رسائل الشريف المرتضى - ج ١

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]

رسائل الشريف المرتضى - ج ١

المؤلف:

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار القرآن الكريم
المطبعة: مطبعة الخيام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٥٧

أنكحتهم فاسدة ، لأن اليهود والنصارى مخاطبون عندنا بشرائعنا ومعبدون ـ بعباداتنا ـ وهم غير مخرجين من أموالهم هذه الحقوق وعقود أنكحتهم صحيح (١).

وكيف يجوز أن نذهب الى فساد عقود أنكحة المخالفين؟ ونحن وكل من كان قبلنا من أئمتنا عليهم‌السلام وشيوخنا نسبوهم إلى آبائهم ، ويدعوهم إذا دعوهم بذلك ، ونحن لا ننسب ولد زنية الى من خلق من مائه ولا ندعوه به. وهل عقود أنكحتهم الا كعقود قيناتهم؟ ونحن نبايعهم ونملك منهم بالابتياع ، فلو لا صحة عقودهم لما صحت عقودهم [تابعهم (٢)] في بيع أو إجارة أو رهن أو غير ذلك.

وما مضى في المسألة من ذكر محمد بن أبي بكر وغيره من المؤمنين النجباء يؤكد ما ذكرناه ، وهذا مما لا شبهة فيه.

المسألة الحادية عشر

[كيفية نزول القرآن]

ما القول عنده فيما ذهب إليه أبو جعفر ابن بابويه (رضي الله عنه) من أن القرآن نزل جملة واحدة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الى أن يعلم به جملة واحدة ، وانصرف على قوله سبحانه (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً)(٣) الآية ، الى أن العلم به جملة واحدة ، انتفى على الذين حكى

__________________

(١) ظ : صحيحة.

(٢) كذا في النسخة والظاهر زيادتها.

(٣) سورة الفرقان : ٣٢.

٤٠١

الله سبحانه عنهم هذا لا عنه عليه‌السلام بقول الله تعالى (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ)(١).

وذلك على مقتضى ثبوت هذه الصفة للعموم المستغرق يدل على ما ذهب إليه ، إذ ظاهره أقوى من الظاهر المتقدم. ولو تكافئا في الظاهر ، لوجب تجويز ما ذهب اليه ، الا أن يصرف عنه دليل قاطع يحكم على الآيتين جميعا ، وليس للعقل في ذلك مجال ، فلا بد من سمع لا يدخله الاحتمال.

ويلزم تجويز ما ذهب إليه أيضا على مقتضى ثبوت هذه الصورة مشتركة بين العموم والخصوص على سواء.

وقد جاءت روايات ان لم يوجب القطع بهذا الجائز أوجبت ترجيحه ونحوها ، يقتضي أن الله سبحانه أنزل القرآن على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله جملة واحدة ، ثم كان جبرئيل عليه‌السلام يأتيه عن الله سبحانه ، بأن يظهر في كل زمان ما يقتضيه الحوادث والعبادات المشروعة فيه ، وأشهد على ذلك بقوله تعالى (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً)(٢).

فان يكن القطع بذلك صحيحا على ما ذهب إليه أبو جعفر (رضي الله عنه) أنعم بذكره وتصرفه ، وان يكن عنده باطلا تطول بالإبانة عن بطلانه وكذب روايته ، وان كان الترجيح له أولى ذكره ، وان كان الصحيح عنده تكافئ الجائزين نظره إن شاء الله تعالى.

الجواب :

أما إنزال القرآن على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في وقت واحد أو في أوقات

__________________

(١) سورة البقرة : ١٨٥.

(٢) سورة طه : ١١٤.

٤٠٢

مختلفة ، فلا طريق الى العلم به الا السمع ، لان البيانات العقلية لا تدل عليه ولا تقتضيه. وإذا كان الغرض بإنزال القرآن أن يكون علما للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ومعجزا لنبوته وحجة في صدقه ، فلا حجة في هذا الغرض بين أن ينزل مجتمعا أو متفرقا.

وما تضمنه من الأحكام الشرعية فقد يجوز أن تكون مترتبة في أزمان مختلفة ، فيكون الاطلاع عليها والاشعار بها مترتبين في الأوقات بترتيب العبادات.

وكما أن ذلك جائز ، فجائز أيضا أن ينزل الله تعالى جملة واحدة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وان كانت العبادات التي فيه تترتب وتختص بأوقات مستقبلة وحاضرة.

والذي ذهب إليه أبو جعفر ابن بابويه (رحمه‌الله) من القطع على أنه أنزل جملة واحدة ، وان كان عليه‌السلام متعبدا بإظهاره وأدائه متفرقا في الأوقات. ان كان معتمدا في ذلك على الاخبار المروية التي رواها فتلك أخبار آحاد لا توجب علما ولا تقتضي قطعا ، وبإزائها أخبار كثيرة أشهر منها وأكثر ، تقتضي أنه أنزل متفرقا ، وان بعضه نزل بمكة وبعضه بالمدينة، ولهذا نسب بعض القرآن إلى أنه مكي وبعضه مدني.

وأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يتوقف عند حدوث حوادث ، كالظهار وغيره ، على نزول ما ينزل اليه من القرآن ، ويقول صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما أنزل الي في هذا شيء.

ولو كان القرآن أنزل جملة واحدة لما جرى ذلك ، ولكان حكم الظهار وغيره مما يتوقف فيه معلوما له ، ومثل هذه الأمور الظاهرة المنتشرة لا يرجع عنها بأخبار الآحاد خاصة.

٤٠٣

فأما القرآن نفسه فدال على ذلك ، وهو قوله تعالى (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً)(١) ولو كان أنزل جملة واحدة لقيل في جوابهم قد أنزل على ما اقترحتم ، ولا يكون الجواب كذلك (لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً)(٢).

وفسر المفسرون كلهم ذلك بأن قالوا : المعنى إنا أنزلناه كذلك أي متفرقا يتمهل (٣) على إسماعه ، ويتدرج الى تلقيه.

والترتيل أيضا انما هو ورود الشيء في أثر الشيء ، وصرف ذلك الى العلم به غير صحيح ، لان الظاهر خلافه.

ولم يقل القوم لو لا أعلمنا بنزوله جملة واحدة ، بل قالوا : لو لا أنزل إليك جملة واحدة ، وجوابهم إذا كان أنزل كذلك أن يقال : قد كان الذي طلبتموه ، ولا يحتج لانزاله متفرقا بما ورد بنزوله في تمام الآية.

فأما قوله تعالى (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ)(٤) فإنما يدل على أن جنس القرآن نزل في هذا الشهر ، ولا يدل على نزول الجميع فيه.

ألا ترى أن القائل يقول : كنت أقرأ اليوم القرآن ، وسمعت فلانا يقرأ القرآن ، فلا يريد جميع القرآن على العموم ، وانما يريد الجنس.

ونظائره في اللغة لا تحصى ، ألا ترى أن العرب يقول : هذه أيام أكل فيها اللحم ، وهذه أيام أكل فيها الثريد. وهو لا يعني جميع اللحم وأكل الثريد على العموم ، بل يريد الجنس والنوع.

__________________

(١) سورة الفرقان : ٣٢.

(٢) نفس الآية.

(٣) في الهامش : ليتمون.

(٤) سورة البقرة : ١٨٥.

٤٠٤

وقد استقصيت هذه النكتة في مواضع كثيرة من كلامي.

فأما قوله تعالى (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ)(١) فلا ندري من أي وجه دل على أنه أنزل جملة واحدة وقد كان أنه (رحمه‌الله) يبين وجه دلالته على ذلك. وهذه الآية بأن تدل على أنه ما أنزل جملة واحدة أولى ، لأنه تعالى قال (قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) وهذا يقتضي أن في القرآن منتظرا ما قضى الوحي به وقوع منه ، فان نزول (٢) ذلك على أن المراد به قبل أن يوحى إليك بأدائه ، فهو خلاف الظاهر.

وقد كنا سئلنا إملاء تأويل هذه الآية قديما ، فأملينا فيها مسألة مستوفاة ، وذكرنا عن أهل التفسير فيها وجهين ، وضممنا إليهما وجها ثالثا تفردنا به.

وأحد الوجهين المذكورين فيها : أنه كان عليه‌السلام إذا نزل عليه الملك بشيء من القرآن قرأه مع الملك المؤدي له اليه قبل أن يستتم الأداء حرصا منه عليه‌السلام على حفظه وضبطه ، فأمر عليه‌السلام بالتثبت حتى ينتهي غاية الأداء ، لتعلق الكلام بعضه ببعض.

والوجه الثاني : أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله نهي أن يبلغ شيئا من القرآن قبل أن يوحى إليه بمعناه وتأويله وتفسيره.

والوجه الذي انفردنا به : أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله نهي عن أن يستدعي من القرآن ما لم يوح اليه به، لان ما فيه مصلحة منه لا بدّ من إنزاله وان لم يستدع ، لانه تعالى لا يدخر المصالح عنهم وما لا مصلحة فيه لا ينزله على كل حال ، فلا معنى للاستدعاء ولا تعلق للاية بالموضع الذي وقع فيه.

__________________

(١) سورة طه : ١١٤.

(٢) ظ : تنزيل.

٤٠٥

المسألة الثانية عشر

[سبب القول بأن الشهداء أحياء]

كيف يصح مع استحالة ورود السمع بما ينافي المعلوم استدلالا يرد عنا؟ فان المعلوم ضرورة ، وعلم الضرورة أقوى لكونه من الشبهة أبعد وأقصى.

وقد نهى الله سبحانه عن القول بأن الشهداء أموات ، وأخبر أنهم أحياء عند ربهم يرزقون ، وقال بعد ذلك (فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)(١).

هذا مع العلم حسا ومشاهدة بموتهم ، وكون أجسادهم طريحة لا حياة فيها مثل جسم مولانا الحسين عليه‌السلام ، وكونه بالطف طريحا ، وبقاء رأسه مرئيا محمولا أياما ، وقد انضاف الى هذا العلم الضروري شهادات الحجج عليهم‌السلام بأن الجسم الطريح جسمه والرأس المحمول رأسه.

وكذلك القول في حمزة وجعفر عليهما‌السلام وأن الكبد المأكولة كبد حمزة ، واليدين المقطوعتين يدا جعفر وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : قد أبدله بهما جناحين يطير بهما في الجنة مع الملائكة (٢) ، وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال يوما : لقد اجتاز بي جعفر يطير في زمرة من الملائكة (٣).

فإن كانت هذه الحياة المأمور بالقطع عليها على الفور ، فهو دفع للضرورات وتكذيب المشاهدات والشهادات والمتناقضة نفسها ، وان كانت على التراخي وفي المعاد العام، ففيه بطلان ما اتفقت الطائفة (حرسها الله عليه) بأن المسلم عند

__________________

(١) سورة آل عمران : ١٧٠.

(٢) جامع الأصول ٦ ـ ١٧.

(٣) بحار الأنوار ٢٢ ـ ٢٧٣ ـ ٢٧٦.

٤٠٦

قبورهم مسموع الكلام مردود عليه الجواب ، ولذلك يقولون عند زياراتهم : أشهد أنك تسمع كلامي وترد جوابي.

وذلك واجب المضي على ظاهره ، لان الانصراف عنه مع خروجه عن الاستحالة بحياتهم المقطوع عليها غير جائز ، وانما ينصرف عن الظواهر إذا استحالت ، أو منع منها دليل ، فلينعم بما عنده في جميع ذلك مشروحا مبينا أعظم الله ثوابه وأكرم مآبه.

الجواب :

اعلم أنه ليس في القول بأن الأئمة والشهداء والصالحين بعد أن يموتوا ويفارقوا الحياة في الدنيا أحياء عند ربهم يرزقون ، مدافعة لضرورة ولا مكابرة لمشاهدة ، لأن الإعادة للحي منا إلى جنة أو نار أو ثواب أو عقاب ، لا تفتقر إلى إعادة جميع الأجزاء التي يشاهدها الاحياء منا دائما.

وانما يجب إعادة الأجزاء التي تتعلق بها بنية الحياة ، والتي إذا انقضت (١) خرج الحي منا أن يكون حيا ، وليس كل ما نشاهده من الأحوال (٢) هذا حكمه.

ألا ترى أن الحي منا لو قطعت أطرافه ، كيده أو رجله أو أنفه أو إذنه ، لا يخرج من أن يكون حيا ، [يجري] مجرى أجزاء السمين التي إذا زالت بالهزال ، لم يخرج من أن يكون حيا ، ولا يضرب أحكامه في مدح وذم أو ثواب وعقاب.

وليس يجري ذلك مجرى قطع رأسه أو توسيطه ، لانه يخرج بقطع الرأس والتوسط من أن يكون حيا ، فالإعادة على هذا الأصل الذي ذكرناه انما تجب

__________________

(١) ظ : انتقصت.

(٢) ظ : الاجزاء.

٤٠٧

للاجزاء التي إذا انتقصت خرج الحي من أن يكون حيا.

وليس نمنع اعادة الاجزاء من جسم ميت ، وان شاهدناه في رأي العين على هيئة الاولى ، ووجدنا أكثر أعضائه وبنيته باقية ، لأن المعول على تلك الأجزاء التي هي الحي على الحقيقة ، فإذا أعادها الله تعالى وأضاف إليها أجزاء أخر غير الأجزاء التي كانت في الدنيا لأعضائه ، جرى ذلك مجرى السمن والهزال والابدال يد بيد ، فلا مانع اذن من أن يكون حيا متنعما في النعيم والثواب وان كنا نرى جسمه في القبر طريحا.

وهذا يزيل الشبهة المعترضة (١) في هذا الباب التي السبب في اعتراضها قلة العلم بدقائق هذه الأمور وغوامضها وسرائرها.

ومما يشهد لما ذكرناه ما روي في جعفر الطيار عليه‌السلام عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من أن الله تعالى أبدله بيديه المقطوعتين جناحين يطير بهما في الجنة.

وقد كنا أملينا قديما مسألة مفردة في تأويل قوله تعالى (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً)(٢) استوفينا الكلام فيها. وذكرنا في كتابنا المعروف بالذخيرة الكلام في كيفية الإعادة ، وما يجب إعادته وما لا يجب ذلك فيه واستوفيناه والجملة التي ذكرناها ها هنا كافية لمن تصفحها.

المسألة الثالثة عشر

[حول الحديث المروي في الكافي في قدرة الله تعالى]

ما القول فيما رواه الكليني في كتاب التوحيد من جملة كتابه الذي صنفه

__________________

(١) في الهامش : المعتزلة.

(٢) سورة آل عمران : ١٦٩.

٤٠٨

ولقبه ب «الكافي» من أن هشام بن الحكم سأل الصادق عليه‌السلام عن قول الزنادقة له : أيقدر ربك يا هشام على أن يدخل الدنيا في قشر البيضة من غير أن يصغر الدنيا ولا يكبر قشر البيضة؟ وأن الصادق عليه‌السلام قال له : يا هشام أنظر أمامك وفوقك وتحتك وأخبرني عما ترى. وأنه قال : أرى سماء وأرضا وجبالا وأشجارا وغير ذلك ، وأنه قال له : الذي قدر أن يجعل هذا كله في مقدار العدسة ـ وهو سواد ناظرك ـ قادر على ما ذكرت. وهذا معنى الخبر وان اختلف بعض اللفظ (١).

وكيف يصح من الامام المعصوم تجويز المحال؟ ولا فرق في الاستحالة بين دخول الدنيا في قشر البيضة وهما على ما هما عليه ، وبين كون المحل أسود أبيض ساكنا متحركا في حال.

وهل يجيء من استحالة الإحاطة بالجسم الكبير من الجسم الصغير مقابلة سواد الناظر لما قابله؟ مع اتصال الهواء والشعاع بينه وبينه ، وأين حكم الإحاطة على ذلك الوجه من حكم المقابلة على هذا الوجه.

وهل لإزالة معرة هذا الخبر الذي رواه هذا الرجل في كتابه وجعله من عيون أخباره سبيل بتأويل يعتمد عليه جميل؟

الجواب :

اعلم أنه لا يجب الإقرار بما تضمنه الروايات ، فان الحديث المروي في كتب الشيعة وكتب جميع مخالفينا ، يتضمن ضروب الخطأ وصنوف الباطل ، من محال لا يجوز أن يتصور ، ومن باطل قد دل الدليل على بطلانه وفساده ، كالتشبيه والجبر والرؤية والقول بالصفات القديمة.

__________________

(١) أصول الكافي ١ ـ ٧٩ ح ٤.

٤٠٩

ومن هذا الذي يحصي أو يحصر ما في الأحاديث من الأباطيل. ولهذا وجب نقد الحديث بعرضه على العقول ، فإذا سلم عليها عرض على الأدلة الصحيحة ، كالقرآن وما في معناه ، فإذا سلم عليها جوز أن يكون حقا والمخبر به صادقا.

وليس كل خبر جاز أن يكون حقا وكان واردا من طريق الآحاد يقطع على أن المخبر به صادقا.

ثم ما ظاهره من الاخبار مخالف للحق ومجانب للصحيح على ضربين ، فضرب يمكن فيه تأويل له مخرج قريب لا يخرج الى شديد التعسف وبعيد التكلف ، فيجوز في هذا الضرب أن يكون صدقا. فالمراد به التأويل الذي خرجناه.

فأما ما لا مخرج له ولا تأويل الا بتعسف وتكلف يخرجان عن حد الفصاحة بل عن حد السداد ، فانا نقطع على كونه كذبا ، لا سيما إذا كان عن نبي ، أو إمام مقطوع فيهما على غاية السداد والحكمة والبعد عن الألغاز والتعمية.

وهذا الخبر المذكور بظاهره يقتضي تجويز المحال المعلوم بالضرورات فساده وان رواه الكليني (رحمه‌الله) في كتاب التوحيد ، فكم روى هذا الرجل وغيره من أصحابنا (رحمهم‌الله تعالى) في كتبهم ما له ظواهر مستحيلة أو باطلة ، والأغلب الأرجح أن يكون هذا خبرا موضوعا مدسوسا.

ويمكن فيه تخريج على ضرب من التعسف ، وهو أن يكون الصادق عليه‌السلام سئل عن هذه المسألة بحضرة (١) قوم من الزنادقة والملحدين للأنبياء (٢) الذين لا يفرقون بين المقدور والمستحيل ، فاشفق عليه‌السلام أن يقول أن هذا ليس بمقدور

__________________

(١) خ ل : بمحضر.

(٢) خ ل : الأغبياء.

٤١٠

لانه يستحيل ، فيقدر الأغبياء أنه عليه‌السلام قد عجزه تعالى ، ونفي عن قدرته شيئا مقدورا ، فأجاب به وأراد أن الله تعالى قادر على ذلك لو كان مقدورا ، ونبه على قدرته على المقدورات بما ذكره من العين ، وان الإدراك يحيط بالأمور الكثيرة ، والا فهو عليه‌السلام أعلم بأن ما أدركه بعيني ليس بمنتقل إليها ولا حاصل فيها ، فيجري مجرى دخول الدنيا في البيضة.

وكأنه عليه‌السلام قال : من جعل عيني على صفة أدرك معها السماء والأرض وما بينهما لا بدّ أن يكون قادرا على كل حال مقدور ، وهو قادر على إدخال الدنيا في البيضة لو كان مقدورا ، وهذا أقرب ما يؤول عليه هذا الخبر الخبيث الظاهر.

المسألة الرابعة عشر

[حول قول إبراهيم : هذا ربى]

ما جواب من اعترض ما أورده (حرس الله مدته) في كتابه الموسوم ب «التنزيه»(١) من تجويزه أن يكون قول إبراهيم عليه‌السلام للنجم والشمس والقمر (هذا رَبِّي)(٢) أول وقت تعين فرض التكليف للنظر عليه وأنه قال ذلك فارضا له مقدرا ، لا قاطعا ولا معتقدا ، فلما رأي أفول كل واحد منها رجع عما فرض وأحال ما قدر.

فقال : الذاهب الى هذا لا ينفك من أن يلزمه أحد أمرين ، وهما القول بان تحيز هذه الكواكب وحركاتها لا تدل على حدوثها ، كما تدل على (٣) أفولها ،

__________________

(١) تنزيه الأنبياء ص ٢٠ ط النجف.

(٢) سورة الانعام : ٧٦ ـ ٧٨.

(٣) ظ : عليه.

٤١١

إذ لو دل لما أهمل القطع به على حدوثها ، والرجوع عما فرضه فيها الى حين أفولها ، واستدلاله بذلك عليه.

والقول بأن إبراهيم عليه‌السلام في حال كمال عقله قصر عن المعرفة ، بأن التحيز والحركات تدل على الحدوث.

والى أي الأمرين ذهبتم كان قادحا في معتمد لكم لان الذهاب إلى الأول يقدح في دلالة الحركات والتحيز عندكم على الحدوث.

والثاني يقدح فيما تذهبون اليه من عصمة الأنبياء قبل النبوة وبعدها ، وفي إهمال القطع بالأدلة المثمرة للعلم بالمطلوب ، تغرير من المهمل لذلك ، والتغرير بالنفس قبيح.

وما أدري كيف يكون الغيبة بعد الظهور دليلا على الحدوث والظهور بعد الغيبة غير دليل عليه ، وقد تقدم الظهور بعد الغيبة عنده على الغيبة بعد الظهور ، وشفع ذلك التحيز والحركة ، بل العلم بذلك مقارن للعلم بالظهور.

ولا أدري كيف يسوغ ان لا يعلم أعلم الأنبياء من دلالة هذه الأمور ما يعلمه النبي ، أو من علم حرارة ، أم الرجوع منه واجب.

الجواب :

اعلم انا قد تكلمنا في كتابنا الموسوم ب «تنزيه الأنبياء والأئمة صلوات الله على جماعتهم» على تأويل هذه الآية ، وأجبنا فيها بهذا الوجه الذي حكى في السؤال وبغيره. والوصل الذي يجب تحقيقه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو الإمام لا يجوز أن يخلف عارفا بالله تعالى وأحواله وصفاته : لأن المعرفة ليست ضرورية ، بل مكتسبة بالأدلة فلا بد من أحوال يكون غير عارف ثم تجدد له المعرفة.

٤١٢

الا أن نقول : ان المعرفة لا يجوز أن تحصل إلى النبي أو الإمام ، إلا في أقصر زمان يمكن حصولها فيه ، لأن المعصية لا تجوز عليه قبل النبوة أو الإمامة كما لا تجوز عليه بعدها.

وقد روي ان إبراهيم عليه‌السلام ولد في مغارة ، وأنه ما كان رأى السماء ثم تجددت رؤيته لها ، فلما رأى ما لا تعهده ولا تعرفه من النجم ولم يره متجدد الطلوع بل رآه طالعا ثابتا في مكانه ، من غير أن يشاهده غير طالع ثم طالعا. فقال فرضا وتقديرا على ما ذكرناه «هذا ربي» فلما أفل واستدل بالأفول على الحدوث علم أنه لا يجوز ان يكون إلها. وجرى ذلك في القمر والشمس.

ولو كان علم تجدد طلوعه كما علم تجدد أفوله ، لأستدل على حدوثه بالطلوع ، كما استدل بالأفول. لا (١) انا قد فرضنا أنه لم يعلم ذلك.

ومن الجائز ان يكون عالما به على الوجوب لمن شاهد السماء من طلوع الكواكب ثم تجدد طلوعه فيها.

وقد زال بهذا البيان الذي أوضحناه الشك في الجواب الذي اختار في الكتاب المشار إليه ، لانه بنى على أنا فرقنا في دلالة الحدوث بين طلوع متجدد وأفول متجدد ، وقد بينا أن (٢) ما فرقنا بين الأمرين ، وكيف نفرق بين ما فرق فيه.

المسألة الخامسة عشر

[الدليل على عدم نسخ شريعة نبينا «صلى‌الله‌عليه‌وآله»]

بم لم يحصل لنا المزية على اليهود (لعنهم الله) إذا اعتصموا من الزامنا

__________________

(١) ظ : الا.

(٢) ظ : أنا.

٤١٣

إياهم جواز نسخ شريعتهم بمثل ما نعتصم به من أن تأبيدها معلوم من ديننا ومجمع عليه بيننا ، وقابلونا في هذه الدعوى على النسوان (١) ، وقالوا : إذا جعلتم ظهور معجز دالا على بطلان ما ادعيناه من أن ذلك لنا ، أفيجب قبل ظهور المعجز ألا يكون الى بطلان ما ذكرناه اننا نعلمه من ديننا طريق معلوم صار اليه طريق.

فان قلتم : لا يجب ذلك ، بل قد كان اليه قبل ظهور المعجز طريق ما ذكروه (٢) وبينوا أن مثله غير لازم لكم.

وان قلتم لم يكن اليه من قبل طريق ، ثم صار اليه طريق كانت الحجة حينئذ للعباد على الله سبحانه لا له عليه. ولزمكم ان تجوزوا حصول طريق فيما بعد حالكم هذه تعلمون به بطلان ما ادعيتموه من تأبيد شرعكم.

الجواب :

اعلم أن المعول في ان شريعة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله مؤبدة لا تنسخ الى قيام الساعة ، على أنه قد علم مخالف وموافق ضرورة من دينه أنه كان يدعى ذلك ويقضي به ويجعل شريعته عليه‌السلام بذلك المزية على الشرائع المتقدمة.

فإن الملحد الدهري والثنوي المازي (٣) واليهودي والنصراني ، يعلمون هذا من حاله ، وأنه عليه‌السلام كان يدعيه ، كما يعلم ذلك المسلمون المتبعون. وإذا دل المعجز على صدقه وصحة نبوته ، ثبت بهذين الأمرين أن شرعه مؤبد.

وليس يمكن اليهود أن تدعي أن العلم بتأبيد شرعها ، وأن نبيها موسى عليه‌السلام. معلوم من دينه ذلك ، كما ادعاه المسلمون ، لان العلم الضروري

__________________

(١) ظ : النبوات.

(٢) ظ : فاذكروه.

(٣) ظ : المانوى.

٤١٤

يجب الاشتراك فيه ، وما يشارك اليهود في هذا العلم إذا ادعوه أحد من مخالفيهم ، لان النصارى يخالفهم في ذلك ، كما يخالفهم المسلمون فيه ، ويتقول (١) عن نفوسهم العلم بما ادعوا العلم به. وكذلك الملحدون والبرهميون النافون للنبوات.

وكل هؤلاء مشاركون للمسلمين في العلم بأن نبيهم عليه‌السلام أبد شرعه وادعى أنه لا ينسخ ، فبطل أن يكونوا متساوين للمسلمين في الحكم الذي ذكرناه.

وإذا قيل لنا : فمن أين علمتم كذبهم في هذه الدعوى ـ أعني أن شريعتهم لا تنسخ ـ إذا لم تعلموا صحتها ، فليس كل شيء لم يعلم صحته قطع على كذب راويه.

قلنا : من حيث كذّبهم نبينا عليه‌السلام ودعاهم إلى شريعة هي ناسخة لكل شرع تقدم ، وقد علمنا صدقه بالمعجزات الباهرة.

فلم يبق آخر المسألة من أنا إذا كنا نعلم كذب اليهود فيما يدعونه من تأبيد شرعهم بقول نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقيل بعينه ، ثم بأي شيء كان يعرف ذلك.

والجواب أن طريق معرفة ذلك نبوة كل نبي بعد موسى عليه‌السلام دعي إلى نسخ شريعته ، كعيسى عليه‌السلام وما يجري مجراه.

المسألة السادسة عشر

[كلام حول قول الكهنة واخباراتهم]

ما تقول فيما اشتهر من أنه كان في العرب قبل بعثة النبي صلى الله عليه

__________________

(١) ظ : ويتقولون.

٤١٥

وآله كهنة يخبرون بالغائبات ، وبما يكون قبل كونه من الأمور الحادثات ، وأن مادتهم كانت من مردة الجن المسترقة للسمع من الملائكة. وان السماء لم يكن حرست برمي النجوم بعد ، وأن ذلك حدث عند مولد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

والشاهد عليه قول الله تعالى حكاية عن الجن (أَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً. وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً)(١).

وقد قال بعض الكهنة في دلالته على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد كلام طويل : وهذا هو البيان ، أخبرني رئيس الجان. وروى له شعر وهو :

يا آل كعب من بني قحطان

أخبركم بالمنع والبيان

لمنع السمع الجان

بثاقب في كف ذي سلطان

من أجل مبعوث عظيم الشأن

يبعث بالتنزيل والفرقان

وبالهدي وفاضل القران

محوا به أعاظم الأوثان

وقد نسب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عند أخباره بالغائبات ، فقال الله تعالى : (وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ. وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ)(٢) وهل فيما كان من ذلك استفساد للعباد ، أو قدح في دلائل النبوات مع كون الكهنة عليها دالين ولها غير مذعنين.

الجواب :

اعلم أن الذي يحكى عن الكهان من الاخبار من الغائبات ، كسطيح الكاهن

__________________

(١) سورة الجن : ١٠.

(٢) سورة الحاقة : ٤٢.

٤١٦

ومن يجري مجراه ، لم يرد مورد الحجة ، وانما وردت به أخبار شاذة ضعيفة سخيفة لا توجب علما ولا ظنا وما يرد هذا المورد لا يلتفت عليه ، فضلا عن أن يصدق به ، والكهانة غير مستندة الى أصل ، ولا لها طريق في مثله شبهة.

وشبهة المنجمين فيما يدعونه من العلم بالأحكام ، كأنها أقوى وهي باطلة ، وقد كشف العلماء عن فضائحهم ، ودلوا على بطلان أقوالهم.

وقد كنا أملينا منذ سنوات في جواب مسائل سئلنا عنه مسألة استوفينا فيها الكلام على المنجمين ، وبينا من طرق قريبة واضحة بطلان طريقهم الذي يدل على صحة ما ذكرناه.

وأن الاخبار عن الغيوب مما ينفرد الله تعالى بعلمه ، ولا يجوز أن يعلمه كاهن ولا منجم ، أنه قد ثبت به (١) خلاف بين المسلمين ان احدى معجزات نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله الاخبار عن الغائبات الماضيات والكائنات ، وأنه أدل دليل بانفراده على صحة نبوته.

ولو كانت الكهانة صحيحة ، أما باستراق السمع الذي قيل ، أو بغيره من التخمين والترجيم ، لما كان الخبر عن الغيوب معجزا ولا خارقا للعادة ، ولا دالا على نبوة ، وقد علمنا خلاف ذلك.

فأما القافة الذين يلحقون الأبناء بالإباء والقرابات بقراباتهم ، فلهم على ذلك أمارات من الخلق والصور والشمائل ، يستدلون بها ، فيصيبون على الأكثر والكاهن لا أمارة له ولا طريقة يستند ما يخبر به إليها.

وانما نسب عليه‌السلام الى الكهانة ، لاخباره عن الغيوب ، وعد ذلك في جملة آياته ومعجزاته ، فلما وجدوا أخباره عنها صدقا نسبوه إلى الكهانة.

__________________

(١) ظ : لانه قد ثبت أنه لا خلاف.

٤١٧

فان قيل : إذا كنتم تقولون في أن الاخبار عن الغائبات من جملة المعجزات على إجماع المسلمين ، وإجماع المسلمين انما يكون حجة إذا ثبت أنه عليه‌السلام نبي صادق ، فقد تعلق كل أحد من الأمرين بصاحبه ، فان ادعيتم أن الاخبار عن الغيب إذا كانت صادقة كانت خارقة للعادات ، مع ما يدعى للكهنة ذهبوا أن الذي يحكى عن الكهنة لا يقطع عليه ، أليس هو مجوزا على كل حال اما بأن يكون من جهة الحس ، والذي يحكى من استراقهم السمع ، أو على وجه آخر.

والجواب عن هذا السؤال : انا إذا علمنا صحة نبوته عليه‌السلام بالقرآن ، وما جرى مجراه من الآيات الباهرات ، وعلمنا صحة الإجماع من بعد ذلك ، ووجدناهم مجمعين على أن الاخبار عن الغائبات من جملة آياته ومعجزاته وأنه خارق للعادة ، علمنا بطلان كل تجويز كل قبل (١) ذلك في كل كاهن أو غيره ، وهذا بيّن لمتأمله.

المسألة السابعة عشر

[حول آية : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ)]

إذا كان جواز بقاء المقتول ظلما حيا لو لم يقتل وجواز موته في الحال بدلا من قتله في العقول على سواء.

فهل يدل قول الله تعالى (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ)(٢) على أن المقتول ظلما كان لو لم يقتل يبقى حيا يكون ذلك اخبارا منه عن اقامة

__________________

(١) ظ : كل تجويز قيل ذلك.

(٢) سورة البقرة : ١٧٩.

٤١٨

الحدود على القاتلين ، يبقى تعالى به الحياة على آخرين.

واخباره تعالى لا يكون الا حقا وصدقا ، لاستحالة الجهل والكذب عليه تعالى ، ولان ذلك يدل على أن بتعطيل الحدود يقدم كثير من المكلفين على القتل ، ولو لا ذلك لما أقدم القاتل عليه ، ولبقي المقتول حيا بدلالة هذا السمع.

الجواب :

اعلم أن المقتول كان يجوز أن يعيش لو لا القتل بخلاف قول من قطع على موته لا محالة لو لا القتل ، وكان يجوز أن يميته الله تعالى لو لا القتل ، بخلاف قول من ذهب الى أنه لو لا القتل كان يجب بقاؤه حيا لا محالة.

وقد دللنا على ذلك في كتبنا وأمالينا وبيناه في كتاب «الذخيرة» وانتهينا الى غايته.

وأقوى ما دل على صحة هذه الجملة ان الله تعالى قادر على تبقيته حيا وعلى إماتته معا ، وبوقوع القتل لا يتغير القدرة على ذلك ، فيجب أن يكون الحال بعد القتل كهي قبله.

فأما قوله تعالى (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) فالمعنى فيه أن من خاف أن يقتل على قتل يقل اقدامه على القتل ، ويصرفه هذا النقل عن قتل يؤدي الى ذهاب نفسه وتلفها ، وإذا قل القتل استمرت الحياة.

فإذا قيل : أليس قد جوزتم أن يموت المقتول لو لم يقتل ، فكيف يستمر حياته لو لا القتل ، وأنكم قد جوزتم هذا.؟

قلنا : المقتول على ضربين : أحدهما المقتول الذي معلوم أن تبقيته مصلحة فلو لا القتل لبقي حيا. والضرب الأخر معلوم أن تبقيته مفسدة ، فلو لا القتل لا ميت ، وإذا كان القصاص على ما ذكرناه صادقا على القتل بغير حق بقي حياة

٤١٩

كل مقتول ، علم الله تعالى أن تبقيته حيا مصلحة. ولو لا القصاص لم يكن ذلك ، فبان وجه قوله (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ).

المسألة الثامنة عشر

[حول آية السامري والإشكالات الواردة]

إذا كان إتيان (١) الله تعالى الآية بمن يعلم أنه يستفسد بها العباد ويدعوهم لأجلها إلى الضلال والفساد ، مستحيلا في العقول لما يؤدي إليه من انسداد الطريق إلى معرفة الصادق من الكاذب عليه ، ولكون ذلك وهنا في حكمته تعالى وعلم بالقبح وغناه عنه.

فكيف جاز أن يمكن السامري من أخذ القبضة التي فعل الله تعالى الخوار في العجل عند إلقائه لها فيه ، وقد كان مغويا لأتباعهم (٢) بني إسرائيل له بطاعتهم إياه وقبولهم منه وإذعانهم اليه.

وقد نطق القرآن بذلك في قوله سبحانه (فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ ، فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى)(٣) الى آخر القول ، وقال سبحانه حكاية عن موسى عليه‌السلام (فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ. قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي)(٤).

وجاءت الأخبار بأنه أخذ هذه القبضة من تحت قدمي الملك ، وقال : انه رآه وقد وطئ مواتا فعاش (٥).

__________________

(١) خ ل : إيتاء.

(٢) ظ : لاتباع.

(٣) سورة طه : ٨٨.

(٤) سورة طه : ٩٥.

(٥) الدر المنثور ٤ ـ ٣٠٥.

٤٢٠