شفاء السّقام في زيارة خير الأنام صلى الله عليه وآله

علي بن عبدالكافي بن علي أبوالحسن الأنصاري الخزرجي المصري الشافعي [ تقي الدين السبكي ]

شفاء السّقام في زيارة خير الأنام صلى الله عليه وآله

المؤلف:

علي بن عبدالكافي بن علي أبوالحسن الأنصاري الخزرجي المصري الشافعي [ تقي الدين السبكي ]


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دائرة المعارف العثمانيّة
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٣٢

قال الحاكي عنه ذلك : وقال غيره من شيوخنا : عليه أن يرجع ثانياً (١) حتّى يزور.

قال عبد الحقّ : انظر ، إن استؤجر للحجّ لسنة بعينها ، فها هنا يسقط من الأُجرة ما يخصّ الزيارة ، وإن استؤجر على حجّة مضمونة في ذمّته فهاهنا يرجع ويزور ، وقد اتفق النقلان.

وعبد الحقّ هذا هو : عبد الحقّ بن محمّد بن هارون السهميّ القرويّ ، صقليّ ، تفقّه بشيوخ القيروان ، وتفقّه بالصقليّين أيضاً ، منهم : أبو عمران وغيره ، وحجّ ولقي عبد الوهّاب رحمه‌الله ، وحجّ ثانياً فلقي إمام الحرمين ، فباحثه في أشياء ، وسأله عن مسائل أجابه عنها ، وكان مليح التأليف ، ألّف كتباً كثيرة في مذهب مالك ، توفّي بالإسكندريّة سنة ستّ وستّين وأربعمائة.

وهذا الفرع الذي ذكره في الاستئجار على الزيارة فرع حسن.

والذي ذكره أصحابنا : أنّ الاستئجار على الزيارة لا يصحّ ؛ لأنّه عمل غير مضبوط ، ولا مقدّر بشرع ، والجعالة إن وقعت على نفس الوقوف لم يصحّ أيضاً ؛ لأنّ ذلك ممّا لا يصحّ فيه النيابة عن الغير ، وإن وقعت الجعالة على الدعاء عند قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانت صحيحة ؛ لأنّ الدعاء ممّا يصحّ النيابة فيه ، والجهل بالدعاء لا يبطلها ، قال ذلك الماورديّ في «الحاوي» في كتاب الحجّ (٢).

وبقي قسم ثالث لم يذكره الماورديّ : وهو إبلاغ السلام ، ولا شكّ في جواز الإجارة والجعالة عليه ، كما كان عمر بن عبد العزيز يفعل.

والظاهر أنّ مراد المالكيّة هذا ، وإلّا فمجرّد الوقوف من الأجير لا يحصّل للمستأجر غرضاً ، وسيأتي في كتاب ابن المواز من نصّ مالك ما يقتضي أنّه يقف

__________________

(١) في (ه) : نائبه.

(٢) الحاوي للماوردي.

١٦١

ويدعو عند قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما يفعل عند وداع البيت.

وفي كتاب «النوادر» لابن أبي زيد ـ بعد أن حكى في زيارة القبور من كلام ابن حبيب ، وعن المجموعة عن مالك ، ومن كلام ابن القرظيّ ـ ثمّ قال عقيبه : ويأتي قبور الشهداء بأُحد ويسلّم عليهم ، كما يسلّم على قبره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلى ضجيعيه.

وفيه أيضاً من كلام ابن حبيب : ويدلّ على التسليم على أهل القبور ما جاء من السنّة في التسليم على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبي بكر وعمر مقبورين.

وقال أبو الوليد محمّد بن رشد المالكيّ في شرح «العينيّة» المسمّى بكتاب «البيان والتحصيل» (١) في كتاب الجامع ، في سلام الذي يمرّ بقبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وسئل عن المارّ بقبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أترى أن يسلّم كلّما مرّ؟

قال : نعم ، أرى ذلك عليه أن يسلّم عليه إذا مرّ به ، وقد أكثر الناس من ذلك ، فأمّا إذا لم يمرّ به فلا أرى ذلك ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اللهمّ لا تجعل قبري وثناً يعبد ، اشتدّ غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد».

فقد أكثر الناس من هذا ، فإذا لم يمرّ عليه فهو في سعة من ذلك.

قال : وسئل عن الغريب يأتي قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلّ يوم؟

فقال : ما هذا من الأمر ، ولكن إذا أراد الخروج.

قال محمّد بن رشد : المعنى في هذا ، أنّه يلزمه أن يسلّم عليه كلّما مرّ به متى ما مرّ ، وليس عليه أن يمرّ به ليسلّم عليه إلّا للوداع عند الخروج ، ويكره له أن يكثر المرور به ، والسلام عليه ، والإتيان كلّ يوم إليه ؛ لئلّا يجعل القبر بفعله ذلك كالمسجد الذي يؤتى كلّ يوم للصلاة فيه ، وقد نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ذلك ؛ لقوله : «اللهمّ لا تجعل قبري وثناً يعبد ، اشتدّ غضب الله على قوم اتخذوا قبور

__________________

(١) البيان والتحصيل ، لابن رشد.

١٦٢

أنبيائهم مساجد» انتهى كلام ابن رشد.

وانظر كيف جعل عليه أن يأتيه للوداع ، وبطريق الأولى السلام ، وإنّما كراهة الإكثار لما ذكره ، وأصل الاستحباب متّفق عليه.

[مناظرة الإمام مالك وأبي جعفر المنصور]

وقد روى القاضي عياض في «الشفاء» (١) قال : حدثنا القاضي أبو عبد الله محمّد ابن عبد الرحمن الأشعريّ ، وأبو القاسم أحمد بن بقيّ [الحاكم] ، وغير واحد فيما أجازوا به (٢) ، قالوا : حدثنا أحمد بن عمر بن دلهاث ، حدثنا عليّ بن فهر ، حدثنا محمّد بن أحمد ابن الفرج ، حدثنا عبد الله بن المنتاب ، حدثنا يعقوب بن إسحاق بن أبي إسرائيل ، حدثنا ابن حميد قال :

ناظر أبو جعفر أمير المؤمنين مالكاً في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال له مالك : يا أمير المؤمنين ، لا ترفع صوتك في هذا المسجد ؛ فإنّ الله تعالى أدّب قوماً فقال : (لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ...) الآية ، ومدح قوماً : (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ...) الآية ، وذمَّ قوماً ، فقال : (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ ...) الآية ، وإنّ حرمته ميّتاً كحرمته حيّاً.

فاستكان لها أبو جعفر وقال : يا أبا عبد الله ، أستقبل القبلة وأدعو ، أم أستقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟

__________________

(١) الشفاء للقاضي عياض (٢ / ٢٠١ ـ ٢٠٦) فصل ٩.

ونقلها في الصارم (٢٦٣) عن اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية ص ٣٩٣ ـ ٣٩٤ ، وقد حاول تضعيفها والحكم بأنها مغيّرة! وببطلان ذيلها!!!

وهكذا يُحاول فيما لا يوافق هواه!

(٢) في الصارم (٢٥٩) : أجازوا فيه.

١٦٣

فقال : ولِمَ تصرف وجهك عنه؟ وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه‌السلام إلى الله تعالى يوم القيامة؟!

بل استقبله واستشفع به ، فيشفعه الله تعالى ، قال الله تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ ...) الآية.

فانظر هذا الكلام من مالك رحمه‌الله وما اشتمل عليه من الزيارة والتوسّل بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحسن الأدب معه.

وقال القاضي عياض : قال ابن حبيب : وتقول إذا دخلت مسجد الرسول : بسم الله ، وسلام على رسول الله ، السلام علينا من ربّنا ، وصلّى الله وملائكته على محمّد ، اللهمّ اغفر لي ذنوبي ، وافتح لي أبواب رحمتك وجنّتك ، ي نظفحاو من الشيطان الرجيم.

ثمّ اقصد إلى الروضة ، وهي ما بين القبر والمنبر ، فاركع فيها ركعتين قبل وقوفك بالقبر.

ثمّ تقف بالقبر متواضعاً متواقراً ، فتصلّي عليه ، وتثني بما يحضرك ، وتسلّم على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وتدعو لهما.

ولا تدع أن تأتي مسجد قباء وقبور الشهداء.

وقال مالك في «كتاب محمّد» : ويسلم على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا دخل وخرج ؛ يعني في المدينة وفيما بين ذلك.

وقال محمّد : وإذا خرج جعل آخر عهده الوقوف بالقبر ، وكذلك من خرج مسافراً.

وقال مالك في «المبسوط» : وليس يلزم من دخل المسجد أو خرج منه من أهل المدينة الوقوف بالقبر ، وإنّما ذلك للغرباء.

وقال فيه أيضاً : لا بأس لمن قدم من سفر أو خرج إلى سفر أن يقف على قبر

١٦٤

النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيصلّي عليه ، ويدعو له ولأبي بكر وعمر.

فقيل له : فإنّ ناساً من أهل المدينة لا يقدمون من سفر ، ولا يريدونه ، يفعلون ذلك في اليوم مرّة أو أكثر ، وربّما وقفوا في الجمعة أو في الأيام المرّة والمرّتين أو أكثر عند القبر ، فيسلّمون ويدعون ساعة.

فقال : لم يبلغني هذا عن أحد من أهل الفقه ببلدنا ، وتركه واسع ، ولا يصلح آخر هذه الأُمّة إلّا ما أصلح أوّلها ، ولم يبلغني عن أوّل هذه الأُمّة وصدرها أنّهم كانوا يفعلون ذلك ، ويكره إلّا لمن جاء من سفر أو أراده.

قال ابن القاسم : ورأيت أهل المدينة إذا خرجوا منها أو دخلوها ، أتوا القبر فسلّموا ، قال : وذلك رأيي.

قال الباجي : ففرق بين أهل المدينة والغرباء ؛ لأنّ الغرباء قصدوا لذلك ، وأهل المدينة مقيمون بها ، لم يقصدوها من أجل القبر والتسليم.

انتهى ما حكاه القاضي عياض.

وانظر قول الباجي : إنّ الغرباء قصدوا لذلك ، ودلالته على أنّ الغرباء قصدوا المدينة من أجل القبر والتسليم.

والمتلخّص من مذهب مالك رحمه‌الله : أنّ الزيارة قربة ، ولكنّه على عادته في سدّ الذرائع يكره منها الإكثار الذي قد يفضي إلى محذور.

والمذاهب الثلاثة يقولون باستحبابها واستحباب الإكثار منها ؛ لأنّ الإكثار من الخير خير ، وكلّهم مجمعون على استحباب الزيارة.

وفي كتاب «النوادر» : ويأتي قبور الشهداء بأُحد ، ويسلّم عليهم كما يسلّم على قبره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلى ضجيعيه.

وقال أبو محمّد عبد الكريم بن عطاء الله بن عبد الرحمن بن عبد الله بن محمّد بن عيسى بن الحسن المالكيّ في «مناسكه» التي التزم فيها مشهور

١٦٥

مذهب مالك : فصل : إذا كمل لك حجّك وعمرتك على الوجه المشروع ، لم يبقَ بعد ذلك إلّا إتيان مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للسلام على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والدعاء عنده ، والسلام على صاحبيه ، والوصول إلى البقيع ، وزيارة ما فيه من قبور الصحابة والتابعين ، والصلاة في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلا ينبغي للقادر على ذلك تركه.

وقال العبديّ في «شرح الرسالة» : وأمّا النذر للمشي إلى المسجد الحرام ، أو المشي إلى مكّة ، فله أصل في الشرع ، وهو الحجّ والعمرة ، وإلى المدينة لزيارة قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أفضل من الكعبة ومن بيت المقدس ، وليس عندهما حجّ ولا عمرة ، فإذا نذر المشي إلى هذه الثلاثة لزمه ، فالكعبة متّفق عليها ، واختلف أصحابنا وغيرهم في المسجدين الآخرين.

قلت : الخلاف الذي أشار إليه في نذر إتيان المسجدين ، لا في الزيارة.

[عمل الصحابة والتابعين]

فهذه نقول المذاهب الأربعة ، وكذلك غيرهم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم.

فقد صحّ من وجوه كثيرة عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنّه كان يأتي القبر ، فيسلّم على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

أنا عبد المؤمن بن خلف ، أنا إبراهيم بن أبي الخير ، وأبو عبد الله محمّد بن المنى ، منفردين في الرحلة الأُولى ، قالا : أنا شهدة ، أنا الحسن بن أحمد بن سليمان ، أنا الحسن بن أحمد بن شاذان ، أنا دعلج ، أنا محمّد بن عليّ بن زيد الصائغ ، حدثنا سعيد ابن منصور ، حدثنا مالك بن أنس ، عن نافع ، عن ابن عمر : أنّه كان يأتي القبر فيسلّم على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلى أبي بكر وعمر.

١٦٦

وقال دعلج : هذا الحديث في «الموطّأ» (١) عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر ، وأنا به إسحاق بن النحّاس من طريق آخر إلى سعيد بن منصور حدثنا مالك به.

وروي عن ابن عون قال : سأل رجل نافعاً : هل كان ابن عمر يسلّم على القبر؟

قال : نعم ، لقد رأيته مائة مرّة أو أكثر من مائة مرّة ؛ كان يأتي القبر فيقوم عنده فيقول : السلام على النبيّ ، السلام على أبي بكر ، السلام على أبي.

وفي «الموطّأ» من رواية يحيى بن يحيى الليثيّ عن ابن عمر : كان يقف على قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيصلّي على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلى أبي بكر وعمر.

وعن ابن القاسم والقعنبيّ : ويدعو لأبي بكر وعمر.

وقال في رواية ابن وهب : يقول المسلّم : السلام عليك أيّها النبيّ ورحمة الله وبركاته.

قال في «المبسوط» : ويسلّم على أبي بكر وعمر.

قال القاضي أبو الوليد الباجي : وعندي أنّه يدعو للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلفظ «الصلاة» ولأبي بكر وعمر ؛ لما في حديث ابن عمر من الخلاف.

وقال عبد الرزاق في مصنّفه : باب السلام على قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) ، وروى فيه

__________________

(١) الموطأ لمالك.

أقول لم أجده فيه ، ولعلّ نسخه مختلفة كرواياته ، وقد نقل السيوطي في الدر المنثور (١ / ٢٣٧) قال : أخرج البيهقي عن ابن عمر أنه كان يأتي القبر فيسلّم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا يمسّ القبر ، ثمّ يسلّم على أبي بكر ثمّ على عمر.

(٢) المصنّف لعبد الرزاق (٣ / ٥٧٦) ح ٦٧٢٥. ويلاحظ ان القبر هنا لا يمكن تأويله بالمسجد كما يُحاول ابن تيمية! لأنّه لا معنى للسلام على المسجد ، إلّا أن يدّعي أن المراد : السلام على باب المسجد ، يعني السلام على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على باب المسجد ، فانّه مستحب ، وليس مثل هذه التأويلات البعيدة بعيداً عن عمل ابن تيمية وأتباعه!

١٦٧

آثاراً ، منها بإسناد صحيح أنّ ابن عمر كان إذا قدم من سفر ، أتى قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : السلام عليك يا رسول الله ، السلام عليك يا أبا بكر ، السلام عليك يا أبتاه.

وروى عبد الرزاق في هذا الباب أيضاً أنّ سعيد بن المسيّب رأى قوماً يسلّمون على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : ما مكث نبيّ في الأرض أكثر من أربعين يوماً.

ثمّ روى عبد الرزاق فيه قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «مررت بموسى ليلة اسري بي وهو قائم يصلّي في قبره» (١).

كأنّه قصد بذلك ردّ ما روي عن ابن المسيّب ، وهو ردّ صحيح ، وما ورد عن ابن المسيّب ورد فيه حديث نذكره في باب حياة الأنبياء.

وقد روي عن عثمان بن عفّان رضى الله عنه أنّه لمّا حُصر ، أشار بعض الصحابة عليه بأن يلحق بالشام فقال : لن افارق دار هجرتي ومجاورة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيها.

وهو مخالف لما قال ابن المسيّب رحمه‌الله وهو الصحيح ، وكذلك ما ذكرناه عن ابن عمر.

ثمّ لو صحّ قول ابن المسيّب ، لم يمنع من استحباب زيارة القبر ؛ لشرفه بحلوله فيه ، ونسبته إليه ، كما قال الشاعر :

أمر على الديار ديار ليلى

اقبّل ذا الجدار وذا الجدارا

وما حبّ الديار شغفن قلبي

ولكن حبّ من سكن الديارا

وابن المسيّب رحمه‌الله لم ينكر التسليم ، وإنّما ذكر عدم الفائدة.

__________________

(١) المصنف لعبد الرزاق (٣ / ٥٧٧) ح ٦٧٢٧. الحديث من كنز العمال (١١ / ٥١١) برقم (٣٢٣٨٧) وقال : حل ـ عن أنس.

وقال السيوطي في الدر المنثور (٤ / ١٥٠) أخرج ابن مردويه عن أبي سعيد رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لما اسري بي مررت بموسى وهو قائم يصلّي في قبره.

١٦٨

وقال القاضي عياض في «الشفاء» (١) : قال بعضهم : رأيت أنس بن مالك أتى قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فوقف فرفع يديه ، حتى ظننت أنّه افتتح الصلاة ، فسلّم على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ انصرف.

[استقبال القبر الشريف عند السلام عليه]

وفي «مسند الإمام أبي حنيفة رحمه‌الله» (٢) تصنيف أبي القاسم طلحة بن محمّد بن جعفر الشاهد العدل ، قال : حدثنا محمّد بن مخلّد ، حدّثني محمّد بن يعقوب بن إسحاق ابن حكيم ، حدّثني أحمد بن الخليل ، حدّثني الحسن ، حدثنا ابن المبارك ، حدثنا وهب ، عن أبي حنيفة قال : جاء أيّوب السختيانيّ فدنا من قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاستدبر القبلة ، وأقبل بوجهه إلى القبر ، فبكى بكاء غير متباكٍ.

وقال إبراهيم الحربيّ في «مناسكه» : تولي ظهرك القبلة ، وتستقبل وسطه ـ يعني القبر ـ وتقول : السلام عليك أيّها النبيّ ورحمة الله وبركاته.

وقال ابن بطّال في «شرح البخاريّ» قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة» ـ بعد أن حكى القولين المشهورين ـ قال : واستدلّ الثاني بقوله : «ارتعوا في رياض الجنّة» يعني حلق الذكر والعلم ، قال : ويكون معناه التحريض على زيارة قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والصلاة في مسجده ، انتهى.

ولو استوعبنا الآثار وأقاويل العلماء في ذلك ، لخرجنا إلى حدّ الطول والملل.

[كراهة مالك لفظ : الزيارة]

فإن قلت : قد كَرِهَ مالك رحمه‌الله أن يقال : «زرنا قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم».

__________________

(١) الشفاء للقاضي عياض (٢ / ١٩٨) فصل (٩).

(٢) مسند أبي حنيفة.

١٦٩

قلت : قال القاضي عياض : قد اختلف في معنى ذلك :

فقيل : كراهية الاسم ؛ لما ورد من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لعن الله زوّارات القبور».

وهذه يردّه قوله : «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها» وقوله : «من زار قبري ...» فقد أطلق اسم «الزيارة».

وقيل : لأنّ ذلك ما قيل : «إنّ الزائر أفضل من المزور».

وهذا أيضاً ليس بشيء ، إذ ليس كلّ زائر بهذه الصفة ، وليس عموماً ، وقد ورد في حديث أهل الجنّة : «لزيارتهم لربّهم» ، ولم يمنع هذا اللفظ في حقّه.

والأولى عندي : أنّ منعه وكراهة مالك له ؛ لإضافته إلى قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنّه لو قال : «زرنا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» لم يكرهه ؛ لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اللهمّ لا تجعل قبري وثناً يعبد ، اشتدّ غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» فحمى إضافة هذا اللفظ إلى القبر والتشبيه بفعل أولئك ؛ قطعاً للذريعة ، وحسماً للباب ، والله أعلم.

هذا كلام القاضي (١) ، وما اختاره يشكل عليه قوله : «من زار قبري» فقد أضاف الزيارة الى القبر ، إلّا أن يكون هذا الحديث لم يبلغ مالكاً ، فحينئذٍ يحسن ما قاله القاضي في الاعتذار عنه ، لا في إثبات هذا الحكم في نفس الأمر.

ولعلّه يقول : إنّ ذلك من قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا محذور فيه ، والمحذور إنّما هو في قول غيره.

وقد قال عبد الحقّ [الصقلي] ، عن أبي عمران المالكيّ : إنّه قال : إنّما كره مالك أن يقال : «زرنا قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» لأنّ الزيارة من شاء فعلها ، ومن شاء تركها ، وزيارة قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واجبة ـ.

قال عبد الحق : يعني من السنن الواجبة ، ينبغي أن لا تذكر الزيارة فيه ، كما

__________________

(١) الشفاء للقاضي بن عياض (٢ / ١٩٥ ـ ١٩٧) فصل (٩).

١٧٠

تذكر في زيارة الأحياء الذين من شاء زارهم ، ومن شاء ترك ، والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أشرف وأعلى من أن يسمّى أنّه يزار.

وهذا الجواب بينه وبين جواب القاضي بون في شيئين :

أحدهما : أنّه يقتضي تأكّد نسبة معنى الزيارة إلى القبر ، وإن تجنّب لفظها ، وجواب القاضي يقتضي عدم نسبتها إلى القبر.

والثاني : أنّه يقتضي التسوية في كراهية اللفظ بين قوله : «زرت القبر» وقوله : «زرت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» وجواب القاضي يقتضي الفرق بينهما.

وقد قال أبو الوليد محمّد بن رشيد في «البيان والتحصيل» : قال مالك : أكره أن يقال : «الزيارة» لزيارة البيت الحرام ، وأكره ما يقول الناس : «زرت النبيّ» وأعظم ذلك أن يكون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يزار.

قال محمّد بن رشد : ما كره مالك هذا ـ والله أعلم ـ إلّا من وجه أنّ كلمة أعلى من كلمة ، فلمّا كانت الزيارة تستعمل في الموتى ، وقد وقع فيها من الكراهة ما وقع ، كره أن يذكر مثل هذه العبارة في النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما كره أن يقال : «أيّام التشريق» واستحبّ أن يقال : «الأيّام المعدودات» كما قال الله تعالى ، وكما كره أن يقال : «العتمة» ويقال : «العشاء الأخيرة» ونحو هذا.

وكذلك طواف الزيارة كأنّه يستحبّ أن يسمّى ب «الإفاضة» كما قال الله تعالى في كتابه (فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ) فاستحبّ أن يشتقّ له الاسم من هذا.

وقيل : إنّه كره لفظ «الزيارة» في الطواف بالبيت والمضيّ إلى قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنّ المضيّ إلى قبره عليه‌السلام ليس ليصله بذلك ، ولا لينفعه به ، وكذلك الطواف بالبيت ، وإنّما يفعل تأديةً لما يلزمه من فعله ، ورغبته في الثواب على ذلك من عند الله عزوجل ، وبالله التوفيق ، انتهى كلام ابن رشد.

وقد وقع فيه كراهية مالك قول الناس : «زرت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» وهو يردّ ما قاله

١٧١

القاضي عياض.

فأمّا كراهية إسناد الزيارة الى القبر ، فيحتمل أن تكون العلّة فيه ما قاله القاضي عياض ، ويحتمل أن تكون العلّة ما قاله أبو عمران وابن رشد.

وأمّا إضافة الزيارة إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إن ثبت ذلك عن مالك ـ فيتعيّن أن تكون العلّة فيه ما قاله أبو عمران وابن رشد.

والمختار في تأويل كلام مالك رحمه‌الله ما قاله ابن رشد ، دون ما قاله القاضي عياض ؛ لأنّ ابن المواز حكى في كتابه في كتاب الحجّ في باب ما جاء في الوداع قال أشهب : قيل لمالك : في من قدم معتمراً ، ثمّ أراد أن يخرج إلى رباط ، أعليه أن يودّع؟

قال : هو من ذلك في سعة.

ثمّ قال : إنّه لا يعجبني أن يقول أحد : «الوداع» وليس هو من الصواب ، وإنّما هو «الطواف» قال الله تعالى (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ).

قال : وأكره أن يقال : «الزيارة» وأكره ما يقول الناس : «زرت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» وأعظم ذلك أن يكون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يزار!.

وقال مالك في وداع البيت : ما يعرف في كتاب الله ولا سنّة رسوله عليه‌السلام «الوداع» ، إنّما هو «الطواف بالبيت».

قلت لمالك : أفترى هذا الطواف الذي يودّع به أهو الالتزام؟

قال : بل الطواف ، وإنّما قال فيه عمر : آخر النسك الطواف بالبيت.

قيل لمالك : فالذي يلتزم أترى له أن يتعلّق بأستار الكعبة عند الوداع؟

قال : لا ، ولكن يقف ويدعو.

قيل له : وكذلك عند قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟

قال : نعم ، انتهى ، ما أردت نقله من «الموازية» وهي من أجلّ كتب المالكيّة

١٧٢

القديمة المعتمد عليها.

وسياقة حكاية أشهب عن مالك ترشد إلى المراد ؛ وأنّ مالكاً رحمه‌الله إنّما كره اللفظ ، كما كرهه في طواف الوداع.

أفَترى يتوهّم مسلم أو عاقل أنّ مالكاً كره طواف الوداع؟!

وانظر في آخر كلام مالك ، كيف اقتضى أنّه يقف ويدعو عند قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما يقف ويدعو عند الكعبة في طواف الوداع.

فأيّ دليل أبين من هذا في أنّ إتيان قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والوقوف والدعاء عنده من الامور المعلومة ، التي لم تزل قبل مالك وبعده؟!

ولو عرف مالك رحمه‌الله أنّ أحداً يتوهّم عليه ذلك من هذا اللفظ ، لما نطق به! ولا لوم على مالك ، فإنّ لفظه لا إبهام فيه ، وإنّما يتلبس على جاهل أو متجاهل! (١).

[عدم كراهة ذلك هو الحق]

والمختار عندنا أنّه لا يكره إطلاق هذا اللفظ أيضاً ؛ لقوله : «من زار قبري» وقد تقدّم الاعتذار عن مالك فيه.

ولا يرد عليه قوله : «زوروا القبور» لأنّ زيارة قبور غير الأنبياء لينفعهم ويصلهم بها وبالدعاء والاستغفار.

ولهذا قال : قال أبو محمّد عبد الله بن عبد الرحمن المالكيّ المعروف

__________________

(١) ليلاحظ القارئ الكريم كيف تصبح كلمة مالك وحبّه وكراهته محطّاً لاهتمام هؤلاء الناس وكشف مراده ، ويحتجّ بها السلفية كانّه وحيٌ منزل ، وتهاجم الأكداس من الأحاديث والآثار المرويّة في الكتب والمذكورة في الأحكام والمؤلَّفات ، التي يعتمدها المؤلِّفون والرواة وكلّها تنادي بصراحة «زيارة القبر» واستحبابها وكونها المقصود للزائر ، فضلاً عن إطلاق لفظ الزيارة؟!!؟ مع عمل الأمّة سلفاً وخلفاً على القيام بها؟!

١٧٣

ب «الشارمساحي» في كتاب «تلخيص محصول المدوّنة من الأحكام» الملقّب ب «نظم الدرّ» في كتاب الجامع في الباب الحادي عشر في السفر : إنّ قصد الانتفاع بالميّت بدعة ، إلّا في زيارة قبر المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقبور المرسلين صلوات الله عليهم أجمعين.

وهذا الذي ذكره في الانتفاع بقبور المرسلين صحيح ، وكذلك سائر الأنبياء ، وأمّا ما ذكره في غير الأنبياء فسنتكلّم عليه إن شاء الله تعالى في قبور غير الأنبياء.

وأمّا زيارة أهل الجنّة لله تعالى ، فإن صحّ الحديث فيها! فلا ترد على شيء من المعاني التي قالها عبد الحقّ وابن رشد ؛ لأنّها ليست واجبة ، فإنّ الآخرة ليست دار تكليف ، وقد انقطع الإلحاق بزيارة الموتى في توهّم الكراهة.

فقد بان لك بهذا وجه كلام مالك رحمه‌الله وأنّه :

على جواب القاضي عياض إنّما كره زيارة القبر ، لا زيارة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وعلى جواب غيره إنما كره اللفظ فقط ، دون المعنى.

وكذلك أكثر ما حكيناه من كلام أصحابه أتوا فيه بمعنى الزيارة ، دون لفظها.

فمن نقل عن مالك «أنّ الحضور عند قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ لزيارة المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والسلام عليه والدعاء عنده ـ ليس بقربة» ، فقد كذب عليه.

ومن فهم عنه ذلك فقد أخطأ في فهمه وضلّ ، وحاشا مالكاً وسائر علماء الإسلام ، بل وعوامّهم ممّن وقر الإيمان في قلبه.

[نسبة المنع من الزيارة إلى أهل البيت]

فإن قلت : فقد روى عبد الرزاق في مصنّفه (١) بسنده إلى الحسن بن

__________________

(١) المصنّف لعبد الرزاق (٣ / ٥٧٧) ح ٦٧٢٧. وهو في المصنّف لابن أبي شيبة ـ أيضاً ـ

١٧٤

الحسن بن عليّ : أنّه رأى قوماً عند القبر فنهاهم ، وقال : إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «لا تتّخذوا قبري عيداً ، ولا تتّخذوا بيوتكم قبوراً ، وصلّوا عليّ حيث ما كنتم ، فإنّ صلاتكم تبلغني».

قلت : قد روى القاضي إسماعيل في كتاب «فضل الصلاة على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» بسنده إلى عليّ بن الحسين بن عليّ ـ وهو زين العابدين ـ : أنّ رجلاً كان يأتي كلّ غداة ، فيزور قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويصلّي عليه ، ويصنع من ذلك ما انتهره عليه عليّ بن الحسين ، فقال له عليّ بن الحسين : ما يحملك على هذا؟

__________________

(٣ / ٢٢٦) كتاب الجنائز باب (١٤٦) ح ٥. عن حسن بن حسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تتّخذوا ...» الحديث.

وأورده الذهبي في ترجمته من سير أعلام النبلاء (٤ / ٤٨٤) رقم (١٨٥) وقال بعد الحديث : هذا مرسل (!). وأضاف الذهبيّ : وما استدل حسن ـ في فتواهُ ـ بطائل من الدلالة.

فمن وقفَ عند الحجرة المقدّسة ذليلاً مسلِّماً مصلّياً على نبيّه ، فيا طوبى له ، فقد أحسن الزيارة ، وأجمل في التذلّل والحبّ ، وقد أتى بعبادةٍ زائدة على من صلّى عليه في أرضه ، أو في صلاته ، إذ الزائر له أجر الزيارة وأجر الصلاة عليه ، والمصلّي عليه من سائر البلاد له أجر الصلاة فقط. «فمن صلّى عليه واحدة صلّى الله عليه عشراً».

ولكن من زاره ـ صلوات الله عليه ـ وأساء أدب الزيارة!! أو سجد للقبر!!! أو فعل ما لا يشرع!!! فهذا فعل حسناً وسيّئاً ، فيعلّمُ برِفْقٍ ، والله غفورٌ رحيم.

فو الله ما يحصل الانزعاج لمسلمٍ والصياح وتقبيل الجدران وكثرة البكاء ، إلّا وهو محبٌّ لله ولرسوله ، فحبّهُ المعيار والفارق بين أهل الجنّة وأهل النار.

فزيارة قبره من أفضل القُرب ، وشدّ الرحال إلى قبور الأنبياء والأولياء ـ لئن سلّمنا أنّه غير مأذون فيه ، لعموم قوله صلوات الله عليه : «لا تشدّوا الرحال إلّا إلى ثلاثة مساجد»! ـ فشدّ الرحال إلى نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مستلزم لشدّ الرحل إلى مسجده ، وذلك مشروعٌ بلا نزاع ، إذ لا وصول إلى حضرته إلّا بعد الدخول إلى مسجده ، فليبدأ بتحيّة المسجد ، ثمّ بتحيّة صاحب المسجد ، رزقنا الله وإيّاكم ذلك ، آمين.

١٧٥

قال : احبّ التسليم على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فقال له عليّ بن الحسين : هل لك أن أحدّثك حديثاً عن أبي؟

قال : نعم.

فقال له عليّ بن الحسين : أخبرني أبي ، عن جدّي أنّه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تجعلوا قبري عيداً ، ولا تجعلوا بيوتكم قبوراً ، وصلّوا عليّ وسلّموا حيث ما كنتم ، فسيبلغني سلامكم وصلاتكم» (١).

وهذا الأثر يبيّن لنا أنّ ذلك الرجل زاد في الحدّ ، وخرج عن الأمر المسنون ، فيكون كلام عليّ بن الحسين موافقاً لما تقدّم عن مالك ، وليس إنكاراً لأصل الزيارة ، أو يكون أراد تعليمه : أنّ السلام يبلغ من الغيبة ، لمّا رآه يتكلّف الإكثار من الحضور.

وعلى ذلك يحمل ما ورد عن حسن بن حسن وغيره من ذلك.

ولم يذكر هذا الأثر ليحتجّ به ، بل للتأنيس بأمر يحتمل في ذلك الأثر المطلق ، وإبداء وجه من وجوه التأويل.

وكيف يتخيّل في أحد من السلف منعهم من زيارة المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهم مجمعون على زيارة سائر الموتى؟!

وسنذكر ذلك ، وما ورد من الأحاديث والآثار في زيارتهم.

فالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسائر الأنبياء الذين ورد فيهم أنّهم أحياء ، كيف يقال فيهم هذه المقالة؟!

__________________

(١) فضل الصلاة ... للقاضي إسماعيل (ص ٣٣) ، وقال في الصارم (ص ٢٩٤) قد رواه أبو يعلى الموصلي والحافظ المقدسي في الأحاديث المختارة ، وله شواهد كثيرة. هو خبر محفوظ مشهور.

١٧٦

[حديث : لا تجعلوا بيتي عيداً]

وأمّا قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تجعلوا قبري عيداً» فرواه أبو داود السجستانيّ (١) ، وفي سنده عبد الله بن نافع الصائغ ، روى له الأربعة ومسلم.

قال البخاريّ : تعرف حفظه وتنكر.

وقال أحمد بن حنبل : لم يكن صاحب حديث ؛ كان ضعيفاً فيه ، ولم يكن في الحديث بذاك.

وقال أبو حاتم الرازيّ : ليس بالحافظ ؛ هو ليّن تعرف حفظه وتنكر.

ووثقه يحيى بن معين ، وقال أبو زرعة : لا بأس به.

وقال ابن عديّ : روى عن مالك غرائب ، وهو في رواياته مستقيم الحديث (٢).

فإن لم يثبت هذا الحديث فلا كلام ، وإن ثبت ـ وهو الأقرب ـ فقال الشيخ زكيّ الدين المنذريّ : يحتمل أن يكون المراد به الحثّ على كثرة زيارة قبره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأن لا يهمل حتّى لا يزار إلّا في بعض الأوقات ، كالعيد الذي لا يأتي في العامّ إلّا مرّتين.

قال : ويؤيّد هذا التأويل ما جاء في الحديث نفسه : «لا تجعلوا بيوتكم قبوراً» أي لا تتركوا الصلاة في بيوتكم حتّى تجعلوها كالقبور التي لا يصلّى فيها.

قلت : ويحتمل أن يكون المراد لا تتّخذوا له وقتاً مخصوصاً لا تكون الزيارة إلّا فيه ، كما ترى كثيراً من المشاهد ، لزيارتها يوم معيّن كالعيد ، وزيارة قبره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليس فيها يوم بعينه ، بل أيّ يوم كان.

__________________

(١) سنن أبي داود (١ / ٤٥٣) ح ٢٠٤٢ ، باب زيارة القبور.

(٢) الكامل لابن عدي.

١٧٧

ويحتمل أيضاً أن يراد أن يجعل كالعيد في العكوف عليه ، وإظهار الزينة والاجتماع ، وغير ذلك ممّا يعمل في الأعياد ، بل لا يؤتى إلّا للزيارة والسلام والدعاء ، ثمّ ينصرف عنه.

والله أعلم بمراد نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١).

__________________

(١) أقول : المحفوظ في بعض النصوص قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تجعلوا بيتي عيداً ...» والظاهر أن من رواه بلفظ «قبري» إنّما حرّفه ، والقرينة على ذلك لفظ «بيوتكم» في ما ورد بلفظ «قبري» وعلى هذا فالمراد منعهم من مراودة بيته والجلوس فيه ، للسمر والسهر ، وهو أذيّة للرسول ومزاحمة لحياته ، ولمن يُريد الاستفادة من علمه ، كما ورد في القرآن الكريم في سورة الأحزاب (٣٣) الآية رقم (٥١) قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ ...) وللتفصيل محلٌ آخر ، فراجع رسالتنا حول «الزيارة». وكتب السيد.

١٧٨

الباب الخامس :

في

تقرير كون الزيارة قُرْبَةً

١٧٩
١٨٠