رسائل الشريف المرتضى - ج ١

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]

رسائل الشريف المرتضى - ج ١

المؤلف:

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار القرآن الكريم
المطبعة: مطبعة الخيام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٥٧

بالشبهة في التوحيد والعدل والنبوة معذورا ، لانه ما علم ما نصرف عنه [الا] بالشبهة الداخلة عليه.

والأمر الأخر أن يكونوا اعتقدوا أن جحد النص والعمل بخلافه مع العلم به أعظم وزرا وأوفر عقابا من عقاب الذي لم يعمل به لجهله ودخول الشبهة عليه.

وهذا أيضا غلط شديد ، لان من عرف النص وعمل بخلافه انما يعاقب على ذنب واحد ، وهو العمل بخلاف ما وجب عليه منه ، ولا يعاقب على جهله به. ومن جهل النص ثم عمل بخلافه يعاقب على جهله به وعمله بخلافه ، فعقاب المخالفين في النص إذا كانوا انما عدلوا عن العمل به بالشبهة ، مع قيام الدليل وإيضاح الطريق ، أعظم عقابا وأوفر لوما وذما.

وما يجري الذاهب الى ما ذكرناه الا مجرى أبي علي الجبائي ، لأنه كان يذهب الى أن الأنبياء لا يجوز أن يقع منهم المعاصي مع العلم بأنها معاصي.

ويحتمل معصية آدم عليه‌السلام على أنها وقعت منه ، لانه ظن أن المنهي يتناول عين الشجرة لا جنسها ، ولو علم أنه منهي عن الجنس لما يقدم على المعصية.

فقلنا لأبي علي : انك قصدت أن تنزيه (١) النبي عليه‌السلام عن الاقدام بالمعصية مع العلم بأنها معصية ، فأضفت اليه معصيتين ، وهذه معصية يتقياق (٢) إلى معصية في التناول في عقاب معصيتين وذمهما أكثر من عقاب معصية واحدة ، وقلة التأمل يذهب بصاحبها كل مذهب ويركب مع كل مركب.

والذي مضى في خلال المسألة في اعتبار اشتقاق لفظ «النص» وأنّه من

__________________

(١) ظ : أن تنزه.

(٢) كذا في النسخة ، ولعل الصحيح : يتناهى.

٣٤١

الإظهار ، والاستدلال عليه بالبيت وغيره ، وأن الإظهار للشيء ينافي دخول الشبهة. غير صحيح ، لان ما أظهر بنصب دليل عليه وطريق موصل اليه ، من شاء سلك ووصل الى العلم به.

يقال : انه قد نص عليه واستظهر وأظهر وان جاز دخول الشبهة في المقصر على (١) النظر.

ألا ترى عقابنا (٢) لقوله ان الله تعالى قد نص على أنه لا يرى بالابصار ، بقوله جل وعز (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ)(٣) ومع ذلك فقد دخلت الشبهة في هذا النص على القائلين بالرؤية.

حتى ذهب الأشعري الى أن هذه الآية دليل على أنه تعالى يرى بالابصار ، ولم تخرج هذه الآية من أن تكون نصا ، وان اشتبه الأمر فيها على من لم يمعن النظر فيها ، ولا يمكن أحدا أن يقول ان تقصيرا وقع منه تعالى في الأفهام.

وكذلك نقول كلنا : ان الله تعالى قد نص في كتابه (٤) على وجوب مسح الأرجل في الطهارة دون غسلها ، والشبهة مع ذلك داخلة على جميع مخالفينا ، حتى اعتقدوا أن الآية توجب الغسل دون المسح ، ولم يخرج مع ذلك من أن يكون نصا على المسح ، ولا كانوا معذورين في العدول عن الحق ، من حيث اشتبه عليهم الأمر فيه.

وكذلك نقول : الله تعالى قد نص على كثير من الأحكام المطابقة لمذهبنا في كتابه وصريح خطابه ، وان ذهب المبطلون في هذه النصوص عن الحق للشبهة ،

__________________

(١) خ ل : عن.

(٢) ظ : حقا بنا نقوله.

(٣) سورة الانعام : ١٠٣.

(٤) بقوله تعالى (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) سورة المائدة : ٦.

٣٤٢

ولم تخرج النصوص من كونها نصوصا ، ولا كان من خالف معذورا.

وما مضى في المسألة من أن إظهار دافعي النص لاتباع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله انما كان للأغراض الدنيوية ، والتوصل بذلك إليها ، فلا شبهة في أنه لا بدّ حينئذ من غرض ، وإذا لم يجز أن يكون لهم غرض ديني ، فليس الا غرض دنيوي. إلا أنا قد بينا أن ذلك غير واجب في كل دافع للنص ، بل في الداخلين الذين قبضوا على دفعه.

ولم ننكر أيضا ان يكون في الجماعة من علم مراد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بكلامه في حال النص ضرورة ، لكنا منعنا من القطع على ذلك ، وأن الجماعة كلها لا بدّ أن تكون كذلك.

فإما طلحة والزبير فهما في دفع النص كغيرهما ممن يجوز أن يكون دفعه للشبهة ، كما يجوز أن يكون دفعه مع العلم بمراد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والقطع على ذلك فيهما يتعذر كما يتعذر في غيرهما.

والذي يقطع على علمهما به ومكابرتهما فيه ما أنكراه من بيعته عليه‌السلام بالإمامة ، ودعواهما أنهما كانا مكرهين وبينهما عليه في حربهما له. وليس إذا تعذر دخول الشبهة في موضع تعذر في غيره.

وهذا كلامنا أطلناه ، وبعضه كاف لما رأينا الإيثار ببسطه وتحقيقه وتفصيله تاما.

المسألة التاسعة

[علة قعود على عليه‌السلام عن المنازعة لأمر الخلافة]

قال (حرس الله مدته) عقيب جوابه عن قول من أوجب أن يفعل أمير

٣٤٣

المؤمنين عليه‌السلام عند العدول عنه ، مثل فعل هارون عليه‌السلام لما ضل قوم موسى عليه‌السلام ، بعبادة العجل ، إذ كان من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بمنزلة من موسى عليه‌السلام ، والا نقص عن مثل ما نعلمه من الوعظ والزجر والإنكار ، حسب ما حكاه الله سبحانه عنه في قوله (يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي)(١).

وأنه لو فعل ذلك لوجب على الله سبحانه أن يجعله مستفيضا متعذرا إخفاؤه وكتمانه، لقطع العذر به ، كما فعل فيما قال هارون عليه‌السلام ، وأن انتفاء ذلك دليل على بطلان ما يذهب اليه أن هارون عليه‌السلام انما وعظ وأنكر وزجر لما لم يكن عليه من ذلك خوف على نفس ولا دين.

فمن أين لكم أن أمير المؤمنين عليه‌السلام كان غير خائف من ذكره ذلك؟

وما أنكرتم أن يكون المعلوم ضرورة أنه عليه‌السلام مع ما جرى من خلاف الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في عقد الإمامة لا بدّ أن يكون خائفا من إظهار الحق والموافقة عليه ، لان من صمم على مخالفة نبيه واطراح عهده لا ينجع فيه وعظ ، ولا ينفع معه اذكار. وانما ذلك من مكلفة ضار له غير نافع لأحد.

قال : وفي هذه كفاية ، فما جواب من قال : بأي حجة فرقتم بينه وبين هارون عليه‌السلام في حصول الخوف له وارتفاعه عن ذلك؟ وبأي دليل نفيتم ذلك عن هارون عليه‌السلام؟ واللهعزوجل يحكي عنه أنه قال لأخيه موسى (ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي)(٢).

__________________

(١) سورة طه : ٩٠.

(٢) سورة الأعراف : ١٥٠.

٣٤٤

وأي شاهد على خوف هارون عليه‌السلام آكد من هذا ، ومع ذلك فلم يهمل ما تقدم ذكره لما رأى ما أنكره واعتمد الإنكار بالقول ، لتعذر الإنكار عليه بالفعل.

قال : ولو قال : ما قلتموه من انه عليه‌السلام علم أن الوعظ والزجر والإنكار لا ينجع ، لما رأى من التصميم على مخالفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والاطراح لعهده ، فكان ذلك مقيما لعذره في الإمساك عنه مستمرا ، لوجب بمثله أن يكون هارون عليه‌السلام قد أمسك أيضا ، لما رأى من التصميم على المخالفة ، والاطراح للعهد ، والإشراك بالله سبحانه ، والعبادة لمن ذوذ ، (١) والخلاف في هذا ان لم يزد على الخلاف في جحد الناس ، فما يقصر عنه بل الاولى به.

والظاهر الزيادة عليه وان كان المعنى واحدا ، لان من جحد الإمامة فقد عصى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وجحده ومن أمره بالنص عليها ، فينبغي أن لا يقصر الخوف منهم من خوف أمير المؤمنين عليه‌السلام عن هؤلاء.

بل لو قال قائل : ان كشفه للأمر بالقول على مقتضى قولكم ان كثيرا منهم بالشبهة كان يؤذن لائحه بالنجاح لم يبعد ، لأن الشبهة إذا انكشف (٢) عن هذه الطائفة وجب له نصرتهم ومعونتهم ، كما تحملوا المشاق في حياة النبي فيما هو أعظم مشقة من ذلك.

ولو قال : ان خوف أمير المؤمنين عليه‌السلام كان أقل من خوف هارون على مقتضى قولكم ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أخبره أنه لن يموت حتى يقتل الناكثين والقاسطين والمارقين لم يبعد.

فقولوا ما عندكم فيه لنعلمه إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) ظ : لمن دونه. والخلاف.

(٢) ظ : انكشفت.

٣٤٥

الجواب :

اعلم انا كنا قد ذكرنا فيما سلف من كتبنا ان المانع لأمير المؤمنين عليه‌السلام من المنازعة في الأمر لمن استبد به عليه ووعظه له وتصريحه بالظلامة منه ، يمكن أن يكون وجوها :

أولهما : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أعلمه أن الأمة ستغدر به بعده ، وتحول بينه وبين حقه ، وأمره بالصبر والاحتساب والكف والموادعة ، لما علمه عليه‌السلام من المصلحة الدينية في ذلك ، ففعل عليه‌السلام من الكف والإمساك ما أمر به. وهذا الوجه لا يمكن ادعاؤه في هارون عليه‌السلام ، فلذلك تكلم وذكر ووعظ.

وثانيهما : أنه عليه‌السلام أشفق من ارتداد القوم ، وإظهار خروجهم عن الإسلام ، لفرط الحمية والعصبية. وهذا فساد ديني لا يجوز المتعرض ، لما يكون سببا فيه ودائما (١) اليه. وليس ذلك في هارون عليه‌السلام ، لانه يمكن أن يقال انه ما علم أن في خطابه للقوم وإنكاره مفسدة دينية.

وثالثهما : أنه عليه‌السلام خاف على نفسه وأهله وشيعته ، وظهرت له أمارات الخوف التي يجب معها الكف عن المجاهدة والمناظرة. ولم ينته هارون في خوفه ان كان خاف الى هذه الحال.

وما حكي في الكتاب عنه عليه‌السلام من قوله (إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي)(٢) لا يدل على أنه انتهى في الخوف الى تلك المنزلة فللخوف مراتب متفاوتة.

__________________

(١) ظ : دائبا.

(٢) سورة الأعراف : ١٥٠.

٣٤٦

ويجوز أن يكون هارون عليه‌السلام آمنه الله تعالى من القتل بالوحي ، فإنه كان نبيا يوحى إليه ، فأقدم على ذلك القول.

وأما الجمع بين أمير المؤمنين عليه‌السلام وهارون في العلم بتصميم القوم على الخلاف واطراح العهد ، فكيف لم يستويا في الوعظ والزجر؟

فالجواب عنه : أنهما وان استويا في العلم بالتصميم ، فغير ممتنع أن يكون مع أمير المؤمنين عليه‌السلام يأس من الرجوع منهم إلى الحق ، لم يكن مع هارون عليه‌السلام مثله ، وخوف على نفس (١) الناكثين والقاسطين والمارقين وان أمن من الموت له في نفسه عليه‌السلام ، فهو غير مؤمن له من وقوع ذلك بأهله وشيعته ، وغير مؤمن أيضا من الذل والاهتضام ، وهما شر من القتل وأثقل على النفوس.

المسألة العاشرة

[سبب اختلاف دلائل الأنبياء عليهم‌السلام]

وأجاب ـ أجاب الله فيه صالح الأدعية في الدنيا والآخرة ـ عن الخبر الوارد عن ابن السكيت ، وقد سأل الرضا عليه‌السلام عن سبب اختلاف دلائل الأنبياء ، فأخبره ان كلا منهم جار (٢) بجنس ما كان الأغلب على أهل عصره ، فبرز فيه على كافتهم وخرق عاداتهم (٣).

بأنه خبر واحد وذكر حكم الآحاد ، وأنها غير مؤثرة في أدلة العقول.

ثم تبرع بتأوله على ما يطابق القول بالصرفة فقال : ان العرب إذا تأملوا

__________________

(١) في هامش النسخة : وخبره على قتال. ولعل الظاهر : وخوف على تنافس.

(٢) ظ : جاء.

(٣) بحار الأنوار ١١ ـ ٧٠ والحديث منقول هنا بالمعنى.

٣٤٧

فصاحة القرآن وبلاغته ، ووجدوا ما يتمكنون منه في عاداتهم من الكلام الفصيح يقارب ذلك مقاربة يخرجه من كونه خارقا لعادتهم فيه ، وأحسوا نفوسهم بتعذر المعارضة ، مع شدة الدواعي إليها وقوة البواعث عليها ، علموا أن الله تعالى خرق عاداتهم ، بأن صرفهم عن المعارضة التي كانت لو لا الصرف متأتية.

وهذا التأويل يقتضي أن المعجزة وخرق العادة ، وسياقة الحديث لا يتضمن أنهم عجزوا ، لأنهم صرفوا عما كان من شأنهم معارضته ، بل لانه برز عليهم كتبريز النبيين المتقدمين على أممهما فيما جاء به.

الجواب :

اعلم أن الذي تبرعنا بتأويل هذا الخبر عليه مستقر لا مطعن فيه ، لان كل واحد من الأنبياء لها أتين من أهل عصره ، بأنه (١) تجانس ما تخافوا يتعاطونه أتين النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بإنزال القرآن عليه وإملائه [أن من رام عليه واعلائه](٢) أن من رام معارضته من العرب ، نعرف عنها مجرى الأمر على ذلك.

وهذه أمانة له عليه‌السلام منهم ويبرز عليهم ، لانه لم يجر عادتهم بمثل ذلك ، كما لم يجر مثل آيات الأنبياء المتقدمين ، والمعجز ها هنا الخارق للعادة وان كان الصرف عن المعارضة ، فلهذا الصرف تعلق بالقرآن ، من حيث كان صرفا عن معارضته.

ويحمل لفظ الخبر الذي هو فاق منهم من عند الله تعالى من القرآن بما زاد به عليهم ، وبرز على كافتهم ، وأعجزهم عن الإتيان بمثله على أن المعنى ما زاد بالصرف عن معارضته عليهم ، وبرز بذلك على كافتهم. ولفظة «أعجزهم»

__________________

(١) ظ : بآية.

(٢) كذا في النسخة والظاهر زيادتها.

٣٤٨

عن الإتيان بمثله بمذهب الصرفة أشبه وأليق ، لأن ذلك يقتضي أنه لو لم يعجزهم عن الإتيان بمثله يفعلوا.

ولو كان في نفسه معجزا ما جاز أن يقال : وأعجزهم عن معارضته. لان معارضته في نفسها متعذرة ، على أن قوله عليه‌السلام لا بدّ لكل منا من تأويله على ما يطابق مذهبه ، والقول محتمل غير صريح في شيء بعينه.

فمن ذهب الى أن للإعجاز تعلق بالفصاحة تناولها (١) على أن المراد الفصاحة دون ألفاظه ومعانيه وحروفه.

ومن ذهب الى أن المعجز هو النظم ، حمل ذلك على أن المراد به زاد نظمه عليهم.

وصاحب الصرفة يقول : انما زاد بالصرف عن معارضته عليهم. ويكفي أن يكون في هذا الخبر بعض الاحتمال المطابق مذهب الصرفة.

فإذا قيل : فأي مناسبة بين الصرفة وبين ما كان يتعاطاه القوم من الفصاحة ، وليس نجد على مذهبهم ها هنا مناسبة ، كما وجدناها في آيتي موسى وعيسى عليهما‌السلام.

قلنا : وأيضا مناسبة ، لأنهم لما صرفوا عن معارضة القرآن بما يضاهيه في الفصاحة ، صار عليه‌السلام كأنه زاد عليهم التي كانوا بها يدنون وإليها ينسون (٢) ، صار كتعذر مساواة السحرة بمعجزة موسى عليه‌السلام ، وان كان تعذر ذلك لأنه في نفسه غير مقدور لهم وهذا انما تعذر للصرف عنهم حسب والتعذر مختلف والتعدد حاصل ، فمن ها هنا حصلت المناسبة بين المعجزات.

__________________

(١) ظ : تعلقا بالفصاحة بتأويله.

(٢) ظ : يدينون وإليها ينسبون.

٣٤٩

المسألة الحادية عشر

[بحث فيما ورد في المسوخ]

تأول سيدنا (أدام الله نعماءه) ما ورد في المسوخ مثل الدب والفيل والخنزير وما شاكل ذلك ، على أنها كانت على خلق جميلة غير منفور عنها ، ثم جعلت هذه الصور المسيئة على سبيل التنفير عنها ، والزيادة في الصد عن الانتفاع بها.

وقال : لان بعض الاحياء لا يجوز أن يصير حيا آخر غير ، وإذا أريد بالمسخ هذا فهو باطل ، وان أريد غيره نظر نافيه.

فما جواب من سأل عند سماع هذا عن الاخبار الواردة عن النبي والأئمة عليهم‌السلام بأن الله تعالى يمسخ قوما من هذه الأمة قبل يوم القيامة كما مسخ في الأمم المتقدمة. وهي كثيرة لا يمكن الإطالة بحصرها في كتاب.

وقد سلم الشيخ المفيد (رحمه‌الله) صحتها ، وضمن ذلك الكتاب الذي وسمه ب «التمهيد» وأحال القول بالتناسخ ، وذكر أن الاخبار المعول عليها لم يرد الا بأن الله تعالى يمسخ قوما قبل يوم القيامة.

وقد روى النعماني كثيرا من ذلك ، يحتمل النسخ والمسخ معا ، فمما رواه ما أورده في كتاب «التسلي والتقوى» وأسنده إلى الصادق عليه‌السلام حديث طويل ، يقول في آخره :

وإذا احتضر الكافر حضره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلي عليه‌السلام وجبرئيل وملك الموت.

فيدنو اليه علي عليه‌السلام ، فيقول : يا رسول الله ان هذا كان يبغضنا أهل البيت فأبغضه.

٣٥٠

في ذلك ، واستقصاء القول فيه إن شاء الله تعالى.

فيقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا جبرئيل ان هذا كان يبغض الله ورسوله وأهل بيت رسوله فأبغضه.

فيقول جبرئيل لملك الموت : ان هذا كان يبغض الله ورسوله وأهل بيته فأبغضه وأعنف به ، فيدنو منه ملك الموت.

فيقول : يا عبد الله أخذت فكاك رقبتك ، أخذت أمان براءتك تمسكت بالعصمة الكبرى في دار الحياة الدنيا. فيقول : وما هي؟ فيقول : ولاية علي بن أبي طالب. فيقول : ما أعرفها ولا أعتقد بها.

فيقول له جبرئيل : يا عدو الله وما كنت تعتقد؟ فيقول : كذا وكذا.

فيقول له جبرئيل : أبشر يا عدو الله بسخط الله وعذابه في النار ، أما ما كنت ترجو فقد فاتك ، وأما الذي كنت تخافه نزل بك. ثم يسل نفسه سلا عنيفا ، ثم يوكل بروحه مائة شيطان كلهم يبصق في وجهه ويتأذى بريحه.

فإذا وضع في قبره فتح له باب من أبواب النار ، يدخل اليه من فوح ريحها ولهبها. ثم انه يؤتى بروحه الى جبال برهوت. ثم انه يصير في المركبات حتى أنه يصير في دودة ، بعد أن يجري في كل مسخ مسخوط عليه ، حتى يقوم قائمنا أهل البيت ، فيبعثه الله ليضرب عنقه ، وذلك قوله (رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ)(١). والله لقد أتي بعمر بن سعد بعد ما قتل ، وأنه لفي صورة قرد في عنقه سلسلة ، فجعل يعرف أهل الدار وهم لا يعرفونه. والله لا يذهب الدنيا حتى يمسخ عدونا مسخا ظاهرا حتى أن الرجل منهم ليمسخ في حياته قردا أو خنزيرا ، ومن ورائهم عذاب غليظ ومن ورائهم جهنم وساءت مصيرا (٢).

__________________

(١) سورة غافر : ١١.

(٢) أورد الرواية بتمامها عن الرسالة في البحار ٤٥ ـ ٣١٢ ـ ٣١٣.

٣٥١

والاخبار في هذا المعنى كثيرة قد جازت عن حد الآحاد ، فان استحال النسخ وعولنا على أنه الحق بها ، ودلس فيها وأضيف إليها ، فما ذا يحيل المسخ؟

وقد صرح به فيها وفي قوله (أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ)(١) وقوله (فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ)(٢) وقوله (وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ)(٣).

والاخبار ناطقة بأن معنى هذا المسخ هو احالة التغيير عن بنية الإنسانية الى ما سواها.

وفي الخبر المشهور عن حذيفة أنه كان يقول : أرأيتم لو قلت لكم أنه يكون فيكم قردة وخنازير ، أكنتم مصدقي؟ فقال رجل : يكون فينا قردة وخنازير؟! قال : وما يؤمنك لا أم لك. (٤) وهذا تصريح بالمسخ.

وقد تواترت الاخبار بما يفيد أن معناه : تغيير الهيئة والصورة (٥).

وفي الأحاديث : أن رجلا قال لأمير المؤمنين عليه‌السلام وقد حكم عليه بحكم : والله ما حكمت بالحق. فقال له : اخسأ كلبا ، وان الأثواب تطايرت عنه وصار كلبا يمصع بذنبه(٦).

وإذا جاز أن يجعل الله جل وعز الجماد حيوانا ، فمن ذا الذي يحيل جعل حيوان في صورة حيوان آخر.

رعاني الرأي لسيدنا الشريف الأجل (أدام الله علاه) في إيضاح ما عنده

__________________

(١) سورة المائدة : ٦٠.

(٢) سورة البقرة : ٦٥.

(٣) سورة يس : ٦٧.

(٤) راجع الدر المنثور ٢ ـ ٢٩٥.

(٥) أورد العلامة المجلسي جملة منها في البحار ٧٦ ـ ٢٢٠ ـ ٢٤٥.

(٦) يمصع بذنبه : أى يحركه ، كأنه يتملق بذلك.

٣٥٢

الجواب :

اعلم انا لم نحل المسخ ، وانما أحلنا أن يصير الحي الذي كان إنسانا نفس الحي الذي كان قردا أو خنزيرا والمسخ أن يغير صورة الحي الذي كان إنسانا يصير بهيمة ، لا أنه يتغير صورته إلى صورة البهيمة.

والأصل في المسخ قوله تعالى (كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) وقوله تعالى (وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ).

وقد تأول قوم من المفسرين آيات القرآن التي في ظاهرها المسخ ، على أن المراد بها أنا حكمنا بنجاستهم ، وخسة منزلتهم ، وإيضاع أقدارهم ، لما كفروا وخالفوا ، فجروا بذلك مجرى القرود التي [لها] هذه الاحكام ، كما يقول أحدنا لغيره : ناظرت فلانا وأقمت عليه الحجة حتى مسخته كلبا على هذا المعنى.

وقال آخرون : بل أراد بالمسخ أن الله تعالى غيّر صورهم وجعلهم على صور القرود على سبيل العقوبة لهم والتنفير عنهم.

وذلك جائز مقدور لا مانع له ، وهو أشبه بالظاهر وأمر عليه. والتأويل الأول ترك للظاهر ، وانما تترك الظواهر لضرورة وليست ها هنا.

فان قيل : فكيف يكون ما ذكرتم عقوبة؟

قلنا : هذه الخلقة إذا ابتدأت لم تكن عقوبة ، وإذا غيّر الحي المخلوق على الخلقة التامة الجميلة إليها كان ذلك عقوبة. لأن تغير الحال الى ما ذكرناه يقتضي الغم والحسرة.

فإن قيل : فيجب أن يكون مع تغير الصورة ناسا قردة ، وذلك متناف.

قلنا : متى تغيرت صورة الإنسان إلى صورة القرد ، لم يكن في تلك الحال إنسانا ، بل كان إنسانا مع البنية الاولى ، واستحق الوصف بأنه قرد لما صار على

٣٥٣

صورته ، وان كان الحي واحدا في الحالين.

ويجب فيمن مسخ قردا على سبيل العقوبة أن يذمه مع تغير الصورة على ما كان منه من القبائح ، لأن تغير الهيئة والصورة لا يوجب الخروج عن استحقاق الذم ، كما لا يخرج المهزول إذا سمن عما كان يستحقه من الذم. وكذا السمين إذا هزل.

فان قيل : فيقولون ان هؤلاء الممسوخين تناسلوا ، وأن القردة في أزماننا هذه من نسل أولئك.

قلنا : ليس يمتنع أن يتناسلوا بعد أن مسخوا ، لكن الإجماع على أنه ليس شيء من البهائم من أولاد آدم ولو لا هذا الإجماع لجوّزنا ما ذكروا على هذه الجملة التي قررناها لا ينكر صحة الاخبار الواردة من طرقنا بالمسخ لأنها كلها تتضمن وقوع ذلك على من يستحق العقوبة والذم من الاعداء والمخالفين.

فان قيل : أفتجوزون أن يغير الله تعالى صورة حيوان جميلة إلى صورة أخرى غير جميلة بل مشوه منفور عنها أم لا تجوزون ذلك؟

قلنا : إنما أجزنا في الأول ذلك على سبيل العقوبة لصاحب هذه الخلقة التي كانت جميلة ، ثم تغيرت. لانه يغتم بذلك ويتأسف ، وهذا الغرض لا يتم في الحيوان الذي (١) ليس بمكلف ، فتغير صورهم عبث ، فان كان في ذلك غرض يحسن لمثله جاز.

__________________

(١) في الأصل : التي.

٣٥٤

المسألة الثانية عشر

[الكلام في كيفية إنذار النمل]

هذه المسألة تضمنت الاعتراض على تأويلنا السابق فيما حكاه تعالى عن النملة والهدهد بقوله.

أما الكلام فيما يخص الهدهد فقد استقصيناه في جواب المسائل الواردة في عامنا هذا، وأجبنا عن كل شبهة ذكرت فيه ، ولا معنى لإعادته.

فأما الاستبعاد في النملة أن تنذر باقي النمل بالانصراف عن الموضع ، والتعجب من فهم النملة عن الأخرى ، ومن أن يخبر عنها بما نطق القرآن به ، من قوله (يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ)(١).

فهو في غير موضعه ، لأن البهيمة قد تفهم عن الأخرى بصوت يقع منها ، أو فعل كثيرا من أغراضها. ولهذا نجد الطيور وكثيرا من البهائم يدعو الذكر منها الأنثى بضرب من الصوت ، يفرق بينه وبين غيره من الأصوات التي لا تقتضي الدعاء.

والأمر في ضروب الحيوانات وفهم بعضا عن بعض مرادها وأغراضها بفعل يظهر أو صوت يقع ، أظهر من أن يخفى ، والتغابي عن ذلك مكابرة.

فما المنكر على هذا أن يفهم باقي النملة من تلك النملة التي حكى عنها ما حكى الإنذار والتخويف. فقد نرى مرارا نملة تستقبل أخرى وهي متوجهة إلى جهة ، فإذا حاذتها وباشرتها عادت عن جهتها ورجعت معها.

__________________

(١) سورة النمل : ١٨.

٣٥٥

وتلك الحكاية البليغة الطويلة لا تجب أن تكون النملة قائلة لها ولا ذاهبة إليها ، وأنها لما خوفت من الضرر الذي أشرف النمل عليه ، جاز أن يقول الحاكي لهذه الحال تلك الحكاية البليغة المرتبة ، لأنها لو كانت قائلة ناطقة ومخوفة بلسان وبيان لما قالت الا مثل ذلك.

وقد يحكي العربي عن الفارسي كلاما مرتبا مهذبا ما نطق به الفارسي وانما أشار الى معناه.

فقد زال التعجب من الموضعين معا ، وأي شيء أحسن وأبلغ وأدل على قوة البلاغة وحسن التصرف في الفصاحة من أن تشعر نملة لباقي النمل بالضرر لسليمان وجنده بما تفهم به أمثالها عنها ، فتحكى هذا المعنى الذي هو التخويف والتنفير بهذه الألفاظ المؤنقة والترتيب الرائق الصادق. وانما يضل عن فهم هذه الأمور وسرعة الهجوم عليها من لا يعرف مواقع الكلام الفصيح ومراتبه ومذاهبه.

تمت المسائل وأجوبتها ، والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على خير خلقه محمد وآله الطاهرين ، حسبنا الله ونعم الوكيل.

٣٥٦

(٨)

جوابات المسائل الطرابلسيات الثالثة

٣٥٧
٣٥٨

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على سيدنا محمد النبي وآله.

المسألة الأولى

[معنى توصيف الله تعالى بالإدراك]

في نفي كون الله مدركا ، قال الذاهبون الى ذلك : لو كان له سبحانه مثل صفة المدرك منا لم تقتضيها (١) الا كونه تعالى حيا ، كما أن ذلك هو المقتضي لها فينا ، ولم يخل من أن يقتضي ذلك بشرط الحاسة واعمال محل الحياة ، أو من (٢) غيرهما.

والأول مستحيل على الله عزوجل ، فيستحيل باستحالته عليه الإدراك.

والثاني يقتضي أن يصح إدراكنا المدركات من غير أن نعمل محل الحياة

__________________

(١) ظ : لم تقتض.

(٢) الظاهر زيادة «من».

٣٥٩

لان ما اقتضى ذلك حاصل فينا ، وهو كوننا أحياء ، ومعنى الحي في الشاهد سواء ، إذ ليس يؤثر زيادة الحياة فيما أشركنا فيه من كوننا أحياء ، كما لا يؤثر زيادة العلم فيما أشركنا فيه من كوننا عالمين ولا معتبرة (١) ولا كونه عزوجل حيا لذاته يؤثر في تغير صفته.

ولا يسوغ القول بأن حلول الحياة يقتضي وقوع الإدراك بها ، لأن إعمال محل الحياة والحواس اما أن يحتاج إليهما في حصول صفة الدرك ، أو لا يحتاج إليهما في ذلك. فان كان المدرك يستحيل عليه الحواس ، فيجب أن لا يحتاج إليها من يصح عليه الحواس ، لان ما ليس بشرط لا يدخله في أن يكون شرطا صحته على الموصوف.

الجواب :

اعلم أن الصفة لا تجوز أن تقتضي أخرى إلا بعد أن يكون الموصوف بهما واحدا ، ولهذا لم يجز أن يقتضي صفة لزيد صفة لعمرو من حيث لم يكن الموصوف بهما واحدا ، وكون الحي منا حيا صفة يرجع الى جملته لا إلى أجزائه. يدل على ذلك أن أجزاء الحي وان حلتها الحياة ، فليس كل جزء منها حيا من حيث كانت هذه صفة ترجع إلى الجملة.

وليس كذلك الحركة ، لأن كل جزء من المتحرك محله الحركة متحرك في نفسه ، لرجوع هذه الصفة إلى المحل. وقد علمنا أن حكم المحل مع الجملة ، كحكم زيد مع عمرو ، في أنه لا يجوز أن يوجب ما يرجع حكمه الى المحل حكما للجملة. كما لا يجوز أن يوجب الصفة المختصة بزيد صفة مختصة بعمرو.

__________________

(١) كذا في النسخة.

٣٦٠