رسائل الشريف المرتضى - ج ١

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]

رسائل الشريف المرتضى - ج ١

المؤلف:

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار القرآن الكريم
المطبعة: مطبعة الخيام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٥٧

ألا ترى أن شرب قليل الخمر محرم وان لم يكن مسكرا.

وليس يجوز الشك في تحريم الفقاع الّا مع الشك في صحة إجماع الإمامية ، ومعلوم صحة إجماع الإمامية فما يبتنى عليه ويتفرع تجب صحته.

ومن يستحل شرب الفقاع عندهم جار عندهم مجرى مستحل المسكر التمري والخمر.

١٦١

المسألة العاشرة

[حكم عبادة الكافر]

وسأل (أحسن الله توفيقه) عن صلاة الكافر وحجه وصومه ، هل تكون معصية أو طاعة؟ وهل تقع منه حسنة أو قبيحة؟ وبيان الصحيح من ذلك على مذاهب أئمتنا عليهم‌السلام.

الجواب :

وبالله التوفيق.

ان الكافر لا يقع في حال كفره شيء من الطاعات ، لأن الطاعة يستحق بها المدح والثواب ، ومعلوم ان الكافر في كفره لا يستحق مدحا ولا ثوابا ، ولا يحسن مدحه على وجه من الوجوه.

وانما يقول بجواز وقوع الطاعات من الكفار من يقول بالتحابط بين الثواب والعقاب ويزعم أن ثواب التحابط. ودللنا على ان الصحيح خلافه ، فلا يدفع نفي التحابط من القول بأن الطاعة لا تقع من الكافر في حال كفره.

١٦٢

فان قيل : هذا دفع للعيان ، لأنا نرى اليهود والنصارى لتقربون (١) الى الله تعالى بكثير من العبادات ويتصدقون لوجه الله عزوجل ، ويفعلون في كثير من أبواب البر مثل ما يفعله المؤمن ، ولو لم يكن في ذلك الا أنهم عارفون بالله عزوجل وبنبوة أنبيائه.

قلنا : ليس فيما تنكروه (٢) من وقوع الطاعات من الكفار دفع للعيان ، وأنى عيان يدخل في كون الطاعة طاعة. والوجه الذي يقع عليه الطاعة فيكون طاعة ، مستور عن الخلق لا يعلمه الا علّام الغيوب جلّت عظمته ، وأكثر ما يمكن ان يدعى وقوع ما أظهره الطاعة من الكفار ، فأما القطع على أن ذلك طاعة وقربة على الحقيقة فلا طريق اليه.

وإذا دل الدليل الذي تقدم ذكره على أن الطاعات لا يقع منهم ، قطعنا على أن ما ظاهره الطاعة ليس بطاعة على الحقيقة ، لأن الطاعة تفتقر الى قصود ووجوه لا يطلع العباد عليها.

فأما معرفة الكفار بالله تعالى وبأنبيائه ، فالقول فيها كالقول في الطاعات ، والصحيح أنهم غير عارفين ، وكيف يكونون عارفين؟ والمعرفة بالله تعالى ورسله عليهم‌السلام مستحق عليها أجزل الثواب والمدح والتعظيم ، والكافر لا يستحق شيئا من ذلك.

ولا معول على قول من يقول : فقد نظروا في الأدلة التي تولد المعرفة المفضية إلى العلم، فكيف لا يكونون عارفين والنظر في الأدلة يولد المعرفة؟

وذلك أنا أولا لا نعلم أنهم نظروا في الأدلة ، لأن ذلك مما لا نعلم ضرورة ، ثم إذا علمناه فلا نعلم أنهم نظروا فيها من الوجه الذي يفضي الى العلم ، ثم

__________________

(١) ظ : ليتقربون.

(٢) ظ : ننكره.

١٦٣

إذا علمنا ذلك لم نعلم تكامل باقي الشروط في تولد العلم لهم ، ولا انتفاء ما إذا عرض منع من حصول العلم عنهم ، وإذا كان ذلك كله غير معلوم فهو على التجويز والشك.

وإذا قطع الدليل على الذي ذكرناه على أنّهم لا يستحقون ثوابا ، منعنا قاطعين من أن تقع منهم طاعة ، أو معرفة بالله جل وعز.

١٦٤

المسألة الحادية عشر

[عدد أصول الدين]

وسأل (أدام الله تسديده) عن عدد أصول الدين ، وكيف القول فيه؟

الجواب :

وبالله التوفيق.

أن الذي سطره المتكلمون في عدد أصول الدين أنها خمسة : التوحيد ، والعدل ، والوعد والوعيد ، والمنزلة بين المنزلتين ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولم يذكروا النبوة.

فإذا قيل : كيف أخللتم بها؟

قالوا : هي داخلة في أبواب العلم (١) من حيث كانت لطفا ، كدخول الألطاف والاعواض وما يجري مجرى ذلك.

فقيل لهم : فالوعد والوعيد والمنزلة بين المنزلتين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أيضا من باب الألطاف ، ويدخل في باب العدل كدخول النبوة ، ثم ذكرتم هذه الأصول مفصلة ، ولم تكتفوا بدخولها في جملة أبواب العدل

__________________

(١) ظ : العدل.

١٦٥

مجملة ، وحيث فصلتم المجمل ولم تكتفوا بالإجمال فألا فعلتم ذلك بالنبوة؟

وهذا سؤال رابع ، وبها اقتصر بعض المتأخرين على أن أصول الدين اثنان التوحيد والعدل ، وجعل باقي الأصول المذكورة داخلا في أبواب العدل.

فمن أراد الإجمال اقتصر على أصلين التوحيد والعدل ، فالنبوة والإمامة التي هي واجبة عندنا ومن كبار الأصول ، وهما داخلتان في أبواب العدل.

ومن أراد التفصيل والشرح وجب أن يضيف الى ما ذكروه من الأصول الخمسة أصلين : النبوة ، والإمامة. والا ما كان مخلا ببعض الأصول ، وهذا بين لمن تأمله.

قد أجبنا عن المسائل بكمالها ، واعتمدنا على الاختصار والاقتصار والإشارة ، دون البسط في العبارة ، وان كان كل مسألة من هذه المسائل في بسط القول فيه والتفريع ، زاد على قدر حجم جوابنا عن جميع المسائل ، لكن ضيق الوقت وإعجال الجواب اقتضيا ما اعتمدناه من الإجمال دون التفصيل ، وان كنا ما اخللنا بمحتاج اليه.

والله ولي التوفيق والتسديد لما يرضيه من قول وعمل ، وهو حسبنا ونعم الوكيل ، وصلاته على خير خلقه سيدنا محمد النبي وآله الطاهرين وسلامه.

١٦٦

(٤)

جوابات المسائل الموصليّات الثّانية

١٦٧
١٦٨

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قد أجبت ـ أدام الله لكم السلامة ، وأسبغ عليكم الكرامة ، وجعلكم ابدا من أنصار الحق وتابعيه ، وخذل الباطل ومجانبيه ـ عن المسائل التي أتي إلى ، جوابا اختصرت من غير إخلال بما يجب إيضاحه وبيانه ، ما أشكل أيدكم الله بالإرشاد من هذه المسائل إلا المشكل. ولا بعثكم على السؤال عنها والاستيضاح لها إلا جودة النظر ودقة الفكر.

ومن الله استمد المعونة والتوفيق في الأقوال والافعال ، وأستعينه على سائر الأحوال.

المسألة الأولى

[حكم المذي والوذي]

ذكر في المسائل الفقهية التي تفردت بها الشيعة الإمامية : أن المذي والودي ليسا بناقضتين للطهارة ، وما بين العلم وتعيينهما.

١٦٩

الجواب :

أن المذي بفتح الميم وتسكين الذال ، ويقال منه : مذي الرجل فهو يمذي بغير ألف ، فهو الشيء الخارج من ذكر الرجل عند القبلة أو الملامسة والنظر بالشهوة الشديدة ، الجاري مجرى البصاق الرقيق القوام. ويكثر في الشباب ، وذوي الصحة.

فهو غير ناقض للوضوء ، وغير نجس أيضا ، ولا يجب منه غسل ثوب ولا بدن.

فأما الودي بفتح الواو وتسكين الدال ، ويجري في غلظ قوامه مجرى البلغم. ويكثر في الشيوخ ، وذوي الرطوبات الغالبة. ويقل أو يعدم في الشباب.

وطريقتنا إلى صحة ذلك والحجة على الحقيقة فيه : إجماع الشيعة الإمامية عليه ، وفي إجماعها الحجة.

ولا اختلاف بين الإمامية أن المذي والودي لا ينقضان الوضوء. والاخبار متظافرة عن ساداتنا وأئمتنا عليهم‌السلام بذلك ، وكتب الشيعة بها مشحونة ، وهي أكثر من أن تحصى أو تستقصى ، لأنهم قد نصوا فيما ورد عنهم من علي عليه‌السلام : ان المذي والودي لا ينقضان الوضوء (١). على سبيل التعيين والتفصيل.

وفي أخبار أخر نصوا وعينوا نواقض الوضوء : فذكروا أشياء مخصوصة ، ليس المذي والودي من جملتها.

وقد نصرنا هذا المذهب فيما أمليناه من مسائل الخلاف في الأحكام الشرعية ، وذكرنا الحجج الواضحة في صحته ، وأبطلنا شبه المخالفين ، بعد أن حكيناها واستوفينا الكلام عليها ، وبينا أن خروج ما يخرج من السبيل على وجه غير

__________________

(١) وسائل الشيعة : ١ / ١٩٥ روايات تدل على ذلك.

١٧٠

معتاد والاخبار (١) مجراه لا ينقض الوضوء.

وجعلنا الأصل في هذا الاستدلال الريح الخارجة من الذكر ، وأنها لا تنقض الوضوء إجماعا ، لأن خروجها من القبل غير معتاد. ولو خرجت من الدبر لنقضت الوضوء بلا شك من حيث كان معتادا.

وخروج المذي والودي غير معتاد ، لانه على سبيل المرض وغلبة الأخلاط والأمر في الودي واضح وأسهل ، لأنه تابع لزيادة الرطوبات.

وهذا كله قد بيناه في الموضع الذي أشرنا إليه ، فمن أراد الاستقصاء فليأخذ من موضعه.

__________________

(١) ظ : وما يجري.

١٧١

المسألة الثانية

[أكثر النفاس وأقله]

ذكر أكثر النفاس ثمانية عشر يوما ، وهو في شرح الفقه عشرون يوما ، ولم يذكر أقله.

الجواب :

وبالله التوفيق.

أن المعتمد عليه في أكثر النفاس هو ثمانية عشر يوما ، وأما أقل النفاس فهو انقطاعه، أو لحظة.

وجاءت الأخبار المتظافرة عن الصادق عليه‌السلام بأن الحد في نفاس المرأة أكثر أيام حيضها ، وتستظهر في ذلك بيوم واثنين (١). وأكثر ما يبعد النفاس ثمانية عشر يوما.

وجاءت الآثار متظافرة عن ساداتنا عليهم‌السلام بأن أسماء بنت عميس نفست بمحمد بن أبي بكر ، فأمرها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حين أرادت الإحرام بذي

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢ / ٦١٢.

١٧٢

الحليفة أن تحتشي بالكرسف وتهل بالحج ، فلما أتت لها ثمانية عشر يوما أمرها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن تطوف بالبيت وتصلي ولم ينقطع عنها الدم ففعلت ذلك (١).

وهذا أيضا قد استقصينا الكلام في مسائل الخلاف. فإن أبا حنيفة وأصحابه والثوري والليث يذهبون الى أن أكثر النفاس أربعون يوما ، والشافعي وعبيد الله بن الحسن العسكري ومالك في قوله الأول : ان أكثر النفاس ستون يوما ، وحكي عن البصري أنه قال : ان أكثره خمسون يوما (٢).

والكلام على هذه المذاهب وما يحتج به لها أو عليها قد استوفيناه في مسائل الخلا ، وانتهينا فيه الى أبعد الغايات.

وما بين من طريق الاستدلال صحة مذهبنا في أكثر النفاس : أن الاتفاق من الأمة حاصل على أن الأيام التي قدرناه (٣) بها النفاس أنها حكم النفاس ، ولم يحصل فيما زاد على ذلك اتفاق ولا دليل. والقياس لا يصح إثبات المقادير به ، فيجب القول بما ذكرناه دون ما عداه.

ولك أن تقول : ان المرأة داخلة في عموم الأمر بالصلاة والصوم ، وانما نخرجها في الأيام التي حددناها من عموم الأمر بالإجماع ، ولا إجماع ولا دليل فيما زاد على ذلك ، فيجب الحكم بدخولها تحت عموم الأمر.

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢ / ٦١٦.

(٢) ذكر هذه الأقوال ابن رشد في كتاب بداية المجتهد ١ / ٣٧ في المسألة الثالثة.

(٣) ظ : قدرنا.

١٧٣

المسألة الثالثة

[كراهة السجود على الثوب المنسوج]

وذكر أن السجود لا يجوز على ثوب منسوج ، ثم زعم الا عند الضرورة ، لم صارت الضرورة تجوّز ما لا يجوز؟

الجواب :

وبالله التوفيق.

أن الثوب المنسوج من قطن أو كتان إذا كان طاهرا يكره السجود عليه ، كراهة التنزيه وطلب فضل ، لا أنه محظور محرم.

وليس يجرى السجود على الثوب المنسوج في القبح والحظر عند أحد مجرى السجود على المكان النجس ، وان كان أصحابنا لم يفصلوا هذا التفصيل ، وأطلقوا القول إطلاقا ، والصحيح ما ذكرناه.

ومن تأمل حق التأمل علم أنه على ما فصلناه ، وأوضحناه ، لأنه لو كان السجود على الثوب المنسوج محرما محظورا لجرى في القبح ووجوب إعادة الصلاة واستينافها مجرى السجود على النجاسة ، ومعلوم أن أحدا لا ينتهي الى

١٧٤

ذلك ، فعلم أنه على ما بيناه. وإذا كان على سبيل التنزيه لا سبيل الحظر والتحريم والاعذار الضعيفة فيه غير كافية.

وأما التعجب من أن تكون الضرورة تجوز معها ما لا تجوز مع فقدها ، ففي غير موضعه ، لان الضرورات أبدا تسقط التكليف ، وتعتبر في أحكام الشريعة. ألا ترى أن الميتة تحل مع الضرورة ، وتحرم مع الاختيار. والصلاة بغير طهارة بالماء تحل مع الضرورة ، وتحرم مع الاختيار. وأمثال ذلك أكثر من أن نحصيه.

١٧٥

المسألة الرابعة

[مسائل في الشفعة]

ذكر أن الشفعة تصح في العقار بين أكثر من اثنين ، وإذا تخيرت الاملاك فلا شفعة ، والشفعة تجب بالسرب والطريق.

الجواب :

وبالله التوفيق.

أما المسألة الاولى من مسائل الشفعة ، وهي اعتبارها في الاثنين وإسقاطها فيما زاد عليهما من عدد الشركاء : فلعمري انه مما تفرد به الشيعة الإمامية ، وأطبق مخالفوها على خلافه ، غير أن بين الإمامية خلافا في هذه المسألة معروفا.

فإن أبا جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه قال في كتابه المعروف ب «كتاب من لا يحضره الفقيه» في باب الشفعة لما روى عن الصادق عليه‌السلام سئل عن الشفعة لمن هي؟ وفي أي شيء هي؟ وهل تكون في الحيوان شفعة؟ وكيف هي؟ قال : الشفعة واجبة في كل شيء من حيوان أو أرض أو متاع ، إذا كان الشيء بين شريكين لا غيرهما ، فباع أحدهما نصيبه ، فشريكه أحق به من غيره ، فإذا زاد على الاثنين فلا شفعة لأحد منهم.

١٧٦

ثم قال : قال مصنف هذا الكتاب : يعني بذلك الشفعة في الحيوان وحده فأما في غير الحيوان فالشفعة واجبة للشركاء ان كانوا أكثر من اثنين.

ثم قال ـ رحمه‌الله ـ : وتصديق ذلك ما رواه أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي عن عبد الله بن سنان قال : سألته عن مملوك بين شركاء أراد أحدهم بيع نصيبه؟ قال : يبيعه قال قلت : فإنهما كانا اثنين فأراد أحدهما بيع نصيبه فلما أقدم على البيع قال له شريكه : أعطني. قال : هو أحق به. ثم قال عليه‌السلام : لا شفعة في حيوان الا أن يكون الشريك فيه واحدا (١).

وهذا الذي حكيناه يستفاد خلاف أبي جعفر (رحمه‌الله) في هذا المذهب وانما يوجب الشفعة للشركاء في المبيعات وان زادوا على اثنين ، إلا في الحيوان خاصة ، وليس فيما احتج به وظن أنه يصدق بمذهبه من الخبر الذي رواه عن عبد الله بن سنان حجة صريحة فيما ذهب إليه ، لأن نفيه عليه‌السلام حق الشفعة في المملوك إذا كان فيه شركاء جماعة ، وإثباتها بين الشريكين فيه ، لا يدل على أن الأمر في المبيعات بخلاف هذا الحكم.

وكان الاولى به لما أراد أن يذكر ما روى من الرواية في نصرة المذهب الذي رواه عن نفسه ، أن يذكر ما رواه إسماعيل بن مسلم عن جعفر بن محمد عن أبيه قالوا : قال عليه‌السلام : الشفعة على عدد الرجال (٢).

وهذا الخبر صريح في أن الشفعة تثبت مع زيادة عدد الشركاء على اثنين ولو كان حق الشفعة يسقط بالزيادة على اثنين ، لما كان لاعتبار الشفعاء معنى ، لان الشفيع لا يكون الا واحدا ، فإذا زاد العدد بطلت الشفعة على المذهب الذي حكيناه.

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه : ٣ / ٤٦.

(٢) من لا يحضره الفقيه : ٣ / ٤٥ ح ٣.

١٧٧

وكان له أيضا أن يحتج بما رواه عقبة بن خالد عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالشفعة بين الشركاء في الأرضين والمساكن ، وقال : لا ضرر ولا ضرار (١). ولفظ «الشركاء» لفظ جمع ، وهو يقتضي بموجب اللغة أكثر من اثنين.

وهذان الخبران قد رواهما أبو جعفر (رحمه‌الله) في الكتاب الذي أشرنا إليه ، غير أننا نحتج بهما على مذهبه الذي حكاه عن نفسه ، واحتج بغيرهما فيما بينا أنه لا حجة فيه.

ويمكنه أن يحتج أيضا في تأييد هذا المذهب بعموم الأخبار الواردة : أن الشفعة واجبة في كل مشترك لم يقسم (٢). وهي كثيرة ، وعموم هذه الاخبار لم يفصل بين الاثنين والجماعة.

وقد وردت أخبار بأنه إذا سمح جميع الشركاء بحقوقهم من الشفعة ، كان لمن يسمح بحقه على قدر حقه منها (٣). وهذا يدل على أن الشفعة كان لمن يسمح بحقه على قدر حقه منها ، وهذا لا يدل على أن الشفعة تثبت مع كثرة عدد الشركاء.

وكأن أبو علي ابن الجنيد (رحمه‌الله) لا يعتبر نقصان العدد ولا زيادة في

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه : ٣ / ٤٥ ح ٢.

(٢) وسائل الشيعة ١٧ / ٣١٧.

(٣) قال في الانتصار [٢١٧] فأما الخبر الذي وجد في روايات أصحابنا أنه إذا سمح بعض الشركاء حقوقهم من الشفعة ، فإن لمن لم يسمح بحقه على قدر حقه ، فيمكن أن يكون تأويله أن الوارث لحق الشفعة إذا كانوا جماعة فان الشفعة عندنا تورث متى سمح بعضهم بحقه كانت المطالبة لمن لم يسمح ، وهذا لا يدل على أن الشفعة في الأصل تجب لأكثر من شريكين.

١٧٨

الشفعة وكتبه المصنفة تدل على ذلك وتشهد به.

فان قيل : بأي المذهبين تنتمون وبأيهما تفتون؟

قلنا : أما ثبوت الشفعة فالحيوان خاصة بين الشريكين ، وانتفاؤها فيما زاد عليها (١) من العدد ، فهي إجماع الفرقة المحقة التي هي الإمامية ، لأنه لا خلاف بين أحد منهم في هذه الجملة. وكذلك ثبوت حق الشفعة في غير الحيوان بين الشريكين اللذين لم يقتسما ، فهذا أيضا إجماع منهم.

واختلفوا إذا زاد العدد في غير الحيوان بين الشركاء : فمنهم من أثبت حق الشفعة مع الزيادة في العدد ، ومنهم من أسقطها.

وإذا كانت الحجة مما لا دليل عليه من كتاب ناطق وسنة معلومة مقطوع عليها ، وهي إجماع هذه الفرقة ، وجب أن نثبت الشفعة في المواضع التي أجمعوا على ثبوتها فيها ، ونسقطها فيما سوى ذلك ، لان الشفعة حكم شرعي لا يثبت الا بدليل شرعي ، ويجب نفيه في الشريعة نفي (٢) دليله.

فان قيل : لم لا استدللتم بعموم الأخبار التي ذكرتموها ، وبظاهر الخبرين اللذين نبهتم على عدول أبي جعفر (رحمه‌الله) عن الاحتجاج بهما؟

قلنا : انا لم نحتج (٣) بالعموم إذا ثبت أنه دليل في لغة أو شرع في الموضع الذي يكون اللفظ فيه معلوما مقطوعا عليه. فأما أخبار الآحاد التي هي مظنونة الصحة لا معلومة ، فلا يجوز الاحتجاج بعمومها على ما يقطع به من الأحكام.

فأما المسألة الثانية من مسائل الشفعة ، وهي قوله «إذا تخيرت الاملاك فلا شفعة» فهو مذهبنا الصحيح بلا خلاف ، الا أنه لا يجوز أن نذكر هذه المسألة

__________________

(١) ظ : عليهما.

(٢) ظ : بنفي دليله.

(٣) ظ : انا نحتج.

١٧٩

في جملة ما تفرد به الشيعة الإمامية ، لأن هذا المذهب مذهب الشافعي ، وهي المسألة الخلاف بينه وبين أبي حنيفة ، فكيف تسطر فيما تفرد به الإمامية؟ واليه يذهب مالك والأوزاعي وأحمد بن حنبل ، وأكثر الفقهاء المتقدمين والمتأخرين.

وأما المسألة الثالثة ، وهي قوله «ان الشفعة تجب بالسرب والطريق» فهو أيضا مما لم تنفرد به الإمامية ، لأن أبا حنيفة وأصحابه يوجبون الشفعة بالشركة في الطريق الذي ليس بنافذ ، ويسمون ذلك بأنه من حقوق. فذكر هاتين المسألتين في جملة ما تفرد به الإمامية ضرب من السهو.

والحجة لنا فيهما : إجماع الذي أشرنا اليه ، وظواهر أخبار كثيرة مما اختصت برواية (١) الشيعة ، ومما روته العامة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فهو أكثر ، فمن أراد فليأخذه من مواضعه.

__________________

(١) خ ل : بروايته.

١٨٠