رسائل الشريف المرتضى - ج ١

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]

رسائل الشريف المرتضى - ج ١

المؤلف:

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار القرآن الكريم
المطبعة: مطبعة الخيام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٥٧

ولما كان انتفاء الآفات عن الحواس وصحتها واستقامتها حكما يرجع إليها ولا يتعداها، جرى مجرى الحركة في أن حكمها مقصور على محلها من غير تعد إلى الجملة ، فلم يجز أن يكون لانتفاء الآفات عن الحواس ، فابر (١) من كون المدرك مدركا.

ولما كان كونه حيا صفة يرجع الى من يرجع اليه كونه مدركا ، جاز أن يؤثر في كونه مدركا ، لأنه إذا كان لا بدّ مؤثرة (٢) ومقتضى لكونه مدركا ، ولم يجز أن يكون صفات الحاسة مقتضية لذلك ، فلم يبق الا أن المقتضي هو كونه حيا ، لأن أحدنا يقف كونه مدركا على كونه حيا وصحة حواسه. وإذا بطل أن يكون ما يرجع الى الحواس مقتضيا لما ذكرنا ، فليس المقتضي [الا] هو كونه حيا.

فأما كون صحة الحاسة شرطا هو فينا دونه تعالى ، لاختصاص ما يقتضي كونه شرطا بنا واستحالته عليه تعالى. وانما قلنا أن هذا الشرط يختص بنا ، فلا يتعدى إليه ، لأن أحدنا لو كان حيا لنفسه أو حيا بحياة معدومة ، أو حيا بحياة لا يحله ، لم يجب اشتراط صحة الحواس في كونه مدركا.

ولما كان حيا بحياة ، فصار محل الحياة آلة له في إدراك المدركات ، اما بمجرد كونه محلا للحياة ، أو بأن يحتاج المحل الى صفة زائدة على كونه محلا للحياة ، ككونه عينا ، أو أنفا ، أو إذنا.

فقد عاد الأمر الى أن اشتراط صحة الحواس وانتفاء الآفات عنها ، انما هو لأمر يرجع الى الحياة ومحلها ، فمن كان حيا لا بحياة بل بنفسه ، مستغن عن هذا الشرط ، لاستحالة مقتضيه فيه.

__________________

(١) كذا في النسخة ولعل : تأثير.

(٢) ظ : من مؤثر ومقتض.

٣٦١

وليس يمتنع أن يتخصص الشرط بحي دون حي ، وانما يمتنع ذلك في المقتضي ، لأن المقتضي هو المؤثر في الحقيقة ، والشرط ليس بمؤثر وان كان الحكم واقفا عليه. ولهذا جاز أن يكون الشرط غريبا من الموصوف وأجنبيا منه. ولا يجوز في المقتضي أن يكون كذلك وهما هو (١) نظير لهذه المسألة ومسقط للشبهة فيها.

انا كنا نقول : ان المقتضي لصحة الفعل هو كون القادر قادرا ، ونحن نعلم أن أكثر أفعالنا يقف صحتها منا على وجود آلات وجوارح ، ومن (٢) لم يتكامل صفاتها لم يصح الفعل منا ، وان كان أحدنا قادرا. ألا ترى أن البطش لا يتم منا الا بجوارح ، والكتابة والنساجة لا يصحان الا بآلات مخصوصة.

وليس يحتاج القديم تعالى في صحة الأفعال منه الى أكثر من كونه قادرا فقد خالفناه في الشرط وان وافقناه في المقتضي ، لما خالفناه في الوجه المقتضي للشرط فينا ، وهو كون أحدنا قادرا بقدرة ، لان كونه قادرا على هذا الوجه هو السبب في حاجته في كثير الأفعال إلى الجوارح والآلات. ولما كان القديم تعالى قادرا بنفسه لا بقدرة ، استغنى عن الآلات والجوارح ، كما استغني في كونه مدركا عن الحواس وصحتها.

فبان بهذه الجملة الجواب عن جميع ما تضمنه هذه المسألة ، وانا لا نقول على الإطلاق أن صحة الحواس وانتفاء الآفات عنها شرط في كون المدرك مدركا كما لا نقول على الإطلاق بأن ذلك ليس بشرط.

بل نقول : انه شرط فيما كان حيا بحياة ، للعلة التي ذكرناها وأوضحناها

__________________

(١) الظاهر زيادة «هما هو» ولعل المراد أن المقتضى والمقتضى متحدان وأنهما غير غريبين.

(٢) ظ : ومتى.

٣٦٢

وليس بشرط فيمن لم يكن بهذه الصفة ، واختلاف المشروط على ما بيناه جائز بحسب الاختلاف في مقتضيها ومستدعيها ، وهذا واضح.

وهذا الكلام قد استقصيناه وأشبعناه في كتابنا المعروف ب «المختصر» (١) والكتاب المعروف ب «الذخيرة» وانتهينا فيه الى أبعد مراميه وآخر أقاصيه. وفي هذه الجملة المذكورة ها هنا كفاية.

المسألة الثانية

[الاستدلال بالشاهد على الغائب]

في الاستدلال بالشاهد على الغائب قالوا : ما تريدون بقولكم ان الحي الذي لا آفة به ، أو يستحيل عليه الآفات ، يجب أن يدرك المدرك إذا حضره؟

فان قلتم : نريد بذكر الافة فساد الآلات والحواس.

قيل لكم : أفتعدون فقد الحواس من الآفات أم لا؟

فان قلتم : لا.

قيل لكم : كيف يكون فسادها آفة مانعة من الرؤية ، ولا يكون عدمها مانعا من ذلك ، ان جاز ذلك فجوزوا أن يدرك الواحد منا مع فقد الحاسة.

وهذا يكشف عن فساد هذا الترتيب ، إذ يشترطون في المشاهد شيئا ليس هو في الغائب وكان يجب لانتفاء هذا [في] الغائب ، ألا تتوصلوا إلى إثبات هذه الصفة فيه بشرط ليس فيه ، بل في الشاهد دونه تعالى.

__________________

(١) الصحيح : الملخص.

٣٦٣

الجواب :

نفرض السؤال انا إذا قررنا بأن عدم الحاسة آكد من فسادها في انتفاء الإدراك وارتفاعه.

قيل لنا : فيجب أن يكون القديم تعالى غير مدرك ، لانه لا حاسة له.

والجواب عن هذا : ان فقد الحاسة انما كان مخلا بالإدراك فيمن كان يحتاج الى الحواس في الإدراك كالواحد منا. وأما من لا يحتاج الى الحواس في الإدراك كالقديم تعالى ، فلا يجب أن يكون فقد الحواس فيه مخلا بكونه مدركا.

ألا ترى أن فساد الجوارح والآلات في الواحد منا يخل بكثير من أفعاله التي نحتاج فيها الى تلك الجوارح والآلات ، ولما كان فساد الإله أو الجارحة في أحدنا مخلا بفعله ، كان فقد الجارحة أو الحاسة آكد وأبلغ في الإخلال بصحة ذلك الفعل.

وقد علمنا أن القديم تعالى لا جارحة له ولا آلة ، ولا يجب لذلك أن يتعذر الفعل عليه ، لان وجود الإله والحاسة ، أو صحتهما انما كانا شرطا في القادر بقدرة دون القادر لنفسه ، وهذا مما تقدم بيانه في المسألة الأولى.

فأما ذكر الشاهد والغائب فهو في غير موضعه ، لأنا لا نوجب في الغائب كل ما نوجبه في الشاهد ، إلا إذا اشتركا في العلة والموجب أو المقتضي. فأما على غير ذلك ، فلا نلحق الغائب بالشاهد. ألا ترى أن أحدنا لا يكون فاعلا الا بعد أن يكون جسما مؤلفا من جواهر مركبا وبعد أن يكون له رأس.

وكلنا نثبت أن القديم تعالى يكون فاعلا وان لم يكن بهذه الصفات ، فقد خالفنا بين الشاهد والغائب ، لما اختلفت الأسباب والعلل. ولما لم يكن

٣٦٤

أحدنا مفتقرا في كونه فاعلا الا الى كونه جسما مؤلفا ، لم يجب أن نثبت كل فاعل بهذه الصفة. ولما كان أحدنا مفتقرا في كونه فاعلا الى كونه قادرا ، أثبتنا [أن يكون] كل فاعل في غائب وشاهد قادرا.

وهذا أيضا مما بيناه وشرحناه في الكتابين المتقدم ذكرهما.

المسألة الثالثة

[كونه تعالى مريدا]

في نفي كونه تعالى مريدا ، قالوا : ليس يمتنع أن يكون الشرط في اقتضاء صفة الحي منا كونه مريدا هو كونه جسما يصح عليه المسرة ، لأن في إرادة ما يدعو إليه الداعي ما يقتضي المسرة.

ولذلك قلتم : ان تقديم الإرادة يقتضي تعجيل المسرة ، فلا يمتنع أن تكون الإرادة المقارنة للفعل ان صح أنها تقارن أن تقتضي زيادة المسرة ، لأن الشيء لا يجوز أن يكون في تعجيله تعجيل المسرة ، وليس فيه نفسه مسرة ، ولان ما لا مسرة فيه لا بتعجيل (١) المسرة بتعجيله.

وإذا لم يؤمن ذلك لم يكن لكم طريق يقطع به على إثبات صفة المريد وليس يجب أن يعرف العلة التي بها وقعت صحة الإرادة على كون المريد جسما كما لا يجب أن يعلم ما لأجله كانت صفة الذات فيه تعالى تقتضي كونه عالما.

الجواب :

أول ما نقوله في هذه المسألة : انا لا نطلق القول بأن كون الحي منا حيا

__________________

(١) ظ : لا تتعجل.

٣٦٥

مقتض لكونه مدركا ومريدا ، لان ذلك يقتضي لكونه مؤثرا فيه ، كما نقوله في اقتضاء كونه حيا لكونه مدركا. وانما الصحيح أن نقول : كون الحي منا حيا يصحح كونه مريدا وكارها ، والصحيح غير الاقتضاء.

فان قيل : فما المقتضي لكونه مريدا.

قلنا : ورود الإرادة بحيث يختص به غاية الاختصاص ، اما أن يكون في قلبه كالواحد منا أو لا في محل ، كالقديم تعالى.

الا أن للسائل أن يقول : ما أنكرتم أن يكون الشرط في الصحيح الذي ذكرتموه كونه جسما يصح عليه المسرة؟

والجواب : أنه لا نسبة بين كون الحي مريدا وبين كونه جسما يصح عليه المسرة ، ولا تعلق لذلك بعضه ببعض ، فكيف شرط في الصفة بما لا وجه لاشتراطه ولا جهة معقولة لتعلق تلك الصفة به؟ ولما اشترطنا في كون أحدنا مدركا صحة حواسه ، ولم نشترط في كل مدرك ، أحلنا على وجه معقول يختص بناقد تقدم بيانه.

فأما المسرة وهي السرور ، والسرور هو اعتقاد منفعة تصل الى المسرور ، أو اندفاع ضرر عنه. ولهذا أحلنا أن يكون تعالى مسرورا من حيث لا يجوز عليه المنافع ولا المضار ، وليس في إرادة ما يدعو إليه الداعي نفسها منفعة.

وهذا غلط ، لأن المنفعة لا تكون الا مدركة ، وما لا يدرك لا يصح أن يكون نفعا ، والإرادة غير مدركة.

أو نقول : ان الإرادة لا تتعلق الا بما فيه نفع للمريد. وهذا باطل ، لان المريد قد يريد ما يضره وما ينفعه وما ليس بضرر ولا نفع.

ألا ترى أنه قد يريد ما يعتقد أنه ينفعه ، وهو على الحقيقة ضار له ، وقد يلجأ إلى فعل ما عليه فيه مضرة فيريده ، لان الملجئ الى الفعل يلجئ إلى

٣٦٦

إرادته ، والملجئ مريد لما يفعله.

ألا ترى أن أحدنا إذا ألجأ هربا من السبع الى العدو على الشوك والخسك فهو مريد لذلك العدو وان كان مضرا به.

ومن قال : ان كون الحي منا مريدا مشروط بكونه جسما ، ومنع من كونه تعالى قادرا من حيث لم يكن جسما ، فإذا وقعت المحاسبة على أنه لا تعلق لكونه قادرا بكونه جسما ، ولا مناسبة ، نقل ذلك الى كونه مريدا.

والذي يوضح ما ذكرنا أن كون أحدنا مشتهيا لما كان لا يصح الا على من يجوز عليه الانتفاع ، لأن الشهوة لا تتعلق الا بالمنافع ، لم يجعل كون الحي حيا مطلقا مصححا لكونه مشتهيا ، بل قلنا ان كونه حيا بحياة هو المصحح لكونه مشتهيا ، ولم نقل مثل ذلك في تصحيح كون الحي لكونه قادرا عالما ، من حيث لم نجد فيه ما وجدناه في كونه مشتهيا.

فكذلك القول في كون الحي مريدا ، أن المصحح له هو كونه حيا مطلقا دون كونه جسما ، كما قلنا في كونه قادرا عالما.

والذي اعتمده القوم في منع تقدم ارادة القديم تعالى على فعله غريبا (١) تضمنه السؤال من تعجيل المسرة ، بل قالوا : ان تقدم الإرادة فينا يقتضي توطين النفس وتخفيف الكلفة في الفعل المراد. وهذا الوجه لا يليق به تعالى ، فلا وجه لتقديم إرادته.

فأما ما ختمت به المسألة من أنه لا يجب أن يعرف ما لأجله وقعت صحة الإرادة على كون المريد جسما ، كما لا يجب أن يعلم ما لأجله كانت صفة الذات فيه تعالى تقتضي كونه عالما.

فغير صحيح ، لان كون الحي منا حيا إذا كان مصححا لصفات كثيرة ، منها

__________________

(١) ظ : غير ما تضمنه.

٣٦٧

كونه قادرا وعالما ومريدا وناظرا ومشتهيا ومنتفعا ومستضرا ، أو وجدنا (١) بعض هذه الصفات يصححها كونه حيا بغير شرط وبإقرار (٢) ومنتفعا ومستضرا ، لان الشرط في ذلك يرجع الى ما يقتضي كونه جسما.

فأما كونه ناظرا ، فالشرط في تصحيحها (٣) لا يكون عالما بالمنظور فيه. ولهذا استحال أن يكون القديم تعالى ناظرا لوجوب [كونه] عالما لنفسه بكل المعلومات. وألحقنا صحة كونه مريدا بكونه قادرا وعالما ، وأن المصحح لهذه الصفة كونه حيا بالإطلاق.

فإن ادعى مدع أن الشرط فيه كونه جسما ، كما قلنا في الشهوة والمنفعة لم يكن لنا بد من أن نقول لهذا المدعي من عود هذه الصفة إلى الجسمية ، واقتضاء صفته تعالى الذاتية لكونه عالما لا يشبه ما نحن فيه ، لأنا ما عللنا اقتضا كوننا عالمين وقادرين بمصحح هو الحياة، وانما عللنا لما شرطنا في المصحح الذي هو كوننا أحياء ما لم نشترطه في آخر ، ومثل ذلك لا بدّ من بيان وجهه.

المسألة الرابعة

[مسائل تتعلق بالإرادة]

واعترضوا قولنا ليس يخلو ما خلقه الله تعالى في الإنسان من العقل والسهو والقبيح ونفور النفوس من الحسن ، مع أنه سبحانه لم يلجأه ولا أعياه من أن يكون تعالى فعل ذلك لغرض [أو لغيره] والثاني عبث ، فيجب الأول ، ولا غرض

__________________

(١) ظ : ووجدنا.

(٢) ظ : وبعضها كونه حيا بشرط ككونه قادرا ومنتفعا إلخ.

(٣) ظ : تصحيحه أن يكون عالما.

٣٦٨

في ذلك الا أنه سبحانه أراد بذلك أن يطيع فيستحق الثواب.

فان (١) قالوا : لم زعمتم أن الأغراض هي الإرادة ، وما أنكرتم أنه تعالى فعل ذلك لغرض ، والمعنى فيه أنه فعله للتعريض للثواب واستحقه المكلف بفعل الطاعة.

وقالوا : فان قلتم : فعل ذلك للتعريض للثواب يفيد الإرادة ، لأن قول القائل «دخلت الدار لأسلم على زيد» معناه انني قصدت السلام على زيد.

قيل لكم : ذلك لا يجب أن يفيد الإرادة عندكم ، وذلك لأنكم تقولون : ان الله تعالى خلق المنافع في الدنيا لينتفع بها الحيوان ، ولم يرد انتفاعهم إذ هو مباح ، والله تعالى لا يريد المباح في دار التكليف.

وقالوا : فان قلتم : قد أراد المنافع ، فلهذا ساغ لنا أن نقول ما قلناه.

قيل لكم : إنما أردنا أن نبين لكم أن قولنا لكذا لا يفيد الإرادة لما دخلت عليه اللام لا محالة. وقد بان ذلك في قولكم أراد خلق المنافع لينتفع بها.

قالوا أيضا : ان الله عزوجل إنما يؤلم الأطفال للمصلحة وللغرض ، لانه لو أولمهم للمصلحة فقط كان قبيحا ، ومع ذلك لم يرد العوض في ذلك الوقت ، ولا يجوز أن يريد من المكلف في ذلك الوقت فعل ما [فيه] الألم لمصلحة فيه ، وانما أراد ذلك عند نصب الدلالة العقلية والسمعية ، فقد بان أن لفظة اللام لا تفيد ارادة ما دخلت عليه لا محالة.

قالوا : ثم يقال لكم : ما تريدون بقولكم خلقنا والشهوات فينا لغرض.

فان قلتم : نريد أنه أراد بذلك فعل الثواب.

قيل : ليس من قولكم ، لأن الإرادة عندكم غير متقدمة للمراد.

__________________

(١) ظ : بأن.

٣٦٩

وان قلتم : نريد بذلك أنه تعالى خلقنا لنستحق الثواب.

قيل : أفليس قد دخلت لفظة اللام ما ليس بمراد ، لان الاستحقاق ليس بفعل فيراد.

قالوا : وان قلتم : خلقنا وأراد بخلقنا فعل الإرادة.

قيل (١) : الإرادة للطاعة متقدمة على هذا الوقت ، لأنه انما أراد منا الطاعة حين أمرنا. ولو كان عزوجل قد أراد منا الان الطاعة ، لكان قد أراد الطاعة لنستحق للثواب ، ولأن إرادته حسنة ، والا لم يحسن الإرادة للطاعة ، وفي ذلك دخول لفظة اللام على ما لم يرد.

وقالوا : فان قلتم لنا : ما تريدون أنتم بقولكم ان الله تعالى خلقنا على صفة المكلفين لنستحق الثواب أو لنفعل الطاعة.

قلنا : نريد بذلك الداعي ، لأن قول القائل : دخلت الدار لا سلم على زيد. هو الذي دعاني الى ذلك ، اما بأن اعتقد حسنة ، أو أن فيه منفعة ، أو دفع مضرة يبين ذلك. أما لو تصورنا أن لنا في السلام على زيد فائدة ودعانا ذلك الى دخول الدار والى السلام عليه ، فدخلنا وسلمنا ونحن ممنوعون من الإرادة ، لكنا قد دخلنا الدار للسلام على زيد.

وقالوا : فان قلتم : كيف يكون استحقاقنا للثواب داعيا الى خلقنا على معنى أن العلم به وتحسين لتأتينا على الطاعة وعظيم المنفعة فيه ينهو الى خلقنا وخلق ما لا يتم الطاعة إلى يوم الاستحقاق عليها الا معه ، فيكون خالقا لنا لذلك ، كما تقولون أنه يكون خالفا لنا ومريدا لخلقنا لذلك.

ولو أنا فرضنا أن الله تعالى خلقنا على صفة المكلفين ، وكان الداعي الى ذلك ما ذكرناه من غير ارادة لما كان خلقه إيانا عبثا لا لغرض ، فكيف يكون ذلك عبثا ولداعي الحسن فعله.

__________________

(١) في الأصل قبيل :

٣٧٠

الجواب :

اعلم أنني لما تصفحت هذه المسائل المتوالية المتعلقة بالإرادة المبنية على نفي كونه تعالى مريدا ، لم أجد فيها حجة ، مع قوله (أدام الله عزه) أن الذين تعلقوا بها لو أثارها دور وستقف. وحرض على الكلام فيما يتعلق بالإرادة ونفيها عن الله تعالى وإثباتها.

وقد كان يجب فيمن كان مشعوفا بشيء أن يعرف ما قد قيل فيه من الحجج والطرق، ويفهم الأغراض فيها ، ولا يذهب عنها جانبا ، وان كانت له شبهة في الحق كانت قوية ، ولم أجود هذه المسائل المتعلقة بالإرادة.

الا اني قد أجبت في الكتب عنه ، وزاده أصحابنا على نفوسهم (١) عند الكلام في الإرادة ، أو ما هو مبني على ما لا نذهب اليه ولا نقول به ولا يقتضيه أصولنا ، فكأن المتعرض ظن من مذاهبنا غير صحيح ، فاعترض عليه ما ليس بصحيح.

وقد بيّنا في الكتاب «المخلص» (٢) خاصة الكلام في أنه تعالى مريد مشروحا مستقصى ، وزدنا على أنفسنا من الزيادات ما لا يهتدي إليه المخالفون ، وأجبنا عنه باليمن (٣) الواضح. وذكرنا أيضا في الكتاب المعروف ب «الذخيرة» طرفا من ذلك قويا.

وإذا كان الغرض في هذه نفي كونه تعالى مريدا ، فيجب أن يقدم الأدلة على ذلك ويوضحها وشيوخها ذي (٤) الأصل الذي عليه المعمول ، ومع تمهده

__________________

(١) في الهامش : تقويتهم.

(٢) الصحيح : الملخص.

(٣) ظ : بالبيان.

(٤) كذا في الأصل.

٣٧١

يسهل حل كل شبهة ودفع كل اعتراض.

واعلم أن كل من خالفنا في كونه تعالى مريدا على ضربين ، فمنهم من ينفي حال المريد عنه [أو عنه](١) تعالى ، ويدعي أن الحال التي يشير إليها يكون المريد مريدا لبيت (٢) حالا زائدة على الأحوال المعقولة لنا ، من كوننا عالمين أو ظانين أو معتقدين.

ومنهم من يثبت هذه الحال زائدة على أحوالنا المعقولة ، ويبقى كونه تعالى مريدا لشيء محضة ، ويدعي استحالته فيه تعالى دوننا. وهو أبو القاسم البلخي ومن وافقه.

والذي يدل على أن حال المريد متميزة من أحوال الحي إن أحدنا يجد نفسه عند قصده الى الأمر وعزمه عليه على صفة متجددة لم يكن من قبل عليها ويعلم ذلك من نفسه ضرورة.

ولهذا قلنا في الكتب : ان حال المريد معلومة ضرورة ، وانما الشك واقع في تمييزها من باقي أحوال الحي. وما العلم بكونه مريدا في التجلي والوضوح الا كالعلم بأنه مدرك ومعتقد ، فلا سبيل الى رفع ما لم يعلم من هذه الحال. وانما الكلام على المخالف في تمييزها من سائر أحوال الحي.

ولا شبهة في تمييز هذه الحال التي أشرنا إليها من كونه حيا وقادرا ومدركا ، ما أشبه ذلك من الأحوال. وانما الشبهة في تمييزها من الدواعي التي هي العلم والاعتقاد والظن.

والذي يدل على تمييز هذه الحال من الدواعي أن أحدنا قد يكون عالما بحسن الفعل وكونه إحسانا وأنعاما ، ومع ذلك فلا يجد نفسه على هذه [الحال]

__________________

(١) كذا في النسخة والظاهر زيادتها.

(٢) ظ : لست.

٣٧٢

التي أشرنا إليها ، وقد يتجدد كونه على الحال التي سمينا من كان عليها بأنه مريد وان كان علمه بكون الفعل إحسانا (١) ومتقدما غير متجدد ، وذلك القول في قضاء الدين داع الى فعله.

وقد يتقدم كونه عالما بهذه الصفة الداعية إلى الفعل وان لم يكن مريدا ، بل ربما كان كارها. ومما تبين انفصال هذه الصفة من الداعي متقدم (٢) لهذه الصفة.

ألا ترى أن علم أحدنا بأن الطعام يشبعه وهو جائع داع له إلى الأكل ، فإذا علم ذلك أراد الأكل ثم فعله ، فالداعي متقدم للإرادة ، وهي تالية له ومطابقة كما أن الفعل تال للإرادة.

وأجود ما قيل في هذا الموضع مما لم يخطر ببال المخالفين لنا في هذه المسألة ، وانما هو شيء زدناه على نفوسنا وأجبنا عنه ، أن يقال : ما أنكرتم أن يكون الحال التي أشرتم إليها وسميتموها بأنها حال المريد هي راجعة إلى الدواعي ، إلى (٣) أنه ليس كل داع يؤثرها (٤) ويحصل معه ، بل يجعل هذه الحال هي الصالحة عند قوة الدواعي وبلوغها الى الحد الذي لا بدّ معه من وقوع الفعل عقيبها ، فلا يمكنكم أن تقولن (٥) : انه قد يكون كذلك ولا يفعل الفعل ، لأنكم تذهبون الى أن الفعل يجب عند هذه الحال.

والذي يحلّ هذه الشبهة : انا قد علمنا أن أمورا متغايرة قد تتساوى في

__________________

(١) لعل الواو زائدة.

(٢) ظ : المتقدم.

(٣) ظ : الا.

(٤) ظ : يؤثر في الفعل.

(٥) ظ : تقولوا.

٣٧٣

بلوغ الغرض الذي قد انتهت الدواعي إليه في القوة إلى الحد الذي لا بدّ من الفعل معه ، ومع هذه الحال فإنه لا يجد نفسه على الحال التي أشرنا إليها إلّا مع أحدها ، والكل متساوي في تعلق الدواعي ، لوجب (١) أن يجد هذه الحال مع الأمور المتغايرة.

فلما اختصت هذه الحال مع عموم متعلق الدواعي ، علمنا أنها متميزة من أحوال الدواعي. ألا ترى أن أحدا إذا دعاه الجوع الشديد إلى الأكل ومن (٢) قويت دواعيه اليه على وجه لا بدّ معه من وقوع الأكل معه ، قد يكون بين يديه رغفان كثيرة قربها من يده قرب واحد وصفاتها في أنفسها واحدة ، فقصد الى أحد دون باقيها ، ويجد نفسه على كل حال مريدا مع بعضها دون سائرها ، وان كانت الدواعي القوية فتتعلق بالجميع تعلقا واحدا. فلو رجعت حال الإرادة الى حال الدواعي ، لكان يجد نفسه قاصدا الى الجميع ومريدا لأكل [الجميع] ، كما أنه يجد نفسه عالما بأن كل رغيف يسد جوعته ويزول مضرته وهذا واضح.

على أن قوة الدواعي انما هي كيفية الحال التي يجب عنها ، والكيفية وان اختلفت فغير مقتضية لاختلاف الجنس والنوع. وأحدنا إذا تجدد كونه قاصدا إلى الشيء ومريدا له بعد تقدم دواعيه اليه ، يجد نفسه على جنس لم يكن عليه من قبل. ويفرق بين ما يجد نفسه عليه إذا قويت دواعيه بعد ضعف وزادت بعد تقدم بقضائها (٣) ، والواحد منا يجد نفسه إذا أدرك بعد أن لم يكن مدركا أنه على جنس صفة لم يكن له من قبل.

__________________

(١) خ ل : يوجب.

(٢) الظاهر زيادة «من».

(٣) ظ : نقصانها.

٣٧٤

فلو جاز أن يجعل هذه الصفة كيفية للأخرى ، جاز ذلك في الإدراك وفي سائر الصفات ، وان يؤد ما يجده الى الكيفيات دون جنس الصفات ، وهذا يفضي الى الجهل ، وإذا صح أن حال المريد منفصلة من سائر أحواله ، بطل قول من نفي هذه الحال فينا وفيه تعالى.

فأما البلخي فطريق الرد عليه أن نقول له : قد وافقنا على إثبات حال المريد لنا وتمييزها من باقي أحواله. وإذا كان المصحح لهذه الصفة كونه حيا ، كما أن المصحح لكونه قادرا عالما كونه حيا ، وجب أن يصح كونه تعالى مريدا ، كما صح كونه قادرا عالما. وقد دللنا في جواب المسألة الاولى والثانية والثالثة من هذه المسائل على أن المصحح ما ذكرناه دون ما يرجع الى جسميته والى الحواس.

وأما قول البلخي في بعض كلامه : ان المريد هو القاصد بعينه الى أحد الضدين اللذين خطرا بباله. فتعلل منه بالمحال ، لان المريد هو القاصد كما قال ، الا أن ذكر القلب والخطور لا معنى له ، لان الواحد منا وان كان ذا قلب محله إرادته ، فليس يجب في كل مريد أن يكون كذلك.

وإذا عارض البلخي معارض فقال له : لا يصح أن يكون القديم تعالى عالما لان العالم منا هو الذي يعتقد بقلبه ما علمه.

أي شيء ، ليت شعري كان يقوله له؟ وهل يقيد (١) ذلك الا بما أفسدنا كلامه؟

والذي يدل من بعد هذه الجملة على أنه تعالى مريد وجوه :

أولها : انا قد علمنا أن من حق العالم بما يفعله إذا فعله لغرض يخصه ، وكان محلا بينه وبين فعل الإرادة في قلبه أن يكون مريدا له ، لان [ما] يدعو

__________________

(١) ظ : يفسد.

٣٧٥

الى الفعل يدعو إلى إرادته. فقد ثبت أنه تعالى فعل العالم بغرض يخص العالم بداعيه الى الخلق العالم يدعوه الى فعل ارادة خلقه ، والمنع من الإرادة يستحيل عليه تعالى ، فلا بد من كونه مريدا لخلق العالم.

وانما شرطنا الشرطين اللذين ذكرناهما ، لأن الإرادة يفعلها أحدنا وان لم يردها بإرادة أخرى ، من حيث أن الداعي إليها هو الداعي إلى المراد ، ولا ينفرد بداع يخصها.

ألا ترى أن من دعا الداعي إلى الأكل ، فإنه يفعل ارادة للأكل وان كان لا يريد هذه الإرادة ، لان داعي الأكل هو داع فيها داعي يخصها ومن أشرف على الجنة وأعجزه الله تعالى من أفعال القلوب ، أو فعل فيه إرادة ضرورية لدخول النار لا يقع منه الا دخول الجنة وان لم يكن مريدا لدخولها ، لانه ممنوع من هذه الإرادة.

وثانيها : أنه قد ثبت كونه تعالى مخبرا وآمرا ومخاطبا ، والكلام لا يقع على هذه الوجوه لوجوده ، ولا حدوثه ولا جنسه ولا سائر أحواله ، فلا بد من أن يكون على هذه الصفة التي يجوز أن يكون عليها تارة ، ولا يكون أخرى لأمر من الأمور.

وقد بينا أن صفاته كلها لا تؤثر في ذلك ولا صفات فاعله من كونه حيا ومدركا وعالما وقادرا ومشتهيا وناظرا ، لان المعلوم الواضح أن هذه الصفات لا تؤثر في وقوع الخطاب على تلك الوجوه ، فيعلم لا محالة أن المؤثر هو كونه مريدا.

وهذه الدلالة مستقصاة في الكتاب «الملخص» ومنتهى فيه الى غايتها.

وثالثها : انه تعالى قد خلف فينا الشهوات المتعلقة بالقبائح ، وتقرأ على المحسنات ، ومكننا من فعل كل ما تشتهيه ، ولم يعينا (١) بالحسن عن القبيح

__________________

(١) ظ : ولم يمنعا.

٣٧٦

لا يجوز أن يكون فعل ذلك لغير غرض لانه عبث ، ولا لغرض هو الإغراء بالقبيح لقبح ذلك ، فلم يبق الا أن يكون الغرض فيه التعريض فيه للثواب ، بأن يفعل الواجب ويمتنع من القبيح ، فلا بد من كونه مريدا لهذا الوجه دون غيره ، والألم يتخصص ما فعله لهذا الغرض دون غيره مع احتماله للكل.

ورابعها : أنه تعالى لو لم يقصد بإيلام أهل النار والعقاب المستحق ، لكان ظالما.

وكذلك ما فعله بأهل الجنة من الثواب لا بدّ أن يقصد به فعل المستحق عليه منه ، لانه لا يكون مختصا بهذه الوجه (١) مع احتماله لغيره الا بمخصص.

وما يرد على هذين الدليلين الأخيرين ويعترض به عليهما يأتي في الكلام على ما جرى في أثناء المسائل الواردة. ونعود الى تصفح ما في المسألة :

أما الإلزام لنا أن يكون خلقه لنا لينفعنا بالثواب لا يقتضي الإرادة ، بل يكفي فيه الداعي الى ذلك. فهو غير صحيح ، لأنا قبل كل شيء لا نقول ان خلقه تعالى لنا لينفعنا ، انما كان بهذه الصفة لأجل أنه تعالى يريد منا الطاعة التي نستحق بها الثواب ، لانه تعالى في ابتداء خلقه للمكلف وقبل أن يكمل ، قد خلقه لهذا الوجه ، وهو في تلك الحال ما كلفه للطاعة ولا أرادها منه ، فلا بد من أمر يقتضي توجه هذا الخلق الى هذه الجهة التي عيناها من بين سائر الجهات التي يحتمل الخلق له يكون مخلوقا لها ، وليس ذلك إلا إرادته تعالى كونه خلقا لهذا الوجه دون ما عداه من الوجوه.

لأن الإرادة عندنا تتعلق بالمرادات على وجوه مختلفة ، وليست خارجة (٢) في التعلق مجرى القدرة ، بل تجري مجرى الاعتقادات. ولهذا تختلف الارادتان

__________________

(١) ط : بهذا الوجه.

(٢) ظ : جارية.

٣٧٧

ومتعلقهما واحد إذا اختلف وجها تغايرهما.

وقد اختلف ها هنا كلام الشيوخ : فقال قوم : يجب أن يريد احداث الخلق بإرادة مفردة ، ثم يريد بإرادة أخرى احداثه لينتفع. وقال آخرون وهو الصحيح : انه يكفي إرادة واحدة لإحداثه على هذا الوجه.

ومن الذي قال : ان الأغراض هي الإرادات حتى مكلف ومسألة الرد لذلك ، ثم لو سلم لهم وان كان غير صحيح ، وان الداعي والأغراض كافية في كون الفعل واقعا لها ، ليس(١) قد بينا في كلامنا أن الداعي إلى الفعل داع الى فعل الإرادة له ، وأنه لا يجوز أن يفعل أحد منا فعلا لغرض يخصه. وهو غير ممنوع من الإرادة الا ويفعل ارادة له ، وأن ذلك معلوم ضرورة.

فيجب على كل حال أن يكون تعالى مريدا لما فعله من خلقنا الذي غرضه فيه أن ينفعنا بالثواب في حال خلقه لنا ، وقبل تكليفنا الطاعة التي نستحق بها الثواب.

وقد مضى في خلال هذه المسألة من المسائل لأنه (٢) عكس القضية ، وقال : ارادة الطاعة متقدمة لهذا الوقت. وفي هذا عكس ، فإن إرادته تعالى منا الطاعة انما هي تحصل بوقت أمره تعالى لنا به وتكليفنا إياها ، وهذا متأخر لا محالة عن الخلق ، بل متأخر عن حال إكمال العقل المتأخر عن زمان الاحداث والخلق.

وما مضى في أثناء المسألة من أنه تعالى خلق الحيوان الذي ليس بمكلف لينفعهم (٣) بالفضل والغرض وان كان تعالى ما أراد انتفاعهم ، صحيح ، وله

__________________

(١) ظ : أليس.

(٢) ظ : أنه.

(٣) ظ : لينفعه ، وكذا انتفاعه.

٣٧٨

أمثلة ظاهرة لا تحصى قد أوردناها في كتابنا.

منها أن أحدنا يضع الماء على الطريق ، لينتفع به المارة في ذلك الطريق وانما يكون وضعه للماء متوجها الى جهة انتفاع الناس به بالإرادة المتناولة له على هذا الوجه. ولا يجوز أن يكون المؤثر في إرادته بشرب (١) المارة في الطريق له ، لانه لا يريد ذلك ، وان كان وضعه للماء متوجها الى هذا الوجه دون غيره.

وقد يبحث أحدنا مائدة ليأكل هو وغيره من الناس عليها الطعام ، ولا يجب أن يكون في حال بحثه لها مريدا من نفسه ومن غيره الأكل ، وانما توجه بحثها الى هذه الجهة دون غيره بالإرادة المتناولة لتجارتها لهذا الوجه.

وكذلك قد يخيط قميصه ليلبسه ولا يكون في حال خياطته مريدا لنفسه ، ولو كان كذلك لوجد نفسه مريدا في الحال للبس.

وكذلك قد يغرس نخلة أو شجرة وهو يماله من ثمرتها ، وهو في حال الغرس لا يريد أكله منها ولا أكل غيره أيضا ، وانما كان الاغراس لهذا الوجه للإرادة المتناولة له على هذا الوجه.

فأما ما مضى في المسألة من أن الله تعالى يؤلم الأطفال للمصلحة والغرض ـ الى قوله : ـ فقد بان أن لفظة اللام لا تفيد ارادة ما دخلت عليه ، فلا شبهة في أن الغرض بالفعل الذي قصد به اليه لا يوجب تعلق الإرادة بذلك الغرض.

فكيف ظن علينا أنا نذهب الى ذلك حتى وقع التشاغل بالكلام عليه ، وقد قلنا ان الغرض إذا كان هو الداعي إلى الفعل ، فلا بد من ارادة يتناول الفعل عند حدوثه ، حتى يكون لها مفعولا لهذا الوجه ومتوجها غيره.

وقد بينا في كتاب «الذخيرة» وغيره أن الله تعالى لا يفعل الآلام بالأطفال

__________________

(١) ظ : شرب.

٣٧٩

للعوض ، وان كان الغرض لا بدّ منه. وانما الغرض في فعل الآلام بهم المصلحة ثم الغرض ، ليخرج من كونه ظلما. وقد بينا مرادنا بقولنا «خلقنا وخلق الشهوات فينا لغرض» فلا معنى لتقسيم علينا غير صحيح وللأمة على ما نذهب اليه.

فأما ما مضى في المسألة من قول السائل : فما تريدون أنتم بقولكم ان الله تعالى خلقنا على صفة المكلفين لنستحق الثواب ـ الى آخر الكلام. فالجواب عنه قد مضى.

ولا شبهة في أن علمه بانتفاعنا بالتعريض للثواب والانتفاع به داع له تعالى الى خلقنا. إلا أنا قد بينا أن ذلك ان كان هذا الداعي ، فلا بد من ارادة يكون بها هذا الفعل الذي هو الاحداث متوجها الى هذا الوجه. وبينا أن ما دعي إلى الفعل يدعو الى فعل إرادته ، فإنه لا يجوز أن يكون من ليس ممنوع (١) من الإرادة بفعل الفاعل للداعي من غير أن يريد ، وأن ذلك معلوم ضرورة.

ولا شبهة في أنه لو خلقنا وداعيه الى خلقنا انتفاعنا بالثواب ، وقدرنا أنه لا ارادة له تتناول خلقنا ، لم يكن خلقه إيانا عبثا ، لان العبث ما لا غرض فيه.

ولكن قد بينا أنه من المحال أن يدعوه الداعي إلى خلقنا لهذا الغرض وهو لا يريد خلقنا ، إذا لم يكن ممنوعا من الإرادة ، الا أنه لا يجوز أن يقال في ممنوع من الإرادة إذا فعل فعلا دعاه اليه داع أنه فعله لهذا ، لان هذا القول يقتضي أن يفعله توجها نحو ذلك الداعي، وهذا لا يكون إلا بالإرادة على ما تقدم بيانه.

ثم يقال للمعترض بهذه الاعتراضات : كيف يكون خلق الله تعالى لنا؟ لينفعنا إنما أثر فيه داعيه ، وهو علمه بكون انتفاعنا إحسانا البتة وأنعاما علينا ،

__________________

(١) ظ : ممنوعا من الإرادة يفعل الفعل للداعي ـ إلخ.

٣٨٠