شفاء السّقام في زيارة خير الأنام صلى الله عليه وآله

علي بن عبدالكافي بن علي أبوالحسن الأنصاري الخزرجي المصري الشافعي [ تقي الدين السبكي ]

شفاء السّقام في زيارة خير الأنام صلى الله عليه وآله

المؤلف:

علي بن عبدالكافي بن علي أبوالحسن الأنصاري الخزرجي المصري الشافعي [ تقي الدين السبكي ]


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دائرة المعارف العثمانيّة
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٣٢

قال ابن ناصر : وقرأت هذا الكتاب مراراً على الشيخ الصالح ؛ أبي غالب محمّد بن الحسن بن عليّ البصريّ الماورديّ.

قالا : أنا أبو عليّ عليّ بن أحمد بن علي التستريّ قال : أنا أبو عمر القاسم بن جعفر بن عبد الواحد الهاشميّ ، أنا أبو عليّ محمّد بن أحمد بن عمرو اللؤلؤيّ ، حدثنا أبو داود سليمان بن الأشعث بن إسحاق السجستانيّ قال : حدثنا محمّد بن عوف ، حدثنا المقرئ ، حدثنا حَيْوة ، عن أبي صخر حُمَيْد بن زياد ، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط ، عن أبي هريرة ... فذكره بلفظه.

وهذا إسناد صحيح ؛ فإنّ محمّد بن عوف ـ شيخ أبي داود : ـ جليل حافظ لا يسأل عنه ، وقد رواه معه عن المقرئ عبّاس بن عبد الله الترقفيّ ، رواه من جهته أبو بكر البيهقيّ (١).

والمقرىء ، وحَيْوة ، ويزيد بن عبد الله بن قسيط : متّفق عليهم.

وحُمَيْد بن زياد : روى له مسلم ، وقال أحمد : ليس به بأس ، وكذلك قال أبو حاتم ، وقال يحيى بن معين : ثقة ليس به بأس.

وروي عن ابن معين فيه رواية : أنّه ضعيف.

ورواية التوثيق ترجّح عليها ؛ لموافقتها أحمد ، وأبا حاتم ، وغيرهما.

وقال ابن عديّ : هو عندي صالح الحديث ، وإنّما أنكرت عليه حديثين : «المؤمن يألف» وفي القدريّة ، وسائر حديثه أرجو أن يكون مستقيماً (٢).

وأمّا قول الشيخ زكيّ الدين فيه : إنّه أنكر عليه شيئاً من حديثه ، فقد بيّنا عن ابن عديّ تعيين ما أنكر عليه ، وليس منه هذا الحديث ، وبمقتضى هذا يكون هذا

__________________

(١) السنن الكبرى للبيهقي (٥ / ٢٤٥) كتاب الحج ، باب زيارة قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

(٢) الكامل لابن عدي (٢ / ٦٨٤) ترجمة حميد بن زياد ، والجرح والتعديل للرازي (٣ / ٢٢٢).

١٢١

الحديث صحيحاً إن شاء الله تعالى.

وقد اعتمد جماعة من الأئمّة على هذا الحديث في مسألة الزيارة ، وصدّر به أبو بكر البيهقيّ «باب زيارة قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ، وهو اعتماد صحيح ، واستدلال مستقيم ؛ لأنّ الزائر المسلّم على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحصل له فضيلة ردّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم السلام عليه ، وهي رتبة شريفة ، ومنقبة عظيمة ، ينبغي التعرّض لها ، والحرص عليها ؛ لينال بركة سلامه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فإن قيل : ليس في الحديث تخصيص بالزائر ، فقد يكون هذا حاصلاً لكل مسلّمٍ ؛ قريباً كان أو بعيداً ، وحينئذٍ تحصل هذه الفضيلة بالسلام من غير زيارة ، والحديث عامّ.

قلت : قد ذكره ابن قدامة من رواية أحمد (١) ، ولفظه : «ما من أحد يسلّم عليّ عند قبري» وهذه زيادة مقتضاها التخصيص.

فإنّ ثبت فذاك ، وإن لم يثبت فلا شكّ أنّ القريب من القبر يحصل له ذلك ؛ لأنّه في منزلة المسلّم بالتحيّة التي تستدعي الردّ ، كما في حال الحياة ، فهو بحضوره عند القبر قاطع بنيل هذه الدرجة على مقتضى الحديث ، متعرّض لخطاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له بردّ السلام عليه ، وفي المواجهة بالخطاب فضيلة زائدة على الردّ على الغائب.

[أنواع السلام على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم]

واعلم : أنّ السلام على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على نوعين :

أحدهما : المقصود به الدعاء (٢) ، كقولنا : «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» فهذا دعاء منّا

__________________

(١) المغني لابن قدامة (٣ / ٥٨٨).

(٢) سيذكر المؤلّف في (خاتمة) هذا الكتاب ألفاظ «الصلاة» على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الواردة في النصوص الحديثية ، فراجع.

١٢٢

له بالصلاة والتسليم من الله تعالى ، ويقال للعبد : «مسلّم» لدعائه بالسلام ، كما يقال له : «مصلّ» إذا دعا بالصلاة :

قال الله تعالى : (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الآية (٥٦) سورة الأحزاب (٣٣)].

وسئل صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ كما ثبت في الصحيحين (١) وغيرهما ـ قيل : قد عرفنا السلام عليك ، فكيف الصلاة عليك؟

قال : «قولوا : اللهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد ، كما صلّيت على إبراهيم ، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد ، كما باركت على آل إبراهيم في العالمين ، إنّك حميد مجيد ، والسلام كما قد علّمتم».

قال العلماء : معناه كما قد علّمتم في التشهّد «السلام عليك أيّها النبيّ ورحمة الله وبركاته».

وقد يأتي هذا القسم بلفظ الغيبة ، كما روي عن فاطمة بنت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورضي عنها قالت : قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا دخلت المسجد فقولي : بسم الله ، والسلام على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، اللهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد ، واغفر لنا ، وسهّل لنا أبواب رحمتك ، فإذا فرغت فقولي مثل ذلك غير أن قولي : وسهّل لنا أبواب فضلك».

رواه القاضي إسماعيل بهذا اللفظ ، ورواه ابن ماجة في سننه (٢) عن فاطمة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا دخل المسجد يقول : «بسم الله ،

__________________

(١) صحيح البخاري (٦ / ٤٨٩) باب (٤٥٢) كتاب التفسير ، ذيل الآية وصحيح مسلم (٢ / ١٦) باب الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد التشهّد.

(٢) سنن ابن ماجة (١ / ٢٥٣) كتاب المساجد والجماعات ، باب (١٣) الدعاء عند دخول المسجد.

١٢٣

والسلام على رسول الله ، اللهمّ اغفر لي ذنوبي ، وافتح لي أبواب رحمتك» وإذا خرج قال : «بسم الله ، والسلام على رسول الله ، اللهمّ اغفر لي ذنوبي ، وافتح لي أبواب فضلك».

والإسناد إلى فاطمة رضي الله عنها عن الطريقين فيه انقطاع.

والمختار أن يقول في ذلك أيضاً : السلام عليك أيّها النبيّ ، كما في التشهد.

والمقصود من هذه الأحاديث : بيان هذا النوع من السلام على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلفظ الخطاب والغيبة جميعاً ، ولا فرق في ذلك بين الغائب عنه ، والحاضر عنده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وهذا النوع هو الذي قيل باختصاصه بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الأُمّة ؛ حتّى لا يسلّم على غيره من الأُمّة إلّا تبعاً له ، كما لا يُصلّى على غيره من الأُمّة إلّا تبعاً له.

النوع الثاني : ما يقصد به التحيّة ، كسلام الزائر إذا وصل إلى حضرته الشريفة عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حياته وبعد وفاته.

وهذا غير مختصّ ، بل هو عامّ لجميع المسلّمين ، ولهذا كان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يأتي إلى القبر ويقول : السلام عليك يا رسول الله ، السلام عليك يا أبا بكر ، السلام عليك يا أبتاه ، وورد عنه بلفظ الخطاب وبلفظ الغيبة.

إذا عرف هذان النوعان ، فالنوع الثاني لا شكّ في استدعائه الردّ ، وأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يردّ على المسلّم عليه ، كما اقتضاه الحديث ؛ سواء أوصل بنفسه إلى القبر ، أم أرسل رسولاً؟ كما كان عمر بن عبد العزيز يرسل البريد من الشام إلى المدينة ليسلّم له على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ففي هذين القسمين من هذا النوع يحصل الردّ من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما هو عادة الناس في السلام.

وأمّا النوع الأوّل فالله أعلم ، فإن ثبت الردّ فيه أيضاً ـ وحبّذا ، لتشملنا بركة

١٢٤

ذلك كلّما سلّمنا ـ فلا شكّ أنّ الحاضر عند القبر له مزيّة القرب والخطاب ، وإن كان الردّ مختصّاً بالنوع الثاني حرم من لم يزر هذه الفضيلة ، لا حرم الله مؤمناً خيراً.

وقد روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «أتاني ملك فقال : يا محمّد ، ربّك يقول : أما يرضيك أن لا يصلّي عليك أحد من امّتك إلّا صلّيت عليه عشراً ، ولا يسلّم عليك إلّا سلّمت عليه عشراً» ، رواه القاضي إسماعيل.

والظاهر أنّ هذا في السلام بالنوع الأوّل.

وقد ورد تفسير هذا الحديث عن الإمام الجليل ؛ أبي عبد الرحمن عبد الله بن يزيد المقرئ ، بما يوافق النوع الثاني :

أخبرنا بذلك سليمان بن حمزة قاضي القضاة الحنبليّ بالشام بقراءتي عليه بسفح جبل قاسيون ، أخبرنا جعفر الهمدانيّ ، أخبرنا السلفيّ ، أخبرنا الشراح ، أخبرنا أبو محمّد الحسن بن محمّد الخلّال الحافظ ، حدثنا عبد الله بن محمّد بن الحسن بن محمّد الشراحيّ قدم علينا قال : سمعت أبا عبد الله أحمد بن خالد الجروريّ قال : سمعت أبا عبد الله محمّد بن زيد يقول : سمعت المقرئ عبد الله بن يزيد يقول في قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما من أحد يسلّم عليّ إلّا ردّ الله عليّ روحي حتّى أردّ عليه‌السلام» وقال : هذا في الزيارة إذا زارني فسلّم عليّ «حتّى ردّ الله عليّ روحيّ حتّى أردّ عليه»

فصل : في علم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمن يسلّم عليه

روي عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إن لله ملائكة سيّاحين في الأرض ؛ يبلغوني من امّتي السلام».

رواه النسائيّ (١) وإسماعيل القاضي وغيرهما من طرق مختلفة بأسانيد صحيحة

__________________

(١) سنن النسائي (٣ / ٤٣).

١٢٥

لا ريب فيها إلى سفيان الثوريّ ، عن عبد الله بن السائب ، عن زاذان ، عن عبد الله ، وصرّح الثوريّ بالسماع فقال : حدّثني عبد الله بن السائب ، هكذا في كتاب القاضي إسماعيل (١).

وعبد الله بن السائب وزاذان : روى لهما مسلم ، ووثّقهما ابن معين ، فالإسناد إذن صحيح.

ورواه أبو جعفر محمّد بن الحسن الأسديّ ، عن سفيان الثوريّ ، عن عبد الله ابن السائب ، عن زاذان ، عن عليّ رضى الله عنه ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إنّ لله ملائكة يسيحون في الأرض ؛ يبلغوني صلاة من صلّى عليّ من امّتي».

قال الدارقطنيّ (٢) : المحفوظ عن زاذان ، عن ابن مسعود : «يبلغوني عن امّتي السلام».

وقال بكر بن عبد الله المزنيّ : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «حياتي خير لكم ؛ تحدّثون ، ويحدّث لكم ، فإذا متّ كانت وفاتي خيراً لكم ؛ تعرض عليّ أعمالكم ، فإن رأيت خيراً حمدت الله ، وإن رأيت غير ذلك استغفرت الله لكم» (٣).

__________________

(١) كتاب فضل الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، للقاضي إسماعيل.

(٢) سنن الدارقطني.

نقله في مجمع الزوائد (٩ / ٢٤) عن البزّار ، قال في الصارم (٢٠٢) : رواه أحمد في مسنده ، ورواه أبو يعلى الموصلي ورواه ابن أبي عاصم ورواه الحاكم في المستدرك (٢ / ٤٢١) وحكم له بالصحّة ، ورواه أبو حاتم البستي (٢ / ١٣٤) في كتاب الأنواع والتقاسيم عن أبي يعلى وقد سُئل الدار قطني في كتاب العلل عنه؟ فقال ....

وعلّق عليه : رواه في الكبرى كما في تحفة الأطراف (٧ / ٢١) وفي عمل اليوم والليلة رقم (٦٦) قال الهيثمي في مجمع الزوائد (٩ / ٢٤) : رواه البزار ورجاله رجال الصحيح ، وفي فيض القدير (٢ / ...) قال الحافظ العراقي : الحديث متفقٌ عليه دون قوله «سيّاحين».

(٣) قال في الصارم (ص ٢٠٣) هذا خبر مرسل رواه القاضي إسماعيل بن إسحاق في كتاب فضل

١٢٦

قال أيّوب السختيانيّ : بلغني ـ والله أعلم ـ أنّ ملكاً موكّل بكلّ من صلّى على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى يبلغه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وفي كتاب «فضل الصلاة على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» للقاضي إسماعيل ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تجعلوا بيوتكم قبوراً ، وصلّوا عليّ وسلّموا حيث كنتم ، فسيبلغني سلامكم وصلاتكم».

وهذا الحديث في «سنن أبي داود» (١) من غير ذكر السلام ، وفي هذه الرواية زيادة : «السلام».

وروى ابن عساكر (٢) من طرق مختلفة عن نعيم بن ضمضم العامريّ [عن عمران] بن حميري الجعفيّ قال : سمعت عمّار بن ياسر رضي الله عنهما يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ الله أعطاني ملكاً من الملائكة يقوم على قبري إذا أنا متّ ، فلا يصلّي عليّ عبد صلاة إلّا قال : يا أحمد ، فلان بن فلان بن فلان يصلّي عليك ، يسمّيه باسمه واسم أبيه ، فيصلّي الله عليه مكانها عشراً».

وفي رواية : «إنّ الله أعطى ملكاً من الملائكة أسماء الخلائق» ـ وفي رواية : «أسماع الخلائق» ـ «فهو قائم على قبري إلى يوم القيامة ...» وذكر الحديث.

وعن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال : ليس أحد من امّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصلّي عليه صلاة إلّا وهي تبلغه ؛ يقول له الملك : فلان بن فلان يصلّي عليك كذا

__________________

الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (ص ٣٦ رقم ٢٥) عن سليمان بن حرب عن حمّاد بن زيد عن غالب القطان عن بكر بن عبد الله ، وهذا إسناد صحيح إلى بكر المزني ، وبكر من ثقات التابعين وأئمّتهم.

(١) سنن أبي داود (٢ / ٢١٨) ح ٢٠٤٢ كتاب المناسك زيارة القبور ، وزاد : ولا تجعلوا قبري عبداً ، ورواه القاضي في فضل الصلاة (ص ٤٥).

(٢) تاريخ دمشق لابن عساكر.

١٢٧

وكذا صلاة (١).

وما تضمّنته هذه الأحاديث والآثار من تبليغ الملائكة للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، تبيّن ما ورد من كون الصلاة عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تعرض عليه ، كما جاء ذلك في أحاديث :

منها في «سنن أبي داود والنسائيّ وابن ماجة» (٢) عن أوس بن أوس رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ من أفضل أيّامكم يوم الجمعة ، فأكثروا عليّ من الصلاة فيه ، فإنّ صلاتكم معروضة عليّ».

قال : فقالوا : يا رسول الله ، وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ ـ قال يقولون : بليت ـ.

__________________

(١) وروى المتعصّب العنيد ابن عبد الهادي في الصارم المنكي (ص ٢٠٦) قال : وقال عيسى بن علي الوزير : قرئ على القاضي أبي القاسم بدر بن الهيثم ـ وأنا أسمع ـ قيل له : حدثكم عمرو بن النصر العزال ، حدّثنا عصمة بن عبد الله الأسدي ، حدّثنا نعيم بن ضمضم ، عن عمران بن الحميري ، قال : قال لي عمّار بن ياسر ـ وأنا وهو مُقْبِلان ، ما بين الحيرة والكوفة ـ : يا عمران بن الحميري ، ألا اخبرك بما سمعت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ قال : قلت : بلى ، فأخبرني! قال : إن الله أعطى ملكاً من الملائكة أسماع الخلائق ، فهو قائم على قبري إلى يوم القيامة ، لا يصلّي عليَّ أحدٌ صلاةً إلّا سمّاه باسمه واسم أبيه ...» الحديث.

وقال عثمان بن خُرّزاذ : حدّثني سعيد بن محمد الجرمي ، حدّثنا علي بن القاسم الكندي عن نعيم بن ضمضم ، عن عمران بن حميري ، قال : قال لي عمّار بن ياسر : ألا احدّثك عن حبيبي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا عمّار ، ان الله عزوجل أعطى ملكاً أسماع الخلائق ...» الحديث بنحوه.

وقد روى هذا الحديث أيضاً محمد بن هارون الروياني في مسنده () عن أبي كريب عن قبيصة عن نعيم ، وهو حديث غريب (!) تفرّد به نعيم عن عمران بن حصين ، والله أعلم!!.

(٢) سنن أبي داود (١ / ٢٣٦) باب فضل الجمعة وليلة الجمعة ح ١٠٤٧ و (١ / ٣٤٢) ح ١٥٣١ باب في الاستغفار ، وسنن النسائي (٣ / ٩١) ، وسنن ابن ماجة (١ / ٣٤٥) كتاب إقامة الصلاة باب (٧٩) في فضل الجمعة ح ١٠٨٥ وفيه : شدّاد عن أوس ، وذكره في الجنائز كما سيأتي.

١٢٨

قال : «إنّ الله حرّم على الأرض أجساد الأنبياء» (١).

قال الشيخ الحافظ زكيّ الدين المنذريّ رحمه‌الله : وله علّة دقيقة أشار إليها البخاريّ وغيره ، وقد جمعت طرقه في «جزء الحديث المذكور» من رواية حسين الجعفيّ ، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، عن أبي الأشعث الصنعانيّ ، عن أوس ابن أوس ، وهؤلاء ثقات مشهورون ، وعلّته أنّ حسين بن عليّ الجعفيّ لم يسمع من عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، وإنّما سمع من عبد الرحمن بن يزيد بن تميم ، وهو ضعيف ، فلمّا حدّث به الجعفيّ غلط في اسم الجدّ فقال : ابن جابر.

قلت : وقد رواه أحمد في مسنده (٢) عن حسين الجعفيّ ، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، هكذا بالعنعنة ، وروى حديثين آخرين بعد ذلك قال فيهما : حسين ، حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، وذلك لا ينافي الغلط إن صحّ أنّه لم يسمع منه.

وروى ابن ماجة الحديث المذكور من طريق آخر ذكره في آخر كتاب الجنائز (٣) ، وفي متنه زيادة.

أنا أقضى القضاة أبو بكر محمّد بن عبد العظيم بن عليّ الشافعيّ المعروف ب «ابن السقطيّ» بقراءتي عليه ، بجميع «سنن ابن ماجة» قال : أنا أبو بكر عبد العزيز بن أحمد بن أبي الفتح بن ياقا ، إجازة ، قال : أنا أبو زرعة طاهر بن محمّد بن طاهر المقدسيّ سماعاً ، إلّا ما عيّن في الكتاب بإجازته من أبي زرعة ، وهذا الحديث من

__________________

(١) أخرجه في الصارم المنكي (ص ٢١٢) عن القاضي إسماعيل في فضل الصلاة (ص ٣٥) رقم (٢٢ و ٢٣).

(٢) مسند أحمد (٤ / ٨) وانظر سنن الدارمي (١ / ٣٦٩) باب في فضل الجمعة ، والسنن الكبرى للبيهقي (٣ / ٢٤٨) باب ما يؤثر به في ليلة الجمعة ويومها من كثرة الصلاة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(٣) سنن ابن ماجة (١ / ٥٢٤) ح ٨٦٣٦ باب (٦٥) ، وانظر المستدرك على الصحيحين للحاكم (١ / ٢٧٨) و (٤ / ٥٦٠) ، ولاحظ كنز العمال (٧ / ٧٠٨) ح ٢١٠٣٧.

١٢٩

المسموع ، قال : أنا أبو منصور محمّد بن الحسين بن أحمد بن الهيثم المقوميّ ، إجازة إن لم يكن سماعاً ـ ثمّ ظهر سماعه منه ـ أنا أبو طلحة القاسم بن أبي المنذر الخطيب ، أنا أبو القاسم عليّ بن إبراهيم بن سلمة بن بحر القطّان ، حدثنا أبو عبد الله محمّد بن يزيد ابن ماجة ، حدثنا عمرو بن سوّاد المصريّ ، حدثنا عبد الله بن وهب ، عن عمرو بن الحارث (١) ، عن سعيد بن أبي هلال ، عن زيد بن أيمن ، عن عبادة بن نسيّ ، عن أبي الدرداء رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أكثروا الصلاة عليّ يوم الجمعة ؛ فإنّه مشهود تشهده الملائكة ، وإنّ أحداً لن يصلّي عليّ إلّا عرضت عليّ صلاته حتّى يفرغ منها».

قال قلت : وبعد الموت؟

قال : «وبعد الموت ، إنّ الله حرّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء عليهم‌السلام ، فنبيّ الله حيّ يرزق».

هذا لفظ ابن ماجة ، وفيه زيادة قوله : «حين يفرغ منها» (٢) وفي الأصل : «حتّى» التي هي حرف غاية ، وعليه تضبيب ، وفي الحاشية : «حين» التي هي ظرف زمان.

فإن كانت هي الثابتة استفيد منها أنّ وقت عرضها على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين الفراغ من غير تأخير.

وإن كان الثابت «حتّى» كما في الأصل دلّ على عرضها عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقت قوله ، فيدلّ على عدم التأخير أيضاً.

وفيه زيادة أيضاً ، وهي قوله : «وبعد الموت» بحرف العطف ، وذلك يقتضي أنّ

__________________

(١) في الأصل : «عمرو بن أبي الحرب» كذا في الهندية ، وفي نسخة : الحرث.

(٢) سنن ابن ماجة (١ / ٥٢٤) ح ١٦٣٧ ب ٦٥ كتاب الجنائز.

١٣٠

عرضها عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حالتي الحياة والموت جميعاً.

وفي إسناد الحديث المذكور : «زيد بن أيمن عن عبادة بن نسيّ» مرسل ، إلّا أنّه يتقوى باعتضاده بغيره.

وقد روّينا من جهة القاضي إسماعيل عن الحسن عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرسلاً قال : «أكثروا عليّ الصلاة يوم الجمعة ، فإنّها تعرض عليّ».

وروى الإمام أبو بكر أحمد بن محمّد بن إسحاق ابن السنيّ في كتاب «عمل يوم وليلة» عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أكثروا الصلاة عليّ يوم الجمعة» (١).

وأنبأنا عبد المؤمن وآخرون ، أنبأنا ابن الشيرازيّ ، أنا ابن عساكر ، أنا أبو الحسين ، أنا جدّي أبو بكر البيهقيّ ، أنا عليّ بن أحمد الكاتب ، حدثنا أحمد بن عبيد ، حدثنا الحسين بن سعيد ، حدثنا إبراهيم بن الحجّاج ، حدثنا حمّاد بن سلمة ، عن برد بن سنان ، عن مكحول الشاميّ ، عن أبي امامة رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أكثروا عليّ من الصلاة في كلّ يوم جمعة ، فإنّ صلاة امّتي تُعْرض عليّ في كلّ يوم جمعة ؛ فمن كان أكثرهم عليّ صلاة كان أقربهم منّي منزلة».

وهذا إسناد جيّد.

وعن حصين بن عبد الرحمن ، عن يزيد الرقاشيّ قال : إنّ ملكاً موكّل يوم الجمعة بمن صلّى على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، يبلغ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : إنّ فلاناً من امّتك صلّى عليك.

وعن أبي طلحة رضى الله عنه ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «أتاني جبرئيل صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : بشّر امّتك ؛ من صلّى عليك صلاة واحدة كتب الله له بها عشر حسنات ، وكفّر عنه بها عشر سيّئات ، ورفع له بها عشر درجات ، وردّ الله عليه مثل قوله ، وعرضت

__________________

(١) عمل يوم وليلة ، لابن السنّي.

١٣١

عليّ يوم القيامة».

رواه ابن عساكر (١).

ولا تنافي بين هذه الأحاديث ، فقد يكون العرض عليه مرّات : وقت الصلاة ، ويوم الجمعة ، ويوم القيامة.

وحديث أبي هريرة ، وحديث ابن مسعود مصرّحان : بأنّه يبلغه سلام كلّ من سلّم عليه ، وهما صحيحان إن شاء الله.

وحديث أوس بن أوس وما في معناه يدلّ على أنّ الموت غير مانع من ذلك.

وكان مقصودنا بجمع هذه الأحاديث بيان العرض على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنّ مراده التبليغ من الملائكة له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما تضمّنه حديث أبي هريرة ، وحديث ابن مسعود ، وهذا في حقّ الغائب بلا إشكال.

[سماع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للمصلّي عليه عند قبره]

وأمّا في حقّ الحاضر عند القبر ، فهل يكون كذلك ، أو يسمعه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بغير واسطة؟

ورد في ذلك حديثان :

أحدهما : «من صلّى عليّ عند قبري سمعتُه ، ومن صلّى عليّ نائياً بُلِّغْتُهُ».

وفي رواية : «نائياً منه أبلغت». وفي رواية : «نائياً من قبري».

وفي رواية : «عن قبري».

والحديث الثاني : «ما من عبد يسلّم عليّ عند قبري إلّا وكّل بها ملك ليبلغني ، وكفي أمر آخرته ودنياه ، وكنت له شهيداً وشفيعاً يوم القيامة».

وفي رواية : «من صلّى عليّ عند قبري وكّل الله بها ملكاً يبلغني ، وكفي أمر

__________________

(١) تاريخ ابن عساكر.

١٣٢

دنياه وآخرته ، وكنت له شهيداً وشفيعاً يوم القيامة».

وفي رواية : «ما من عبد صلّى عليّ عند قبري إلّا وكّل الله به» وفيها : «شفيعاً وشهيداً».

وهذان الحديثان كلاهما من رواية محمّد بن مروان السدّي الصغير ، وهو ضعيف ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة رضى الله عنه عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

أمّا الحديث الأوّل الذي فيه : «من صلّى عليّ عند قبري سمعته».

فرواه أحمد بن عليّ الحبرانيّ ، ويوسف بن الضحّاك الفقيه ، ومحمّد بن عثمان ابن أبي شيبة ، وأحمد بن إبراهيم بن ملحان ، وعيسى بن عبد الله الطيالسيّ ، وليث ابن نصر الصاغانيّ ، والحسن (١) بن عمر بن إبراهيم الثقفيّ ، كلّهم عن العلاء بن عمرو الحنفيّ ، عن محمّد بن مروان السدّي بالسند المذكور.

وفي رواية عيسى الطيالسيّ : حدثنا العلاء بن عمرو الحنفيّ ، حدثنا أبو عبد الرحمن عن الأعمش.

قال ابن عساكر : قال لنا أبو الحسن سبط البيهقيّ : قال لنا جدّي أبو بكر : أبو عبد الرحمن هذا هو محمّد بن مروان السدّي فيما أرى ، وفيه نظر.

القائل : «وفيه نظر» هو البيهقيّ ، كذا رأيته في جزء «حياة الأنبياء» من تصنيفه.

وأمّا الحديث الثاني :

فرواه محمّد بن عبد الله بن إبراهيم الشافعيّ ، وأبو الحسين أحمد بن عثمان الآدميّ ، وأبو عبد الله الصفّار ، ومحمّد بن عمر بن حفص النيسابوريّ ، كلّهم عن محمّد بن يونس بن موسى الكديميّ ـ وفي بعض هذا عن محمّد بن موسى ؛ نسبةً إلى جدّه ـ عن الأصمعيّ عبد الملك بن قريب ، عن محمّد بن مروان السدّي ، عن

__________________

(١) في (ه) : الحسين.

١٣٣

الأعمش بالسند الأوّل.

وهذا الحديث أضعف من الأوّل ؛ لأنّه انضمّ فيه ضعف الكديميّ إلى ضعف السدّي ، والأوّل ليس فيه إلّا ضعف السدّي خاصّة.

فإن ثبت ذلك فكفى بها شرفاً ، وإن لم يثبت فهو مرجوّ ، فينبغي الحرص عليه ، والتعرّض لإسماعه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذلك بالحضور عند قبره ، والقرب منه.

وسنذكر (١) في الأحاديث والآثار والأدلّة ما يدلّ على أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يسمع من يسلّم عليه عند قبره ، ويردّ عليه عالماً بحضوره عنده ، وكفى بهذا فضلاً حقيقاً أن ينفق فيه ملك الدنيا حتّى يتوصّل إليه من أقطار الأرض.

وسنفرد باباً (٢) لحياة الأنبياء : بعد تمام المقصود من إقامة الدلائل على الزيارة ، وبإثبات الحياة تتأكّد الزيارة ، ولكنّي رأيت ذكره بعدُ ، لئلّا يجادل فيه جدل متطرّق به إلى المجادلة في الزيارة.

عن سليمان بن سحيم قال : رأيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في النوم فقلت : يا رسول الله ، هؤلاء الذين يأتونك ويسلّمون عليك ، أتعلم سلامهم؟

قال : «نعم ، وأردّ عليهم».

وعن إبراهيم بن بشّار قال : حججت في بعض السنين ، فجئت المدينة ، فتقدّمت إلى قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسلّمت عليه ، فسمعت من داخل الحجرة : «وعليك السلام».

فإن قيل : ما معنى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إلّا ردّ الله عليّ روحي؟».

قلت : فيه جوابان :

__________________

(١) سيذكره في ص ١٣٢.

(٢) سيفرد له الباب (التاسع).

١٣٤

أحدهما : ذكره الحافظ أبو بكر البيهقيّ (١) ؛ أنّ المعنى إلّا وقد ردّ الله عليّ روحي ؛ يعني أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد ما مات ودفن ردّ الله عليه روحه ؛ لأجل سلام من يسلّم عليه ، واستمرّت في جسده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

والثاني : يحتمل أن يكون ردّاً معنويّاً ، وأن تكون روحه الشريفة مشتغلة بشهود الحضرة الإلهيّة والملأ الأعلى من هذا العالم ، فإذا سلّم عليه أقبلت روحه الشريفة على هذا العالم ، فيدرك سلام من يسلّم عليه ، ويردّ عليه.

__________________

(١) قال في الصارم (ص ٢٢٢) : ذكره البيهقي في (الجزء) الذي جمعه في (حياة الأنبياء عليهم‌السلام بعد دفنهم).

ثمّ قال (ص ٢٢٥) : وهذا التأويل المنقول عن البيهقي في هذا الحديث قد تلقّاه عنه جماعة من المتأخرين ، والتزموا لأجل اعتقادهم له ، اموراً ظاهرة البطلان.

أقول : ومن شذّ عن فهم الناس والتزامهم ، فهو في النار!

١٣٥
١٣٦

الباب الثالث :

في

ما ورد في السفر إلى زيارته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صريحاً

وبيان أنّ ذلك لم يزل قديماً وحديثاً

١٣٧
١٣٨

وممّن رُوِيَ ذلك عنه من الصحابة ؛ بلال بن رباح مؤذّن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سافر من الشام إلى المدينة لزيارة قبره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

روّينا ذلك بإسناد جيّد إليه ، وهو نصّ في الباب ، وممّن ذكره الحافظ أبو القاسم ابن عساكر رحمه‌الله بالإسناد الذي سنذكره.

وذكره الحافظ أبو محمّد عبد الغنيّ المقدسيّ رحمه‌الله في «الكمال» في ترجمة بلال فقال : ولم يؤذّن لأحد بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما روي إلّا مرّة واحدة في قدمة قدمها المدينة لزيارة قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طلب إليه الصحابة ذلك ، فأذّن ولم يتمّ الأذان.

وقيل : إنّه أذّن لأبي بكر الصديق رضى الله عنه في خلافته ، وممّن ذكر ذلك أيضاً الحافظ أبو الحجّاج المزي أبقاه الله.

وها أنا أذكر إسناد ابن عساكر في ذلك (١) ، أنبأنا عبد المؤمن بن خلف ، وعليّ ابن محمّد بن هارون وغيرهما قالوا : أنا القاضي أبو نصر بن هبة الله بن محمّد بن

__________________

(١) تاريخ ابن عساكر لاحظ مختصر ابن منظور (٤ / ١١٧) وتهذيب تاريخ دمشق لبدران (٢ / ٢٥٩) ترجمة إبراهيم بن محمد بن سليمان.

١٣٩

مميل الشيرازيّ ، إذناً ، أنا الحافظ أبو القاسم عليّ بن الحسن (١) بن هبة الله بن عساكر الدمشقيّ قراءة عليه وأنا أسمع قال : أنا أبو القاسم زاهر بن طاهر قال : أنا أبو سعيد محمّد بن عبد الرحمن قال : أنا أبو أحمد محمّد بن محمّد ، أنا أبو الحسن محمّد بن الفيض الغسّاني بدمشق قال : حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمّد بن سليمان ابن بلال بن أبي الدرداء ، حدّثني أبي محمّد بن سليمان ، عن أبيه سليمان بن بلال ، عن امّ الدرداء ، عن أبي الدرداء قال : لمّا دخل (٢) عمر بن الخطّاب رضى الله عنه من فتح بيت المقدس ، فصار إلى الجابية ، سأل بلال أن يقرّه بالشام ، ففعل ذلك ، قال : وأخي أبو رويحة الذي آخى بيني وبينه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فنزل داريّا في خَوْلان ، فأقبل هو وأخوه إلى قوم من خولان فقال لهم : قد أتيناكم خاطبين ، وقد كنّا كافرين فهدانا الله ، ومملوكين فأعتقنا الله ، وفقيرين فأغنانا الله ، فان تزوّجونا فالحمد لله ، وإن تردّونا فلا حول ولا قوة إلّا بالله! فزوّجوهما.

ثمّ إنّ بلالاً رأى في منامه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يقول له : «ما هذه الجفوة يا بلال؟! أمّا آن لك أن تزورني يا بلال!».

فانتبه حزيناً وجلاً خائفاً ، فركب راحلته وقصد المدينة ، فأتى قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فجعل يبكي عنده ، ويمرّغ وجهه عليه ، فأقبل الحسن والحسين رضي الله عنهما فجعل يضمّهما ويقبّلهما.

فقالا له : نشتهي نسمع أذانك الذي كنت تؤذّن به لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المسجد ، ففعل ، فعلا سطح المسجد ، فوقف موقفه الذي كان يقف فيه.

فلمّا أن قال : الله أكبر ، الله أكبر ، ارتجّت المدينة.

__________________

(١) في المصرية : الحسين.

(٢) راجع تهذيب تاريخ ابن عساكر ٢ / ٢٥٩.

١٤٠