رسائل الشريف المرتضى - ج ١

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]

رسائل الشريف المرتضى - ج ١

المؤلف:

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار القرآن الكريم
المطبعة: مطبعة الخيام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٥٧

دائمة ، والتحرز من الضرر الدائم أقوى وأوجب من التحرز من الضرر المنقطع.

والجواب عن هذه الشبهة وان كانت لم تمض في جملة المسائل : انا نأمن فيما خبرنا به الواحد الذي لا نعلم صدقه ، ولا دل دليل قاطع يوجب العلم عن (١) العمل عند خبره ، أن يكون فيما أخبرنا به علينا ضرر ديني ، لأنه لو كان كذلك لوجب في كلمة (٢) الله تعالى أن يعلمنا ويدلنا على هذا الفعل الذي يستحق به العقاب ، لانه مما لا يمكن العمل به عقلا ولا يعلم كذلك الا سمعا.

ولا طريق الى ذلك الا بخبر يوجب العلم والقطع على صدق رواية (٣) أو خبر ، وان كان يوجب الظن رواية (٤) ، فقد نصب دليل يوجب العلم على لزوم العمل به فلما فقدنا هذين الطريقين علمنا فيما خبرنا به الواحد الذي تقدمت صفة.

وهذا الذي ذكرناه مما لا بدّ منه عندنا وعند خصومنا المحصلين في هذه المسألة ، لأنهم يوافقونا على أن العمل لا بدّ من أن يكون تابعا للعلم ، فتارة يكون تابعا للعلم بصدق الراوي ، وأخرى يكون تابعا بوجوب العمل على قوله ، ويعترفون بأن العمل إذا خلا عن علم على أحد الوجهين اللذين ذكرهما لم يصح ، لانه لا يأمن المقدم عليه أن يكون قبيحا ، وانما يأمن بالعلم دون الظن.

على أن من تعلق بهذه الطريقة في وجوب العمل على أخبار الشريعة لا يمكنه أن يستدل بما ذكرناه على وجوب قبول جميع أخبار الشريعة ، لأن فيها ما لا مضرة في ترك العمل ، كالإباحة المتضمنة للإباحة الخارجة عن الخطر والإيجاب.

__________________

(١) ظ : على.

(٢) ظ : حكمة.

(٣) ظ : رواية.

(٤) الظاهر زيادة «رواية»

٦١

ثم نعود على ما انتهى صاحب المسائل إليه كلامه ، فإنه قد صرح بفرضه في ذكر ما يعمل عليه من أخبار الآحاد في الدين أو الدنيا ، لانه قال بعد أن عدد ما يعمل فيه على أخبار الآحاد فان كان جميع التصرف التابع لأخبار الآحاد تابعا لظن وحسبان لا لعلم ويقين، لتمام الحيلة في بعضها وانكشاف الكذب في بعض آخر منها.

فما الفرق بين من قال مثله في التصرف التابع للإدراك ، وللخبر (١) العدد الكثير لتمام الحيلة وانكشاف المين والكذب في بعضها ، وذكر ما يبذله الخزان من الآلات والثياب، ثم ذكر خبر اليهود والنصارى عن قتل المسيح عليه‌السلام وصلبه.

وهذا كما تراه تصريح منه بأن العمل في جميع ما عددوه عمل بعلم ويقين ، وأن تلك الأخبار التي وقع العمل عندها أوجبت العلم لا الظن ، ولهذا ألحقها بالعمل عند طرق الإدراك.

واعتذر فيها بما يعتذر للإدراك ، وأن انكشاف كذب بعض الإدراك لا يوجب الشك في جميعه.

والكلام على هذا : ان ما نعلم أن العمل في المواضع التي ذكرها بأخبار الآحاد فيما يتعلق بدين أو بدنيا واقع مع الظن بصدق المخبر ، لا مع العلم بصدقه والقطع عليه بأمر واضح جلي نعلمه من أنفسنا ضرورة ، ولا نحتاج فيه الى انكشاف الحيلة فيما أخبرنا به ، وأن ذلك مما يعتمد أيضا ، وسنبينه فيما بعد بعون الله ومشيته.

وهو أن أحدنا يعلم من نفسه ضرورة ، إذا أخبره وكيله بعقده له على حرة ، أو ابتياع أمة ، وكذلك إذا أخبرته زوجته بحيضها أو طهرها ، أو جاءه رسول بكتاب

__________________

(١) ظ : ولخبر.

٦٢

صديقه أو أميره ، أنه مجوز أن يكون الأمر فيما خبر به بخلاف الخبر ، وان كان ظنه الى الصدق أميل ومن جهته أقرب.

ويفرق بين ذلك وبين ما يعلمه قاطعا عليه واثقا به ، فرقا ضروريا لا يشتبه على عاقل، حتى لو قال له قائل : أنت موفق (١) قاطع على هذا الخبر الذي عملت عليه ، وتجريه مجرى الأخبار المتواترة ، توجب (٢) العلم عن البلدان والأمصار والحوادث الكبار بقابل (٣) ، بل فيه (٤) ما أنا قاطع ولا موقف ، بل مجوز للصدق والكذب ، وان كنت بالظن إلى جهة الصدق أقرب ، وما يعلمه العقلاء من نفوسهم ضرورة ، فلا ينبغي أن يقع فيه مناظرة.

فمن ادعى تساوي حال من ذكرناه لحال من يعلم شيئا عند الإدراك وزوال كل شبهة فيه ولبس ، أو يعلم بالأخبار المتواترة. فقد كابرنا بإتمام الحيلة التي ينكشف الأمر عنها. فهو أيضا وجه يعتمد في هذا الموضع ، وان كان ما ذكرناه أوضح وأولى.

وتقريب هذا الكلام : أنه لا موضع من هذه المواضع التي عملنا فيها على اخبار الآحاد الا ونحن نجوز أن ينكشف عاقبة الأمر عن كذب المخبر ، ولا نأمن من ذلك البتة كما نأمنه مع العلم اليقين ، وليس كذلك العلم التابع للإدراك أو الحاصل عند التواتر ، لأنا لا نجوز البتة فيما علمناه عند الإدراك ، ولا لبس ولا شبهة أن ينكشف عن خلاف وكلاء(٥) في الاخبار المتواترة.

فأما ما عدده من تمام الحيل وانكشاف الكذب فيما يتعلق بالإدراك ، فمما

__________________

(١) ظ : موقف

(٢) ظ : التي توجب

(٣) ظ : لقال :

(٤) الظاهر زيادة «فيه»

(٥) ظ : وكذا

٦٣

لا يطعن على ما ذكرناه ، لان كل موضع يشار اليه من ذلك ، لم يخلص من شبهة أو سبب التباس ، أو فرق بين جملة وتفصيل ، ولا يخرج الإدراك مع كل ذلك من أن يكون طريقا الى العلم اليقين عند ارتفاع كل شبهة ولبس.

ألا ترى أن الخزان وأصحاب الودائع انما يتم لهم ابدال شيء بغير لا من الملابس (١) والآلات لأسباب معروفة :

منها : ان الإدراك في كثير من هذه المواضع انما يحصل عند العلم بالجملة دون التفصيل ، وليس يجب في كل عالم بالجملة أن يكون عالما بتفصيلها.

ومنها : أن كثيرا من العلوم الضرورية قد ينسى مع تطاول الدهر ، فلا يمتنع أن يخفى على صاحب الثوب مع طول العهد إبداله توبة ، لان تفاصيل صفات ثوبه قد أنساها مع تراخي المدة.

ومنها : أن الشيء قد تخفى صفاته على تفصيلها إذا أدرك من أدنى بعد ، أو قلة تأمل صاحبه له وتصفحه لأحواله وصفاته ، ولهذا نجد كثيرا ممن يبذل (٢) عليه ثوب بغيره يخفى عليه إذا عرضه عليه خازنه من بعيد وقربه منه عرفه ، وكذلك يلتبس عليه إذا لم يتصفحه ولم تحمله الاسترابة على التفقد والتأمل ، فمتى استراب وتأمل لم يخف عليه ، ومن هذا الذي يستحسن أن ينفي الثقة عن علوم الإدراك كلها ، لأجل ما لعله يتم في بعضها واحد الأمرين متميز من صاحبه.

فأما استشهاده على أن الخلق العظيم قد يجوز أن يخبروا بما ينكشف عن كذب ، وتخبر اليهود والنصارى عن قتل المسيح عليه‌السلام وصلبه ، فمما لا يشتبه حتى يحتج به في هذا الموضع. وقد تبين في الكتب ما يزيل هذه الشبهة الضعيفة ، وجملته.

__________________

(١) ظ : بغيره من الملابس

(٢) ظ : يبدل

٦٤

أنه أولا غير مسلم أن شروط الخبر المتواتر حاصلة في اليهود والنصارى لان من شرطه إذا لم يخبرنا من سمعنا الخبر من جهته عن مشاهدة.

وانما خبرونا عن قوم مع طول العهد وتراخى الزمان ، أن تعلم (١) أن صفات من خبرت عنه الجماعة التي لقيناها مساوية لصفات من لقيناه وتلقينا الخبر عنه.

وهذا لا طريق إليه أبدا وخبر (٢) اليهود والنصارى ، لانه غير منكر أن يكونوا انقرضوا في بعض الأزمان الخالية ، أو خبروا في الأصل عن عدد قليل.

ولا يمكن أن يبطل شذوذ أسلافهم وحدوث خبرهم ، بما يبطل به مثل ذلك في نقل المسلمين ، قد تبينوا المفترض اليهود في بعض الأوقات.

وأن النصارى يعتروا (٣) كل شيء يرونه الى التلاميذ الذين هم قلة في الأصل ، على أن تواتر هاولاي (٤) إذا سلم من كل قدح ، فإنما يقتضي أن هناك مقتولا مصلوبا وقد كان ذلك. وانما الشبهة في أنه المسيح عليه‌السلام لم يكن مخالطا للقوم وملاقيا لهم.

ولهذا رووا أنهم رجعوا عند قتله في تعيينه إلى أحدهم ، فأشير (٥) لهم الى غيره حتى قتلوه.

وقيل أيضا : ان المقتول تتغير حاله وتستحيل أوصافه ، فلا ينكر أن يشتبه مع القتل المشخص بغيره.

__________________

(١) ظ : أن نعلم.

(٢) ظ : في خبر.

(٣) ظ : يعزوا.

(٤) كذا في النسخة ، ولعل الصحيح : هؤلاء.

(٥) ظ : فشبه لهم.

٦٥

وقيل أيضا : ان المصلوب لأجل بعده عن العيون وتعذر التفقد والتأمل فيه ، لا يمتنع أن يشتبه لسواه. وهذا واضح وغير موجب أن يتعدى الشك فيه الى المواضع الخالية من أسبابه.

٦٦

الفصل الثامن

[اعتماد أهل اللغة على الخبر الواحد والجواب عنه]

ما الذي يجيب به من سئل عما في الكتب المعمولة في اللغة من الألفاظ والأسماء التي لا يعرفها العامة وكثير من الخاصّة؟ لغرابتها وقلّة سماعها ، والمتداول لاستعمالها والاستشهاد بها في تفسير غريب الحديث ، وغير ذلك من الأمور المتعلقة بالدين.

وهل إضافتها إلى لغة العرب معلوم أو مظنون؟ فان كان معلوما مع أن الذي تضمنه الكتب من ذكر رواتها آحاد ، كالاصمعي وأبي زيد ومن يجري مجراه. وهذه سبيل ما يذكر فيه مما يستشهد به عليها من أبيات الشعر في أنه مأخوذ عن آحاد وليس فيه تواتر.

وما الفرق بينه وبين ما تضمنه الكتب المعمولة في الفقه من الاحكام وإضافتها إلى الأئمة عليهم‌السلام ، ومن يشتمل على ذكره من الرواة أضعاف من يشتمل عليه كتب اللغة.

وهذه المحنة بيننا وبين من أبى ذلك ورده ودفعه ، فان الجميع موجود وظاهر من يشتمل على ذكره كتب الفقه ، في العدالة والنزاهة والتدين والتنسك

٦٧

والتحفظ من الكذب ، ومما يتهم ، أشرف وأمثل من غيرهم ، مع مدح الأئمة لهم وحسن الثناء عليهم ، وذلك غير موجود (١) من سواهم.

ومتى ادعي التواتر وحصول العلم بأحد الأمرين ، أمكن مثله في الأخر وعلم ما في الفروع (٢) الى هذه الدعوى ، وأنها لا تحصل الّا مع تعذر الفرق وامتناعه.

وان كان مظنونا فكيف استجازت علماء الأمة بأسرها الإقدام على ما لا يؤمن كونه كذبا ، والاستشهاد به في تفاسيرها وأحكامها ، والمشكل من روايتها والمتشابه من ظواهرها ، وذلك ان لم يكن معلوما وكان مظنونا لم يعرف لم يقع موقعه. هذا بعيد في صفتها ومستنكر في نفسها.

وان كان بينهما فرق معلوم في كتب اللغة ونفيه عن كتب الفقه ، فما ذلك الفرق الذي يوجب العلم بأحدهما وفقده عن الأخر.

فإن قلنا : اعتماد الأمة عليها في تفاسيرها وأحكامها يدل على علمهم بها ، وليس ذلك موجودا في كتب الفقه التي ذكرتموها.

كان له أن يقول : عمل الأمة بها بما (٣) لا يجوز أن يصدر الّا عن حجة يعرفها آحادها وجملتها ، لأن اللغة غير مأخوذة بالقياس والرأي ، ولا بدّ فيها من نقل واستعمال ، وإذا لم يكن معها إذا استقرئ (٤) حالها الى (٥) الرجوع الى ما ذكرناه من الفزع الى كتب اللغة التي وصفنا حالها.

__________________

(١) ظ : فيمن.

(٢) ظ : الفزع.

(٣) ظ : مما.

(٤) في هامش النسخة : استقزى.

(٥) ظ : الا.

٦٨

فقد صار عمل الأمة وإجماعها ثابتا في الرجوع الى أخبار الآحاد والفزع إليها فيما يوجب العلم والعمل. وإذا كان ما يشتمل عليه كتب الفقه من الرواة أزيد حالا في العدد والنزاهة مما يشتمل عليه كتب اللغة ، كان حكمها في باب العلم والعمل آكد.

وان أقمنا على القول بأن الجميع مظنون غير معلوم مع ما تقدم.

كان له أن يقول : ما حكموا بمثل ذلك في سائر ما تضمنه الكتب من أنساب وأشعار ودواوين ، وتفصيل قصائدها وأبياتها وألفاظها ، ومن مذاهب وآراء في أصول الديانات وفروعها : ولا يحسن منا الخبر عنها. فلا يطلق في بين من الشعر أن قائلا (١) ، وفي مذهب من المذاهب أن ذاهبا ذهب اليه بلا تعلق ذلك بشرط ، كما نفعل فيما لا تفعله (٢) ، فنقول : روي عن فلان كذا ، وحكي أن فلانا قائل بكذا ، حتى يجيب ذلك في كل تفصيل.

وما الفرق بين من أقدم على هذا القول وبين من أقدم على مثله في جمل الأمور التي فصلناها وقال كثيرة ذكرها وجريانها على ألسن الناس ، وحفظهم لها عن ناقليها ، بل عمن حفظها.

والأصل في نقل الجملة والتفصيل واحد ، فان كانت الجملة معلومة فالتفصيل معلوم ، وان كانت مظنونة فالتفصيل تابع لها ، لانه لم يفارقها ، ولا داعي إلى نقل الجملة دون تفصيلها.

الكلام على ذلك : أما اللغة العربية ففيها ما هو معلوم مقطوع على أنه لغة للقوم ومن موضوعهم ، وفيها ما هو مظنون ومشتبه ملتبس.

وما هو معلوم منها فترتب أحوال الناس فيه ، فمنه ما يعلمه كل أحد خاصيا

__________________

(١) ظ : قائلا قال به.

(٢) ظ : نعلمه.

٦٩

أو عاميا بالسير مخالطة ، ومنه ما يحتاج تناه (١) في المخالطة وقراءة الكتب وسماع الروايات الى غايات بعيدة. ومنه ما يتوسط بين هذين الطريقين بحسب التوسط في المخالطة.

وقد علمنا أن كل عاقل اختلط بعض الاختلاط بأهل اللغة العربية ، يعلم ضرورة أن هذه اللغة تسمية (٢) الحائط بالجدار والسيف بالحسام ، وان لم يعلم دقائق اللغة وغوامضها. ومن لم يقف على هذا الحد وزادت مخالطته وسماعه وقراءته ، علم ما هو أكثر من ذلك.

وعلى هذا الى أن ينتهي إلى علم سرائر اللغة وكوامنها ، فإنه موقوف على من استوفى شروط المخالطة كلها ، وبلغ في القراءة وسماع الروايات إلى الغاية القصوى.

فأما المظنون فهو ما رواه الواحد ولم يجمع باقي أهل اللغة عليه ، فإنهم أبدا يقولون في كتبهم : هذا تفرد بروايته فلان ، ولم يسمع الا من جهته. والمشتبه هو الذي اختلف فيه علماء أهل اللغة ، فروى بعضهم شيئا ، وروى آخرون خلافه.

ولا معول في أن أهل اللغة يستشهدون في كتبهم بالبيت من الشعر الذي لا يقال بإضافته إلى شاعره. ولو علمت أيضا الإضافة لما وثق في إضافته إلى لغة جماعة العرب بقول الشاعر الواحد ، لان ذلك لمن فعله من أهل الكتب والتصنيف لا يدل على أنهم أوردوه احتجاجا وتطرقا الى العلم.

بل يجري ذلك مجرى من روى ودون في الكتب وخلّد في المصنفات خبر الهجرة وبدر وحنين ، والصلاة الى القبلة ، وصوم شهر رمضان ، وما أشبهه

__________________

(١) ظ : الى تناه.

(٢) ظ : تسمى.

٧٠

من الأمور المعلومة.

ومعلوم أن الروايات المصنفة في ذلك ليست بحجة فيه ، لأنها كلها مما يوجب الظن ، وهذه أمور مقطوع عليها ومعلومة ، لا مجال للريب في قال (١) أكثر الناس انه ضروري.

ألا ترى أنهم يستشهدون على أن الجدار في اللغة الحائط ، والحسام السيف ببيت من الشعر. ولو قيل للمستشهد بالبيت : من أين علمت أن هذا من لغة العرب وقطعت على ذلك؟ ما رجع الى هذا البيت وأمثاله ، بل عوّل على العلم الذي لا ريب فيه.

وإذا ثبت هذه الجملة فمن (٢) للسائل أن أهل التفسير استشهدوا في معاني القرآن العقلية وأحكامه الفقهية بأبيات شعر ، لا حجة في تفسيرهم لما فسروه ، الا ما أنشدوه. والصحيح أنهم ما فسروا شيئا من المعاني على سبيل القطع والبتات ، إلا بأمور معلومة ضرورة لهم أنها من اللغة ، وانما أنشدوا البيت والبيتين في ذلك لا على سبيل الاحتجاج ، بل على الوجه الذي ذكرناه.

وكيف يعتقد في قوم عقلاء أنهم عولوا في تفسير معنى يقطعون عليه وأنه المراد على ما هو مظنون غير مقطوع به؟

وانما لم يظهر لكل أحد في معاني القرآن ومشكل الحديث أنه مطابق لما يفسر به في لغة العرب ، على وجه لا يتطرق الشك عليه ، لان العلم بذلك والقطع عليه يحتاج الى ضرب من المخالطة ، إذا لم تحصل فلا تحصل ثمرتها.

وهكذا القول في غير اللغة من الاخبار التي أشرنا إلى القول فيها ومذاهب

__________________

(١) ظ : قول.

(٢) ظ : فمن أين للسائل.

٧١

المتكلمين والفقهاء وموضوعاتهم. فان بالمخالطة يعلم منها ضرورة ما لا يعلم كذلك مع عدم المخالطة.

ولم يبق بعد هذا الا أن يقال : ومن أين يعلم من خالط أهل اللغة غاية المخالطة لغتهم على القطع ، وهو مع أتم مخالطة انما يحصل على رواية أبي زيد والأصمعي وفلان وفلان ، وما في هؤلاء من يوجب خبره العلم.

والجواب عن ذلك أن يقال : ومن أين يعلم علما قاطعا الهجرة والغزوات الظاهرة والأمور الشائعة ، وان قربت مخالطته لأهل الاخبار وانما يرجع الى رواية أبي مخنف والواقدي وفلان وفلان. ومن أين يعلم البلدان ولم يشاهدها؟ وانما يرجع الى قول ملاح أو جمال.

فإذا قيل : أبو مخنف والواقدي إنّما رويا بأسانيد متصلة معينة هذه الحوادث ، ولا معوّل في العلم الحاصل عليهم ، بل على الشائع الواقع الذي لا يمكن تعيينه.

قلنا : مثل ذلك في الأصمعي وأبي زيد. ولو قيل لأحد انا (١) : عيّن على جهة يمكن وطريق ثقتك بأن في لغة العرب أن الحسام السيف ، لم يقدر على ذلك كما لا يقدر من قيل له : عيّن على جهة يمكن (٢) في البلدان والأمصار.

وقد بينا فيما سلف من الكلام على هذه الفصول أن تعذر تفصيل طريق العلم ، هو الامارة على قوته وعدم الريب فيه.

وبعد : فلو صرنا الى ما استضعف في خلال الفصل ، من أن تفسير القرآن والسنة ، قد يكون بما هو غير معلوم ولا مقطوع عليه أنه من اللغة ، لكنه مظنون لم يثمر ذلك فسادا ، لانه غير ممتنع أن نتعبد بقبول أخبار الآحاد ، واستعمال طريق

__________________

(١) ظ : لأحدنا.

(٢) ظ : يمكن العلم في.

٧٢

الظن في تفسير حكم قرآن أو سنة ، بعد أن يكون ذلك الحكم مما يجوز القول باختلاف العبادة فيه ، وأن يختلف تكليف المكلفين فيه ، بحسب اختلافهم في ظنونهم.

وهذا انما يسوغ في التحليل والتحريم الشرعي وما أشبهه ، لأنه غير ممتنع أن يكون عبادة زيد في شيء بعينه التحريم بشرط اجتهاده ، وعبادة عمر والتحليل. ولا يسوغ ذلك في صفات الله تعالى ، وما يجوز عليه وما لا يجوز ، لان ذلك مما لا يمكن اختلاف العبادة فيه على وجه ولا سبب.

وهل استعمال أخبار الآحاد الموجبة للظن في تفسير أحكام القرآن أو السنة ، إلا كتخصيص القرآن أو السنة بأخبار الآحاد؟ والنسخ أيضا لهما بأخبار الآحاد؟

وإذا كان التخصيص والنسخ بأخبار الآحاد جائزين عقلا ، وأوجب أكثر الناس التخصيص بأخبار الآحاد وتوقف عن النسخ ، فما المانع من تفسير الاحكام بما يرجع الى آحاد الاخبار عن أهل اللغة إذا دل الدليل على ذلك.

ويمكن أن يتطرق إلى صحة هذه الطريقة : بأن علماء الأمة في سالف وآنف سلكوا ذلك من غير توقف عنه فصار إجماعا ، وهذا لا يوجد مثله في العمل بأخبار الآحاد في الشريعة ، لأنها مسألة خلاف بين العلماء. ولو حصل الإطباق على ذلك في الشريعة أيضا لتساوى الأمران.

٧٣

الفصل التاسع

[إثبات حجية خبر الواحد من طريق اللطف والجواب عنه]

إذا كان المعجز الذي يظهره الله تعالى على يد الرسول ، يدل على صدقه فيما يؤديه عنه ، لأنه قائم مقام التصديق بالقول ، وكان الذي يدل على عصمته تمام الفرض (١) ببعثته، وهو أن يكون من بعث إليهم أقرب الى القبول منه والسكون الى قوله.

وبنينا ذلك على قولنا باللطف ووجوبه ، وأن ما يكون المكلف معه أقرب الى فعل ما كلفه في الوجوب كالتمكين ، لا فرق (٢) في القبح بين المنع بما يتمكن به من الفعل ، وبين(٣) ما يكون معه أقرب الى فعله.

وإذا ثبت هذا ولم يسع في الحكمة وحسن التدبير أن يبعث الله تعالى إلى خلقه من ليس بمعصوم ، فيكون ممن يجوز أن يؤدي ما حمله ويجوز أن لا يؤديه ، لكنه متى كان صادقا فيما يؤديه وطريقا الى العلم بصحته ، لمكان المعجز

__________________

(١) ظ : وكان تمام الغرض ببعثته هو أن إلخ.

(٢) ظ : ولا.

(٣) ظ : وبين منع ما.

٧٤

الظاهر على يده ، فما الذي يسوغ ذلك في حكمة الرسول وحسن تدبيره ، حتى ينفذ الى من بعد عنه ولم يشاهد ، من ليس بمعصوم يخبرهم عنه ويدعوهم الى الله تعالى ، الى (١) قبول ما تضمنه خبره عن الرسول. ويجوز أن يؤدي ذلك وأن لا يؤديه ، لكنهم متى أدّوا كانوا طريقا الى العلم لتواترهم ، وتكليف الكل متساوي ، وما يلزم من إزاحة عللهم وقطع عذرهم متماثل.

فان قلنا : ان الرسول إذا كان مبعوثا الى الجميع ، وكان من وراء من يبعثه مراعيا له ومتداركا لما يقع منه من الخلل والتفريط ، كان في الحكم بخبر الكل داعيا لهم وان لم يشاهدوه ويشافهوه بالخبر والدعاء.

كان لقائل أن يقول مثل ذلك في الله تعالى ، لانه رب الكل وإلههم ومن ينفذه إليهم يراعيهم ، ويتدارك ما يقع فيه الخلل والتفريط منهم ، فهو في حكم المخبر للكل والداعي إليهم ، وان لم نشاهده وشافههم (٢) بالخبر والدعاء.

هذا ان كان ما ذكرناه من عصمة الداعي مما يقتضي العقول عموم كونه لطفا في حق سائر المكلفين. فأما ان كان مما يختلف حالهم فيه ، فيكون منهم دعاء المعصوم وخبره ، يكون معه أقرب الى القبول ، ومنهم من يتساوى في دعائه وقبوله المعصوم وغيره ، لم يكن الى وجوب عصمة الرسول طريق في العقل ، وكان كسائر الألطاف التي يختلف حالها ، ويقف العلم بها على السمع ، وهذا مما لا نقوله.

وان سوينا بين الرسول ، وبين من ينفذ من قبله الى من بعد عنه في العصمة ، وصرنا الى ما يحكى عن بعض أصحابنا. كان له أن يقول : فما الطريق الذي يعلم به من ينفذون إليهم عصمتهم؟

__________________

(١) ظ : والى.

(٢) ظ : وان لم يشاهدوه ويشافههم.

٧٥

فان قلتم بالمعجزات حسب ، أضفتهم (١) الى وجوب عصمتهم وجوب ظهور المعجزات على أيديهم.

وان قلتم بالتواتر عاد السؤال المتقدم عليكم ، وقيل لكم : لو ساغ وحسن فزائر (٢) واحدا أن تزاح علة المكلفين فيه بمن يجوز أن يخبر به ، ويجوز أن لا يخبر به ويدعو اليه وهو غير معصوم ، لساغ وحسن في سائر الأمور.

وكان له أن يقول لنا : أين المعصومون الذين ينقطع بهم عذر المكلفين في عصرنا هذا في كل بلد وناحية ، حتى يحسن ادامة تكليفهم.

فان قلنا : لم نؤت في ذلك الا من قبل نفوسنا ومن سوء اختيارنا ، ولا نعلم من مغيب أحوالنا.

كان له أن يقول : إذا حسن أن تزاح عنكم لأجل سوء اختياركم ، وما ذكرتموه من أحوالكم بما لو بدأ به ، أو فعل مع ارتفاع ذلك من جهتكم ، لكان قبيحا منافيا للحكمة وحسن التدبير ، فلم لا يجوز في بعض أمم الأنبياء مثل ما حصل منكم ، أو علم من أحوالكم؟

فيحسن منه تعالى لأجل ذلك أن يرسل إليهم من يجوز أن يبلغ ويجوز أن لا يبلغ معصوما ، ولو بدأ بذلك أو فقد ما حصل منهم وعلم من حالهم القبح.

وكان له أيضا أن يقول : ما أنكرتم أن تحسن إزاحة علتكم الان ، لمكان ما ذكرتموه من أنكم أتيتم فيه من قبل نفوسكم وسوء اختياركم ، بالروايات عمن تقدم عن أئمتكم وعن امام عصركم ، لعلمنا بدوام التكليف علينا ، وفقدنا لقوم معصوم يشافهنا ، فيوسط بيننا وبين امام عصرنا (٣) من تقدم من أئمتنا ، وفقد

__________________

(١) ظ : أضفت.

(٢) كذا في النسخة.

(٣) ظ : ومن.

٧٦

التواتر وظواهر القرآن في كل ما يلزمنا ويجب علينا. وإذا ثبت بذلك لم يبق بعده الا الروايات المتداولة بيننا.

الكلام على ذلك : اعلم أنه تعالى إذا علم أن في مقدار (١) عباده أفعالا ، متى وجدت أوقعت (٢) منهم أفعال واجبة في العقل ، ومتى لم يفعلوها لم تقع منهم تلك الأفعال الواجبة ، فلا بد من إعلامهم بذلك ليفعلوه ، لان ما لا يقع الواجب الا معه يجب في العقل كوجوبه.

وكذلك إذا علم من جملة مقدوراتهم ما إذا وقع منهم وجدت أفعال قبيحة من جهتهم لا توجد متى لم يقع ما ذكرناه فلا بد من أشعارهم بذلك ، لان ما يقع القبيح عنده ، ولولاه لم يقع لا يكون الا قبيحا ، ويجب اجتنابه والامتناع منه.

وإذا كان المكلفون لا يعرفون بعقولهم صفة ما لا يقع الواجب أو القبيح عنده والتمييز بينه وبين غيره ، فواجب على الله تعالى المكلف لهم المعرض للثواب والنفع أن يعلمهم بما ذكرناه ، كما يجب أن يمسكهم ويزيح عللهم بالأسباب وغيرها.

وإذا لم يجز أن يعلمهم ذلك باضطرار ، لانه لا يمتنع أن يتعلق كون هذه الأفعال مصلحة لنا ، بأن يكون العلم بصفاتها يرجع الى اختيارنا ، كما نقوله في المعرفة بالله تعالى.

وأن كونها لطفا موقوف على أفعالنا ، ولا تقوم الضرورة مقام الاختيار ، فلا بد من وجوب إرسال من يعلمهم بذلك.

ولهذا نقول : ان بعثة الرسول من كان فرض بها ما ذكرنا ، فان وجوبها تابع لحسنها ، ولا بدّ من أن يكون المرسل لتعريف هذه المصالح ممن يعلم

__________________

(١) ظ : مقدور.

(٢) ظ : وقعت.

٧٧

من حاله أن يؤدي ما حمله من الرسالة ، لان إزاحة العلة كما أوجب الإرسال التعريف فهو موجب للعلم بأنه يؤدي.

ألا ترى أن بعثته لا يؤدي في ارتفاع إزاحة العلة ، كترك البعثة في تفويت العلم بالمسامح (١). وأيضا فإن إرسال من لا يؤدي عبث ، لان الغرض في البعثة الأداء والتعريف.

وانما نقول على المذهب الصحيح لا بدّ من أن يكون الرسول في الأداء يخصه على طريق التبع ، لان الغرض المقصود هو الأول. وانما أوجبنا شيئا يرجع الى الرسول ، لفساد أن يجب عليه ما لا وجد لوجوبه ، ولا يجوز أن يجب على زيد مصالح عمرو.

وإذا لم يتم الغرض المقصود في الإرسال كان عبثا ، ولا يجري ذلك مجرى تكليف الله تعالى من علم أنه يكفر ، لان الغرض في التكليف هو التعريض لاستحقاق الثواب ، لا الوصول اليه بالتكليف قد حصل الغرض. وليس كذلك تكليف النبوة ، لأن الفرض (٢) فيها هو اعلام المكلفين مصالحهم وما لا يتم تكليفهم الا به.

فان قيل : جوزوا أن يكون في معلومه تعالى أن كل من أرسله لا يؤدي ما حمله من التعريف الذي أشرتم إليه.

فإن قلتم : لا بد أن يكون في معلومة أن يؤدي. قيل : ومن أين أنه لا بدّ من ذلك؟ وما الدليل عليه؟

قلنا : يمتنع فرضا وتقديرا أن يكون في معلومه تعالى ، أن كل من بعثه لتعريف المصالح لا يؤدي عنه ، لكن ذلك من كان في المعلوم ، مضافا الى علمه

__________________

(١) ظ : بالمصالح.

(٢) ظ : الغرض.

٧٨

بمصالح وبمفاسد من جملة أفعال العباد ، قبح تكليفهم العقلي ووجب إسقاطه عنهم ، لانه قبيح أن يكلفهم ولا يزيح عللهم ، وإذا كان طريق إزاحة العلة مسدودا قبح التكليف.

فان قيل : ألا جاز تكليفهم وجرى مجرى حسن تكليف من لا لطف له.

قلنا : الفرق بين الأمرين ، أن من لا لطف (١) قد أزيحت ، ولم يذخر عنه شيء به يتم يمكنه. ومن لم يطلع على مصالحه ومفاسده لم تزح علته ، وفاتته مصلحته يرجع لا يتعلق به ، ولا صنع له فيه.

وإذا صحت هذه الجملة ووجب الإرسال على ما ذكرناه ، فلا بد أيضا مما لا يتم في الغرض في الإرسال إلا به ، وهو الدلالة على صدق الرسول فيما يؤديه ، لأن قوله لا يكون طريقا الى العلم بما تحمله ، الا من الوجه الذي ذكرناه.

ولهذا قلنا انه لا بدّ من إظهار المعجز على يديه ، ليكون جاريا مجرى تصديقه تعالى له في دعواه عليه بالقبول ، كما لو صدقه نطقا لوجب أن يكون صادقا ، والا قبح التصديق، وكذلك إذا صدقه فعلا.

وإذا كان الرسول مبعوثا الى قوم بأعيانهم يصح أن يسمعوا بالمشافهة منه أداه ، ولم تتعلق الرسالة بمن بعد ونأى في أطراف البلاد ، الا (٢) بمن نأى من الأخلاف ، لم يجب سوى الأداء إليهم ، ولم يتعلق بهم أداء إلى غيرهم.

وان كانت الرسالة الى من غاب وشهد وبعد وقرب ومن وجد ومن سيوجد ، فلا بد من أن يكون المؤدي عن الرسول الى من بعد في أطراف البلاد ، ومن لعله يوجد من الأعقاب من المعلوم من حاله أنه يؤدي.

__________________

(١) ظ : لا لطف له قد أزيحت علته.

(٢) ظ : ولا.

٧٩

انا لو جوزنا على ما ذكرناه الا يؤدي لم يكن اليه (١) الله تعالى مزيحا لعلة من بعدت داره من المكلفين في الإعلام بمصالحهم فيما بعثه الرسول ، وأن يكون المعلوم أنه يؤدي يوجب أيضا أن يكون من المعلوم وقوع الأداء الذي ذكرناه ، لانه لا فرق بين الأمرين فيما يقتضيه التكليف.

فان قيل : جوزوا أن يكون المؤدي عن الرسول إلى أطراف البلاد ممن (٢) لا يجوز أن لا يؤدي ، ومتى أخل بالأداء تلاقاه الرسول : اما بنفسه ، أو بمؤد يقع منه الأداء.

قلنا : هذا يوجب أن يكون المكلفون ما أزيحت علتهم في التكليف طول المدة التي فاتهم فيها هذا الاعلام ، ويقتضي أن يكون تكليفهم النبي في تلك الأحوال قبيحا.

فان قيل : وكيف لا يلزمكم (٣) ذلك في الزمان المتراخي بين صدع الرسول بالرسالة ، وبين وصول الأداء الى من نأى في البلاد البعيدة.

قلنا : أول ما نقوله أنه لا يجوز أن تكون أحوال المكلفين في الشرق والغرب فيما يكون هو مصلحة أو مفسدة من أفعالهم متساوية ، لأنهم لو استووا في ذلك لوجب اعلام الجميع بصفات هذه الافعال في حال واحدة ، وكان يجب إرسال رسل كثيرين بعدد البلاد حتى يكون الأداء في وقت واحد.

وإذا وجد الرسول واحدا ، وذكر أن شريعته تلزم القريب والبعيد ، فلا بد من أن يعلم أن أحوالهم في المصالح تترتب على أن الصفات التي نبه عليها من أفعاله متعجلة ، ومن كان بعيد الدار وفي بعد فبحسب بعده ومسافة إمكان

__________________

(١) ظ : زيادة «إليه».

(٢) ظ : ممن يجوز.

(٣) ظ : ويلزمكم

٨٠