رسائل الشريف المرتضى - ج ١

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]

رسائل الشريف المرتضى - ج ١

المؤلف:

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار القرآن الكريم
المطبعة: مطبعة الخيام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٥٧

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قد أجبت عن المسائل الواردة في شهر ربيع الأول من سنة عشرين وأربعمائة بما اختصرت ألفاظه ، وبلغت الطريق إلى نصرة هذه المسائل بما يغني المتأمل عما سواه ، وقدمت مقدمة يعرف بها الطريق الموصل الى العلم بجميع أحكام الشريعة في جميع مسائل الفقه ، فيجب الاعتماد عليها والتمسك بها ، فمن أبى عن هذا الطريق عسف وخبط ، وفارق قوله من المذهب.

فالله تعالى يمدكم بالتوفيق والتسديد ، ويحسن معونتكم على طلب الحق وإرادته ، ورفض الباطل وأياديه ، انه سميع مجيب.

[كيفية التوصل إلى الأحكام الشرعية]

اعلم أنه لا بدّ في الأحكام الشرعية من طريق التوصل الى العلم بها لأنا متى لم نعلم الحكم ونقطع بالعلم على أنه مصلحة لنا جوزنا كونه مفسدة لنا فيقبح الاقدام منا عليه ، لأن الإقدام على ما لا نأمن كونه فسادا ، كالإقدام على ما نقطع كونه فسادا.

٢٠١

ولهذه الجملة أبطلنا أن يكون القياس في الشريعة الذي يذهب مخالفونا اليه طريقا إلى الأحكام الشرعية ، من حيث كان القياس يوجب الظن ولا يقتضي العلم.

ألا ترى انا نظن حمل الفرع في التحريم على أصل محرم يشبه بجميع (١) بينهما ، أنه محرم مثل أصله ، ولا نعلم من حيث ظننا أنه يشبه المحرم أنه محرم.

وكذلك إذا أبطلنا العمل في الشريعة بأخبار الآحاد ، لأنها لا توجب علما ولا عملا ، وأوجبنا أن يكون العمل تابعا للعلم ، لان خبر الواحد إذا كان عدلا فغاية ما يقتضيه الظن بصدقه ، ومن ظننت صدقه يجوز أن يكون كاذبا وان ظننت به الصدق ، فان الظن لا يمنع من التجويز ، فعاد الأمر في العمل بأخبار الآحاد إلى أنه اقدام على ما لا نأمن كونه فسادا أو غير صلاح.

[بطلان العمل بالقياس والخبر الواحد]

وقد تجاوز قوم من شيوخنا (رحمهم‌الله) في إبطال القياس في الشريعة والعمل بأخبار الآحاد ، أن قالوا : انه مستحيل من طريق العقول العبادة بالقياس في الاحكام ، وأحالوا أيضا من طريق العقول العمل بأخبار الآحاد ، وعولوا على أن العمل يجب أن يكون تابعا للعلم ، وإذا كان غير متيقن في القياس وأخبار الآحاد ، لم نجد العبادة بها.

والمذهب الصحيح هو غير هذا ، لان العقل لا يمنع من العبادة بالقياس والعمل بخبر الواحد ، ولو تعبد الله تعالى بذلك لساغ ولدخل في باب الصحة لأن عبادته تعالى بذلك يوجب العلم الذي لا بدّ أن يكون العمل تابعا له.

__________________

(١) ظ : لشبه يجمع.

٢٠٢

فإنه لا فرق بين أن يقول عليه : قد حرمت عليكم كذا وكذا فاجتنبوه ، وبين أن يقول : إذا أخبركم مخبر له صفة العدالة بتحريمه فحرموه ، في صحة الطريق الى العلم بتحريمه.

وكذلك لو قال : إذا غلب في ظنكم تشبه بعض الفروع ببعض الأصول في صفة تقتضي التحريم فحرموه فقد حرمته عليكم ، لكان هذا أيضا طريقا الى العلم بتحريمه وارتفاع الشك والتجويز.

وليس متناول العلم ها هنا هو متناول الظن على ما يعتقده قوم لا يتأملون ، لان متناول الظن هاهنا هو صدق الراوي إذا كان واحدا ، ومتناول العلم هو تحريم الفعل المخصوص الذي تضمنه الخبر مما علمناه.

فكذلك في القياس متناول الظن شبه الوضع (١) بالأصل في علة التحريم ، ومتناول العلم كون الفرع محرما.

[الدليل على بطلان العمل بهما]

وانما منعنا من العمل بالقياس في الشريعة وأخبار الآحاد ، مع تجويز العبادة بهما من طريق العقول ، لان الله تعالى ما تعبد بهما ولا نصب دليلا عليهما فمن هذا الوجه أطرحنا العمل بهما ، ونفينا كونهما طريقين الى التحريم والتحليل.

وانما أوردنا بهذه الإشارة أن أصحابنا كلهم سلفهم وخلفهم ومتقدمهم ومتأخرهم يمنعون من العمل بأخبار الآحاد ومن القياس في الشريعة ، ويعيبون أشد عيب الذاهب إليهما والمتعلق في الشريعة بهما ، حتى صار هذا المذهب لظهوره وانتشاره معلوما ضرورة منهم، وغير مشكوك فيه من المذاهب.

__________________

(١) ظ : الفرع.

٢٠٣

وقد استقصينا الكلام في القياس وفرعناه وبسطناه وانتهينا فيه الى أبعد الغايات في جواب مسائل وردت من أهل الموصل متقدمة ، أظنها في سنة نيف وثمانين وثلاثمائة ، فمن وقف عليها استفاد منها جميع ما يحتاج إليه في هذا الباب.

وإذا صح ما ذكرناه فلا بد لنا فيما نثبته من الاحكام فيما نذهب اليه من ضروب العبادات من طريق توجب العلم وتقتضي اليقين ، وطرق العلم في الشرعيات هي الأقوال التي قد قطع الدليل على صحتها ، وأمن العقل من وقوعها على شيء من جهات القبح كلها ، كقوله تعالى وكقول رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة الذين يجرون مجراه عليهم‌السلام. ولا بدّ لنا من طريق إلى إضافة الخطاب الى الله تعالى إذا كان خطابا له ، وكذلك في إضافته إلى الرسول أو الأئمة عليهم‌السلام.

وقد سلك قوم في إضافة خطابه اليه طرقا غير مرضية ، فأصحها وأبعدها من الشبهة أن يشهد الرسول المؤيد بالمعجزات في بعض الكلام أنه كلام الله تعالى فيعلم بشهادته أنه كلامه ، كما فعل نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله في القرآن ، فعلمنا بإضافته الى ربه أنه كلامه ، فصار جميع القرآن دالا على الاحكام وطريقا الى العلم.

فأما الطريق إلى معرفة كون الخطاب مضافا الى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة عليهم‌السلام فهو المشافهة والمشاهدة لمن حاضرهم وعاصرهم فأما من نأى عنهم أو وجد بعدهم ، فالخبر المتواتر المفضي إلى العلم المزيل للشك والريب.

٢٠٤

[إثبات حجية الإجماع في الأحكام الشرعية]

وها هنا طريق آخر يتوصل به الى العلم بالحق والصحيح من الأحكام الشرعية عند فقد ظهور الامام وتميز شخصه ، وهو إجماع الفرقة المحقة من الإمامية التي قد علمنا أن قول الامام ـ وان كان غير متميز الشخص ـ داخل في أقوالها وغير خارج عنها.

فإذا أطبقوا على مذهب من المذاهب ، علمنا أنه هو الحق الواضح والحجة القاطعة ، لأن قول الإمام الذي هو الحجة في جملة أقوالها ، فكأن الإمام قائله ومتفردا به ، ومعلوم أن قول الامام ـ وهو غير مميز العين ولا معروف الشخص ـ في جملة أقوال الإمامية ، لأنا إذا كنا نقطع على وجود الإمام في زمان الغيبة بين أظهرنا ولا نرتاب بذلك ، ونقطع أيضا على أن الحق في الأصول كلها مع الإمامية دون مخالفيها ، وكان الإمام لا بد أن يكون محقا في جميع الأصول.

وجب أن يكون الامام على مذاهب الإمامية في جميعها على مذهب من المذاهب في فروع الشريعة ، فلا بد أن يكون الامام وهو سيد الإمامية وأعلمها وأفضلها في جملة هذا الإجماع.

فكما لا يجوز فيما أجمعت عليه الإمامية أن يكون بعض علماء الإمامية غير قائل به ولا ذاهب اليه ، فكذلك لا يجوز مثله في الإمام.

[كيفية تحصيل إجماع الأمة]

فإن قيل : هذا حجد (١) عظيم منكم ، يقتضي انكم قد عرفتم كل محق في

__________________

(١) خ ل جهد.

٢٠٥

بر وبحر وسهل وجبل حتى ميّزتم أقوالهم ومذهبهم ، اما بأن لقيتموهم ، أو بأن تواترت عنه (١) إليكم الاخبار بمذاهب ، ومعلوم بعد هذه الدعوى عن الصحة.

قلنا : قد أجبنا عن هذه المسألة بما فرغناه واستوفيناه ، وجعلناه كالشمس الطالعة في الوضوح والجلاء في مسائل سألنا عنها أبو عبد الله محمد بن عبد الملك البتان (رحمه‌الله) مقصور على أخبار الآحاد وطريق العلم بالآحاد ، أجهد فيها نفسه وتعب بها عمره ، وما قصر فيما أورده من الشبهة.

فالجواب عن هذه المسائل موجود في يد الأصحاب (أيدهم الله) وهو يقارب مائة ورقة.

وإذا اطلع عليه عرف منه الطريق الصحيح الى العلم بأحكام الشريعة على مذاهب أصحابنا ، مع نفيهم القياس والعمل بأخبار الآحاد ، ووجد في جواب هذه المسائل من تقرير المذهب وتاليه ، والجمع بين أصوله وفروعه ما لا يوجد في شيء من الكتب المصنفة.

ثم لا نخلو السؤال الذي ذكره من جواب على كل حال ، فنقول : هذه الطريقة المذكورة في السؤال هي طريقة من نفى إجماع الأمة ، وادعى أنه لا سبيل الى العلم بإجماعها على قول من الأقوال ، مع تباعد الديار وتفرق الأوطان وفقد المعرفة بكل واحد منهم على التعيين والتمييز.

وقد علمنا مع طول المجالسة والمخالطة وامتداد العصر واستمرار الزمان تقدر مذاهب المسلمين وحصر أقاويلهم ، وفرقنا بين ما يختلفون فيه ويجتمعون عليه ، ومن شكّكنا في ذلك كمن شكّكنا في البلدان والأمصار والاحداث العظيمة التي يقع بها العلم ويزول الريب فيها بالأخبار المتواترة.

__________________

(١) ظ : عنهم.

٢٠٦

وأي عاقل يشك في أن جميع المسلمين في بر وبحر وسهل وجبل وقرب وبعد لا يذهبون الى تحريم الزنا والخمر ، وان أحدا منهم لم يذهب في الجد والأخ إذا تفردا بالميراث الى أن المال للأخ دون الجد ، وأنهم لا يختلفون الان وان كان في هذه المسألة خلاف قديم بين الأنصار ، في أن التقاء الختانين لا يوجب الغسل.

ولو شككنا في هذا مشكك فقال : في فقهاء الأمة وعلمائها من يذهب الى مذهب الأنصار ، ان الماء من الماء. لعنفناه ونكبناه ، وان كنا لا نعرف فقهاء الأمة وعلماءها في الأمصار على التعيين والتمييز.

وكما ان مذاهب الأمة بأجمعها محصورة معلومة ، فكذلك مذاهب كل فرقة من فقهائها وطائفة علمائها ، فان مذاهب أبي حنيفة محصورة بالروايات المختلفة عنه مضبوطة ، وكذلك مذاهب الشافعي ، وان كانت له أقوال مختلفة في بعض المسائل ، فقد فرق أصحابه والعارفون بمذهبه بين المذهب الذي له فيه أقوال وبين ما ليس له فيه الّا قول واحد.

فلو أن قائلا قال لنا : إذا كنتم لا تعرفون أصحاب أبي حنيفة في البر والبحر والسهل والجبل والحزن والوعر ، فلعل فيهم من يذهب الى ما يخالف من اجتمع ممن تعرفون علمه ، وكذلك لو قال في مذاهب الشافعي ، لكنا لا نلتفت الى قوله ، ونقول :

قد علمنا ضرورة خلاف ما تذكرونه ، وقطعنا على أن أحدا من علماء أصحاب أبي حنيفة أو أصحاب الشافعي لا يذهب قريبا كان أو بعيدا ، الى خلاف ما عرفناه ووقع الإطباق عليه من هذه المذاهب ، وأن التشكيك في ذلك كالتشكيك في سائر الأمور المعلومة.

وإذا استقرت هذه الجملة وكان مذهب الإمامية أشد انحصارا وانضباطا

٢٠٧

من مذهب جميع الأمة ، وكنا نعلم أن الأمة مع كثرة عددها وانتشارها في أقطار الأرض قد أجمعت على شيء بعينه نأمن أن يكون لها قول سواه فأحرى أن يصح في الإمامية ـ وهي جزء من كلها وفرقة من فرقها ـ أن نعلم مذاهبهم على سبيل الاستقرار والتعيين ، وإجماعهم على ما أجمعوا عليه ، حتى يزول عنا الريب في ذلك والشك فيه ، كما زال فيما هو أكثر منه.

وإذا كان الإمام في زمان الغيبة موجودا بينهم وغير مفقود من جملتهم ، فهو واحد من جماعتهم ، وإذا علمنا بالسر والمخالطة وطول المباحثة أن كل عالم من علماء الإمامية قد أجمع على مذهب بعينه ، فالإمام وهو واحد من العلماء ، داخل في ذلك وغير خارج عنه.

وليس يخل بمعرفة مذهبه عدم معرفته بعينه ، لأنا لا نعرف كل عالم من علماء الإمامية وفقيه من فقهائها في البلاد المتفرقة ، وان علمنا على سبيل الجملة إجماع كل عالم عرفناه أو لم نعرفه على مذهب بعينه ، فالإمام في هذا الباب كمن لا نعرفه من علماء الإمامية.

وإذا لم يعرض لنا شك في مذهب من لا نعرفه من الإمامية ، لم يجز أن يعرض أيضا لنا الشك في قول الامام أنه من جملة أقوال الإمامية ، وان كنا لا نميز شخصه ولا نعرف عينه.

واعلم أن الطريق المعتمد المحدد إلى صحة مذاهبنا في فروع الاحكام الشريعة (١) هو هذا الذي بيناه وأوضحناه ، سواء كانت المسائل مما تنفرد به الإمامية بها ، أو مما يوافقها فيها بعض خصومها.

__________________

(١) ظ : الشرعية.

٢٠٨

[حجية ظواهر الكتاب والسنة في إثبات الأحكام الشرعية]

وربما اتفق في بعض المسائل غير هذه الطريقة ، وهي : أن يكون عليها دليل من ظاهر كتاب الله ، أو من سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مقطوع بها معلوم صحتها.

وربما اتفق في بعض الاحكام أن يكون معلومة من مذاهب أئمتنا المتقدمين للإمام الغائب الذين ظهروا وعرفوا وسئلوا وأجابوا وعلموا الاحكام.

فقد علمنا ضرورة من مذاهب أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليه‌السلام تحريم كل شراب مسكر ، ومسح الرجلين ، وتحريم المسح على الخفين ، وأن تكبيرات الصلاة على الميت خمس ، وأن الطلاق الثلاث بلفظ واحد لا يقع ، وما جرى مجرى هذه المسائل من الأمور التي ظهرت عنهم واشتهرت.

وإذا علمت (١) مذهبهم وكانوا عندنا حجة معصومين ، كفى ذلك في وقوع العلم بها والقطع على صحتها ، ولا اعتبار بمن خالفنا في العمل بشيء مما عددناه عنهم ، ووقع أن يكون مشاركا في المعرفة بذلك ، لان المخالف في هذا : اما أن يكون معاندا ، أو مكابرا ، أو يكون ممن لم تكثر خلطته لنا ، أو تصفحه لاخبارنا أو سماعه من رجالنا. لان العلم الضروري ربما وقف على أسباب من مخالطة ، أو مجالسة ، أو سمع أخبار مخصوصة.

وعلى هذا لا ينكر أن يكون من لم تتفق خلطته بأصحاب أبي حنيفة ، وسماع أخبارهم عن صاحبهم ، لا يعلمون من مذاهب أبي حنيفة ما يعلم أصحابه ضرورة.

__________________

(١) ظ : علم.

٢٠٩

[حكم المسألة الشرعية التي لا دليل عليها من الكتاب والسنة]

فان قيل : فما تقولون في مسألة شرعية اختلف فيها قول الإمامية ، ولم يكن عليها دليل من كتاب أو سنة مقطوع بها؟ كيف الطريق إلى الحق فيها؟

قلنا : هذا الذي فرضتموه قد أمنا وقوعه ، لأنا قد علمنا أن الله تعالى لا يخلي المكلف من حجة وطريق الى العلم بما كلف ، وهذه الحادثة التي ذكرناها (١) وان كان لله تعالى فيها حكم شرعي ، واختلفت الإمامية في وقتنا هذا فيها ، فلم يمكن الاعتماد على إجماعهم الذي نتيقن (٢) بأن الحجة فيه لأجل وجود الإمام في جملتهم ، فلا بد من أن يكون على هذه المسألة دليل قاطع من كتاب أو سنة مقطوع بها ، حتى لا يفوت المكلف طريق العلم الذي يصل به الى تكليفه.

اللهم الّا ان يقال : ان نفرض وجود حادثة ليس للإمامية فيها قول على سبيل اتفاق أو اختلاف ، فقد يجوز عندنا في مثل ذلك ان اتفق أن لا يكون لله تعالى فيها حكم شرعي، فإذا لم نجد في الأدلة الموجبة للعلم طريقا الى علم حكم هذه الحادثة ، كنا فيها على ما يوجب العقل وحكمه.

[عدم حجية جل الأخبار المنقولة من طريق أصحاب الحديث]

فان قيل : أليس شيوخ هذه الطائفة قد عولوا في كتبهم في الأحكام الشرعية على الاخبار التي رووها عن ثقاتهم ، وجعلوها العمدة والحجة في هذه الاحكام ، حتى رووا عن أئمتهم عليهم‌السلام فيما يجيء مختلفا من الاخبار عند عدم الترجيح كله ، أن يؤخذ منه ما هو أبعد من قول العامة. وهذا نقيض ما قدمتموه.

__________________

(١) ظ : ذكرتموها.

(٢) خ ل : نثق.

٢١٠

قلنا : ليس ينبغي أن ترجع عن الأمور المعلومة والمذاهب المشهورة المقطوع عليها ، بما هو مشتبه ملتبس محتمل. وقد علم كل موافق ومخالف الشيعة الإمامية تبطل القياس في الشريعة من حيث لا يؤدي الى علم ، فكذلك تقول في أخبار الآحاد.

حتى أن منهم من يزيد على ذلك فيقول : ما كان يجوز من طريق العقل أن يتعبد الله تعالى في الشريعة بالقياس ولا العمل بأخبار الآحاد.

ومن كان هذا مذهبه كيف يجوز أن يثبت الأحكام الشرعية عنه بأخبار لا يقطع على صحتها؟ ويجوز كذب راويها كما يجوز صدقه. وهل هذا الأمن أقبح المناقضة وأفحشها؟

فالعلماء الذين عليهم المعول (١) ويدرون ما يأتون وما يذرون لا يجوزون (٢) أن يحتجوا بخبر واحد لا يوجب علما ، ولا يقدر أحد أن يحكي عنهم في كتابه ولا غيره خلاف ما ذكرناه.

فأما أصحاب الحديث فإنهم رووا ما سمعوا وحدثوا به ونقلوا عن أسلافهم ، وليس عليهم أن يكون حجة ودليلا في الأحكام الشرعية ، أو لا يكون كذلك. فان كان في أصحاب الحديث من يحتج في حكم شرعي بحديث غير مقطوع على صحته ، فقد زل وزور، وما يفعل ذلك من يعرف أصول أصحابنا في نفي القياس والعمل بأخبار الآحاد حق معرفتها ، بل لا يقع مثل ذلك من عاقل وربما كان غير مكلف.

ألا ترى أن هؤلاء بأعيانهم قد يحتجون في أصول الدين من التوحيد والعدل والنبوة والإمامة بأخبار الآحاد ، ومعلوم عند كل عاقل أنها ليست بحجة في ذلك.

__________________

(١) خ ل : المنقول.

(٢) خ ل : ولا يجوز.

٢١١

وربما ذهب بعضهم الى الجبر والى التشبيه ، اغترارا بأخبار الآحاد المروية ، ومن أشرنا إليه بهذه الغفلة يحتج بالخبر الذي ما رواه ولا حدث به ولا سمعه من ناقله فيعرفه بعدالة أو غيرها ، حتى لو قيل له في بعض الاحكام : من أين أثبته وذهبت اليه؟ كان جوابه : لأني وجدته في الكتاب الفلاني ، ومنسوبا إلى رواية فلان بن فلان. ومعلوم عند كل من نفي العلم بأخبار الآحاد ومن أثبتها وعمل بها ، أن هذا ليس بشيء يعتمد ولا طريق يقصد ، وانما هو غرور وزور.

فأما الرواية بأن يعمل بالحديثين المتعارضين بأبعدهما من مذهب العامة ، فهذا لعمري دوري ، فإذا كنا لم نعمل بأخبار الآحاد في الفروع ، كيف نعمل بها في الأصول التي لا خلاف بيننا في أن طريقها العلم والقطع ، وإذ قدمنا ما احتجنا الى تقديمه ، فهو الذي نعتمد عليه في جميع المسائل الشرعية.

فنحن نتصفح المسائل التي سطرت وذكرت ، ونبين ما عندنا فيها ، فأما النصرة لها والدلالة على صحتها ، فهي الجملة التي قدمناها ، والطريقة التي أوضحناها ، فان اتفق زيادة على ذلك أن يكون طريق آخر للعلم ، نبهنا عليه وأرشدنا اليه بعون الله ومشيته.

واعلم أن هذه المسائل التي ذكر انفراد الإمامية بها ، ستوجد مشروحة منصورة بالدلالة والطرق في كتاب المسائل الخلاف الشرعية التي عملنا منها بعضها ، ونحن على تتميمها وتكميلها بمعونة الله.

فان هذه المسائل ما اعتمدنا في نصرتها الاقتصار على الأدلة الدالة على صحيح منها ، بل أضفنا الى ذلك مناظرة الخصوم على تسليم أصولها ومناقضتهم ، بأن بينا القياس لو كان صحيحا ، وأخبار الآحاد لو كانت معمولا عليها على ما يذهبون اليه ، لكانت مذاهبنا في الشرعيات كلها أولى من مذاهبهم وأشبه بهذه الأصول التي عليها يعولون ، وركبنا في ذلك مركبا غريبا يمكن معه مناظرة الفقهاء على اختلافهم

٢١٢

في جميع مسائل الفقه.

ومن نظر فيما خرج الى الان من هذا الكتاب ، علم أن المنفعة به عظيمة والطريقة فيه غريبة ، ومن الله استمد المعرفة والتوفيق في كل قول وفعل.

المسألة الأولى

[حكم غسل اليدين في الوضوء]

غسل اليدين من المرفقين إلى أطراف الأصابع غير مستقبل للشعر ، واستقباله لا ينقض الوضوء.

وأعلم أن الابتداء بالمرفقين في غسل اليدين هو المسنون ، وخلاف ذلك مكروه ، ولا نقول انه ينقض الوضوء ، حتى لو أن فاعلا فعله لكان لا يجزي به. ولا يقدر أحد أن يحكم من أصحابنا المحصلين تصريحا بأن من خالف ذلك فلا وضوء له ، وجميع ما ورد في الاخبار من تغليظ ذلك والتشديد فيه.

وربما قيل : «لا يجوز» محمول على شدة الكراهة دون الوجوب واللزوم.

وقد يقال في مخالفة المسنون المغلظ في هذه الألفاظ ما يزيد على ذلك ، ولا يدل على الوجوب.

والذي يدل على صحة مذهبنا في هذه المسألة أن جميع الفقهاء يخالفونا في أنه مسنون ، وأن خلافه مكروه ، وإجماع الإمامية الذي بينا أنه حجة لدخول قول المعصوم فيه.

فان قيل : قد خالفتم ظاهر القرآن ، لانه قال (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ)(١) غاية ، وأنتم قد جعلتم

__________________

(١) سورة المائدة : ٦.

٢١٣

المرافق ابتداء.

قلنا : أما لفظة «الى» فقد تكون في اللغة العربية بمعنى الغاية وبمعنى «مع» ، قال الله تعالى (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ)(١) أراد مع أموالكم ، وقال تعالى حكاية عن عيسى عليه‌السلام (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ)(٢) أراد مع الله ، ويقولون : ولي فلان الكوفة إلى البصرة ، ولا يريدون غاية بل يردون ولي هذا البلد مع هذا البلد.

وقال النابغة الذبياني :

ولا تتركني بالوعيد كأنني الى

الناس مطلي به القار أجرب

أراد مع الناس أو عندهم. وقال ذو الرمة :

بها كل خوار الى كل صولة

ورفعي المدى عار الترائب

أراد مع كل صولة ، وقال امرؤ القيس :

له كفل كالدعص لبده الندى

الى خارك مثل الرياح المنصب

أراد مع خارك.

فان قيل : فهذا يدل على احتمال لفظة «الى» بمعنى الغاية وغيرها ، فمن أين أنها في الآية لغير معنى الغاية.

قلنا : يكفي في إسقاط استدلالكم بالاية المحتملة لما قلناه ولما قلتموه ، فهي دليلنا ودليلكم. وبعد فلو كانت لفظة «الى» في الآية محمولة على الغاية ، لوجب أن يكون من لم يبتدأ بالأصابع ونيته الى المرافق عاصيا مخالفا للأمر ، وأجمع المسلمون على خلاف ذلك.

وإذا حملنا لفظة «الى» على معنى «مع» صار تقدير الكلام : فاغسلوا أيديكم مع المرافق ، وهذا هو الصحيح الذي لا يدفعه إجماع ولا حجة ، كما قلنا فيمن حمل ذلك على الغاية.

__________________

(١) سورة النساء : ٢.

(٢) سورة آل عمران : ٥٢.

٢١٤

المسألة الثانية

[حكم مسح مقدم الرأس]

مسح مقدم الرأس غير مستقبل الشعر. واعلم أن هذه الكيفية أيضا في مسح الرأس مسنونة ، ويكره تركها ومخالفتها ، وان كان من خالفها بأن استقبل الشعر تاركا للفضل ومخالفا للسنة ، الا أن فعله يجيز أن يبيح بمثله الصلاة.

والحجة في ذلك : ما تقدم من إجماع الإمامية عليه. ويمكن أن يحتج فيه من طريق الاحتياط ، بان من لم يستقبل الشعر في مسح الرأس ، لا خلاف بين الأمة في أنه لم يعص ولم يبدع. ومن استقبل الشعر اختلف فيه ، ومن الناس من يبدعه ويخطيه ، ومنهم من يصوبه، فالاحتياط والاستظهار ترك الاستقبال ، ففيه الأمان من التبديع والتخطئة. ويمكن أن تستعمل هذه الطريقة المبنية على الاحتياط في المسألة الأولى.

فإن قيل : هذه الطريقة التي سلكتموها في اعتبار الاحتياط توجب عليكم القول أن مسح جميع الرأس أولى وأحوط ، لان من مسح بعض رأسه يذهب قوم من أهل العلم إلى أنه ما أدى الفرض ، وإذا مسح الجميع فبالإجماع يكون مؤديا للفرض. وكذلك إذا قيل في من غسل رجليه : انه قد فعل ما يأتي من المسح والغسل فهو مؤد للفرض باتفاق ، وليس كذلك من مسح الرجلين.

قلنا : الأمر بخلاف ما ظن ، لان مذهبنا أن من مسح جميع رأسه معتقدا أداء الفرض، فهو مبدع مخطئ ، ولا إجماع في من مسح جميع رأسه أنه سليم من التخطئة والتبديع. ومن غسل رجليه عندنا فما مسحهما ، ولا يجوز له أن تستبيح الصلاة بغسل رجليه ، لان الغسل والمسح يتنافيان ، ولا يدخل أحدهما في صاحبه على ما ظنه قوم.

٢١٥

المسألة الثالثة

[حكم مسح الأذنين وغسلهما]

مسح الأذنين ، فذهب إليه (١) الشيعة الإمامية أن مسح الأذنين وغسلهما غير واجب ولا مسنون على كل وجه لا مع الرأس ولا مع الوجه.

واتفق جميع من خالف من الفقهاء على أن مسحهما مسنون غير واجب ، الا ما يروون عن إسحاق بن راهويه ، فإنه يحكى عنه إيجاب المسح عليهما ، وهذا قول شاذ قد تقدم الإجماع وتأخر عنه.

ثم اختلف القائلون بأن مسحهما مسنون : فقال أبو حنيفة وأصحابه : الأذنان من الرأس ، تمسح مقدمهما ومؤخرهما مع الرأس بالماء الذي يمسح به الرأس ومثله الأوزاعي. وقال مالك وأحمد بن حنبل يمسحان بماء جديد ، وحكي مثله عن أبي ثور. وقال الزهري : هما من الوجه يغسل باطنهما وظاهرهما معا ، وحكي عن الشعبي والحسن بن حي أن ما أقبل منهما من الوجه يغسل معه ، وما أدبر من الرأس يمسح معه.

والحجة على ما ذهبنا إليه : إجماع الفرقة الذي تقدم ذكره ، ومن طريق الاحتياط أن من ترك مسح أذنيه فليس بمبدع ولا عاص. وليس كذلك من مسحهما ، فالاحتياط العدول عن مسحهما أو غسلهما.

__________________

(١) الظاهر زيادة كلمة «اليه» وان تكون العبارة كذا : فذهب الشيعة الإمامية الى ان مسح إلخ.

٢١٦

المسألة الرابعة

[إسباغ الوضوء مرتين]

إسباغ الوضوء مرتين ، ولا يجوز ثلاثة ، ويجتزئ الدفعة.

والحجة في ذلك : طريقة الإجماع وقد تقدمت ، وطريقة الاحتياط وقد مضت ، لان من اقتصر في الوضوء على مرتين فبالإجماع أنه فاعل للسنة وغير مبدع ولا مخطئ ، وليس كذلك من فعل الثلاثة.

المسألة الخامسة

[أكثر أيام النفاس]

أكثر النفاس ثمانية عشر يوما ، وهذه المسألة مما تكلمنا عليه في مسائل الخلاف الواردة قبل هذه ، فأشرنا الى العمدة المعتمدة فيه.

والدليل على صحة قولنا في أكثر النفاس : هو إجماع الفرقة المحقة ، وأيضا فإن المرأة داخلة في عموم الأمر بالصلاة والصوم ، وانما نخرجها في الأيام التي حددناها من عموم الأمر بالإجماع ، ولا إجماع ولا دليل فيما زاد على ما حددناه من الأيام ، فيجب أن تكون داخلة في عموم الأمر.

المسألة السادسة

[حكم قراءة القرآن للجنب والحائض]

للجنب والحائض ان يقرءا من القرآن أي سورة شاءا سبع آيات ، سوى الأربع العزائم السجدات وهي : سجدة لقمان ، وسجدة حم ، وسورة النجم ،

٢١٧

وسورة القلم. ويجب السجود عندهم على قارئها على كل حال.

واعلم أن المذهب الصحيح ان للجنب والحائض أن يقرءا من القرآن ما شاءا ، سوى السجدات الأربع ، من غير تعيين على سبع آيات أو أكثر منها أو أقل.

والحجة في ذلك : إجماع الطائفة ، ويمكن ان يحتج بظاهر قوله تعالى (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ)(١) وقوله تعالى (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ)(٢) وقوله تعالى (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ)(٣) وهذا عموم يتناول جميع القرآن الا ما أخرجه الدليل ، وعزائم السجود خرجت بدليل قاطع ، فوجب بقاء ما عداها.

الفصل السابع (٤)

[مسائل تتعلق بالأموات]

فيه ست مسائل : توجيه الميت عند غسله نحو القبلة ملقى على ظهره ، وأن الحنوط الكافور خاصة لا يجزئ غيره ، ولا يجزئ منه مع الإمكان أقل من مثقال ، ووضع الجريدتين مع الميت في كفنه ، وتركه هنيئة قبل حطه وإنزاله القبر ليأخذ أهبة المساءلة ، وتلقينه الشهادة والرسالة والإمامة في قبره قبل وضع اللبن عليه.

واعلم أن هذه المسائل انما هي آداب وسنن مستحبة ، وليست بفرض واجب ، والطريق إلى أنها مستحبة مسنونة هو الإجماع الذي تقدم ذكره.

__________________

(١) سورة المزمل : ٢٠.

(٢) نفس الآية.

(٣) الآية الاولى من سورة العلق.

(٤) وفي الهامش خ ل : المسألة السابعة.

٢١٨

المسألة الثالثة عشر

[وجوب «حي على خير العمل» في الأذان]

استعمال «حي على خير العمل» في الأذان ، وأن تركه كترك شيء من ألفاظ الأذان.

والحجة أيضا اتفاق الطائفة المحقة عليه ، حتى صار لها شعارا لا يدفع وعلما ويجحد.

المسألة الرابعة عشر

[إرسال اليدين في الصلاة واجب]

ان إرسال اليدين في الصلاة واجب ، وكتفهما مفسد لها.

والحجة في ذلك : الإجماع المكرر ذكره ، ثم طريق الاحتياط ، لان من لم يضع احدى يديه على الأخرى لا خلاف في أنه غير عاص ولا مبتدع ولا قاطع للصلاة ، وانما الخلاف في من وضعها. فالأولى والأحوط إرسال اليدين.

المسألة الخامسة عشر

[قول «آمين» مبطل للصلاة]

قول «آمين» في الصلاة يقطعها. والحجة أيضا على مذهبنا من ذلك الإجماع المتقدم في طريقة الاحتياط ، وهي واضحة ، لان من لم يتلفظ بهذه

٢١٩

اللفظة لا خلاف في أنه غير مبتدع ولا قاطع لصلاة ، وانما الخلاف في من تلفظ بها.

المسألة السادسة عشر

[عدم جواز القرآن بين السورتين في الصلاة]

لا يجوز في الفرائض قراءة سورتين ولا بعض سورة بعد فاتحة الكتاب.

وهذه المسألة أيضا فيها إجماع الفرقة المحقة ، وإطباقهم على أن خلافه لا يجوز.

المسألة السابعة عشر

[حكم ما يسجد عليه]

ان السجود لا يجوز الّا على الأرض ، وما أنبتت من الأرض سوى الثمار. ولا يجوز السجود على ثوب منسوج ، الّا عند الضرورة وان كان أصله النبات.

والحجة في ذلك : هذا الإجماع الذي أشرنا إليه ، ثم طريقة الاحتياط ، لان من سجد على الأرض أو ما أنبتته مما ليس بثمرة ، كان مؤديا للفرض وتجزي الصلاة غير عاص ولا مخالف. وليس كذلك من سجد على ما يخالف ما ذكرناه فالأحوط فعل ما لا خلاف فيه.

٢٢٠