شفاء السّقام في زيارة خير الأنام صلى الله عليه وآله

علي بن عبدالكافي بن علي أبوالحسن الأنصاري الخزرجي المصري الشافعي [ تقي الدين السبكي ]

شفاء السّقام في زيارة خير الأنام صلى الله عليه وآله

المؤلف:

علي بن عبدالكافي بن علي أبوالحسن الأنصاري الخزرجي المصري الشافعي [ تقي الدين السبكي ]


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دائرة المعارف العثمانيّة
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٣٢

مالكاً رحمه‌الله عن أن يستدلّ بالحديث على هذا المقصود ، وأوجبنا تأويل كلامه على إرادة البقعة لعينها.

وهكذا القاضي عياض ، فإنّه قال في «الإكمال» (١) : قوله عليه الصلاة والسلام : «لا تشدّ الرحال إلّا إلى ثلاثة مساجد» فيه تعظيم هذه المساجد ، وخصوصها بشدّ الرحال إليها ؛ لأنّها مساجد الأنبياء عليهم‌السلام ، وتفضيل الصلاة فيها ، وتضعيف أجرها ، ولزوم ذلك لمن نذره ، بخلاف غيرها ممّا لا يلزم ولا يباح شدّ الرحال إليها ؛ لا لناذر ، ولا لمتطوّع ، بهذا النهي ، إلّا ما ألحقه محمّد بن مسلمة من مسجد قباء.

وهذا الكلام من القاضي عياض ليس فيه تعرّض لزيارة الموتى أصلاً ، ولا يجوز أن ينقل ذلك عنه بتصريح ولا بإشارة ، وإنّما أشار به إلى غير الثلاثة من المساجد.

[عنوان المسألة في كتب الفقه]

فإن قلت : قد قال ابن قدامة الحنبليّ في كتاب «المغني» (٢) : فصل : فإن سافر لزيارة القبور والمشاهد فقال ابن عقيل : لا يباح له الترخّص ؛ لأنّه منهيّ عن السفر إليها ، قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تشدّ الرحال إلّا إلى ثلاثة مساجد».

والصحيح إباحته ، وجواز القصر فيه ؛ لأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يأتي قباء ماشياً وراكباً ، وكان يزور القبور ، وقال : «زوروها تذكّركم الآخرة».

وأمّا قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تشدّ الرحال إلّا إلى ثلاثة مساجد» فيحمل على نفي

__________________

(١) الإكمال للقاضي عياض.

(٢) المغني لابن قدامة (٢ / ١٠٣).

٢٤١

الفضيلة ، لا على التحريم ، وليست الفضيلة شرطاً في إباحة القصر ، ولا يضرّ انتفاؤها.

قلت : قد وقفت على كلام ابن قدامة المذكور ، وترجمته بالسفر لزيارة القبور والمشاهد ، ولم أقف على كلام ابن عقيل ، فإن كان في المشاهد ، أو في قصدها مع الزيارة ، فلا يرد علينا ؛ لأنّه من باب قصد الأمكنة ، وهذا هو الظاهر من استدلاله بالحديث على ما تقرّر ، وكلامنا إنّما هو في مجرّد قصد الزيارة للميّت من غير قصد البقعة أصلاً ، وليس في كلام ابن عقيل ولا ابن قدامة تصريح بذلك ، بل كلامه يشير إلى أنّه إنّما تكلّم في القبور التي بنيت عليها المشاهد ، وقبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يدخل في ذلك ؛ لأنّ مكانه لا يسمّى «مشهداً».

ولو سلّمنا اندراجه في مدلول كلامه فيجب تخصيصه ، وحمل كلامه على ما سواه.

وإذا كنّا نخصص كلام الله وكلام رسوله بالأدلّة ، فأيّ شيء كلام ابن عقيل حتّى لا نخصّص ؛ إذا أحسنّا الظنّ به؟!

والموجب لتخصيص هذا القبر الشريف عن سائر القبور ، الأدلّة الواردة في زيارته على الخصوص ، وإطباق الناس على السفر إليه ، فإن لم يعتبر ابن عقيل هذه الأدلّة لفوّقت سهام التخطئة إليه ، وردّ كلامه عليه ، ولكنّه لم يثبت بحمد الله عندنا ذلك عنه.

فإن قلت : قد أكثرت من التفرقة بين البقعة ، وقصد مَنْ فيها ، وسلّمت أنّ قصد البقعة داخل تحت الحديث ، والزيارة لا بدّ فيها من قصد البقعة ، فإنّ السلام والدعاء يحصل من بعد ، كما يحصل من قرب ، وهو مقصود الزيارة.

قلت : قصد البقعة لما اشتملت عليه ليس بمحذور ، ولا نقول بنفي الفضيلة عنه ، وإنّما قلنا ذلك في قصد البقعة لعينها ، أو لتعظيم لم يشهد به الشرع.

على أنا نقول : إنّه لا يلزم من الزيارة أن يكون للبقعة مدخل في القصد

٢٤٢

الباعث ، بل تارة : يكون ذلك مقصوداً ، وتارة : يجرّد قصد الشخص المزور من غير شعور بما سواه.

وقوله : «إنّ مقصود الزيارة يحصل من بُعد» ممنوع ؛ فإنّ الميّت يعامل معاملة الحيّ ، فالحضور عنده مقصود ، ألا ترى أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا خرج فيه ليلة عائشة إلى البقيع ، فقام فأطال القيام ، ثمّ رفع يديه ثلاث مرّات ... الحديث المشهور ، وفيه : أنّ عائشة سألته فقال : «إنّ جبرئيل أتاني فقال : إنّ ربّك عزوجل يأمرك أن تأتي أهل البقيع وتستغفر لهم».

قالت فقلت : كيف أقول لهم يا رسول الله؟

قال : قُولي : «السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ، يرحم الله المستقدمين منّا والمستأخرين ، وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون» رواه مسلم (١).

فانظر كيف خرج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى البقيع بأمر الله تعالى يستغفر لأهله ، ولم يكتفِ بذلك من الغيبة ، وهذا أصل في الإتيان إلى القبور لزيارة أهلها للاستغفار لهم.

وقد سألت عائشة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كيف تقول؟ تعني إذا فعلت كفعله ، وعلّمها ، وفي ذلك دليل على أنّه يجوز لها وللنساء ، الإتيان إلى القبور لهذا الغرض ؛ لأنّ سؤالها ذلك كان بعد رجوعهما إلى البيت ، فلم يكن المقصود منه : كيف أقول الآن؟ وإنّما معناه كيف أقول مرّة اخرى؟ فلو كان لا يجوز لها ذلك لبيّنه لها.

__________________

(١) صحيح مسلم (٣ / ٦٣) كتاب الجنائز ، باب ما يقال عند دخول القبر.

٢٤٣

وليس هذا المقصود هنا ، فإنّا نذكره إن شاء الله تعالى في موضع آخر (١).

وإنّما المقصود هنا أنّ الحضور عند القبر لسبب زيارة من فيه والدعاء مطلوب ، وليس ذلك من باب قصد الأمكنة ، ولا دلّ الحديث على امتناعه ، ولا قال به أحد من العلماء.

[فتاوى مُخْتَلقَة مزوّرة باسم علماء بغداد (٢)]

وقد أحضر إليّ بعض الناس صورة فتاوى منسوبة لبعض علماء بغداد في هذا الزمان ، لا أدري هل هي مختلقة من بعض الشياطين الذين لا يحسنون؟ أو هي صادرة ممّن هو متّسم بسمة العلم ، وليس من أهله؟ :

فأوّلها : فتيا مالكيّ قال فيها : قد نصّ الشيخ أبو محمّد الجويني في كتبه على تحريم السفر لزيارة القبور ، وهو اختيار القاضي الإمام عياض في إكماله (٣).

__________________

(١) يأتي.

(٢) نسب هذه الفتاوى ولفظها السلفيّ محمد بن عبد الهادي الذي انتصر لابن تيميّة ، وقد نقل نصّ فتواه ، ثمّ عقّبها بقوله : وقد وصل ما أجاب به الشيخ في هذه المسألة إلى «علماء بغداد» فقاموا في الانتصار له ، وكتبوا بموافقته ، ورأيتُ خطوطهم بذلك ، وهذه صورة ما كتبوا ، العقود الدرية (ص ٣٤٢) ونقله في مجموع فتاوى ابن تيميّة (٢٧ / ١٩٣).

ثمّ أوردها ، وهي كما عرفت بلا سَنَدٍ ولا صادرة عن اناسٍ معروفين بل كلّها أسماء نكرات ، ومنقولاتهم فيها مزيّفة وكاذبة ، واستدلالاتهم باطلة ، كما ستعرف.

ولقد أغرق ابن عبد الهادي في التعصّب لما ادّعى في (الصارم ص ١٥) أن هذه الفتاوى مشهورة! ممّا شاع خبرها وذاع واشتهر أمرها وانتشر! وهي صحيحة ثابتة ، متواترة!

ولاحظ المقارنة بين قوله (مشهورة) و (متواترة)!!

(٣) هذا النص في مجموع فتاوى ابن تيمية (١٣ / ١٩٧) وهو الجواب الثاني ، كتبه محمد بن عبد الرحمن البغدادي الخادم للطائفة المالكية بالمدرسة الشريفة المستنصرية.

٢٤٤

ولقد كذب في هذا النقل عن الشيخ أبي محمّد والقاضي عياض جميعاً ... ثمّ أطال الكلام بما لا فائدة فيه.

وثانيها : فتيا شافعيّ قال فيها : إنّ المفهوم من كلام العلماء ونظّار العقلاء ، أنّ الزيارة ليست عبادة وطاعة بمجرّدها (١).

فإن أراد المفهوم عنده فلا علينا منه ، ونقول له : المفهوم عند العلماء خلافه.

ثمّ قال : إنّ من اعتقد جواز الشدّ إلى غير ما ذكر أو وجوبه أو ندبه ، كان مخالفاً لصريح النهي ، ومخالفة النهي معصية إمّا كفرا وغيره ؛ على قدر المنهيّ عنه ووجوبه وتحريمه.

ويكفي هذا الكلام ضحكةً على ما قاله أن يجعل المنهيّ عنه منقسماً إلى وجوب وتحريم ، دع سوء فهمه للحديث.

وثالثها : فتيا آخر شارك فيها الأوّل في النقل عن الشيخ أبي محمّد والقاضي عياض.

وقد تقدّم جوابه ، وأساء الفهم في الحديث ، كما أساءه غيره.

ورابعها : فتيا آخر ليس فيها طائل.

وكلّهم خلط مع ذلك ما لا طائل تحته ، والأقرب أنّها مختلقة ، وأنّ مثلها لا يصدر عن عالم ، وإنّما ذكرتها هنا لتضمّنها النقل عن الشيخ أبي محمّد والقاضي عياض الذي تعرّضت هنا لإفساده.

__________________

(١) هذا النص في مجموع فتاوى ابن تيمية (١٣ / ١٩٦) وهو الجواب الأول لمحرّره ابن الكتبي الشافعي.

٢٤٥

[ابن تيميّة يمنع الزيارة مطلقاً ، لا شدّ الرحل إليها فقط] (١)

تنبيه : قد يتوهّم من استدلال الخصم بهذا الحديث : أنّ نزاعه قاصر على السفر للزيارة ، دون أصل الزيارة.

وليس كذلك ، بل نزاعه في الزيارة أيضاً ؛ لما سنذكره في الشبهتين الثانية والثالثة ، وهما :

كون الزيارة على هذا الوجه المخصوص بدعة.

وكونها من تعظيم غير الله المفضي إلى الشرك ، وما كان كذلك كان ممنوعاً.

وعلى هاتين الشبهتين بنى كلامه ، وأصل الخيال الذي سرى إليه منهما لا غير ، وهو عامّ في الزيارة والسفر إليها.

__________________

(١) لقد كذّب ابن عبد الهادي هذه النسبة ، ونفى أن يكون ابن تيمية منع عن مطلق الزيارة ، وهو عمدة عمله في الصارم المنكي ، لكن ما نقله المصنّف من كلام ابن تيميّة واضح الدلالة على ذلك ، وقد أفردنا له كتاب «الزيارة» فراجع.

ثمّ أورد ابن عبد الهادي أجوبة اخرى بعنوان : «ووقفت على كتاب ورد مع أجوبة أهل بغداد وصورته : ...» ، وقد ذكر هذا مكرراً ، وذكر أجوبة ليس فيها طائل ، كما ذكر المؤلّف الإمام السبكي.

وهكذا يعتمد على الرقاع والمكاتيب التي لا سند لها ولا خطم ولا أزمّة ، ويعتبرها شيئاً ، بينما لو فعل غير السلفية هذا ، لأقامت الدنيا وما أقعدتها؟ باعتبار اعتماد شيء لا سند له ، وهي الرقاع ، والمكاتيب ، إلى آخر حملاتهم الشنعاء على أهل العلم وكتب العلم ، وأنهم صحفيون!!

ثمّ ما حجّة كلام هؤلاء ، أمام الحجج الشرعية والنصوص الإلهية والنبوية الدالّة على مشروعيّة أعمال العباد القاصدين بها القربة وامتثال أوامر الرسول والأئمّة الامناء على الناس ديناً ودنياً.

ثمّ لما ذا خصّت بغداد وعلماؤها الأعلام! بهذا النقض للأحكام الصادرة من سلطان مصر؟ أليس يستشم منها رائحة السياسة التي يسير في فلكها السلفية الأميريّون أتباع الحكّام الظلمة والامراء الفسقة في كل عصر ومصر!

٢٤٦

ولهذا يدّعي هو : أنّ الأحاديث الواردة في زيارة قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلّها ضعيفة ، بل موضوعة (١).

ويستدلّ بقوله : «لا تتخذوا قبري عيداً» وبقوله : «لعن الله اليهود والنصارى ، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد».

وبأنّ هذا كلّه محافظة على التوحيد ، وأن اصول الشرك بالله اتخاذ القبور مساجد ، كما سنذكر ذلك في نصّ كلامه المنقول عنه.

وقد رأيت أيضاً فتيا بخطّه ، ونقلت منها ما أنا ذاكره ، قال فيها ـ ومن خطّه نقلت ـ :

[نصّ فتوى قديمة لابن تيمية]

وأمّا السفر للتعريف عند بعض القبور ، فهذا أعظم من ذلك ، فإنّ هذا بدعة وشرك ، فإنّ أصل السفر لزيارة القبور ليس مشروعاً ، ولا استحبّه أحد من العلماء ، ولهذا لو نذر ذلك لم يجب عليه الوفاء به بلا نزاع بين الأئمّة.

ثمّ قال : ولهذا لم يكن أحد من الصحابة والتابعين ـ بعد أن فتحوا الشام ، ولا قبل ذلك ـ يسافرون إلى زيارة قبر الخليل عليه‌السلام ولا غيره من قبور الأنبياء التي بالشام ، ولا زار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من ذلك ليلة اسري به.

والحديث الذي فيه : «هذا قبر أبيك إبراهيم فانزل فصلّ فيه ، وهذا بيت لحم مولد أخيك عيسى ، انزل فصلّ فيه» كذب لا حقيقة له.

وأصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذين سكنوا الشام ، أو دخلوا إليه ولم يسكنوه ، مع عمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنه وغيره ، لم يكونوا يزورون شيئاً من هذه

__________________

(١) لاحظ مواضع هذه العبارة في كلام ابن تيميّة وجروه ابن عبد الهادي في أول تعليقة لنا على هذا الكتاب (ص ٦٠).

٢٤٧

البقاع والآثار المضافة إلى الأنبياء.

ثمّ قال : ولم يتّخذ الصحابة شيئاً من آثاره مسجداً ولا مزاراً ؛ غير ما بيّناه من المساجد ، ولم يكونوا يزورون غار حراء ، ولا غار ثور.

ثمّ قال : حتّى أنّ قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يثبت عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لفظٌ بزيارته ، وإنّما صحّ عنه «الصلاة عليه والسلام» ؛ موافقة لقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) الآية.

ثمّ قال : ولهذا لم يكن على عهد الصحابة والتابعين مشهدٌ يُزار ؛ لا على قبر نبيّ ، ولا غير نبيّ ، فضلاً عن أن يُسافر إليه ؛ لا بالحجاز ، ولا بالشام ولا اليمن ، ولا العراق ، ولا مصر ، ولا المشرق!

ثمّ قال : ولهذا كانت زيارة القبور على وجهين : زيارة شرعيّة ، وزيارة بدعيّة :

فالزيارة الشرعيّة مقصودها السلام على الميّت ، والدعاء له إن كان مؤمناً ، وتذكّر الموت سواء كان الميّت مؤمناً أم كافراً.

وقال بعد ذلك : فالزيارة لقبر المؤمن نبيّاً أو كان غير نبيّ ، من جنس الصلاة على جنازته ، يدعى له كما يدعى إذا صلّى على جنازته.

وأمّا الزيارة البدعيّة ، فمن جنس زيارة النصارى مقصودها الإشراك بالميّت ، مثل طلب الحوائج منه ، أو به ، أو التمسّح بقبره ، وتقبيله ، أو السجود له ، ونحو ذلك ، فهذا كلّه لم يأمر الله به ورسوله ، ولا استحبّه أحد من أئمّة المسلمين ، ولا كان أحد من السلف يفعله ؛ لا عند قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا غيره.

ثمّ قال : ولم يكونوا يقسمون على الله بأحد من خلقه ؛ لا نبيّ ، ولا غيره ، ولا يسألون ميّتاً ، ولا غائباً ، ولا يستغيثون بميّت ، ولا غائب ؛ سواء كان نبيّاً ، أو غير نبيّ ، بل كان فضلاؤهم لا يسألون غير الله شيئاً.

٢٤٨

انتهى ما أردت نقله من كلام ابن تيمية رحمه‌الله من خطّه ، وأنا عارف بخطّه (١).

وهو يدلّ على ما ذكرناه : من أنّ نزاعه في السفر والزيارة جميعاً ، غير أنّه كلام مختبط ؛ في صدره ما يقتضي منع الزيارة مطلقاً ، وفي آخره ما يقتضي أنّها إن كانت للسلام عليه والدعاء له جازت ، وإن كانت على النوع الآخر الذي ذكره لم يجز.

وبقي قسم لم يذكره : وهو أن تكون للتبرّك به من غير إشراك به.

فهذه ثلاثة أقسام :

أوّلها : السلام والدعاء له.

وقد سلّم جوازه ، وأنّه شرعيّ ، ويلزمه أن يسلّم جواز السفر له ، فإن فرّق في هذا القسم بين أصل الزيارة وبين السفر ـ محتجّاً بالحديث المذكور ـ فقد سبق جوابه.

والقسم الثاني : التبرّك به والدعاء عنده للزائر.

وهذا القسم يظهر من فحوى كلام ابن تيمية رحمه‌الله أنّه يلحقه بالقسم الثالث ، ولا دليل له على ذلك ، بل نحن نقطع ببطلان كلامه فيه ، وأنّ المعلوم من الدين وسير

__________________

(١) هذه الفتوى لم ينقلها أحد من أتباع ابن تيميّة ، والظاهر أنّها الفتوى القديمة في مسألة الزيارة التي قال عنها ابن عبد الهادي في (العقود ص ٣٢٧) «وكان للشيخ في هذه المسألة كلام متقدّم أقدم من الجواب المذكور بكثير ، وذكره في كتاب «اقتضاء الصراط المستقيم» وغيره وفيه ما هو أبلغ من هذا الجواب الذي ظفروا به.

أقول : وقد ذكرنا أن الإمام السبكي إنّما ألَّف كتاب (شفاء السقام) في مصر حوالي سنة (٧١٦) واعتمد كما يقول هنا ، على هذه الفتوى ، وهي صريحة في منع ابن تيميّة لمطلق زيارة القبر المعظّم ، مضافاً إلى منعه لشدّ الرحال إلى زيارته ، كما أثبته السبكي هنا.

ونفس هذه المقاطع الدالّة على منعه لمطلق الزيارة ، مبثوثة في كتبه ، ومجموع فتاواه ، وفي النقول عنه ، فلاحظ كتابه : الجواب الباهر ـ وهو الذي كتبه بعد تكفير علماء الامّة له ـ وطبع في مجموع الفتاوى (٢٧ / ٤١٤ ـ ٤٤٤) و (ج ١٧ ص ٤٦١) وانظر (١٥ / ١٥٤ و ١٤٣ ـ ١٤٤) والردّ على الأخنائي ومختصره في المجموع (٢٧ / ١١٤ ـ ٢٨٨) واقتضاء الصراط ، وغيرها.

٢٤٩

السلف الصالحين ، التبرّك ببعض الموتى من الصالحين ، فكيف بالأنبياء والمرسلين؟!

ومن ادعى أنّ قبور الأنبياء وغيرهم من أموات المسلمين سواء ، فقد أتى أمراً عظيماً نقطع ببطلانه وخطئه فيه ، وفيه حطّ لدرجة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى درجة من سواه من المسلمين ، وذلك كفر متيقّن ، فإنّ من حطّ رتبة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عمّا يجب له ، فقد كفر.

فإن قال : إنّ هذا ليس بحطّ ، ولكنّه منع من التعظيم فوق ما يجب عليه.

قلت : هذا جهل وسوء أدب ، وقد تقدّم في أوّل الباب الخامس (١) الكلام في ذلك ، ونحن نقطع بأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يستحقّ من التعظيم أكثر من هذا المقدار في حياته وبعد موته ، ولا يرتاب في ذلك من كان في قلبه شيء من الإيمان.

وأمّا القسم الثالث : وهو أن يقصد بالزيارة الإشراك بالله تعالى :

فنعوذ بالله منها وممّن يفعلها ، ونحن لا نعتقد في أحد من المسلمين ـ إن شاء الله ـ ذلك.

وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اللهمّ لا تجعل قبري وثناً يعبد» ودعاؤه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مستجاب ، وقد أيس الشيطان أن يعبد في جزيرة العرب (٢).

فهذا شيء لا نعتقده إن شاء الله في أحد ممّن يقصد زيارة قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وأمّا التمسّح بالقبر وتقبيله والسجود عليه ونحو ذلك :

فإنّما يفعله بعض الجهّال ، ومن فعل ذلك ينكر عليه فعله ذلك ، ويعلّم آداب الزيارة ، ولا ينكر عليه أصل الزيارة ، ولا السفر إليها ، بل هو مع ما صدر منه من

__________________

(١) الباب الخامس ص (١٧٩ ـ ٢٠٠).

(٢) لاحظ سنن الترمذي (٤ / ٤٠١) ح ٢١٥٩ كتاب الفتن ، وسنن ابن ماجة (٢ / ١٠١٥) ح ٣٠٥٥ كتاب المناسك ، وسنن النسائي (٦ / ٣٥٣) ح ١١٢١٣ كتاب التفسير ، ومسند أحمد (٢ / ٣٦٨).

٢٥٠

الجهل محمود على زيارته وسفره ، مذموم على جهله وبدعته (١).

وأمّا طلب الحوائج عند قبره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فسنذكره في باب الاستغاثة بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) :

ولنتكلّم على الشبهة الثانية والثالثة اللتين بنى ابن تيمية رحمه‌الله كلامه عليهما :

[مشروعية الزيارة]

أمّا الشبهة الثانية :

وهي كون هذا ليس مشروعاً ، وأنّه من البدع التي لم يستحبّها أحد من العلماء ؛ لا من الصحابة ، ولا من التابعين ومن بعدهم.

فقد قدّمنا سفر بلال من الشام إلى المدينة لقصد الزيارة.

وأنّ عمر بن عبد العزيز كان يجهّز البريد من الشام إلى المدينة للسلام على النبيّ عليه الصلاة والسلام.

وأنّ ابن عمر كان يأتي قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيسلّم عليه وعلى أبي بكر وعمر رضي الله عنهم.

وكلّ ذلك يكذّب دعوى : أنّ الزيارة والسفر إليها بدعة.

ولو طولب ابن تيمية رحمه‌الله بإثبات هذا النفي العامّ ، وإقامة الدليل على صحّته ، لم يجد إليه سبيلاً.

فكيف يحلّ لذي علم أن يُقْدِمَ على هذا الأمر العظيم بمثل هذه الظنون ، التي مستنده فيها أنّه لم يبلغه ، وينكر به ما أطبق عليه جميع المسلمين شرقاً وغرباً في سائر الأعصار ؛ ممّا هو محسوس خلفاً عن سلف ، ويجعله من البدع؟!

__________________

(١) لاحظ ما ذكره الذهبي ، ونقلناه (ص ١٧٤).

(٢) سيأتي في الباب الثامن.

٢٥١

فإن قلت : إنّ الذي كان يفعله السلف من النوع الأوّل ؛ وهو السلام والدعاء له ، دون النوع الثاني والثالث.

قلنا : أمّا الثالث فلا استرواح إليه ؛ لأنّا نبعد كلّ مسلم منه.

وأمّا النوع الأوّل والثاني ، فدعوى كون السلف كلّهم كانوا مطبقين على النوع الأوّل ؛ وأنّه شرعيّ ، وكون الخلف كلّهم مطبقين على الثاني ؛ وأنّه بدعة ، من التخرّص الذي لا يقدر على إثباته ، فإنّ المقاصد الباطنة لا يطّلع عليها إلّا الله تعالى.

فمن أين له أنّ جميع السلف لم يكن أحد منهم يقصد التبرّك ، أو أنّ جميع السلف لا يقصدون إلّا ذلك؟!

ثمّ إنّه قال فيما سنحكيه من كلامه : «إنّ أحداً لا يسافر إليها إلّا لذلك» ؛ يعني لاعتقاده أنّها قربة ، وأنّه متى كان كذلك كان حراماً.

ولا شكّ أنّ بلالاً وغيره من السلف ـ وإن سلّمنا أنّهم ما قصدوا إلّا السلام ـ فإنّهم يعتقدون أنّ ذلك قربة.

فلو شعر ابن تيمية رحمه‌الله أنّ بلالاً وغيره من السلف فعل ذلك ، لم ينطق بما قال ، ولكنّه قام عنده خيال : أنّ هذه الزيارة فيها نوع من الشرك ، ولم يستحضر أنّ أحداً فعلها من السلف ، فقال ما قال وغلط رحمه‌الله فيما حصل له من الخيال ، وفي عدم الاستحضار.

ودعواه : «أنّه لو نذر ذلك ، لم يجب عليه الوفاء به بلا نزاع من الأئمّة».

نحن نطالبه بنقل هذا عن الأئمّة.

وتحقيق أنّه لا نزاع بينهم فيه.

ثمّ بتقرير كون ذلك عامّاً في قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وغيره.

ليحصل مقصوده في هذه المسألة التي تصدّينا لها.

٢٥٢

ومتى لم تحصل هذه الأُمور الثلاثة لا يحصل مقصوده ، وليس إلى حصولها سبيل.

ونحن قد نقلنا أنّ زيارة قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تلزم بالنذر ، وعلى مقتضاه يلزم السفر إليها أيضاً بالنذر ؛ على الضدّ ممّا قال.

وأمّا قوله : «إنّ الصحابة لمّا فتحوا الشام ، لم يكونوا يسافرون إلى زيارة قبر الخليل وغيره من قبور الأنبياء التي بالشام».

فلعلّه لأنّه لم يثبت عندهم موضعها ، فإنّه ليس لنا قبر مقطوع به إلّا قبره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وأمّا قوله : «ولا زار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شيئاً من ذلك ليلة اسري به».

فلعلّه لاشتغاله بما هو أهمّ.

وقد تحقّقنا زيارته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم القبور بالمدينة وغيرها في غير تلك الليلة ، فليس ترك زيارته في تلك الليلة دليلاً على أنّ الزيارة ليست بسنّة ، فالتشاغل بالاستدلال بذلك تشاغل بما لا يجدي.

وأمّا قوله : «إنّ الحديث الذي فيه : «هذا قبر أبيك إبراهيم فانزل فصلّ فيه ، وهذا بيت لحم مولد أخيك عيسى انزل فصلّ فيه» كذب لا حقيقة له.

فصدق فيما قال.

وهذا الحديث يرويه بكر بن زياد الباهليّ ، قال ابن حبّان : شيخ دجّال يضع الحديث على الثقات ، لا يحلّ ذكره في الكتب إلّا على سبيل القدح فيه.

وذكر ابن حبّان من طريقه الحديث المذكور ، وفيه : «ثمّ أتى بي إلى الصخرة فقال : يا محمّد ، من هاهنا عرج ربّك إلى السماء ...» وذكر كلاماً طويلاً كره ابن حبّان ذكره.

قال ابن حبان : وهذا شيء لا يشكّ عوام أصحاب الحديث أنّه موضوع ،

٢٥٣

فكيف البُزل في هذا الشأن؟! هذا كلام ابن حبّان (١).

وقد ذكر هذا الحديث أبو القاسم المكّي بن عبد السلام بن الحسين بن القاسم المقدسيّ الرمَيْليّ في «كتاب صنّفه في فضائل زيارة قبر إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام».

والرُمَيْليّ هذا بضمّ الراء ، وفتح الميم ، وسكون الياء ، نسبة إلى الرّمَيْلة من الأرض المقدّسة.

وذكره أبو سعد عبد الكريم بن محمد بن منصور ابن السمعانيّ في كتاب «الأنساب» (٢) فقال : كان حافظاً مكثراً ، رحل إلى مصر ، والشام ، والعراق ، والبصرة ، قال ابن ناصر : وصنّف كتاباً في تأريخ بيت المقدس ، وسمع من الخطيب بالشام وبغداد ، وكان فاضلاً صالحاً ثبتاً ، وعاد إلى بيت المقدس ، وأقام بها يدرّس الفقه على مذهب الشافعيّ ، ويروي الحديث ، إلى أن غلبت الفرنج على بيت المقدس ، ثمّ قتل شهيداً.

قال ابن السمعانيّ : روى عن مكّي بن عبد السلام : محمّد بن علي الاسفرايينيّ ، وأبو سعيد عمّار التاجر ، ولم يحدّث عنه سواهما.

وقال ابن النجّار (٣) : عزم على أن يعمل تأريخاً لبيت المقدس ، فحالت دونه منيّته ، قتلته الفرنج بالحجارة في اليوم الثاني عشر من شوّال سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة.

وذكر أبو القاسم عمر بن أبي جرادة في «تأريخ حلب» (٤) : أنّه ولد في المحرّم يوم

__________________

(١) كتاب المجروحين لابن حبان.

(٢) الأنساب للسمعاني (الرميلي) ظهر ص ٢٥٩. من طبعة مرجليوث.

(٣) ذيل تاريخ بغداد لابن النجار.

(٤) تاريخ حلب لابن أبي جرادة.

٢٥٤

عاشوراء سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة بِبَيت المقدس.

قلت : وذكر في هذا التصنيف آثاراً في زيارة قبر إبراهيم الخليل ، منها الحديث المذكور ، قال : أنا الشيخ الصالح الثقة أبو محمّد عبد العزيز بن أحمد بن عمر بن إبراهيم المقدسيّ قراءة عليه رحمة الله ، أنا محمّد بن أحمد أبو بكر بن محمّد الواسطيّ الخطيب قراءة عليه ، حدثنا أبو القاسم عيسى بن عبيد الله بن عبد العزيز الموصليّ المعروف ب «المصاحقيّ» (١) حدثنا أبو الحسن عليّ بن جعفر بن محمّد الرازي وكيل المسجد الأقصى ، حدثنا العباس بن أحمد بن عبد الله وأنا سألته ، حدثنا عبد الله بن أبي عمرة المقدسيّ ، حدثنا بكر بن زياد الباهليّ ، عن عبد الله بن المبارك ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن زرارة بن أبي أوفى ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لمّا اسري بي إلى بيت المقدس ، مرّ بي جبرئيل إلى قبر إبراهيم عليهما الصلاة والسلام فقال : انزل صلّ هاهنا ركعتين ؛ فإنّ هنا قبر أبيك إبراهيم عليه‌السلام ، ثمّ مرّ بي إلى بيت لحم فقال : انزل صلّ هاهنا ركعتين ؛ فإنّ هاهنا ولد أخوك عيسى عليه‌السلام ثمّ أتى بي إلى الصخرة ...» قال : وذكر الحديث.

ورواه ابن حبّان ، عن محمّد بن أحمد بن إبراهيم ، حدثنا عبد الله بن سليمان بن أبي عمرة ، حدثنا بكر بن زياد.

وإنّما تكلّمنا على هذا الحديث للتنبيه على الفائدة فيه ، وليس بنا ضرورة إلى إثباته أو نفيه في تحقيق المقصود ، لما سبق أنّ عدم الزيارة في وقت خاصّ لا يدلّ على عدم الاستحباب.

وقوله : «إنّ الصحابة لم يكونوا يزورون شيئاً من هذه البقاع والآثار».

فكلامنا إنّما هو في زيارة ساكن البقعة ، لا في زيارة البقعة ، وقد تقدّم التنبيه

__________________

(١) في (ه) : المصاحفيّ.

٢٥٥

على الفرق بينهما.

ثمّ إنّ هذه شهادة على نفي ، يصعب إثباتها ؛ وإن كنّا مستغنين عن منعها أو تسليمها.

وقوله : «حتّى أنّ قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم».

هذا هو المقصود في هذه المسألة.

وقوله : «لم يثبت عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لفظ بزيارة».

قد تقدّم إبطال هذه الدعوى ؛ وتحقيق ثبوت الحديث فيها.

وقوله : «ولهذا لم يكن على عهد الصحابة والتابعين مشهد يُزار على قبر نبيّ ، ولا غير نبيّ ، فضلاً عن أن يسافر إليه ...» إلى آخر كلامه.

إن أراد ما يسمّى «مشهداً» فموضع قبره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يسمّى «مشهداً» وكلامنا إنّما هو فيه ، وإن أراد أنه لم يكن في ذلك الزمان زيارة لقبر نبيّ من الأنبياء ، فهذا باطل لما قدّمناه.

وبقيّة كلامه ؛ وتقسيمه الزيارة إلى : شرعيّة ، وبدعيّة ، سبق الكلام عنه.

وفيه اعتراف بمطلق الزيارة ، ويلزمه الاعتراف بالسفر إليها ، ولا يمنع من ذلك كون نوع منها ، يقترن به من بعض الجهّال ما هو منهيّ عنه.

فمن ادعى الزيارة من غير انضمام شيء آخر إليها بدعة ، فقد كذب وجهل.

ومن حرّمها فقد حرّم ما أحلّه الله تعالى.

ومن أطلق التحريم عليها ـ لأنّ بعض أنواعها محرّم ، أو يقترن به محرّم ـ فهو جاهل.

وهكذا من امتنع من إطلاق الاستحباب على الزيارة من حيث هي ـ لوقوع بعض أنواعها من بعض الناس على وجه التحريم ـ فهو جاهل أيضاً ، فإنّ الصلاة قد تقع على وجه النهي عنه ، كالصلاة في الدار المغصوبة ، وما أشبه ذلك ، ولا يمنع

٢٥٦

ذلك من إطلاق القول : بأنّ الصلاة قربة أو واجبة.

فهكذا أيضاً الزيارة من حيث هي قربة ؛ لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «زوروا القبور» وإن كان بعض أنواعها يقع على وجه منهيّ عنه ، فيكون ذلك الوجه منها منهيّاً عنه وحده ، والحكم بالابتداع على هذا النوع لا يضرّنا ، ونحن نسلّمه ، ونمنع من يفعله ، والحكم بالابتداع على المطلق عين الابتداع.

[القبور والشرك]

وأمّا الشبهة الثالثة : وهي أنّ من الشرك بالله تعالى اتخاذ القبور مساجد ، كما قال طائفة من السلف في قوله تعالى : (قالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً).

قالوا : كان هؤلاء قوماً صالحين في [عهد] نوح ، فلمّا ماتوا عكفوا على قبورهم ، ثمّ صوّروا على صورهم تماثيل ، ثمّ طال عليهم الأمد فعبدوها.

وتخيّل ابن تيمية : أنّ منع الزيارة والسفر إليها من باب المحافظة على التوحيد ، وأنّ فعلها ممّا يؤدّي إلى الشرك.

وهذا تخيّل باطل ؛ لأنّ اتخاذ القبور مساجد ، والكعوفَ عليها ، وتصويرَ الصور فيها ، هو المؤدّي إلى الشرك ، وهو الممنوع منه ، كما ورد في الأحاديث الصحيحة ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لعن الله اليهود والنصارى ؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» (١) يحذّر ممّا صنعوا.

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا أخبر بكنيسة بأرض الحبشة : «أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً ، ثمّ صوّروا فيه تلك الصورة ، أولئك شرار الخلق

__________________

(١) صحيح البخاري (١ / ١١٠ و ١١٢ و ١١٣) و (٢ / ٩١ و ١٠٦) و (٤ / ١٤٤) و (٥ / ١٣٩ و ١٤٠) و (٧ / ٤١) وصحيح مسلم (٢ / ٦٧).

٢٥٧

عند الله» (١).

وأمّا الزيارة والدعاء والسلام ، فلا يؤدّي إلى ذلك ، ولهذا شرعه الله تعالى على لسان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما ثبت من الأحاديث المتقدّمة عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قولاً وفعلاً ، وتواتر ذلك ، وإجماع الأُمّة عليه.

فلو كانت زيارة القبور من التعظيم المؤدّي إلى الشرك ـ كالتصوير ونحوه ـ لم يشرّعها الله تعالى في حقّ أحد من الصالحين ، ولا فعلها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والصحابة في حقّ شهداء احد والبقيع وغيرهم.

وليس لنا أن نحرّم إلّا ما حرّمه الله وإن تخيّلنا : أنّه يفضي إلى محذور ، ولا نبيح إلّا ما أباحه الله وإن تخيّلنا : أنّه لا يفضي إلى محذور.

ولمّا أباح الزيارة وشرعها ، وسنّها رسوله ، وحظر اتخاذ القبور مساجد ، وتصوير الصور عليها ، قلنا بإباحة الزيارة ومشروعيّتها ، وتحريم اتخاذ القبور مساجد والتصوير.

فمن قاس الزيارة على التصوير في التحريم ، كان مخالفاً للنصّ ، كما أنّ شخصاً لو قال بإباحة اتخاذ القبور مساجد إذا لم يفضِ إلى الشرك ، كان مخالفاً للنصّ أيضاً.

والوسائل التي لا يتحقّق بها المقصود ، ليس لنا أن نجري حكم المقصود عليها إلّا بنصّ من الشارع ؛ فإنّ هذا من باب سدّ الذرائع الذي لم يقم عليه دليل.

فالمفضي إلى الشرك حرام بلا إشكال ، وأمّا الأُمور التي قد تؤدّي إليه ، وقد لا تؤدّي ، فما حرّمه الشرع منها كان حراماً ، وما لم يحرّمه كان مباحاً ؛ لعدم استلزامه للمحذور.

وهذه الأُمور التي نحن فيها من هذا القبيل :

__________________

(١) لاحظ صحيح البخاري (١ / ١١١ و ١١٢) و (٤ / ٢٤٥) وصحيح مسلم (٢ / ٦٦).

٢٥٨

حرّم الشرع منها اتخاذ القبور مساجد ، والتصوير ، والعكوف على القبور.

وأباح الزيارة ، والسلام ، والدعاء.

وكلّ عاقل يعلم الفرق بينهما ، ويتحقّق أنّ النوع الثاني إذا فعل مع المحافظة على آداب الشريعة ، لا يؤدّي إلى محذور ، وأنّ القائل بمنع ذلك جملة ـ سدّاً للذريعة ـ متقوّل على الله ، وعلى رسوله ، منتقص ما ثبت لذلك المزور من حقّ الزيارة.

واعلم : أنّ هاهنا أمرين لا بدّ منهما :

أحدهما : وجوب تعظيم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورفع رتبته عن سائر الخلق.

والثاني : إفراد الربوبيّة ؛ واعتقاد أنّ الربّ تبارك وتعالى منفرد بذاته وصفاته وأفعاله عن جميع خلقه.

فمن اعتقد في أحد من الخلق مشاركة الباري تعالى في ذلك ، فقد أشرك وجنى على جانب الربوبيّة فيما يجب لها ، وعلى الرسول فيما أدّى إلى الأُمّة من حقّها.

ومن قصّر بالرسول عن شيء من رتبته ، فقد جنى عليه فيما يجب له ، وعلى الله تعالى بمخالفته فيما أوجب لرسوله.

ومن بالغ في تعظيم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنواع التعظيم ، ولم يبلغ به ما يختصّ بالباري تعالى ، فقد أصاب الحقّ ، وحافظ على جانب الربوبيّة والرسالة جميعاً ، وذلك هو العدل الذي لا إفراط فيه ولا تفريط.

ومن المعلوم : أنّ الزيارة بقصد التبرّك والتعظيم ، لا تنتهي في التعظيم إلى درجة الربوبيّة ، ولا تزيد على ما نصّ عليه في القرآن والسنّة ، وفعل الصحابة من تعظيمه في حياته وبعد وفاته ، وكيف يتخيّل امتناعها؟!

إنا لله وإنّا إليه راجعون.

وهذا الرجل قد تخيّل : أنّ الناس بزيارتهم متعرّضون للإشراك بالله تعالى ،

٢٥٩

وبنى كلامه كلّه على ذلك ، وكلّ دليل ورد عليه يصرفه إلى غير هذا الوجه ، وكلّ شبهة عرضت له يستعين بها على ذلك.

فهذا داء لا دواء له إلّا بأن يلهمه الله الحقّ.

أيرى هو لمّا زار : قصد ذلك ، وأشرك مع الله غيره؟!

٢٦٠