شفاء السّقام في زيارة خير الأنام صلى الله عليه وآله

علي بن عبدالكافي بن علي أبوالحسن الأنصاري الخزرجي المصري الشافعي [ تقي الدين السبكي ]

شفاء السّقام في زيارة خير الأنام صلى الله عليه وآله

المؤلف:

علي بن عبدالكافي بن علي أبوالحسن الأنصاري الخزرجي المصري الشافعي [ تقي الدين السبكي ]


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دائرة المعارف العثمانيّة
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٣٢

فلمّا أن قال : أشهد أن لا إله إلّا الله ، ازداد رجّتها.

فلمّا أن قال : أشهد أنّ محمّداً رسول الله ، خرجت العواتق من خدورهنّ ، وقالوا : أبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟

فما رئي يوم أكثر باكياً ولا باكية بالمدينة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من ذلك اليوم.

كذا ذكره ابن عساكر في ترجمة بلال رضى الله عنه (١).

وذكره أيضاً في ترجمة إبراهيم بسند آخر إلى محمّد بن الفيض : أنبأنا جماعة عن ابن عساكر قال : أنبأنا أبو محمّد ابن الأكفانيّ ، حدثنا عبد العزيز بن أحمد ، حدثنا تمام بن محمّد ، حدثنا محمّد بن سليمان ، حدثنا محمّد بن الفيض فذكره سواء ، إلّا أنّه سقط منه «من فتح بيت المقدس» ، وقال : آخى بينه وبيني ، ولم يقل «خاطبين» (٢).

أبو رويحة : اسمه عبد الله بن عبد الرحمن الخثعميّ ، وفي «الطبقات» : أنّ مؤاخاته لبلال لم يثبتها محمّد بن عمر ، وأثبتها ابن إسحاق وغيره ، واختار أنس أن يجعل ديوانه معه ، فضمّه عمر إليه ، وضمّ ديوان الحبشة إلى خثعم ؛ لمكان بلال منهم.

وسليمان بن بلال بن أبي الدرداء : روى عن جدّه وأبيه بلال ، روى عنه ابنه محمّد ، وأيّوب بن مدرك الحنفيّ ، ذكر له ابن عساكر حديثاً ، ولم يذكر فيه تجريحاً (٣).

وابنه محمّد بن سليمان بن بلال : ذكره مسلم في الكنى (٤) ، وأبو بشر الدولابيّ (٥) ، والحاكم أبو أحمد ، وابن عساكر (٦) ، كنيته أبو سليمان ، قال ابن أبي

__________________

(١) تاريخ دمشق ترجمة بلال.

(٢) تاريخ دمشق (٧ / ١٣٦) ترجمة إبراهيم برقم ٢٩٣.

(٣) تاريخ دمشق لابن عساكر (١٠ / ١١٨) رقم ٨٦٤.

(٤) الكنى لمسلم.

(٥) الكنى والأسماء للدولابي.

(٦) تاريخ دمشق لابن عساكر.

١٤١

حاتم : سألت أبي عنه فقال : ما بحديثه بأس.

وابنه إبراهيم بن محمد بن سليمان أبو إسحاق : ذكره الحاكم أبو أحمد ، وقال : كنّاه لنا محمّد بن الفيض ، وذكره ابن عساكر ؛ وذكر حديثه ، ثمّ قال : قال ابن الفيض : توفّي سنة اثنتين وثلاثين ومائتين (١).

ومحمّد بن الفيض بن محمّد بن الفيض أبو الحسن الغسّاني الدمشقيّ : روى عن خلائق ، روى عنه جماعة منهم : أبو أحمد بن عديّ ، وأبو أحمد الحاكم ، وأبو بكر ابن المقرئ في معجمه ، ذكره ابن زبر وابن عساكر في التأريخ (٢) ، توفّي سنة خمس عشرة وثلاثمائة ، ومولده سنة تسع عشرة ومائتين ، ومدار هذا الإسناد عليه ، فلا حاجة إلى النظر في الإسنادين اللذين رواه ابن عساكر بهما وإن كان رجالهما معروفين مشهورين.

وليس اعتمادنا في الاستدلال بهذا الحديث على رؤيا المنام فقط ، بل على فعل بلال ، وهو صحابيّ ، لا سيّما في خلافة عمر رضى الله عنه ، والصحابة متوافرون ، ولا يخفى عنهم هذه القصّة.

ومنام بلال ورؤياه للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي لا يتمثّل به الشيطان ، وليس فيه ما يخالف ما ثبت في اليقظة ، فيتأكّد به فعل الصحابيّ.

[إبْراد عمر بن عبد العزيز بالسلام على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم]

وقد استفاض عن عمر بن عبد العزيز رضى الله عنه : أنّه كان يبْرِد البريد من الشام يقول : سلّم لي على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣).

__________________

(١) تاريخ دمشق لابن عساكر (٧ / ١٣٦) رقم ٤٩٣.

(٢) تاريخ دمشق لابن عساكر (١٥ / ٨٦١) من النسخة المصوّرة.

(٣) رواه البيهقي في شعب الإيمان () كما نقله في الصارم (ص ٢٤٦).

١٤٢

وممن ذكر ذلك ابن الجوزيّ ، ونقلته من خطّه في كتاب «مثير العزم الساكن» وقد ضبطه بإسكان الباء الموحّدة ، وكسر الراء المخفّفة ، وهو كذلك ، يقال : أبرد فهو مُبْرِدٌ.

وذكره أيضاً الإمام أبو بكر أحمد بن عمرو بن أبي عاصم النبيل ، ووفاته سنة سبع وثمانين ومائتين في «مناسك» له لطيفة جرّدها من الأسانيد ، ملتزماً فيها الثبوت ، قال فيها : وكان عمر بن عبد العزيز يبعث بالرسول قاصداً من الشام إلى المدينة ؛ ليقرئ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثمّ يرجع.

وهذه المناسك رواية شيخنا الدمياطيّ : أنا ابن خليل ، أنا الطرطوسيّ (١) والكرانيّ ، أنا الصيرفيّ ، حدثنا أبو بكر محمّد بن عبد الله بن شاذان ، حدثنا القباب ، حدثنا ابن أبي عاصم.

فسفر بلال في زمن صدر الصحابة ، ورسول عمر بن عبد العزيز في زمن صدر التابعين من الشام الى المدينة ، لم يكن إلّا للزيارة والسلام على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يكن الباعث على السفر غير ذلك ؛ لا من أمر الدنيا ، ولا من أمر الدين ، لا من قصد المسجد ، ولا من غيره ، وإنما قلنا ذلك لئلّا يقول بعض من لا علم له : إنّ السفر لمجرّد الزيارة ليس بسنّة! وسنتكلّم على بطلان ذلك في موضعه.

وأمّا من سافر الى المدينة لحاجة ، وزار عند قدومه ، أو اجتمع في سفره قصد الزيارة مع قصد آخر فكثير.

وقد ورد عن يزيد بن أبي سعيد مولى المهريّ قال : قدمت على عمر بن عبد العزيز ، فلمّا ودّعته قال : لي إليك حاجة ، إذا أتيت المدينة سترى قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأقرئه منّي السلام.

__________________

(١) في (ه) : الطرطوشي.

١٤٣

وورد هذا عن غير عمر بن عبد العزيز أيضاً : قال أبو الليث السمرقنديّ الحنفيّ في «الفتاوى» في باب الحجّ : قال أبو القاسم : لمّا أردت الخروج إلى مكّة قال القاسم بن غسّان : إنّ لي إليك حاجة ، إذا أتيت قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأقرئه منّي السلام.

فلمّا وضعت رجلي في مسجد المدينة ذكرت.

قال الفقيه : فيه دليل أنّ من لم يقدر على الخروج ، فأمر غيره ليسلّم عنه ، فإنّه ينال فضيلة السلام إن شاء الله تعالى ، انتهى.

وفي «فتوح الشام» (١) : أنّه لمّا كان أبو عبيدة منازلاً بيت المقدس ، أرسل كتاباً إلى عمر مع ميسرة بن مسروق رضى الله عنه يستدعيه الحضور ، فلمّا قدم ميسرة مدينة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، دخلها ليلاً ، ودخل المسجد ، وسلّم على قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلى قبر أبي بكر رضى الله عنه.

وفيه أيضاً : أنّ عمر لمّا صالح أهل بيت المقدس ، وقدم عليه كعب الأحبار وأسلم ، وفرح عمر بإسلامه ، قال عمر رضى الله عنه له : هل لك أن تسير معي إلى المدينة وتزور قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتمتع بزيارته؟

فقال لعمر : يا أمير المؤمنين ، أنا أفعل ذلك.

ولمّا قدم عمر المدينة أوّل ما بدأ بالمسجد ، وسلّم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وقد ذكر المؤرّخون والمحدّثون ـ منهم أبو عمر بن عبد البرّ في «الاستيعاب» (٢) وأحمد بن يحيى البلاذريّ في «تأريخ الأشراف» (٣) وابن عبد ربّه في «العقد» (٤) ـ أنّ زياد بن أبيه أراد الحجّ ، فأتاه أبو بكرة رضى الله عنه وهو لا يكلّمه ، فأخذ ابنه فأجلسه في

__________________

(١) فتوح الشام (١ / ١٤٨) ذكر فتح بيت المقدس.

(٢) الاستيعاب (٢ / ٥٢٦) رقم (٨٢٥).

(٣) أنساب الأشراف (١ / ٤٩٣) رقم ٩٩٣.

(٤) العقد الفريد لابن عبد ربه (٥ / ١٢) أخبار زياد.

١٤٤

حجره ليخاطبه ويسمع زياداً فقال : إنّ أباك فعل وفعل ، وإنّه يريد الحجّ ، وأم حبيبة زوج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هناك ، فإن أذنت له فأعظم بها مصيبة وخيانة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإن هي حجبته فأعظم بها حجّة عليه.

فقال زياد : ما تدع النصيحة لأخيك ، وترك الحجّ تلك السنة ، هكذا حكاه البلاذريّ.

وحكى ابن عبد البرّ ثلاثة أقوال :

أحدها : أنّه حجّ ، ولم يزر من أجل قول أبي بكرة.

والثاني : أنّه دخل المدينة وأراد الدخول على امّ حبيبة رضي الله عنها فذكر قول أبي بكرة فانصرف عن ذلك.

والثالث : أنّ امّ حبيبة حجبته ولم تأذن له.

والقصّة على كلّ تقدير تشهد لأنّ زيارة الحاجّ كانت معهودة من ذلك الوقت ، وإلّا فكان زياد يمكنه أن يحجّ من غير طريق المدينة ، بل هي أقرب إليه ؛ لأنّه كان بالعراق ، والإتيان من العراق إلى مكّة أقرب ، ولكن كان إتيان المدينة عندهم أمراً لا يُترك.

[البدأة بمكّة أو بالمدينة ، في سفر الحجّ؟]

واختلف السلف رحمهم‌الله في أنّ الأفضل البداءة بالمدينة قبل مكّة ، أو بمكّة قبل المدينة.

وممّن نصّ على هذه المسألة وذكر الخلاف فيها ؛ الإمام أحمد رحمه‌الله في كتاب «المناسك الكبير» من تأليفه ، وهذه المناسك رواها الحافظ أبو الفضل محمّد بن

١٤٥

ناصر ، عن الحاجب أبي الحسن عليّ بن محمّد العلّاف ، عن أبي الحسن عليّ بن أحمد بن عمر الحمامي ، عن إسماعيل بن عليّ الخطئيّ (١) ، عن عبد الله بن أحمد ، عن أبيه.

في هذه المناسك : سئل عمّن يبدأ بالمدينة قبل مكّة؟

فذكر بإسناده عن عبد الرحمن بن يزيد وعطاء ومجاهد قالوا : إذا أردت مكّة فلا تبدأ بالمدينة ، وابدأ بمكّة ، وإذا قضيت حجّك فامرر بالمدينة إن شئت.

وذكر بإسناده عن الأسود قال : احبّ أن يكون نفقتي وجهازي وسفري أن أبدأ بمكة.

وعن إبراهيم النخعيّ : إذا أردت مكّة فاجعل كلّ شيء لها تبعاً.

وعن مجاهد : إذا أردت الحجّ أو العمرة فابدأ بمكّة ، واجعل كلّ شيء لها تبعاً.

وعن إبراهيم قال : إذا حججت فابدأ بمكّة ، ثمّ مرّ بالمدينة بعد.

وذكر الإمام أحمد أيضاً بإسناده عن عديّ بن ثابت : أنّ نفراً من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانوا يبدءون بالمدينة إذا حجّوا ، يقولون : نهلّ من حيث أحرم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وذكر ابن أبي شيبة في مصنّفه هذا الأثر أيضاً (٢) ، وذكر بإسناده عن علقمة والأسود وعمرو بن ميمون : أنّهم بدءوا بالمدينة قبل مكة (٣).

وقال الموفّق بن قدامة : قال ـ يعني أحمد ـ : وإذا حجّ للذي لم يحجّ قطّ ـ يعني من غير طريق الشام ـ لا يأخذ على طريق المدينة ؛ لأنّي أخاف أن يحدث به حدث ، فينبغي أن يقصد مكّة من أقْصَر الطرق ، ولا يتشاغل بغيره.

__________________

(١) في (ه) : الخطبي.

(٢) المصنف لابن أبي شيبة (٤ / ٣١٨) ب ٣٢ في الرجل يحجّ يبدأ بمكّة أو بالمدينة ، ح (١).

(٣) المصنف لابن أبي شيبة (نفس الموضع والباب) ح (٦).

١٤٦

قلت : وهذا في العمرة متّجه ؛ لأنّه يمكنه فعلها متى وصل إلى مكّة ، وأمّا الحجّ فله وقت مخصوص ، فإذا كان الوقت متّسعاً لم يفت عنه بمروره بالمدينة شيء.

وممّن نصّ على هذه المسألة من الأئمّة أبو حنيفة رحمه‌الله وقال : الأحسن أن يبدأ بمكّة ، روى ذلك الحسن بن زياد عنه فيما حكاه أبو الليث السمرقنديّ.

فانظر كلام السلف والخلف في إتيان المدينة إمّا قبل مكّة ، وإمّا بعدها.

ومن أعظم ما تؤتى له المدينة الزيارة ، ألا ترى أنّ بيت المقدس لا يأتيه إلّا القليل من الناس وإن كان مشهوداً له بالفضل ، والصلاة فيه مضاعفة؟!

فتوفّر الهمم خلفاً عن سلف على إتيان المدينة إنّما هو لأجل الزيارة ، وإن اتفق معها قصد عبادات اخر فهو مغمور بالنسبة إليها.

وأمّا ما نقل من تعليل بعض الصحابة بالإهلال من ميقات النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فذلك أمر مقصود ، وليس هو كلّ المقصود ، ولعلّهم رضي الله عنهم رأوا أنّه ميقاتهم الأصليّ لمّا كانوا بالمدينة مع نبيّهم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأحبّوا أن لا يغيّروا ذلك ، وإلّا فالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقّت لأهل كلّ بلد ميقاتاً ، ولعلّ الإحرام منه أولى ، إلّا أن يعارضه معارض.

والتابعون الكوفيّون الذين اختاروا البداءة بالمدينة لم يُنقل عنهم تعليل ، فلعلّ سببه عندهم إيثار الزيارة ، ولو كانت العلّة الإحرام من ميقات النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يأتوها إذا اتفق لهم البداءة بمكّة ؛ لفوات الإحرام ، فلمّا اتفقوا على إتيانها ـ وإنّما اختلفوا في البداءة ـ دلّ على أنّ العلّة غيره ، وهي ما فيها من المشاهد ، وأعظمها الزيارة ، فهي إمّا كلّ المقصود ، أو معظمه ، وغيرها منغمر فيها.

وممّن اختار البداءة بمكّة ثمّ إتيان المدينة والقبر ؛ الإمام أبو حنيفة ، كما سنحكيه عنه في الباب الرابع.

١٤٧

[الفقهاء يقرّرون السفر لزيارة القبر الشريف]

وقال أبو بكر محمّد بن الحسين الآجريّ في كتاب «الشريعة» (١) في باب دفن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما أحد من أهل العلم قديماً ولا حديثاً ـ ممّن رسم لنفسه كتاباً نسبه إليه من فقهاء المسلمين ، فرسم كتاب المناسك ـ إلّا وهو يأمر كلّ من قدم المدينة ممّن يريد حجّاً أو عمرة ، أو لا يريد حجّاً ولا عمرة ، وأراد زيارة قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمقام بالمدينة لفضلها إلّا وكلّ العلماء قد أمروه ورسموه في كتبهم ، وعلّموه كيف يسلّم على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكيف يسلّم على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما : علماء الحجاز قديماً وحديثاً ، وعلماء أهل العراق قديماً وحديثاً ، وعلماء أهل الشام قديماً وحديثاً ، وعلماء أهل خراسان قديماً وحديثاً ، وعلماء أهل اليمن قديماً وحديثاً ، وعلماء أهل مصر قديماً وحديثاً ، فلله الحمد على ذلك.

وقال قريباً من هذا الكلام أبو عبد الله عبيد الله بن محمّد بن محمّد بن حمدان بن بطة العكبريّ الحنبليّ في كتاب «الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية ومجانبة الفرق المذمومة» (٢) في باب دفن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضاً قال : بحسبك دلالة على إجماع المسلمين واتفاقهم على دفن أبي بكر وعمر مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنّ كلّ عالم من علماء المسلمين وفقيه من فقهائهم ، ألّف كتاباً في المناسك ، ففصّله فصولاً ، وجعله أبواباً ، يذكر في كلّ باب فقهه ، ولكلّ فصل علمه ، وما يحتاج الحاجّ إلى علمه والعمل به قولاً وفعلاً : من الإحرام ، والطواف ، والسعي ، والوقوف ، والنحر ، والحلق ، والرمي ، وجميع ما لا يسع الحاجّ جهله ،

__________________

(١) الشريعة للآجري.

(٢) الإبانة لابن بطة.

١٤٨

ولا غنى بهم عن علمه ، حتّى يذكر زيارة قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيصف ذلك فيقول :

ثمّ تأتي القبر فتستقبله ، وتجعل القبلة وراء ظهرك وتقول : السلام عليك أيّها النبيّ ورحمة الله وبركاته ، حتّى يصف السلام والدعاء.

ثمّ يقول : وتقدم على يمينك قليلاً وتقول : السلام عليك يا أبا بكر وعمر.

وإنّ الناس يحجّون البيت من كلّ فجّ عميق وبلد سحيق ، فإذا أتوا البيت لا يشكّون أنّه بيت الله المحجوج إليه ، وكذلك ما يأتونه من أعمال المناسك وفرائض الحجّ وفضائله ينادي بعضه بعضاً ، حتّى يأتوا قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيسلّمون عليه وعلى صاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، وقد أدركنا الناس ورأيناهم ، وبلغنا عمّن لمن نره أنّ الرجل إذا أراد الحجّ فسلّم عليه أهله وصحابته قالوا له : وتقرأ على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبي بكر وعمر منّا السلام ، فلا ينكر ذلك أحد ولا يخالفه.

هذا كلام ابن بطة رحمه‌الله تعالى ، وقد أنبأنا به جماعة من شيوخنا عن الحافظ أبي الحجّاج يوسف بن خليل بسنده إلى ابن بطة.

ومقصوده ومقصود الآجريّ الردّ على بعض الملحدة في إنكار دفن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمّا زيارته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلم ينكرها أحد ، وإنّما جاءت في كلامهما على سبيل التبع ؛ لأنّه لم يظنّ أحد أن يقع فيها أو في السفر إليها نزاع في قرن الثمانمائة.

واستفيد من كلامهما أنّ سفر الحجيج إليها لم يزل في السلف والخلف ، وأنّها تابعة للمناسك.

وأبو بكر الآجريّ هذا قديم ، توفّي في المحرّم سنة ستّين وثلاثمائة ، وكان ثقة صدوقاً ديّناً ، وله تصانيف كثيرة ، وحدّث ببغداد قبل سنة ثلاثين وثلاثمائة ، انتقل إلى مكّة فسكنها حتّى توفّي بها.

١٤٩

وابن بطة المذكور توفّي في المحرّم سنة سبع وثمانين وثلاثمائة بعكبرى ، من فقهاء الحنابلة ، كان إماماً فاضلاً عالماً بالحديث ، وفقهه أكثر من الحديث ، وصنّف التصانيف المفيدة.

وهكذا قال غيرهما :

قال القاضي عياض (١) : قال إسحاق بن إبراهيم الفقيه : وممّا لم يزل من شأن من حجّ المرور بالمدينة والقصد إلى الصلاة في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتبرّك برؤية روضته ، ومنبره ، وقبره ، ومجلسه ، وملامس يديه ، ومواطئ قدميه ، والعمود الذي كان يستند إليه ، وينزل جبرئيل بالوحي فيه عليه ، وبمن عمّره وقصده من الصحابة وأئمّة المسلمين ، والاعتبار في ذلك كلّه.

وقد ذكرنا في باب نصوص العلماء على استحباب الزيارة قول الباجي المالكيّ : إنّ الغرباء قصدوا لذلك ؛ يعني قصدوا المدينة من أجل القبر والتسليم.

ذكر هذا في معرض الفرق بين أهل المدينة والغرباء لمّا فرق مالك رحمه‌الله بينهم ، كما سبق.

وسنذكر في الباب الرابع من كلام العبديّ المالكيّ في «شرح الرسالة» أنّ المسير إلى المدينة لزيارة قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أفضل من الكعبة ومن بيت المقدس.

وأكثر عبارات الفقهاء أصحاب المذاهب ممّن حكينا كلامهم في باب الزيارة ، يقتضي استحباب السفر ؛ لأنّهم استحبّوا للحاجّ بعد الفراغ من الحجّ الزيارة ، ومن ضروريّها السفر.

__________________

(١) الشفاء ، بتعريف حقوق المصطفى عليه‌السلام للقاضي عياض (٢ / ١٩٧) الفصل (٩) حكم زيارة قبره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وشعب الايمان للبيهقي (ص).

١٥٠

[حكاية العُتبيّ عن الأعرابيّ]

وحكاية الأعرابيّ المشهورة التي ذكر المصنفون في مناسكهم ، وفي بعض طرقها : أنّ الأعرابيّ ركب راحلته وانصرف ، وذلك يدلّ أنّه كان مسافراً.

والحكاية المذكورة ذكرها جماعة من الأئمة عن العتبيّ ، واسمه محمّد بن عبيد الله بن عمرو بن معاوية بن عمرو بن عتبة بن أبي سفيان ؛ صخر بن حرب ، كان من أفصح الناس ، صاحب أخبار ورواية للآداب ، حدّث عن أبيه ، وسفيان ابن عيينة (١) توفي سنة ثمان وعشرين ومائتين ، يكنّى أبا عبد الرحمن.

وذكرها ابن عساكر في تأريخه (٢) ، وابن الجوزيّ في «مثير العزم الساكن» وغيرهما بأسانيدهم إلى محمّد بن حرب الهلاليّ قال : دخلت المدينة ، فأتيت قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فزرته وجلست بحذائه ، فجاء أعرابيّ فزاره ، ثمّ قال : يا خير الرسل ، إن الله أنزل عليك كتاباً صادقاً قال فيه : (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً) وإنّي جئتك مستغفراً ربّك من ذنوبي ، مستشفعاً فيها بك.

وفي رواية : وقد جئتك مستغفراً من ذنبي ، مستشفعاً بك إلى ربّي.

ثمّ بكى وأنشأ يقول :

يا خير من دفنت بالقاع أعظمه

فطاب من طيبهنّ القاع والأكم

نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه

فيه العفاف وفيه الجود والكرم

ثمّ استغفر وانصرف فرقدت فرأيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في نومي وهو يقول : «الحق الرجل ، وبشّره أن الله قد غفر له بشفاعتي» فاستيقظت فخرجت أطلبه

__________________

(١) في (ه) : عتبة.

(٢) تاريخ ابن عساكر.

١٥١

فلم أجده.

وقد نظم أبو الطيّب أحمد بن عبد العزيز بن محمّد المقدسيّ رحمه‌الله وسأله بعضهم الزيادة على هذين البيتين وتضمينهما ، فقال ـ ورواها ابن عساكر رحمه‌الله عنه ـ (١) :

أقول والدمع من عينيّ منسجم

لمّا رأيتُ جدار القبر يُستلم

والناس يغشونه باكٍ ومنقطعٌ

من المهابة أو داعٍ فملتزم

فما تمالكتُ أن ناديتُ من حرق

في الصدر كادت له الأحشاء تضطرم

يا خير من دُفنتْ بالقاع أعظمُه

فطابَ من طيبهنّ القاع والأكم

نفسي الفداء لقبر أنتَ ساكنه

فيه العفاف وفيه الجود والكرم

وفيه شمس التقى والدين قد غربت

من بعد ما أشرقتْ من نورها الظلم

حاشا لوجهك أن يبلى وقد هُديتْ

في الشرق والغرب من أنواره الأمم

وأن تمسّك أيدي الترب لامسةً

وأنت بين السماوات العلى علم

لقيتَ ربّك والإسلام صارمه

ماضٍ وقد كان بحر الكفر يلتطم

فقمت فيه مَقام المرسلين إلى

أن عزّ فهو على الأديان يحتكم

لئن رأيناه قبراً إنّ باطنه

لروضة من رياض الخلد تبتسم

طافت به من نواحيه ملائكة

تغشاه في كلّ ما يوم وتزدحم

لو كنتُ أبصرته حيّاً لقلت له :

لا تمشِ إلّا على خدّي لك القدم

هدى به الله قوماً قال قائلهم

ببطن يثرب (٢) لمّا ضمه الرجم :

إن مات أحْمَدُ فالرحمن خالقه

حيّ ونعبده ما أورق السلم

قال الجوهريّ رحمه‌الله : الرجَم ـ بالتحريك ـ القبر ، والله تعالى أعلم.

__________________

(١) تاريخ ابن عساكر.

(٢) حرّف ابن عبد الهادي في الصارم المنكي (ص ٢٥٣) كلمة «يثرب» إلى (حكة)!!

١٥٢

الباب الرابع :

في

نُصوص العُلماء على استحباب زيارة

قبر سيّدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

وبيان أنّ ذلك مجمعٌ عليه بين المسلمين

١٥٣
١٥٤

قال القاضي عياض رحمه‌الله : وزيارة قبره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سنّة بين المسلمين مجمع عليها ، وفضيلة مرغّب فيها (١).

وقال القاضي أبو الطيّب : ويستحبّ أن يزور النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد أن يحجّ ويعتمر.

وقال المحامليّ في «التجريد» : ويستحبّ للحاجّ إذا فرغ من مكّة أن يزور قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وقال أبو عبد الله الحسين بن الحسن الحليميّ في كتابه المسمّى ب «المنهاج في شعب الإيمان في تعظيم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» فذكر جملة من ذلك ، ثمّ قال : وهذا كان من الذين رزقوا مشاهدته وصحبته ، فأمّا اليوم فمن تعظيمه زيارته.

وقال الماورديّ في «الحاوي» : أمّا زيارة قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فمأمور بها ، ومندوب إليها.

وذَكر الماورديّ في «الأحكام السلطانيّة» باباً في الولاية على الحجيج قال :

__________________

(١) الشفاء للقاضي عياض (٢ / ١٩٤) الفصل (٩) وفي طبعة (٢ / ٧٤).

١٥٥

ولاية الحجّ ضربان :

أحدهما : على تسيير الحجيج.

والثاني : على إقامة الحجّ.

فأمّا الأوّل : فشرط المتولّي أن يكون مطاعاً ذا رأي وشجاعة ، وعليه في هذه الولاية عشرة أشياء ... فذكرها.

ثمّ قال : فإذا قضى الناس حجّهم أمهلهم الأيّام التي جرت عادتهم بها ، فإذا رجعوا سار بهم على طريق مدينة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليجمع لهم بين حجّ بيت الله ، وزيارة قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رعايةً لحرمته ، وقياماً بحقوق طاعته ، وذلك وإن لم يكن من فروض الحجّ فهو من مندوبات الشرع المستحبّة ، وعادات الحجيج المستحسنة (١).

وقال صاحب «المهذّب» : ويستحبّ زيارة قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وقال القاضي حسين : إذا فرغ من الحجّ فالسُنّة أن يقف بالملتزم ويدعو ، ثمّ يشرب من ماء زمزم ، ثمّ يأتي المدينة ويزور قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وقال الروياني : يستحبّ إذا فرغ من حجّه أن يزور قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ولا حاجة إلى تتبّع كلام الأصحاب في ذلك ، مع العلم بإجماعهم وإجماع سائر العلماء عليه.

والحنفية قالوا : إنّ زيارة قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أفضل المندوبات والمستحبّات ، بل تقرب من درجة الواجبات.

وممّن صرّح بذلك منهم أبو منصور محمّد ابن مكرم الكرمانيّ في «مناسكه» ، وعبد الله بن محمود بن بلدحي في «شرح المختار» (٢).

__________________

(١) الأحكام السلطانية للماوردي (ص ١٠٨ ـ ١٠٩).

(٢) لاحظ ردّ المحتار على شرح المختار (٢ / ٢٥٧).

١٥٦

وفي «فتاوى أبي الليث السمرقنديّ» في باب أداء الحجّ : روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أنّه قال : الأحسن للحاجّ أن يبدأ بمكّة ، فإذا قضى نسكه مرّ بالمدينة ، وإن بدأ بها جاز ، فيأتي قريباً من قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيقوم بين القبر والقبلة ، فيستقبل القبلة ، ويصلّي على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ويترحّم عليهما.

وقال أبو العباس السروجيّ في «الغاية» : إذا انصرف الحاجّ والمعتمرون من مكّة ، فليتوجّهوا إلى طيبة مدينة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وزيارة قبره ؛ فإنّها من أنْجح المساعي.

[نصوص الحنابلة]

وكذلك نصّ عليه الحنابلة أيضاً ؛ قال أبو الخطّاب محفوظ بن أحمد بن الحسن (١) الكلواذانيّ الحنبلي في كتاب «الهداية» في آخر باب صفة الحجّ : وإذا فرغ من الحجّ استحبّ له زيارة قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقبر صاحبيه.

وقال أبو عبد الله محمّد بن عبد الله بن الحسين بن أحمد بن القاسم بن إدريس السامريّ في كتاب «المستوعب» : باب زيارة قبر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإذا قدم مدينة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استحبّ له أن يغتسل لدخولها ، ثمّ يأتي مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام ويقدّم رجله اليمنى في الدخول ، ثمّ يأتي حائط القبر ، فيقف ناحية ، ويجعل القبر تلقاء وجهه ، والقبلة خلف ظهره ، والمنبر عن يساره ... وذكر كيفيّة السلام والدعاء إلى آخره.

ومنه : اللهمّ إنّك قلت في كتابك لنبيّك عليه‌السلام : (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ

__________________

(١) في (ه) : الحسين.

١٥٧

جاؤُكَ ...) الآية ، وإنّي قد أتيت نبيّك مستغفراً ، فأسألك أن توجب لي المغفرة ، كما أوجبتها لمن أتاه في حياته ، اللهمّ إنّي أتوجّه إليك بنبيّك صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ... وذكر دعاء طويلاً.

ثمّ قال : وإذا أراد الخروج عاد إلى قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فودّع.

وانظر هذا المصنّف من الحنابلة ـ الذين الخصم متمذهب بمذهبهم (١) ـ ، كيف نصّ على التوجّه بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم!

وكذلك أبو منصور الكرمانيّ من الحنفيّة قال : إن كان أحد أوصاك بتبليغ السلام تقول : السلام عليك يا رسول الله من فلان بن فلان ، يستشفع بك إلى ربّك

__________________

(١) دعوى ابن تيميّة أنّه على المذهب الحنبلي مشهورة ، لكنّه مخالف له في عقائده بأصول الدين وأحكامه في فروع الدين ، لاحظ للتوسع :

كتاب «دفع شُبَه من شَبّه وتمرّد ونسب ذلك إلى الإمام أحمد» للإمام تقي الدين الحِصْنيّ ، وهو مطبوع.

وكتاب «صلح الإخوان في الردّ على من قال على المسلمين بالشرك والكفران» للعلّامة داود بن سليمان النقشبندي العاني البغدادي ، وهو مطبوع.

وانظر الصارم المنكي (ص ١٤٥) فقد نقل الأثرم عن أحمد بن حنبل : قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يُلمس ويتمسّح به؟ قال : ما أعرف هذا ، قلت : فالمنبر؟ قال : أما المنبر ، فنعم.

وقد جاء عن ابن عمر انّه مسح على المنبر ، ومن سعيد بن المسيب : في الرمانة.

قلت : انّهم يلصقون بطونهم بجدار القبر ورأيت أهل العلم من أهل المدينة لا يمسّونه ويقومون ناحية فيسلّمون ، فقال : نعم.

وهكذا صدّق أحمد بأنّ الناس كانوا يفعلون بجدار القبر ، ولم يستنكره ، ولم يكرهه ولم يكفر القائمين بمسح بطونهم بجدار القبر ، كما يفعل السلفية المدعون للحنبلية في عصر ابن تيمية والوهابية اليوم! قطع الله أيديهم ، وكفى القبر الشريف وزائريه الكرام شرورهم.

وانظر رفع المنارة (ص ٥٧ ه‍) فقد نقل نصّاً قاطعاً عن الحافظ الذهبي في معجم الشيوخ (١ / ٧٣ ـ ٧٤) فيه عن أحمد انّه لم يرَ بأساً بلمس القبر النبوي. وفيه كلام عجيب تكفّره عليه السلفيّة الأجلاف!

١٥٨

بالرحمة والمغفرة ، فاشفع له.

وسنعقد لذلك باباً في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.

وقال نجم الدين بن حمدان الحنبليّ في «الرعاية الكبرى» : ويسنّ لمن فرغ من نسكه زيارة قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقبر صاحبيه رضي الله عنها ، وله ذلك بعد فراغ حجّه ، وإن شاء قبل فراغه.

وقد عقد ابن الجوزيّ في كتابه المسمّى «مثير العزم الساكن إلى أشرف الأماكن» (١) باباً في زيارة قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذكر فيه حديث ابن عمر وحديث أنس رضي الله عنهم.

وقال الشيخ موفّق الدين بن قدامة المقدسيّ في كتاب «المغني» (٢) وهو من أعظم كتب الحنابلة التي يعتمدون عليها : فصل : يستحبّ زيارة قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وذكر حديث ابن عمر من طريق الدارقطنيّ ومن طريق سعيد بن منصور عن حفص ، وحديث أبي هريرة رضى الله عنه من طريق أحمد : «ما من أحد يسلّم عليّ عند قبري ...» (٣).

وكذلك نصّ عليه المالكيّة ، وقد تقدّم حكاية القاضي عياض الإجماع.

وفي كتاب «تهذيب المطالب» (٤) لعبد الحقّ الصقليّ عن الشيخ أبي عمران المالكيّ : أنّ زيارة قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واجبة (٥).

__________________

(١) مثير العزم الساكن لابن الجوزي.

(٢) المغني لابن قدامة (٣ / ٥٥٨).

(٣) المغني لابن قدامة (٣ / ٥٨٨) وقد مرّ سابقاً.

(٤) في معجم المؤلفين (٥ / ٩٤) سمّاه : تهذيب الطالب! فلاحظ.

(٥) وجوب الزيارة نقله الأخنائي المالكي في ردّه على ابن تيمية كما في (الصارم ص ١٥٧). قال رحمه‌الله : وعُنِيَ السادة العلماء المجتهدين بالحضّ على ذلك والندب إليه وعلى ذلك والندب

١٥٩

قال عبد الحقّ : يعني من السنن الواجبة.

وقال عبد الحقّ أيضاً في هذا الكتاب : رأيت في بعض المسائل التي سئل عنها الشيخ أبو محمّد بن أبي زيد : قيل له في رجل استؤجر بمال ليحجّ به ، وشرطوا عليه الزيارة : لم يستطع تلك السنة أن يزور لعذر منعه من تلك؟

قال : يردّ من الاجرة بقدر مسافة الزيارة.

__________________

إليه والغبطة لمن سارع لذلك وداوم عليه حتى نحا بعضهم في ذلك إلى الوجوب ورفعه عن درجة المباح والمندوب.

لا بدّ أن يحمل هذا الوجوب على الكفائي ـ دون العيني ـ وذلك بعنوان تعظيم الشعائر الإسلامية ، إذ لا ريب أنّ تركها فيه من الجفاء وعدم الاهتمام بالرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما يتوق له أعداء الإسلام ، ويروّجون له ، ولهذا ترى السلفية اللئام يركّزون عليه ، ويمنعونه ويقبّحونه بشتّى الأشكال والأساليب ، وبكلمة «التوحيد» التي هي حق ، لكن يُراد بها باطل لازدراء بمقام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقبره المعظّم.

والمحافظة على كرامة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالوفود على قبره المعظّم وزيارته والسلام عليه عند قبره بالقصد الخاص من أعظم القرب الدينية والشعائر الإسلامية ، في كل العصور ، وخصوصاً في عصرنا الذي تستولي زمرة الوهابيّة ، عبّاد الامراء والملوك ، وعبيد الدنيا والدولار ، على تلك المشاهد الشريفة والبيوت المرفوعة ، قطع الله شأفتهم ، وأراح البلاد والعباد منهم ، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله.

وسيأتي بعض هذا في كلام الإمام السبكي المؤلّف في الباب الخامس : في تقرير كون زيارة قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قربة.

وسيعيد المصنّف عبارة الصقلي هذا في هذا الباب عند نقل فتوى مالك كراهة لفظ «الزيارة».

والغريب ان ابن عبد الهادي ذكر في الصارم (٣٢٥) النوع الثالث من أنواع زيارة القبور ، قال : فهو زيارتها للدعاء .. إلى أن يقول : وهذا مشروع ، بل فرض على الكفاية متواتر متفق عليه بين المسلمين! لكنّه لم يصرّح هنا باسم زيارة قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل أطلق ، وهذا من أساليب تلبيس السلفية الأوغاد. وكتب السيّد

١٦٠