة العلماء.

وقال النوويّ في كتاب «رءوس المسائل» عن الحافظ أبي موسى الأصبهانيّ : إنّه روى عن مالك بن أنس الإمام رحمه‌الله أنّه قال : إذا أراد الرجل أن يأتي قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيستدبر القبلة ، ويستقبل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويصلّي عليه ويدعو.

ورأيت في شرح كتاب عبد الله بن عبد الحكم الكبير ، لأبي بكر محمّد بن عبد الله بن صالح الأبهريّ في كتاب الجامع : قال ابن وهب : سئل مالك : أين يقف من أراد التسليم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من القبر؟

قال : عند الزاوية التي تلي القبلة ممّا يلي المنبر مستقبل القبلة ، ولا احبّ أنّ يمسّ القبر بيده.

إنّما قال ذلك لأنّه شاهد الناس يسلّمون على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاستحبّ الاقتداء بهم ، ولا يمسّ قبره ولا حائطه ؛ تعظيماً له ، ولأنّ ذلك لم يكن عليه فعل من مضى.

وهذه النسخة يحتمل أن تكون غلطاً ؛ لأنّ رواية ابن وهب عن مالك ـ كما تقدّم (١) ـ أنّ المسلّم يستقبل القبر ، لا القبلة ، ويشهد لها رواية أبي موسى ، وكلام المالكيّة.

ويحتمل أن يكون عنه في ذلك روايتان ، إحداهما : كمذهب أبي حنيفة رحمه‌الله والاخرى : هي المشهورة.

ولو ثبت عن مالك وعن غيره أنّ الأولى استقباله القبلة في الدعاء لا القبر ، لم يكن في ذلك شيء من منع الزيارة ولا السفر ، ولا مانعاً من تعظيم القبر.

ومن اعتقد ذلك فقد ضلّ.

وكلّ ما ذكره بعد ذلك تقدّم الجواب عنه ، وأنّه لا يدلّ على مقصوده.

__________________

(١) تقدّم ص ٢٨٣.

٢٨٩
٢٩٠

الباب الثامن :

في

التوسّل ، والاستغاثة ، والتشفّع بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

٢٩١
٢٩٢

اعلم : أنّه يجوز ويحسن التوسّل ، والاستغاثة ، والتشفّع بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى ربّه سبحانه وتعالى.

وجواز ذلك وحسنه من الامور المعلومة لكلّ ذي دين ، المعروفة من فعل الأنبياء والمرسلين ، وسير السلف الصالحين ، والعلماء والعوامّ من المسلمين.

ولم ينكر أحد ذلك من أهل الأديان ، ولا سمع به في زمن من الأزمان ، حتّى جاء ابن تيمية ، فتكلّم في ذلك بكلام يلبّس فيه على الضعفاء الأغمار ، وابتدع ما لم يسبق إليه في سائر الأعصار.

ولهذا طعن في الحكاية التي تقدّم ذكرها عن مالك ؛ فإنّ فيها قول مالك للمنصور : «استشفع به».

ونحن قد بيّنا صحّتها ، ولذلك أدخلنا الاستغاثة في هذا الكتاب لمّا تعرّض إليها مع الزيارة.

وحسبك أنّ إنكار ابن تيمية للاستغاثة والتوسّل ، قول لم يقله عالم قبله ، وصار بين أهل الإسلام مُثْلةً!!

٢٩٣

وقد وقفت له على كلام طويل (١) في ذلك رأيت من الرأي القويم أن أميل عنه إلى الصراط المستقيم ، ولا أتتبّعه بالنقض والإبطال ؛ فإنّ دأب العلماء القاصدين لإيضاح الدين وإرشاد المسلمين ، تقريب المعنى إلى أفهامهم ، وتحقيق مرادهم ، وبيان حكمه ، ورأيت كلام هذا الشخص بالضدّ من ذلك ، فالوجه الإضراب عنه.

وأقول : إنّ التوسّل بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جائز في كلّ حال : قبل خلقه ، وبعد خلقه ، في مدّة حياته في الدنيا ، وبعد موته ، في مدّة البرزخ ، وبعد البعث في عرصات القيامة والجنّة ، وهو على ثلاثة أنواع :

النوع الأوّل : أن يتوسّل به ؛ بمعنى أنّ طالب الحاجة يسأل الله تعالى به ، أو بجاهه ، أو ببركته.

فيجوز ذلك في الأحوال الثلاثة ، وقد ورد في كلّ منها خبر صحيح :

[حديث توسّل آدم عليه‌السلام بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم]

أمّا الحالة الاولى : قبل خلقه ، فيدلّ على ذلك آثار عن الأنبياء الماضين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، اقتصرنا منها على ما تبيّن لنا صحّته ؛ وهو ما رواه الحاكم أبو عبد الله بن البيّع في «المستدرك على الصحيحين أو أحدهما» (٢) قال :

__________________

(١) كلام ابن تيمية في الاستغاثة والتوسل.

في مجموع فتاوى ابن تيمية الجزء الأول صفحات عديدة منها (١٤٠ ـ ١٤١) و (٣١٥ ـ ٣٢٢) و (٣٤٢ ـ ٣٤٣) وغيرها ، وله كتاب باسم (التوسل والوسيلة) مطبوع.

(٢) المستدرك على الصحيحين ، للحاكم (٢ / ٦١٥) ، ورواه الآجري في الشريعة (ص ٤٢٧) وانظر ص ٤٢٢ ، ولاحظ الدر المنثور للسيوطي (١ / ٦٠).

وقد ذكر الإمام ابن الصدّيق في الرد المحكم المتين (ص ١٣٨ ـ ١٣٩) شاهداً للحديث ، أخرجه ابن الجوزي في الوفا بفضائل المصطفى كما في فتاوى ابن تيمية (٢ / ١٥٠) نقل ذلك الاستاذ المحمود في رفع المنارة (ص ٧ ـ ٢٤٨).

٢٩٤

حدثنا أبو سعيد عمرو بن محمّد بن منصور العدل (١) ، حدثنا أبو الحسن محمّد بن إسحاق ابن إبراهيم الحنظليّ ، حدثنا أبو الحارث عبد الله بن مسلم الفهريّ ، حدثنا إسماعيل ابن مسلمة ، أنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، عن جدّه ، عن عمر بن الخطّاب رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لمّا اقترف (٢) آدم عليه‌السلام الخطيئة (٣) قال : يا ربّ أسألك بحقّ محمّد لمّا غفرت لي.

فقال الله : يا آدم ، وكيف عرفت محمّداً ولم أخلقه؟

قال : يا ربّ لأنّك لمّا خلقتني بيدك ، ونفخت في من روحك ، رفعتُ رأسي ، فرأيتُ على قوائم العرش مكتوباً : لا إله إلّا الله ، محمّد رسول الله ، فعرفتُ أنّك لم تضف إلى اسمك إلّا أحبّ الخلق إليك.

فقال الله : صدقتَ يا آدم ، إنّه لأحبّ الخلق إليَّ ، إذ سألتني بحقّه فقد غفرتُ لك ، ولو لا محمّد ما خلقتك».

قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ، وهو أوّل حديث ذكرته لعبد الرحمن بن زيد بن أسلم في هذا الكتاب.

ورواه البيهقيّ أيضاً في «دلائل النبوّة» (٤) وقال : تفرّد به عبد الرحمن ،.

وذكره الطبرانيّ وزاد فيه : «وهو آخر الأنبياء من ذرّيتك» (٥).

__________________

(١) في (ه) : المعدّل.

(٢) في (ه) : اعترف.

(٣) في (ه) : بالخطيئة.

(٤) دلائل النبوّة للبيهقي (٥ / ٤٨٩) عن الحاكم.

(٥) لم يطبع من المعجم الكبير للطبراني مسند عمر! ولكنه موجود في المعجم الصغير (٢ / ٨٢) ، وانظر مجمع الزوائد (٨ / ١٥٣) فقد نقله عن الأوسط والصغير.

٢٩٥

[توسّل عيسى عليه‌السلام بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم]

وذكر الحاكم مع هذا الحديث أيضاً : عن عليّ بن حمّاد (١) العدل ، حدثنا هارون ابن العبّاس الهاشميّ ، حدثنا جندل بن والق ، حدثنا عمرو بن أوس الأنصاريّ ، حدثنا سعيد ابن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيّب ، عن ابن عبّاس قال : أوحى الله إلى عيسى عليه‌السلام : «يا عيسى ، آمن بمحمّد ، وأمر من أدركه من امّتك أن يؤمنوا به ، فلولا محمّد ما خلقتُ آدم ، ولولاه ما خلقتُ الجنّة والنار ، ولقد خلقتُ العرش على الماء فاضطرب ، فكتبتُ عليه : «لا إله إلّا الله» فسكن» (٢).

قال الحاكم : هذا حديث حسن صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه ، انتهى ما قاله الحاكم.

والحديث المذكور لم يقف عليه ابن تيمية بهذا الإسناد ، ولا بلغه أنّ الحاكم صحّحه.

فإنّه قال ـ أعني ابن تيمية ـ : «أمّا ما ذكره في قصّة آدم من توسّله ، فليس له أصل ، ولا نقله أحد عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإسناد يصلح الاعتماد عليه ، ولا الاعتبار ، ولا الاستشهاد».

ثمّ ادعى ابن تيمية أنّه كذب ، وأطال الكلام في ذلك جدّاً بما لا حاصل تحته ، بالوهم والتخرّص ، ولو بلغه أنّ الحاكم صحّحه لما قال ذلك ، أو لتعرّض للجواب عنه (٣).

__________________

(١) في (ه) حمشاد.

(٢) المستدرك للحاكم (٢ / ٦١٥).

(٣) لا ، بل هو متعمّد الكذب في مثل هذا المجال ، وقد تفطّن له الحافظ ابن حجر حيث قال في ترجمته في لسان الميزان : طالعت ردّ ابن تيميّة على الحلّي ، فوجدته كثير التحامل في ردّ الأحاديث التي يوردها الحلّي ، ورد [ابن تيميّة] في ردّه كثيراً من الأحاديث الجياد ، لسان الميزان (٦ / ٣١٩) من الطبعة الهندية. وانظر الدرر الكامنة لابن حجر (٢ / ٧١).

٢٩٦

وكأنّي به إن بلغه بعد ذلك : يطعن في «عبد الرحمن بن زيد بن أسلم» راوي الحديث.

ونحن نقول : قد اعتمدنا في تصحيحه على الحاكم ، وأيضاً : عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، لا يبلغ في الضعف إلى الحدّ الذي ادعاه.

وكيف يحلّ لمسلم أن يتجاسر على منع هذا الأمر العظيم الذي لا يردّه عقل ولا شرع؟

وقد ورد فيه هذا الحديث؟!

وسنزيد هذا المعنى صحّة وتثبيتاً بعد استيفاء الأقسام.

[وسّل نوح وإبراهيم وسائر الأنبياء بنبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم]

وأمّا ما ورد من توسّل نوح وإبراهيم وغيرهما من الأنبياء :

فذكره المفسّرون ، واكتفينا عنه بهذا الحديث ؛ لجودته وتصحيح الحاكم له.

[التعبير عن التوسّل والاستغاثة]

ولا فرق في هذا المعنى بين أن يعبّر عنه بلفظ «التوسّل» أو «الاستغاثة» أو «التشفّع» أو «التجوّه».

__________________

وقال الاستاذ عبد الفتاح أبو غدّة : ولشيخنا الكوثري الإمام الحسن بن زاهد رحمه‌الله : «التعقّب الحثيث لما ينفيه ابن تيميّة من الحديث» لا يزال مخطوطاً ، كذا في الرفع والتكميل في الجرح والتعديل للكهنوي ص ١٩٩ هامش.

وقال : وانظر لزاماً : الأجوبة الفاضلة للأسئلة العشرة الكاملة (ص ١٧٤ ـ ١٧٦) للمؤلّف اللكهنوي.

أقول : وانظر رفع المنارة (ه ص ٢٠ ـ ٢١) وقد ذكر مؤلّفه الفاضل : أن له جزءاً في الأحاديث التي ينكرها ابن تيمية ، لشططه!

٢٩٧

والداعي بالدعاء المذكور وما في معناه :

متوسّل بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنّه جعله وسيلة لإجابة الله دعاءه.

ومستغيث به ، والمعنى أنّه استغاث الله به على ما يقصده ، فالباء هاهنا للسببيّة ، وقد ترد للتعدية ، كما يقول : «من استغاث بك فأغثه».

ومستشفع به.

ومتجوّه به ، ومتوجّه ، فإنّ التجوّه والتوجّه راجعان إلى معنى واحد.

فإن قلت : المتشفّع بالشخص مَنْ جاء به ليشفع ، فكيف يصحّ أن يقال :

يتشفّع به؟

قلت : ليس الكلام في العبارة ، وإنّما الكلام في المعنى ؛ وهو سؤال اللهَ بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما ورد عن آدم ، وكما يفهم الناس من ذلك ، وإنّما يفهمون من التشفّع والتوسّل والاستغاثة والتجوّه ذلك ، ولا مانع من إطلاق اللغة بهذه الألفاظ على هذا المعنى.

والمقصود جواز أن يسأل العبدُ اللهَ تعالى بمن يقطع أنّ له عند الله قدراً أو مرتبة.

ولا شكّ أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له عند الله قدر عليٌّ ، ومرتبة رفيعة ، وجاه عظيم.

وفي العادة أنّ من كان له عند الشخص قدر ؛ بحيث أنّه إذا شفع عنده قبل شفاعته ، فإذا انتسب إليه شخص في غايته ، وتوسّل بذلك ، وتشفّع به ، فإنّ ذلك الشخص يجيب السائل ؛ إكراماً لمن انتسب إليه وتشفّع به ، وإن لم يكن حاضراً ولا شافعاً ، وعلى هذا التوسّل بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل خلقه.

ولسنا في ذلك سائلين غير الله تعالى ، ولا داعين إلّا إيّاه ، ويكون ذكر المحبوب أو العظيم سبباً للإجابة.

كما في الأدعية الصحيحة المأثورة : «أسألك بكلّ اسم لك ، وأسألك بأسمائك

٢٩٨

الحسنى ، وأسألك بأنّك أنت الله ، وأعوذ برضاك من سخطك ، وبمعافاتك من عقوبتك ، وبك منك».

وحديث الغار الذي فيه الدعاء بالأعمال الصالحة ، وهو من الأحاديث الصحيحة المشهورة (١).

فالمسئول في هذه الدعوات كلّها ؛ هو الله وحده لا شريك له ، والمسئول به مختلف ، ولم يوجب ذلك إشراكاً ، ولا سؤال غير الله.

كذلك السؤال بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليس سؤالاً للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بل سؤال لله به.

وإذا جاز السؤال بالأعمال وهي مخلوقة ، فالسؤال بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أولى.

ولا يسمع الفرق : بأنّ الأعمال تقتضي المجازاة عليها.

لأنّ استجابة الدعاء لم تكن عليها ، وإلّا لحصلت بدون ذكرها ، وإنّما كانت على الدعاء بالأعمال.

وليس هذا المعنى ممّا يختلف فيه الشرائع حتّى يقال : إنّ ذلك شرع من قبلنا ، فإنّه لو كان ذلك ممّا يخلّ بالتوحيد ، لم يحلّ في ملّة من الملل ؛ فإنّ الشرائع كلّها متّفقة على التوحيد.

وليت شعري ، ما المانع من الدعاء بذلك؟!

فإنّ اللفظ إنّما يقتضي أنّ للمسئول به قدراً عند المسئول.

وتارة : يكون المسئول به أعلى من المسئول :

إمّا الباري سبحانه وتعالى ، كما في قوله : «من سألكم بالله فأعطوه» وفي الحديث الصحيح في حديث أبرص وأقرع وأعمى : «أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن ، والجلد الحسن ...» الحديث ، وهو مشهور (٢).

__________________

(١) حديث الغار أخرجه البخاري في صحيحه (٣ / ٥١) باب من استأجر أجيراً ...

(٢) حديث الأبرص والأقرع والأعمى أخرجه البخاري في صحيحه (٤ / ١٤٦) و (٧ / ٢٢٣).

٢٩٩

وإمّا بعض البشر ، ويحتمل أن يكون من هذا القسم قولُ عائشة لفاطمة : أسألك بما لي عليك من الحقّ.

وتارة : يكون المسئول أعلى من المسئول به ، كما في سؤال الله تعالى بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنّه لا شكّ أنّ للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قدراً عنده ، ومن أنكر ذلك فقد كفر.

فمتى قال : «أسألك بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» فلا شكّ في جوازه.

وكذا إذا قال : «بحقّ محمّد».

والمراد بالحقّ الرتبة والمنزلة ، والحقّ الذي جعله الله على الخلق ، أو الحقّ الذي جعله الله بفضله له عليه ، كما في الحديث الصحيح قال : فما حقّ العباد على الله؟

وليس المراد بالحقّ الواجب ، فإنّه لا يجب على الله شيء ، وعلى هذا المعنى يحمل ما ورد عن بعض الفقهاء في الامتناع من إطلاق هذه اللفظة.

[حديث الأعمى المتوسّل بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم]

الحالة الثانية : التوسّل به بذلك النوع بعد خلقه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مدّة حياته :

فمن ذلك ما رواه أبو عيسى الترمذيّ في جامعه (١) في كتاب الدعوات ، قال : حدثنا محمود بن غيلان ، حدثنا عثمان بن عمر ، حدثنا شعبة ، عن أبي جعفر ، عن عمارة بن خزيمة ابن ثابت ، عن عثمان بن حنيف : أنّ رجلاً ضرير البصر أتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : ادع الله أن يعافيني.

__________________

(١) الجامع الصحيح (سنن الترمذي) كتاب الدعوات ح (٣٥٧٨) وسنن ابن ماجة (١ / ٤٤١) رقم (١٣٨٥) والطبراني في المعجم الكبير (٩ / ١٩) ، ومستدرك الحاكم (١ / ٣١٣ و ٥١٩) وصححه ووافقه الذهبي. واسد الغابة (٣ / ٥٥٧) ، ودلائل النبوّة للبيهقي (٦ / ١٦٦) ومن دعواته الكبير.

وللأستاذ العلّامة محمود السعيد : بحث قيّم حول أسانيد الحديث ، وفيه ردّ قويّ على الألباني المتمسلف المبتدع ، الذي ضعف الحديث ، فراجع رفع المنارة (ص ١٢٢ ـ ١٤٦).

٣٠٠