رسائل الشريف المرتضى - ج ١

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]

رسائل الشريف المرتضى - ج ١

المؤلف:

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار القرآن الكريم
المطبعة: مطبعة الخيام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٥٧

وصول الأداء اليه ، ومن كان شاحط الدار فبحسب ذلك.

وهذا غير ممتنع في التقدير ، لانه كما كانت هذه المصالح تختلف بالأزمان وفي الأشخاص ، ويجب منها في وقت ما لم يكن واجبا قبله ، وتتغير أحوالها أيضا حتى يدخل النسخ فيها بحسب تغيرها ، جاز أن يتنزل الأمر في المبعوث إليهم الرسول الذي ذكرناه.

وليس لأحد أن يقول : جوزوا أن يكون مصلحة البعيد والقريب في الشرع متساوية ، ولكن البعيد انما تكون تلك الافعال له مصلحة ، إذا أديت (١) واليه اطلع عليها ، فلا يجب ما ذكرتموه. وذلك أن وجوب الواجب منفصل من الاعلام بوجوبه ، وبالإعلام لا يصير ما ليس بواجب واجبا ، وانما يتناول الاعلام والأداء الاطلاع على وجوب أفعال هي في نفسها واجبة من غير هذا الاطلاع.

على أن هذا يوجب القول بأن الأداء لو لم يكن أبدا لما كانت هذه الأفعال واجبة أو قبيحة أبدا ، وقد علمنا خلاف ذلك.

ويوجب أيضا أن يكون المؤدون لهذه الشرائع لا يخبرون بوجوبها ، لان الخبر بذلك قبل الوجوب الذي يكون بعد الأداء كذب.

ويوجب أيضا أن لا يلزم أداء هؤلاء المؤدين ولا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله التحيل. وكل هذا ظاهر الفساد.

فان قيل : أليس المكلفون في حال دعوى الرسول للرسالة ، والى أن ينظروا إلى معجزة ويعلموا صدقه ، لا نعرض تلك المصالح التي نبتهم (٢) عليها ، والتكليف العقلي يلزمهم.

__________________

(١) ظ : أديت اليه واطلع.

(٢) ظ : نبهتهم.

٨١

قلنا : انما جاز ألا يعلموا في الأحوال التي أشرت إليها بهذه المصالح ، لان العلم بها متعذر في تلك الأحوال ، وليس كذلك الأحوال المستقلة (١).

لأن العلم بصفات الافعال فيها ممكن ، يوجب الاعلام به والاطلاع عليه.

وجرى زمان دعوة النبوة والنظر في العلم المعجز مجرى زمان مهلة النظر في معرفة الله تعالى ، في أن المعرفة لطف في كل الواجبات ، إلا في هذا الواجب الذي هو النظر في طريقها ، لاستحالة أن تكون لفظا (٢) في ذلك.

[وجوب حصول العلم بدعوى الرسل بأقصر الطرق]

وعلى هذا التقدير الذي أوضحناه يجب أن نقول : انه تعالى لا يوصل الى العلم بصدق الرسول في دعواه الا بأقصر الطرق وأخصرها ، وأنه إذا كان للعلم بصدقه طريقان ، أحدهما أبعد من الأخر ، دل بالأقرب دون الأبعد. ولم يظهر على يده الا ما لا يمكن تصديقه من طريق هو أخص (٣) منه.

وانما قلنا ذلك حتى لا يفوت المكلف العلم بغير جنايته ، لانه قد تفوته مصالحه بجنايته ، مثل أن يعرض عن النظر في المعجز ، أو ينظر لا من جهة حصول العلم ، أو يدخل على نفسه شبهات تمنع من العلم.

فان قيل : نراكم بهذا الكلام الذي حصلتموه قد نقضتم معتمد الإمامية في حفظ النبي والأئمة للشرائع. لأنهم يقولون : ان المؤدين عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله شريعته في حياته يجوز أن يكتموها ويخلوا بنقلها حتى يجب على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله التلافي والاستدراك.

__________________

(١) لعل : المستقبلة.

(٢) ظ : لطفا.

(٣) ظ : أخصر.

٨٢

ويجوز على الأمة بعد موت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يكتموا كثيرا من الشريعة ، حتى يقف علم ذلك على بيان الإمام ، فإن كان ظاهرا آمنا من ذلك استدركه ، وان كان غائبا فلا بد من ظهوره.

حتى قلتم : لو علم الله تعالى أن أسباب الغيبة تستمر في الأحوال التي تكتم فيها الأمة شرعا ، حتى لا يعلم الا من جهة الإمام ، لما بقي التكليف على المكلفين لأن تبقية التكليف مع فقد الاطلاع على المصالح فيه والمفاسد قبيحة.

فان خشيتم ما استأنفتموه في هذا الكلام وعطفتم عليه بأن تقولوا : انما يوجب أصحابنا ظهور الامام من الغيبة ورفع التقية ، إذا اجتمعت الأمة على الخطأ ، كأنهم (١) يذهبون على طريق التأويل في بعض الشريعة إلى مذهب باطل ويجمعون عليه ، فيجب على الامام ردهم الى الحق فيه.

قيل لكم : ما يذهبون فيه الى الباطل على طريق التأويل والشبهة وغيرها ، لا يكون طريق الحق مسدودا ولا موقوفا على بيان الامام ، حتى يقال : انه يجب عليه الظهور ان كان غائبا ويخرج أسباب التقية ، لأنه يمكن أن يعلم الحق بالدليل الذي هو غير قول الامام.

وانما يجب ظهور الامام حتى يتبين ما لا طريق الى علمه الا قوله وبيانه. وهذا لا يتم الا بأن يعدلوا عن نقل بعض الشرائع ويكتموه حتى يصح القول بأنه لا جهة لعلمه الا ببيان الامام.

والجواب عن ذلك : ان أداء الشريعة الى من بعد في أطراف البلاد لا بدّ منه ولا غنى عنه ، للوجه الذي أوضحناه وتبينا : أن إزاحة العلة في التكليف العقلي لا يتم الا معه ، غير أن من أدى إليهم وعلموه (٢) ، ويجوز أن يكتموه

__________________

(١) خ ل : لأنهم.

(٢) ظ : زيادة الواو.

٨٣

ويعدلوا عمن نقله ، اما لشبهة أو غيرها.

وإذا استمر ذلك منهم لم يفصل (١) بمن يأتي من الخلف ، ويوجد فيما بعد من المكلفين ما لا يتم مصلحته الا به من هذه الشريعة ، فحينئذ يجب على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ان كان موجودا أو الإمام القائم مقامه أن يبين ذلك ويوضحه ويسمع منه فيه ما يؤدي الى ظهوره وإيصاله بكل مكلف موجود ومنتظر. فلهذا أوجبنا حفظ الإمام للشريعة والثقة بها لأجله ومن جهة مراعاته.

ولا تنافي بين هذا القول ، وبين ما قدمناه من أن شريعة التي (٢) لا بدّ من اتصالها بكل مكلف موجود. والفرق بين الأمرين أن المنع من فوت العلم بالمصلحة واجب ، والاستظهار في ذلك ـ حتى لا يقصر العلم عمن يلزمه ـ لا بدّ منه ، وليس كذلك استدراك الأمر بعد فواته ، وتصور (٣) علمه في حال الحاجة إليه ، لانه يؤدي الى ما ذكرناه من قبح التكليف في تلك الأحوال التي لم يتصل فيها العلم بصفات هذه الافعال.

وقد تبينا في كتاب الشافي في الإمامة ما يتطرف عليه الكتمان من الأمور الظاهرة ، وما لا يتطرق ذلك عليه ، وما جرت العادة بأن تدعو الدواعي (٤) العقلاء الى كتمانه ، وما لم تجر بذلك فيه ، فمن أراد ذلك مستقصى مبسوطا فليأخذه من هناك.

فان قيل : إذا منعتم من كتمان شرع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عمن بعد عنه في أطراف البلاد ، وادعيتم أنه لا بدّ أن يكون المعلوم من حال الناقلين لذلك

__________________

(١) ظ : لم يصل.

(٢) ظ : النبي.

(٣) ظ : قصور.

(٤) ظ : دواعي.

٨٤

أن ينقلوه ولا يكتموه ، وذكرتم أن التكليف وإزاحة العلة فيه يوجب ذلك ، فألا جعلتم الباب واحدا وقلتم : ان الذي ينتهي جميع الشرع إليهم ويتساوون في علمه لا يجوز أن يعدلوا كلهم عن نقله ويكتموه ، حتى لا يتصل بمن يوجد مستأنفا من مكلف لمثل العلة التي رويتموها في إزالة العلة في التكليف ، والا كان كل ناقل للشرع ومؤد له الى غيره ، من موجود حاضر ومفقود ومنتظر في هذا الحكم الذي ذكرتموه متساويين ، ولا حاجة مع ذلك الى امام حافظ للشريعة.

قلنا : قد أجبنا عن هذا السؤال بعينه في جواب مسألة وردت من الموصل وأوضحنا أن ذلك كان جائزا عقلا وتقديرا ، وانما منعنا منه إجماعا. لأن كل من قال : ان الأمة بأسرهم يجوز عليهم أن يكتموا شيئا من الشرع ، حتى لا يذكره ذاكر لا يجعل المؤمن من ذلك الا بيان امام الزمان له وإيضاحه واستدراكه ، دون غيره مما يجوز فرضا وتقديرا أن يكون الثقة له ومن أجله.

وكل من جوز أن يتحفظ الشرع بإمام الزمان ويوثق بأنه لم يفت شيء منه لأجله ، كما يجوز أن يتحفظ ويوثق بوصول جميعه ، بأن يكون المعلوم من حال المؤدين أنهم لا يكتمون ، فيقطع على أن حفظ الشرع والثقة به مقصورتين (١) على الامام وحفظه.

لأن الأمة بين مجوز على الأمة الكتمان وغير محيل له عليهم ، وبين محيل له ومعتقد أن العادات تمنع منه. فمن أجازه عليهم ولم يحله ـ وهم الإمامية خاصة ـ لا يسندون الثقة والحفظ الا الى الامام دون غيره ، وانما يسند الثقة الى غير الامام من يحيل الكتمان على الأمة.

وإذا بان بالأدلة القاهرة جواز الكتمان عليهم ، فبالإجماع يعلم أن الثقة

__________________

(١) ظ : مقصوران.

٨٥

انما يصح استنادها الى الامام دون ما أشاروا إليه من المعلوم.

وهذه الجملة التي ذكرناها إذا حصلت وضبطت ، بان من أثنائها جواب كل شبهة اشتملت عليه الفصل الذي حكيناه وزيادة كثيرة عليه.

[عدم وجوب عصمة المؤدى للشرع]

ثم نشير الى ما يجوز الإشارة اليه : أما ابتداء الفصل فإنه مبني على أنا نرجع في أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لا بدّ في أن يروي (١) ما تحمله من الشرع الى دليل عصمته ، وليس الأمر على هذا.

وقد مزج الكلام في صدر الفصل بين وجوب الأداء في الرسول ، أو من يؤدي عنه ، وبين العصمة ، ونحن نفصل ذلك :

أما صدق الرسول فيما يؤديه ، فدليله المعجز ، لانه مطابق لدعواه ومصدق لها ، فلو لم يكن صادقا في الدعوى لما حسن تصديقه. وهذا قد بيناه فيما سلف من كلامنا على هذا الفصل ، والمرجع في وجوب أدائه الى ما ذكرناه أيضا من أن العلة لا تزاح الا به ، وأنه الغرض المقصود ، وفي ارتفاعه يكون الإرسال عبثا.

فأما وجوب عصمة الرسول في غير ما يؤديه ، فدليلها ما أشير إليه في الفصل من وجوب السكون ، وحصول النفار عند فقدها وطريق العصمة كما ترى ، فتميز من وجوب الأداء ، كما أن طريق وجوب الأداء من طريق العلم بالصدق في دعوى النبوة ، فلا ينبغي أن يخلط بين الجميع.

ولم يبق بعد هذا الا أن يدل على أن المؤدى للشرع (٢) الرسول من أمته

__________________

(١) ظ : يؤدى.

(٢) ظ : لشرع.

٨٦

إلى أطراف البلاد ، لا يجب أن يلحقوا به في العصمة ، وان لحقوا به في أن المعلوم من حاله وحالهم أنه لا بد من أن يؤدي ما يحمله ولا يكتمه.

والذي يوضح ذلك أن أداء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله يقترن به تعظيمه وإجلاله ، وارتفاع قدره ومنزلته ، لأنّ المعجز الظاهر على يده يقتضي ذلك فيه.

وليس كذلك أداء من يؤدي عنه ويؤدي إلينا من الأمة شرعه ، لان ذلك الأداء لا يقتضي تعظيما ولا إجلالا ، ولا الدليل المؤمن لهم من خطائهم فيه يقتضي فيهم رفع منزلة ولا قدر ، كما كان ذلك كله في المعجز.

وكيف يكون من علمنا صدقة؟ لأن الله تعالى صدّقه وحقق دعواه ، بأن خرق العادة على يده ، كمن علمنا صدقه ، بأن العادة لم تجر ممن جرى مجراه بالكذب. ولهذا جاز أن يؤدي إلينا عنه المؤمن والكافر والبر والفاجر ، ولا يجوز مثل ذلك في أدائه.

وإذا اقترن الأداء بما أوضحناه جاز أن يعتبر في أداء من وقع منه الأداء على جهة الإعظام والإجلال ، ما يكون معه أقرب الى القبول والامتثال من عصمته وطهارته ونزاهته ، وتعدينا ذلك الى نفي الأخلاق المستهجنة عنه والخلق المستقلة. وكل هذا لا يراعى فيمن ينقل عنه ويروي شرعه ، وعمن (١) لا يؤمن إيمانه ولا عدالته.

كيف تراعى عصمته وقد مثل الشيوخ ما يذهبون إليه في هذه المسألة بالواعظ الداعي الى الله تعالى ، في أنه متى كان متناسكا مظهرا للنزاهة والطهارة كان الناس أقرب من قبول قوله ووعظه. وإذا كان متجرما متهتكا نفس ذلك عنه وقل السكون اليه.

__________________

(١) ظ : ومن.

٨٧

وإذا كان ما قالوه صحيحا معلوم (١) أنه لا يجب في رسول الواعظ والمؤدي عنه وعظه، ما أوجبناه فيه من النزاهة والطهارة ، ولا يجوز لأحد إلزام (٢) الأمرين على الأخر.

فأما ما مضى في وسط هذا الفصل من التشكيك في عموم وجوب عصمة الأنبياء ، وإلزام أنه مما يجوز أن يختلف كونه لطفا. فليس بصحيح ، لأن جهة كون العصمة لطفا في السكون ورفع النفار ، معلوم أنهما مما لا يختلف في العقلاء ، كما لا يختلف جهة كون المعرفة بالله تعالى لطفا من جهة كون الرئيس المنبسط اليد النافذ الأمر لطفا في انتظام الأمور وارتفاع خللها ، فلا معنى للتشكيك في ذلك.

فأما ما مضى في الفصل من القول : بأنه إن سوى مسو بين الرسول وبين من ينفذ من قبله الى من بعد عنه في العصمة ، فصار الى ما يحكى عن بعض أصحابنا.

فليس بصحيح ، لان من قال من أصحابنا (٣) أمراء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو الامام ، وقضاته وحكامه وخلفاؤه ، لا يقول بعصمة الرواة عنه والمؤدين لاخباره إلى أطراف البلاد ، وكيف يتصور هذا والرواة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والامام والناشرون لاخباره وما أتى به من شرائعه ، هم الخلق جميعا. لان ذلك لا يتعين ولا يتخصص بطائفة دون اخرى ، وكان يجب على هذا أن يكون الخلق معصومين.

والكلام الذي كنا فيه هل يجب أن يكون من يؤدي عن النبي صلى الله

__________________

(١) ظ : ومعلوم.

(٢) ظ : إلزام أحد الأمرين.

(٣) ظ : أصحابنا بعصمة أمراء.

٨٨

عليه وآله وينشر شريعته في أطراف البلاد ممن يعلم ويقطع أنه يؤدي أو يجوز خلاف ذلك وفيه (١) ، وهذا منفصل مما ارتكبه بعض أصحابنا غالطا فيه من عصمة أمراء النبي أو الامام وخلفائه.

فأما ما ذكر سوء (٢) الاختيار لنفوسنا في جملة الكلام ، فلا شبهة في أن سوء الاختيار من المكلف لنفسه لا يرفع إزاحة علته في تكليفه ، ولا يرفع وجوب ذلك على مكلفة ، ولا يقتضي أيضا جواز إزاحة علته بما ليس بمزيح لها على الحقيقة ، فلا معنى للتشاغل بهذا النوع من الكلام.

فأما ما ختم به الفصل من الزامنا أن تزاح علتنا لهذه العلة التي ذكرها بالروايات عن الأئمة عليهم‌السلام الى آخر الفصل. فقد مضى لا (٣) مدخل لحسن الاختيار ولا لسيئه في باب إزاحة العلة ، وان العلة لا بدّ من ازاحتها لكل مكلف حسن اختياره أو ساء. فان ألزم إزاحة العلة بروايات توجب العلم وتزيل الريب التزمنا ذلك ، وما أراد ذلك لانه شرط فقال عند فقد كذا وفقد التواتر. وان ألزم أن تزاح العلة بروايات لا توجب العلم ، فلا علة تزاح بذلك.

وما يجوز كونه كذبا كيف نقطع به على مصالحنا ومفاسدنا ، وهو لا يوجب العلم ولا يستند إلى جهة علم ، كما نقوله في الشهادة وغيرها.

ومن هذا الذي يسلم أن في الشريعة في أوقاتنا هذه حادثا شرعيا لا يعرف حكمه بدليل قاطع؟ ولما عدد الحجج من التواتر وظواهر القرآن ، كان يجب أن يذكر إجماع الفرقة المحقة ، فهو المعتمد في كثير من الاحكام ، على ما تقدم بياننا له.

__________________

(١) ظ : ذلك فيه.

(٢) ظ : من سوء.

(٣) ظ : أنه لا.

٨٩

الفصل العاشر

[دلالة إنفاذ الرسول الأمراء والعمال على حجية خبر

الواحد والجواب عنه]

ان قيل : الظاهر من حال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله مما يؤديه ممن بعد عنه عن (١) أمته وإعلامهم ما يلزمهم من مصالح دينهم ودنياهم ، ما جرت به العادة ومضت عليه الاسم من إنفاذ الأمراء والولاة والعمال والقضاة والرسل والسعاة.

ينفذ المولى منهم من حضرة (٢) من يوليه بالكتاب المتضمن لولايته وعزل من كان قبله والرسول من غير مراعاة تواتر ، وأكثر من ينفذ إلى الأباعد لا يصحبه الا من جملته ، ومتصرف بين أمره ونهيه.

ومن هذه حاله وان كثر عددهم فما يراعيه مذ (٣) يذهب الى التواتر المعلوم باكتساب من الشرط الذي لا يتم اكتساب العلم من دونه مفقود منهم ، وهو العلم بأنه لا داعي لجمعهم على الكذب ، فإذا طالت صحتهم (٤) وكثرت اجتماعهم ،

__________________

(١) ظ : من

(٢) ظ : حضره

(٣) ظ : من

(٤) ظ : صحبتهم

٩٠

تعذر العلم بالشرط وحصل أقوى في فقد.

وإذا كانت هذه حال الولاة ، فمن ينفذ للتسليم ان لم تقصر حاله عنهم لم تزد عليهم فيما يجوز على الا .. والولاة فيما لا يتم اكتساب العلم بصدقهم معهم ثابت فيهم .. الرسول الى من تواتر الى البلاد والنواحي من الفقهاء والحفاظ .. غرضه.

ويوافقوا مقصده في تعليم من يتواترون عليهم لا .. يزيد عددهم على أهل بلده من الفقهاء والحفاظ ، ولو كان .. لظهر ذلك من أمرهم واشتهر ولذكر ودوّن وكان .. ذكر ما جرت به العادة من إنفاذ الأمراء وغيرهم لغرابة .. العاد.

والمعلوم أن الفقهاء والحفاظ الذين كانوا .. صلى‌الله‌عليه‌وآله لو رام أن يتواترهم الى بلد واحد لما تم .. ينفذهم على هذا الوجه إلى الأقل .. لمعاد وفلان وفلان ، وأنه لما فعل ذلك ظهر واشتهر .. التواريخ والسير ، ولم يذكروا في شيء من كتبهم ، ولا تضمن .. ومسانيدهم ذكر الفقهاء والحفاظ الذين أنفذهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله الى البلاد.

ولا يمكن الدعوى بحقنا واستتاره ، لان من يتقدم في العلم والحفظ لا بدّ من أن تطول صحبته لمن يأخذ عنه ويستكثر ، ومن طالت صحبته للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وأخذه عنه وتوجهه وتقدمه لا يكون حاملا ، كيف انضاف الى ذلك استنابته في التبليغ عنه والقيام بأعظم الأمور التي بعث لأجلها ، وهي تعلم الدين وإزاحة فيه.

وإذا كنا إذا رجعنا إلى أنفسنا لم نعلم ذلك ، وإذا رجعنا إلى سائر ما يشتمل على نقل الاخبار وتدوينها فلم نجده ، علمنا أيضا أنّه لم يكن ، وقد قال الله

٩١

تعالى (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)(١) ولم يخصص من شاهده وقرب منه دون من بعد عنه، وقال الله (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً)(٢).

ولو كان تبليغه لبعض من بعث .. مبعوث الى الخلق كافة ، لكانت الشهادة لهصلى‌الله‌عليه‌وآله .. بلغ الرسالة ونصح الأمة غير واقع موقع الصحة .. بأنه لم ينقله الله تعالى الى دار كرامة .. من بعث اليه ، وكان موجودا في أيامه .. عذره بغير ما يقترحه من قال بالتواتر حسب .. عذرهم يكون بالارتحال اليه والمشافهة له .. يمكنون منه ويقدرون عليه.

فإذا لم يفعلوه .. وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله قد بلغهم وأزاحهم علتهم ... فبأي شيء علموا نبوته ووجوب الرحيل اليه ، وهل يسوغ .. على أهل الأرض أن يخلوا بلادهم ويرحلوا بأسرهم .. لرسول ، ويأخذوا عنه ويتفقهوا عليه وينفذوا .. عليهم بعد التفقه والحفظ.

فان قلتم ذلك فما الموجب له .. دلالة على لزومه.

هذه جملة مني أنعم سيدنا الأجل المرتضى (كبت الله أعداءه) بالإجابة عنها ، والتفضل بذكر ما يجري مجراها مجملا ومفصلا ، حسب ما تحتمله الحال ويتسع له الزمان مما لا ينتهي اليه غيره ، ولا يطمع في الظفر به سواه ، كان ذلك من أشرف ما بين وأجل ما ذكر ، لكثرة الانتفاع به والاعتماد عليه ، فيما لا يخلو المكلف من وجوبه ، ولا ينفك من لزومه.

وكان متى له (٣) حصله اطلع على ما يوصله إلى معرفة كل ما يرد عليه من المسائل والنوازل ، ويلزم غيره من العبادات والاحكام ، مضافا الى ظواهر القرآن

__________________

(١) سورة المائدة : ٣

(٢) سورة سبإ : ٢٨

(٣) ظ : زيادة «له»

٩٢

وما تواترت به الاخبار.

ولسيدنا الأجل أطال الله تعالى وجمل الإسلام وأهله بدوام سلطانه وعلو كلمته وانبساط يده عالي الرأي إن شاء الله تعالى.

الكلام على ذلك : اعلم أن الراوي شرع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والناشر له في أطراف الأرض هو غير من ينفذه الى البلدان ، اما أميرا أو حاكما أو حاملا ، لان النقل والرواية والإشاعة مما يشترك فيه الخلق أجمعون على ما جرت به العادة ، ولا يقف على فرقة معينة ولا جماعة مخصوصة.

والامارة أو القضاء أو العمالة يقف على من خصه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بهذه الولاية ، وأفرده بها وأنفذه لها ، وهذا مما قد أشرنا إليه في الكلام المتقدم على هذا.

فان قيل : إذا كان الأمراء والعمال لا يؤدون الشرع ويبلغونه ، فما الفائدة في إنفاذهم؟

قلنا : في إنفاذهم فوائد ظاهرة لمن تأملها ، والأمراء ينفذون لحماية المتعزز وضبط الأطراف من الاعداء وحمايتها ، والقضاة للحكم وفصل الخصومات ، والعمال لجباية الأموال وقبض الصدقات ، فما في هؤلاء الا من ينفذ شرعا ويمضي أحكاما ، ليس المرجع في صحتها وثبوتها الى أدائه وتبليغه.

فان قيل : أليس قد ورد أنه عليه‌السلام كان ينفذ أقواما لتعليم الناس وتوفيقهم وهذا هو الأداء والإبلاغ.

قلنا : التعليم والتوقيف غير الإبلاغ والأداء ، لأن المعلم لغيره هو الذي يرتب له الأدلة ويرشده الى طرقها ويقرب عليه سلوكها. ويوقفه على المقدم من الاحكام والمؤخر ونحوه، ان الفقيه يعلم غيره ، والمتكلم يوقف سواء (١)

__________________

(١) ظ : سواه.

٩٣

وما فيهم من يبلغه شيئا ويؤدي إليه شرعا ، لكن على النحو الذي أوضحناه.

وقد كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يأمر دعاته في الأمصار ، بأن يبتدءوا بدعاء الناس الى التوحيد ، ثم النبوة ، ثم الشرائع. ولا خلاف بين العقلاء في أن قول هؤلاء الدعاء ليس بحجة في التوحيد ولا النبوة ، ولا بدعائهم يعلم ذلك ، وانما ينبهون على الأدلة ويهدون الى طرقها كمالا ، كانت (١) الشريعة على هذا خارجة.

وقد استقصينا هذا الجنس من الكلام في الجواب عن الفصل الثالث وأحكمناه وقلنا أيضا هناك إذا كانت أخبار الآحاد عند من أوجب العمل بها لا بدّ فيها من استناد الى دليل يوجب العلم يقتضي التعبد فيها بالعمل ، لان قول من يقول أن خبر الواحد نفسه يوجب العلم مردود مطروح.

فمن أين علم أهل البلاد البعيدة ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قد تعبدهم وأوجب عليهم العمل بأخبار رسله وان كانوا آحادا ، ومعلوم أنه لا يجوز أن يعملوا ذلك من الرسل أنفسهم ، فلم يبق الا التواتر والنقل الموجب للعلم ما لا قلنا (٢) في الشرع كله بمثل ذلك.

فان قيل : لا بدّ من أن يكون أهل أطراف البلاد عالمين ، بأن الذي ورد إليهم أميرا أو حاكما من جهة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله صادق في إضافة نفسه اليه عليه‌السلام ، لانه ينفذ شرعا ويمضي أحكاما دينية ، فلا بد من أن يرجع له عن ذلك بعلم لا ظن ، فمن أين علموا ذلك؟ والظاهر أنهم يرجعون فيه الى أقوال الأمراء وأخبار العمال ، وهم آحاد وأخبار الآحاد عندكم لا توجب علما.

__________________

(١) ظ : وكانت.

(٢) ظ : ما قلنا.

٩٤

قلنا : لا بدّ من علم بأنهم رسله وولاته. والطريق الى ذلك هو غير أخبارهم (١) نفوسهم.

ومعلوم أن العادة جارية بأن الملك العظيم إذا ندب أميرا أو واليا لبعض الأمصار ، وكتب عهده على ذلك المصر ، وأمره بالتأهب للخروج وأطلق له النفقات ، فان خبر ولايته يذيع ويتصل بأهل ذلك المصر على ترتيب وتدريج فينتقل إليهم أولا عزيمة الملك على توليته، وظهور أسباب ذلك وترادف الشفاعات فيه ان كان فيه شافع ، ثم الخطاب له على الولاية ، وتقرير أمره فيها وتأهبه لها على ذلك ، الى أن يقع منه الخروج ، وهو لا يصل الى تلك البلدة إلا بعد أن علم أهلها بالاخبار المترادفة بولايته ، وانتظروا قدومه ، واستعدوا للقائه ، وهذا أمر معلوم بالعادة ضرورة.

وإذا كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أعلى قدرا وأجل خطرا من كل من وصفنا حاله من الملوك والاهتمام بولاياته ، وولايته (٢) أشد وأقوى من الاهتمام بولاية غيره ، فلا بد من أن يكون انتشار أمر ولاته وشياع ذكرهم قبل نفوذهم ، أو يخص بسياسة. وكيف يخفى هذا على من عرف العادة ورأى ما تقتضي به في أمثال هذه الأمور.

وهذه الجملة التي ذكرناها في أثنائها الجواب عما اشتمل عليه هذا الفصل ثم نشير الى ما يحرز (٣) الإشارة اليه.

أما ما انتهى به الفصل من القول بأن حال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فيمن يوليه وينفذه الى البلاد كحال غيره فيمن يولي الولاة وينفذ الأمراء.

فغير صحيح ، لان ولاة غير النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمراءه انما يقومون

__________________

(١) ظ : أخبار نفوسهم.

(٢) ظ : وولاته.

(٣) ظ : ما يجدر.

٩٥

بمصالح دنياوية ، فلا يمتنع أن يقوم الظن فيهم مقام العلم. وولاة النبي وأمراءه يقومون بمصالح دينية ، وهذه مصالح مبنية على العلم دون الظن.

فرسل غير النبي من الملوك وأمرائهم يكفي الظن بأنهم صادقون ، كما نقول في قبول الهدايا ومراسلات بعضنا لبعض ، وجميع التصرف المتعلق بمصالح الدنيا ، ولا يكفي في رسلهعليه‌السلام الا العلم والقطع ، فلا ينبغي أن يحمل أحد الأمرين على صاحبه.

والإكثار في أن الفقهاء والعلماء والحفاظ أعداد قليلة لا يبلغون حد التواتر لا يحتاج إليه ، لانه بني على أن الأداء للشرع والتبليغ له موقوف على العلماء والفقهاء ، وأن خبرهم إذا كان لا بدّ من كونه طريقا الى العلم ، فواجب أن يكون كثرة متواترين. وقد بينا أن الأمر بخلاف ذلك كله وأوضحناه.

وما ختم به الفصل من وجوب ارتحال أهل الأمصار وساكني الأقطار حتى يسمعوا من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ما يشافه به. غير واجب أيضا ، ويغني عن ذلك كله ما بيناه ورتبناه.

وقد أجبنا عن هذه المسائل ما اتسع له وقت ضيق.

٩٦

(٢)

جوابات المسائل الرازية

٩٧
٩٨

بسم الله الرّحمن الرّحيم

المسألة الأولى

[حرمة الفقاع عند الإمامية]

سأل (رضي الله عنه) عن الفقاع وهو محرم عند الإمامية ، هل على تحريمه دليل عقلي أو سمعي؟

الجواب :

اعلم أن الفقاع محرم محظور عند الإمامية يحد شاربه ، كما يحد شارب الخمر. ويجري الفقاع عندهم في النجاسة والتحريم مجرى الخمر.

والدليل الواضح على ذلك : إجماع الإمامية عليه ، لأنهم لا يختلفون فيما ذكرنا من الاحكام ، وإجماعهم على ما أشرنا إليه حجة ودلالة توجب العلم ، فيجب لذلك القطع على تحريم الفقاع ونجاسته.

فان قيل : كيف يكون الفقاع حراما وهو لا يسكر؟

قلنا : ليس التحريم موقوفا على المسكرات ، لان الدم ولحم الخنزير لا

٩٩

يسكران وهما محرمان ، وكذلك قليل الخمر لا يسكر وهو محرم.

فان قالوا : قليل الخمر من الجنس الذي يسكر كثيره ، وليس كذلك الفقاع وأما الدم ولحم الخنزير فليسا من جملة الأشربة ، التي لم تحرم في الشريعة إلا (١) لأجل وجود الإسكار في الجنس.

قلنا : غير مسلم ، لكن علة (٢) الأشربة في الشرع موقوفة على أنها من جنس المسكر.

وعلة التحريم في الحقيقة هي المصلحة ، والله تعالى أعلم بوجهها. وقد حرم الله تعالى الدم ، وهو مما يشرب ، فهو شراب على موجب اللغة وان لم يكن فيه قوة الإسكار بل لعينه. فما المنكر من أن يكون تحريم الفقاع كذلك.

ويمكن أن نعارض خصومنا في تحريم الفقاع ، ونورد عليهم الأخبار التي ترويها ثقاتهم ورواتهم في تحريم الفقاع ، لأنهم يعملون في الشريعة بأخبار الآحاد ، فيلزمهم أن يحكموا بتحريم الفقاع للأخبار الواردة من طرقهم بتحريمه.

فأما ما ورد من طرقنا في تحريمه ، وأنه كالخمر في التحريم ووجوب الحد على شاربه والنجاسة ، فأكثر من أن يحصى ، ولا معنى لمعارضة الخصوم ، لأنهم لا يعرفون هذه الروايات ولا يوثقون رواتها. فالمعارضة برواياتهم له (٣) أولى.

فمن ذلك ما رواه أبو عبيد القاسم بن سلام قال : حدثنا أبو الأسود ، عن عن أبي ربيعة (٤) ، عن دراج أبي السمح.

__________________

(١) في «ن» لا.

(٢) في «ن» من علة ، والظاهر : كون علة الأشربة.

(٣) في «ن» لهم.

(٤) في هامش النسخة : لهيعة ، وفي «ن» أبى كهينة. والصحيح ما في الهامش.

١٠٠