رسائل الشريف المرتضى - ج ١

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]

رسائل الشريف المرتضى - ج ١

المؤلف:

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار القرآن الكريم
المطبعة: مطبعة الخيام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٥٧

وكيف ساغ تمكينه من ذلك؟ فقد استدعى به بني إسرائيل إلى الضلال وكان معلها(١) كونه منه بهذه القبضة لله تعالى. وهل يجيء من كون ذلك قادحا في حكمة الله سبحانه؟ كون العقول دالة على بطلان ما دعا اليه. وفعل الآية مع المبطل من فاعلها سواء كان ما ادعى اليه جائزا في العقول ، أو في حيز المحال ، لأنها ينوب في التصديق له مناب قوله (قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا)(٢).

وإذا لا فرق بين تصديقه فعلا وقولا ، ومن صدق كاذبا فليس بحكم (٣). وهل يجيء من ذلك ما يمكن بتجويزه من تقدم إلقاء القبضة والخوار من دعوى السامري.

وأي فرق بين كون ذلك الذي ادعاه شافعا للخوار وبين تقدمه له؟ في قبح تمكينه منه ، مع العلم أنه يستند به لكون القبضة والإلقاء معلومين للناس من جهته وصنعه.

وليس يجري ذلك مجرى ما يشاهده الناس من أن يتقدم على دعواه داع الى الباطل أو يتأخر عنها ، لان ذلك لا يكون معلوما وقوعه منه وحصوله من فعله ، كما حصل إلقاء القبضة معلوما من جهة السامري ، وشفع إلقاءه لها الخوار الذي وقع الفتنة به. فلينعم بما عنده في ذلك.

الجواب :

اعلم أن العلماء قد تأولوا هذه الآية على وجهين ، كل واحد منهما يزيل المعترضة فيها.

__________________

(١) كذا في النسخة.

(٢) سورة الصافات : ١٠٥.

(٣) ظ : بحكيم.

٤٢١

أحدهما ـ وهو الأقوى والأرجح ـ أن يكون الصوت المسموع من العجل ليس بخوار على الحقيقة ، وان أشبه في الظاهر ذلك. وانما احتال السامري بأن جعل في الذي صاغه من الحلي على هيئة العجل فرجا ومنافذ وقابل به الريح ، فسمعت تلك الأصوات المشبهة للخوار المسموعة من الحي وانما أخذ القبضة (١) التراب من أثر الملك وألقاها فيما كان سبك من الحلي ليوهمهم أن القبضة هي التي أثرت كون العجل حيا مسموع الأصوات ، وهذا مسقط للشبهة.

والوجه الأخر : ان الله تعالى كان أجرى العادات في ذلك الوقت ، بأن من أخذ مثل تلك وألقاها في شيء فعل الله تعالى فيه الحياة بالعادة ، كما أجرى العادة في حجر المقناطيس ، بأنه إذا قرب من الحديد فعل الله تعالى فيه الحركة اليه. وإذا وقعت النطفة في الرحم فعل الله تعالى فيها الحياة.

وعلى الجوابين معا ما فعل الله تعالى آية معجزة على يد كذاب ومن ضل عن القوم عند فعل السامري ، انما أتى من قبل نفسه.

أما على الجواب الأول أنه كان ينبغي أن يتنبه على الحيلة التي نصبت حتى أوهمت أنه حي وأن له خوار ، وإذا لم سخت (٢) عن ذلك فهو القاصر.

وعلى الجواب الثاني قد كان يجب أن يعلم أن ذلك إذا كان مستندا إلى عادة جرت بمثله ، فلا حجة فيه وليس بمعجزة. ولم يبق مع ما ذكرناه شبهة.

__________________

(١) ظ : قبضة.

(٢) ظ : وإذا لم يبحث.

٤٢٢

المسألة التاسعة عشر

[حول تكلم هدهد سليمان (عليه‌السلام) وكيفية عذابه]

ما يحيل لكون هدهد سليمان عليه‌السلام عاقلا من طريقة العقول؟ ليسوغ الانصراف عن ظواهر ما حكاه الله تعالى عنه من الأقوال والأفعال الدالة بظاهرها القوي أنه ذو عقل يساوي عقول المكلفين.

وأقوى ذلك قول سليمان عليه‌السلام (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ)(١) وهذا وعيد عظيم لا يجوز توجهه الى غير ملوم على الخطأ المقصور فهمه عن فهم المكلفين.

وكيف يجوز أن يوجب عليه مثل ذلك؟ لعدم البرهان المبين ، وهو الحجة الواضحة التي يقيم عذره ، ويسقط الملامة عنه ، وقد كان له أن يذبحه من غير هذا الشرط على مقتضى ما أجاب به سيدنا (حرسه الله تعالى) من قبل ، أن ذلك كان مباحا له.

فلو لا أن العذاب ها هنا والذبح جاريان مجرى العقاب ، لما اشترطه في وجوبها (٢) عليه عدم البرهان وفي سقوطها عند حصوله.

وهذا يدل على أنه ذو عقل يوجب التكليف له ، ولو لا ذلك ما حسن هذا الوعيد العظيم على هذا الشرط والترتيب.

ويدل على ذلك أيضا أن سليمان عليه‌السلام أهله لحمل كتابه والإعادة عليه بما يراه من القوم وما يقولون بقوله (اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ

__________________

(١) سورة النمل : ٢١.

(٢) ظ : وجوبهما ، وكذا سقوطهما.

٤٢٣

تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ)(١) ولو اعن (٢) أحدنا من يقصر عقله عن عقل المكلفين على مثل هذا المهم العظيم لكان سفيها.

وقوله من قبل (أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ) الى قوله (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ)(٣) وما في هذا القصص من جودة اعتباره وحسن تدبيره ، كقوله (أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)(٤) الآية.

فهل يسوغ الانصراف عن هذه الظواهر الغريبة بغير دلالة عقلية تحيل أن يعطي الله سبحانه العقل حيوانا مثله ، وما أولاه (كبت الله أعداءه) يذكر ما عنده في ذلك إن شاء الله.

الجواب :

انا قد كنا ذكرنا في جواب المسائل الأولى الواردة في معنى ما حكى عن النملة والهدهد ما قد عرف ووقف عليه. ونحن نجيب الان عما في هذا السؤال المستأنف ، ونزيل هذه الشبهة المعترضة ، وأول ما نقوله :

ان في الناس من ذهب الى أنه لا يجوز أن يكون الهدهد وما أشبهه من البهائم كامل العقل ، وهو على ما هو عليه من الهيئة والبنية ، وعد ذلك في جملة المستحيل وهذا ليس بصحيح [و] لا دلالة عقلية تدل على ذلك.

ومن أين لنا أن بنية قلب الهدهد وما جرى مجراه لا تحتمل العلوم التي

__________________

(١) سورة النمل : ٢٨.

(٢) ظ : أمن.

(٣) سورة النمل : ٢٢.

(٤) سورة النمل : ٢٥.

٤٢٤

هي كمال العقل ، وإذا كان العقل من قبل (١) العلوم والاعتقادات ، وقلب البهيمة يحتمل الاعتقادات لا محالة ، بل كثيرا من العلوم وان لم يكن تلك العلوم عقلا.

فأي فرق بين العلم الذي هو عقل ، وبين العلم الذي ليس بعقل في احتمال القلب له؟ وما احتمل الجنس الذي هو الاعتقاد ، لا بدّ أن يكون محتملا للنوع الذي هو العلوم.

فان قيل لنا : على هذا فإذا جوزتم أن يكون البهائم ـ وهي على ما هي عليه ـ في قلوبها علوم هي كمال العقل ، والتكليف تابع لكمال العقل ، فألا جوزتم أن تكون مكلفة وهي على ما هي عليه ، كما جوزتم أن تكون عاقلة.

قلت : الصحيح أن نقول : ان ذلك جائز لو لا الدلالة على خلافه ، والمعول في ذلك على إجماع المسلمين على أن البهائم ليست بكاملة العقول ولا مكلفة وهذا أيضا معلوم من دين النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولهذا روي عنه عليه‌السلام أنه قال : جرح العجماء جبار (٢). وانما أراد أن جنايات البهائم لا شيء فيها.

ولا اعتبار بقول طائفة من أهل التناسخ بخلاف ذلك ، لان أصحاب التناسخ لا يعدون من المسلمين ، ولا ممن يدخل قوله في جملة الإجماع ، لكفرهم وضلالهم وشذوذهم من البين.

وانما قلنا ان الهدهد الذي خاطبه سليمان عليه‌السلام وأرسله بالكتاب لم يكن عاقلا ، لان اسم الهدهد في لغة العرب وعرف أهلها اسم لبهيمة ليست بعاقلة

__________________

(١) ظ : قبيل.

(٢) نهاية ابن الأثير ٣ ـ ١٨٢.

٤٢٥

كما أنه اسم لما كان على صورة مخصوصة وهيئة معينة.

فلو كان ذلك الهدهد عاقلا لما سماه الله تعالى ، وهو يخاطبنا باللغة العربية هدهدا ، لان هذا الاسم وضع لما ليس بعاقل. وإجراؤه على من هو عاقل خروج عن اللغة ، فأحوجنا اتباع هذا الظاهر الى أن نتأول ما حكى عن هذا الهدهد من المحاورة ، ونبين كيفية انتسابه الى ما ليس بعاقل.

وقد قلنا في ذلك وجهين ذكرناهما في جواب المسائل الاولى :

أولهما : أن ليس يكون ما وقع منه قول ، ولا نطق بهذا الخطاب المذكور ، وانما كان منه ما يدل على معنى هذا الخطاب ، أو ضيف الخطاب اليه مجازا ، وهو على مذهب العرب معروف ، قد امتلأت به إشعارها وكلامها ، فمنه قول الشاعر :

امتلأت (١) الحوض وقال قطني

مهلا رويدا قد ملأت بطني

ونحن نعلم أن الحوض لا يقول شيئا ، وأنه لما امتلأ ولم يبق فيه فضل لزيادة ، صار كأنه قائل «حسبي» فلم يبق في فضل لشيء من الماء.

وقد تحاوروا هذا في قول الشاعر :

وأحصت لذي بال حين رأيته

وكبر للرحمن حين رآني

فقلت له أين الذي عهدتهم

بحينك في خصب وطيب زمان

فقال حصل واستودعوني بلادهم

ومن ذا الذي يبقى على الحدثان

له بهذه المعاني المحكية عند رؤيته خاليا من أهله ، حكى ما استفاده من هذه المعاني عنه توسعا وتفاضحا.

والوجه الأخر : أن يكون وقع من الهدهد كلام منظوم له هذه المعاني المحكية عنه بإلهام الله تعالى له ذلك ، على سبيل المعجزة لسليمان عليه‌السلام ،

__________________

(١) ظ : امتلأ.

٤٢٦

كما جعل من معجزته فهمه لمنطق الطير وأغراضها في أصواتها.

وليس بمنكر أن يقع الكلام الذي فيه بعض الأغراض ممن ليس بعاقل ولا مكلف. ألا ترى أن الصبي الذي لم يبلغ الحلم ولا دخل في التكليف قد يتكلم بكلام فيه أغراض مفهومة وكذلك المجنون.

وليس يجب إذا حكى الله تعالى عن الهدهد ذلك الكلام المرتب المتسق أن يكون الهدهد نطق على هذا الترتيب والتنضيد ، بل يجوز أن يكون نطق بما له ذلك المعنى ، فحكاه الله تعالى بلفظ فصيح بليغ مرتب مهذب.

وعلى هذا الوجه يحكي العربي عن الفارسي ، والفارسي عن العربي ، وان كان العربي(١) لا ينطق بالعربية.

وعلى هذا الوجه حكى الله تعالى عن الأمم الماضية من القبط وغيرهم ، وعن موسى عليه‌السلام فرعون ، ولغتهما لغة القبط ما حكاه من المراجعات والمحاورات ، وهم لم ينطقوا بهذه اللغة ، وانما نطقوا بمعانيها بلغتهم ، فحكاه الله تعالى باللغة العربية وعفتها وقدسها.

وهذا مزيل العجب من نطق الهدهد بذلك الكلام المرتب ، لانه لا يمتنع أن يكون ما نطق به بعينه ، وإنما نطق بما له معناه.

فان قيل : فقد رجعتم في الجوابين معا عن مطلق (٢) القرآن ، لان حمل القول المحكي على أن المراد به ما ظهر من العلامات والدلالات ، على ما أنشدتموه من الشعر مجاز غير حقيقة. وكذلك اضافة القول المترتب الى من لم يقله من ترتيبه ، وانما قال ما له معناه أيضا مجاز ، فقد هربتم من مجاز الى مجاز ، من أنكم امتنعتم من أن تسموا هدهدا عاقلا كاملا بمخالفة اللغة ، وأنه عدول عن

__________________

(١) ظ : الفارسي.

(٢) ظ : منطق.

٤٢٧

مقتضاها ، فما أجبتم به أيضا بهذه الصفة.

قلنا : الفرق بين الأمرين واضح ، فإن العادة قد جرت للعرب بما ذكرناه في الجواب الأول من المجاز ، وهو في كلامهم وأشعارهم ظاهر شائع ، حتى كاد يلحق بالحقيقة ، وما جرت عادتهم باسم الهدهد وما أشبهه من البهائم شخصا عاقلا مكلفا على سبيل الإفادة ولا التقليب ، فعدلنا عن مجاز [غير] معهود ولا مألوف إلى مجاز معهود مألوف.

وأما الجواب الثاني فلا نسلم أنه مجاز ، ولا فيه من الاستعارة ، لان من حكى معاني كلام غيره بلغة أخرى ، أو على ترتيب آخر بعد أن لا يتجاوز تلك المعاني ولا يتعداها ، وان عبر عنها بغير تلك العبارة لا يقول أحد أنه متجوز ولا مستعير. فبان الفرق بين الموضعين.

فان قيل : قد شبهتم شيئا بما لا يشبهه ، لأن القائل :

امتلاء الحوض وقال قطني

مهلا رويدا قد ملأت بطني

إنما مراده امتلاء حتى لو كان ممن يقول لقال كذا ، وكذلك الجبل انما حكى عنه ما لو كان قائلا لقاله ، وقوله «وشكا الي بعبرة وتحمحم» أي فهمت من بعيره (١) وحمحمته التألم والشكوى ، فأين نظير ذلك في الهدهد.

قلنا : مثل هذا قائم في الحكاية عن الهدهد ، لان سليمان عليه‌السلام لما رأى أن الهدهد انما ورد اليه من مدينة سبإ حكي عنه ما لو كان قائلا لقاله من أحوالها وصفة ملكها ، ومعلوم أن الأمر كذلك ، لان الهدهد لو كان قائلا لقال ، وقد عاين ذلك الملك «انني علمت ما لم تعلم وأني وجدت امرأة تملكهم ولها عرش عظيم (٢)» والعرش ها هنا هو الملك أو الكرسي الذي حكيناه.

__________________

(١) ظ : عبرته.

(٢) سورة النمل : ٢٣ والآية كذا (إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ).

٤٢٨

وقد جاء في القرآن وأخبار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لذلك نظائر كثيرة ، فمن ذلك قوله تعالى حكاية عن السماء والأرض (قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ)(١) والمعنى لو كانتا مما يقولان لقالتا.

وقوله جل اسمه (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً)(٢) انها لو كانت (٣) يشفقن ويأبين لأبين ويشفقن.

وقوله «لو كتبت القرآن في إهاب ثم ألقي في النار لما احترق» (٤) وعلى هذا معناه وتقديره : لو كانت النار لا تحرق شيئا لجلالته وعظيم قدره لكانت لا تحرقه.

ولا يجعل على هذا الوجه سليمان عليه‌السلام مستفيدا من الهدهد خبر سبإ ، بل كان سليمان عليه‌السلام بذلك عالما قبل حضور الهدهد ، فلما حضر الهدهد بعد غيبته وعلم أنه من تلك البلدة ورد أضاف إليه من القول والخبر ما لو كان مخبرا لقاله ، كما قيل في الحوض والجبل.

فان قيل : ألا جوزتم أن يكون الله تعالى فعل في الهدهد كلاما هذه صفته ، وكذلك في النملة.

قلنا : اضافة القول إليهما دونه تعالى يمنع من ذلك ، والقائل هو فاعل القول دون محله.

فأما قوله (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً) فالعذاب هو الألم والضرر ، وليس

__________________

(١) سورة فصلت : ١١.

(٢) سورة الأحزاب : ٧٢.

(٣) ظ : كن.

(٤) نهاية ابن الأثير ١ ـ ٨٣.

٤٢٩

[يجري] مجرى العقاب الذي لا يكون الا على سبب متقدم ولا يكون مبتدأ. ألا ترى أنهم يقولون ابتدأه بالعذاب ، ولا يقولون ابتدأه بالعقاب. وقد يبيح الله تعالى من إيلام البهائم ما تضمن هو العوض عنه ، كما أباح ركوبها والحمل عليها وأن ألمها ويثق عليها (١) وأباح ذبحها.

وقد روي أن العذاب الذي ذكره سليمان عليه‌السلام انما كان نتف ريشه.

وليس قوله «لأعذبنه ولأذبحنه» وعيدا على ما جرى في المسألة ، لأن القائل قد يقول وهو غير متوعد : ان كان كذا ذبحت شاتي ، وان لم يطر طائري الى الموضع الفلاني ذبحته.

لانه مخير في أوقات هذا الذبح المباح ، وكان عليه‌السلام يخبر عن ذبح الهدهد أو نتف ريشه ان لم يعلم من حاله ما يصرفه عن هذا الداعي ، فلما علم وروده من تلك الجهة ، انصرف عن داعي الذبح أو الأيام (٢). ومعي (٣) «سلطان مبين» أي يأتي بأمر يصرفني عما عزمت عليه ، فكأنه حجة وسلطان.

وسليمان عليه‌السلام لم يجعل على الحقيقة الهدهد رسولا متحملا لكتاب ، ولا قال له : اذهب بكتابي هذا ألقه إليهم ، ثم تول فانظر ما ذا يرجعون ، بل لما ظهر منه عليه‌السلام ما فيه معاني هذه الحكاية وفوائدها ، جاز على مذهب العرب أن يضاف إليه أنه قال ذلك.

ألا ترى ان أحدنا قد يكتب كتابا مع طائر ، ويرسله الى بعض البلدان ، ليعرف أخبار تلك البلدة وأحوالها ، فيجوز أن يقول هذا ويحكي عنه غيره أنه أرسل يريد الطائر ، وقال : عرفني ما في ذلك البلد وصف لي أحوال كذا

__________________

(١) كذا في الأصل.

(٢) ظ : الإيلام.

(٣) ظ : ومعنى.

٤٣٠

وأخبار كذا ، ويجعل ما هو غرضه كأنه ناطق به وما يوصل به الى هذا الغرض ، كأنه رسول مخاطب بالتي سئل.

ولذلك يقول الفصيح منهم ركبت فرسي أو جملي ، فقلت له : اذهب بي إلى البلد الفلاني وأسرع بي اليه وهو ما قال شيئا ، وأن المعنى ما ذكرناه.

ومن أنس بفصيح كلام العرب ولطيف اشاراتها وسرائر فصاحاتها ، تمهّدت هذه الأجوبة التي ذكرناها تولية وتحققها لمطابقة طريقة القوم ومذاهبهم.

المسألة العشرون

[تأويل آية (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ) وغيرها]

ما جواب من استشهد على أن الملائكة أفضل من الأنبياء عليهم‌السلام بقوله سبحانه (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ)(١) من حيث أن هذا الكلام المقصود به التعظيم والرفعة ، يدل على أن المذكور أفضل من الأول وأشهر في الفضل ، وأنه لو كان دونه لم يجز استعماله.

ويدل على أن القائل إذا كان حكيما لا يجوز أن يقول : لن يستنكف الوزير أن يأتيني ولا الحارس ، بل ينبئ عمن هو أجلّ وأعلى ، فقال : لن يستنكف الوزير أن يأتيني ولا الملك.

وهذا يوجب كون الملائكة أفضل من المسيح عليه‌السلام ، سيما وليس المراد في قوله (الْمُقَرَّبُونَ) الاخبار عن قرب المكان ، لاستحالة ذلك عليه سبحانه ، وانّما المراد قرب المنزلة في الثواب وعظمها ، ووصفهم بذلك يدلّ على التعظيم.

__________________

(١) سورة النساء : ١٧٢.

٤٣١

وليس لأحد أن يقول : ان ذلك المقال قد يستعمل في المتماثلين في الفضل لانه ليس في الأمة قائل به ، وانما الأمة قائلان : قائل يقول الأنبياء أفضل وقائل يقول الملائكة أفضل. وليس يصلح كما بينا التنبيه في مثل هذا المقال بالمفضول بل بالأفضل.

وقد تقدم في ذلك قول من يقول إنما ثنى بذكرهم لأنهم عبدوا المسيح عليه‌السلام ، لان ذلك لا يؤثر فيما قد بينا أن العرف في الكلام يقتضيه ، وكذلك الظاهر.

وقوله تعالى (وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ)(١) يدل على عظم حال الملك.

وقوله تعالى (فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ)(٢).

وقوله تعالى حكاية عن إبليس (لعنه الله) (ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ)(٣) يدل على عظم حال الملك ، وأنه المعلوم له ولهما ، ولو لا ذلك ما رغبهما في أمرهما أفضل منه ، ولكان الله سبحانه قد أنكر عليه.

فليتطول بما عنده في ذلك مثابا إن شاء الله تعالى.

الجواب :

أمّا قوله تعالى (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ

__________________

(١) سورة هود : ٣١.

(٢) سورة يوسف : ٣١.

(٣) سورة الأعراف : ٢٠.

٤٣٢

الْمُقَرَّبُونَ) فإنه لا يدل على فضل الملائكة على الأنبياء من وجوه ثلاثة :

أولها : أنه غير ممتنع أن يكون جميع الملائكة عليهم‌السلام أفضل وأكثر ثوابا من المسيح عليه‌السلام ، وان كان المسيح أفضل وأكثر ثوابا من كل واحد من الملائكة ، وهو مسألة الخلاف.

ولم يقل تعالى : لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا جبرائيل ولا ميكائيل. فيدل على أن المؤخرة ذكره أفضل ، وأن جبرائيل أفضل من المسيح بل قال (وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) وهذا لفظ يقتضي جماعتهم. ولا يمتنع أن يكون الجمع من الملائكة أفضل من كل واحد من الأنبياء عليهم‌السلام.

والجواب الثاني : ان المؤخر في مثل هذا الخطاب المذكور في الآية لا بدّ من أن يكون إما أفضل من المقدم ، أو مقارنا له في الفضل. ولا يجوز أن [لا] يكون مقارنا له في الفضل.

ألا ترى أنه لا يحسن أن يقول القائل : لن يستنكف الأمير إن يزورني ولا الحارس ، ويحسن أن يقول : لن يستنكف الأمير الفلاني أن يزورني ولا الأمير الفلاني إذا كانا مقارنين ومدانيين في الفضل. وكذلك لن يستنكف الأمير ولا الوزير للمقارنة.

والجواب الثالث : أنه من الجائز أن يكون الله تعالى خاطب بهذه الآية قوما كانوا يعتقدون فضل الملائكة على الأنبياء ، فأجرى الخطاب على اعتقاداتهم كما قال تعالى (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ)(١) ونحن عند قومك ونفسك ، وكما قال تعالى (وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً)(٢) وقد يقول أحدنا لغيره : لن يستنكف أبي أن يفعل كذا ولا أبوك ، وان اعتقد القائل ان أباه

__________________

(١) سورة الدخان : ٤٩.

(٢) سورة طه : ٩٧.

٤٣٣

أفضل من أبي المخاطب للمعنى الذي ذكرناه.

وأما قوله تعالى (وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ) فلا يدل على تفضيل الملائكة عليه ، لان الغرض في كلامه نفي ما لم يكن عليه ، لا التفضيل بين الأحوال.

لأن أحدنا لو ظن به أنه على صفة وليس عليها جاز أن ينفيها عن نفسه على هذا الوجه ، وان كان في نفسه على أحوال هي أفضل من تلك الحال ، وانما اتفق في الحالتين المنفيتين اللتين هما علم الغيب واستحفاظه خزائن الله ان كان فيها فضل.

وليس ذلك مما ينفع فيما نفاه ، وهذه أن يكون مما لا فضل فيه ، أو مما فيه فضل يزيد فضله في نفسه عليه.

والذي يبين عن ذلك أنه قال عقيب ذلك في سورة هود خاصة (وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً)(١) ونحن نعلم أن هذه منزلة غير جليلة ، وهو على كل حال أرفع منها وأعلى ، فألا كان انتفاؤه من الملائكة جاريا هذا المجرى.

فأما الحكاية عن النسوة اللاتي شاهدن يوسف عليه‌السلام فأعجبهن حسنه (ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ)(٢) فإنه لا يدل أيضا على فضل الملائكة على الأنبياء عليهم‌السلام من وجهين :

أحدهما : أنهن ما نسبنه إلى الملائكة تفضيلا في ثواب حال الملائكة على حال الأنبياء عليهم‌السلام ، ولا خطر ذلك ببالهن ولكن حسنه وكمال خلقته أعجبهن نفين (٣) عنه البشرية التي لم يعهدن فيها مثله ونسبوه إلى أنه ملك ،

__________________

(١) هود : ٣١.

(٢) سورة يوسف : ٣١.

(٣) خ ل : لنفوا ، والظاهر : فنفين.

٤٣٤

لان الملك يقال : انه إذا تجسد وتصور فإنه يتصور بأحسن الصور.

وأما الوجه الأخر : ان اعتقاد النسوة ليس بحجة ، لأنهن قد اعتقدن الباطل والحق ، فلو وقع منهن ما يدل صريحا على تفضيل الملائكة على الأنبياء لم تكن حجة.

وأما ترغيب إبليس لادم وحواء عليهما‌السلام في أن يصيرا ملائكة بأن يتناولا من الشجرة ، فغير دال أيضا على خلاف مذهبنا.

وليس بمنكر أن يريد بقوله (إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ) أن المنهيين عن تناول الشجرة هم الملائكة دونكما ، كما يقول أحدنا لغيره : ما نهيت أنت عن كذا الا أن تكون فلانا.

وانما يعني أن المنهي هو فلان دونك ، ولم يرد بقوله أن تكون أن تصير فلانا وتنقلب خلقتك إلى خلقه فلان. فمن أين للمخالف أن قوله تعالى (إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ) المراد أن ينقلبا ويصيرا دون ما ذكرناه. وإذا كان اللفظ محتملا فلا دلالة في الآية.

وقد كنا أملينا مسألة مفردة في تفضيل الأنبياء على الملائكة ، استقصينا الكلام فيها ، وقلنا في استدلالهم علينا هذا الذي حكيناه : ان إبليس إنما رغبهما في أن ينتقلا الى صفة الملائكة وخلقها. وهذه الرغبة لا تدل على أن الملائكة أفضل منهما في الثواب الذي فيه الخلاف.

ألا ترى ان المنقلب إلى خلقه غيره ، لا يجب أن يصير على مثل ثوابه بالانقلاب الى صورته وخلقته ، كما رغبهما أن يكونا من الخالدين. وليس الخلود مما يقتضي مزية ، وانما هو نفع عاجل ، فلا يمتنع أن تكون الرغبة منهما أن يصيرا ملكين على هذا الوجه.

وذكرنا أيضا في تلك المسألة وجها مليحا غريبا يلزم المعتزلة ، وهم مخالفونا

٤٣٥

في هذه المسألة ، وهو أن نقول لهم : بم تدفعونا أن يكونا اعتقدا أن الملك أفضل من النبي ، وغلطا في ذلك ، وهو منهما ذنب صغير ، لان الصغائر تجوز عندكم على الأنبياء. فمن أين لكم أن اعتقاد آدم عليه‌السلام لا بدّ أن يكون على ما هو عليه؟ مع تجويزكم الصغائر عليه ، وهذا مما لا يوجدون فيه فصلا.

المسألة الحادية والعشرون

[تحدى القرآن بقوله (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ)]

قال لي قائل وقد أسى : إذا كنتم معشر المسلمين تظنون الان من نفوسكم أن من أتاكم بمثل سورة من سور القرآن صغيرة كانت أو كبيرة ، كانت الحجة له لا عليه.

فها أنا أورد لكم مثل سورة (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) على وجهين :

أحدهما «لقد أتيناك المفخر ، فتهجد به وأشهر ، واصبر فعدوك الأصغر».

والأخر «لقد أنذرناك المحشر ، وشددنا أزرك بحذر ، فاصبر على الطاعة توجر».

فقلت له : الأول كلام أبدل بكلام في معناه ، فقال : وما الذي تخرجه عن المعارضة وان كان كذلك ، مع أن الثاني على غير هذه الصفة ، وقد صحت فيه الفصاحة والنظم اللذان وقع التحدي بهما. ثم ذكر (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) وادعى أنها لبعيدة من الفصاحة.

وسيدنا (فسح الله في مدته) لينعم بما عنده في ذلك ، وبإيضاح خروج ذلك عن المعارضة ، هذا ان كان قوله (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) يوجب تخييرهم طوال السور وقصارها.

٤٣٦

وهل يجوز أن يكون القول بقيد سورة يختارها هو عليه ، أو يكون هذا القول قبل نزول القصار ، أو يكون الهاء راجعة في هذا المكان عليه عليه‌السلام وهو لان مثله من (١) لم يستفد من المخلوقين العلم والحظ لا يأتي بذلك ولا أولاه ، بالإجابة عن هذه الشبهة ، فلما يرد من عنده المزية القوية الراجحة ، لا أعدمه الله تعالى التوفيق وقع (٢) به كل ضار وزنديق.

الجواب :

اعلم أن الذي يعلم أن هذا الذي حكى في المسألة من الكلام المسجوع ليس بمعارضة للقرآن ، وأن معارضته لا تتأتى في أنف الزمان ، كما لا تتأتى في سالفة. أن من المعلوم ضرورة أن الذين تحدوا بالقرآن من فصحاء العرب وبلغائهم وخطبائهم وشعرائهم كانوا على المتأخرة لو كانت متأتية غير ممنوعة أقدر وبها أبصر وأخبر.

فلما وجدناهم مع التصريح والتعجيز وتحمل الضرر الشديدة في مفارقه الأديان والأوطان والربانيات والعبادات فقدوا (٣) عن المعارضة ونكلوا عن المقابلة علمنا أن من يأتي بعدهم عنها أعجز ومنها أبعد.

وان كل شيء تكلفه بعض الملحدين في هذه الأزمان القريبة وادعوا أنه معارضة ليس بواقع ، لان ما يقدر عليه أهل زماننا هذا من كلام فصيح ذلك السلف ، عليه أقدر و [ما] أعجز عنه ذلك السلف ، فمن يأتي بعدهم أولى بالعجز.

وهذا دليل في نفي المعارضة ، وما يحتاج معه الى تصفح المعارضات

__________________

(١) ظ : ممن.

(٢) ظ : وقمع.

(٣) ظ : قعدوا ، أو بعدوا.

٤٣٧

وتأملها وبيان قصور منزلتها عن منزلة القرآن.

فأما هذا الكلام المسطور المحكي في المسألة كلام لا فصاحة له ولا بلاغة فيه ، ولا يتضمن معنى دقيقا ولا جليلا ، فكيف يعارض به ويقابل ما هو في غاية الفصاحة والكلفة والتحمل فيه ظاهر.

وأين قوله «لقد أتيناك المفخر» من قوله (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ)؟ وأين قوله «فتهجد لله وأشهر» من قوله (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ)؟ وأين قوله «فاصبر فعدوك الأصغر» من قوله (إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ)؟ ومن له أدنى علم بفصاحة وبلاغة لا يعد هذا الذي تكلف وأمارات الكلفة والهجنة فيه بادية فصيحا ولا بليغا بل ولا صحيحا مستقيما.

فأما الكوثر فقد قيل : انه نهر في الجنة. وقيل : ان الكوثر النهر بلغة أهل السماوة. وقيل : ان الكوثر انما أراد به الكثير ، فكأنه تعالى قال : انا أعطيناك الخير الكثير. وهو أعجب التأويلين الي ، وأدخل في أن يكون الكلام في غاية الفصاحة ، فإن العبارة عن الكثير بالكوثر من قوي الفصاحة.

وقوله (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) ان استقبل القبلة في نحرك ، وهو أجود التأويلات في هذه اللفظة من أفصح الكلام وأبلغه وأشده اختصارا ، والعرب تقول : هذه منازل تتناحر. أي تتقابل. وقال بعضهم :

أبا حكم هل أنت عم مجالد

وسيد أهل الأبطح المتناحر

فأما قوله (إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) فمن أعجب الكلام بلاغة واختصارا وفصاحة ، وكم بين الشأني والعدو في الفصاحة وحسن العبارة. وقيل : ان الأبتر هو الذي لا نسل له ولا ذكر له من الولد ، وانه عنى بذلك العاص بن وابل السهمي. وقيل : ان الأبتر ها هنا هو المنقطع الحجة والأمل والخير ، وهو أحب الي وأشبه بالفصاحة.

٤٣٨

فهذه السورة على قصرها كما تراها في غاية البلاغة إذا انتقدت وركية تنبع كل فصاحة إذا اختبرت. ومن لم يقدر على هذا الاختبار والاعتبار ، فيكفيه في نفي المعارضة والقدرة عليها ما قدمناه من الدليل على سبيل الجملة.

فأما قوله تعالى (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) فداخل فيه الطوال والقصار من غير تعيين على سورة يقع الاختبار عليها منه عليه‌السلام من غير تفرقة بين القصار والطوال.

ولا خلاف بين المسلمين في ذلك ، لان التحدي أولا وقع بجميع القرآن في قوله تعالى (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) ثم وقع الاقتصار على سورة واحدة فقال تعالى (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) ولم يفرق بين طويلة وقصيرة. والهاء في قوله مثله راجعة إلى القرآن لا اليه عليه‌السلام بلا شك والأمر (١) به.

فأما سورة الكافرين وادعائه (٢) من جهل في حالها أنها بعيدة من الفصاحة والذي يكذب هذه الدعوى على خلوها من الفصاحة ولقالوا له كيف يعد زيادة فصاحة قراءتك على فصاحتنا ، وهذه السورة خالية من الفصاحة ، فقد وافقوا على ما هو دون ذلك ، وهم للفصاحة أنقد وبمواضعها أعلم. وانما يجهل فصاحة هذه السورة من لم يعرف ، فظن أن تكرار الألفاظ فيها لغير فائدة مجددة ، والأمر بخلاف ذلك.

وقد بينا في كتابنا المعروف ب «غرر الفرائد» أن هذه السورة وان تكررت فيها الألفاظ ، فكل لفظ منها تحته معنى مجدد ، وأن المتكرر ليس هو على وجه التأكيد الذي ظنه الأغبياء ، وبينا فوائد كل متكرر من ألفاظها ، ومن فهم ما قلناه فيها علم أنها في سماء الفصاحة والرجاحة.

__________________

(١) ظ : ولا مرية.

(٢) ظ : وادعاء.

٤٣٩

المسألة الثانية والعشرون

[حكم نذر صوم اليوم المصادف للعيد]

ما قوله (حرس الله مدته) فيمن نذر أن يصوم يوما يبلغ فيه مرادا ، واتفق كون ذلك اليوم يوم عيد أو يوما قد تعين صومه عليه بنذر آخر.

هل يجزيه صوم اليوم الذي قد تقدم وجوب صومه عليه بالنذر المتقدم عن صوم يجعله بدلا منه إذا اتفق في النذر الثاني أم لا؟ وهل يسقط عنه صوم اليوم الذي اتفق أنه يوم عيد بغير بدل أم ببدل.

الجواب :

من نذر صوم يوم قدوم فلان ، فاتفق قدومه في يوم عيد فالواجب فطر ذلك اليوم ، لانه عيد ولا قضاء عليه.

والوجه فيه : أنه نذر معصية ، وقد أجمعت الطائفة أنه لا نذر في معصية ، ورووا عن أئمتهم أيضا ذلك صريحا في روايات مشهورة.

وسواء كانت المعصية المنذور فعلها أو المنذور فيها ، لانه لا فرق في امتناع انعقاد النذر بين أن يقول : ان قدم فلان شربت خمرا أو ركبت محرما ، وبين أن يقول : ان شربت خمرا أو زنيت بفلانة فعليّ أن أتصدق بكذا.

وإذا كان صوم يوم العيد معصية بلا شبهة ، وتعلق نذره به ، فلم ينعقد نذره وإذا لم ينعقد فلا قضاء ولا كفارة ، لأنهما إنما يلزمان في نذر منعقد.

فإذا قيل : فهو لم يعلم أن ذلك اليوم يوم عيد ، فيكون نذره متعلقا بمعصيته.

قلنا : هو وان لم يعلم بذلك ، فهو في نفسه معصية ، وقد تعلق نذره بمعصية

٤٤٠