رسائل الشريف المرتضى - ج ١

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]

رسائل الشريف المرتضى - ج ١

المؤلف:

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار القرآن الكريم
المطبعة: مطبعة الخيام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٥٧

المسألة السابعة

[هل يقع من الأنبياء الصغائر أو الكبائر]

إذا كان من مذهب الإمامية المحقة أن الأنبياء لا يجوز عليهم شيء من القبائح لا صغيرها ولا كبيرها ، فما معنى الظواهر التي وردت في القرآن ، مثل قوله تعالى (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى)(١) وما أشبه ذلك من الأنبياء عليهم‌السلام بالوجه (٢) الصحيح في تأويل هذه الاخبار.

الجواب :

أعلم أن الأدلة العقلية إذا كانت دالة على ان الأنبياء عليهم‌السلام لا يجوز أن يواقعوا شيئا من الذنوب صغيرا وكبيرا ، فالواجب القطع على ذلك ، ولا يرجع عنه بظواهر الكتاب.

لأنها اما أن تكون محتملة مشتركة ، أو تكون ظاهرا خالصا (٣) ، لما دلت العقول على خلافه. لأنها إذا كانت محتملة حملناها على الوجه المطابق للحق الذي هو أحد محتملاتها ، وان كانت غير محتملة عدلنا عن ظواهرها وقطعنا على انه تعالى أراد غير ما يقتضيه الظاهر مما يوافق الحق.

__________________

(١) سورة طه : ١٢١.

(٢) في «ن» : وما الوجه.

(٣) ظ : أو تكون ظاهرة خالصة.

١٢١

والذي يدل عقلا أن الأنبياء لا يجوز أن يفعلوا قبيحا ، وأن القبيح على ضربين : فضرب منه يمنع الآيات من وقتهم (١) ، كالكذب فيما يؤدونه والزيادة فيه أو النقصان ، أو الكتمان لبعض ما كلفوا تبليغه ، لان المعجزات تقتضي صدق من ظهر عليه. وأنه لا يجوز أن يحرف الرسالة ولا يبدلها.

ويقتضي أيضا أن لا يجوز عليه الكتمان مما أمر بأدائه ، لنقض الغرض في بعثه.

والضرب الأخر من القبائح هو ما لا تعلق له بالأداء والتبليغ ، فهذا الضرب الذي يمتنع منه أنه منعي (٢) عن القول منهم ، وانما بعثوا ليؤدوا ما حملوه ، وليعلموا بما أدوه التفسير (٣) من القول ، يقتضي نقض الغرض أيضا.

والصغائر في هذا الباب كالكبائر ، لان الكل من حيث كانت قبائح تنفرد ولو لم تكن كذلك لكان السكون من المبعوث إليه أكثر وأوفر ، فمن جوّز الصغائر عليهم واعتقد بأنها لا يستحق به في الحال العقاب ، كمن جوّز عليهم الكبائر قبل النبوة وان كانوا فيها حال النبوة ممتنعين ، واعتذر مثله في الصغائر غير أن الكبائر الماضية قبل النبوة لا يستحق لها شيء من الصغائر.

وأن الكبائر الماضية قبل النبوة لا يستحق بها العقاب ، وانما سقط عقابها لأجل زيادة ثواب طاعات فاعلها ، ألا ترى أنها لو انفردت لاستحق بها العقاب ، ولا مخلص للخصوم من هذه النكتة.

وقد بينا ذلك وشرحناه واستوفيناه في كتابنا المعروف ب «تنزيه الأنبياء والأئمة» وبلغنا فيه الغاية القصوى.

__________________

(١) في «ن» : وقوعه منهم.

(٢) في «ن» منفي عن القبول. وظ : مانع عن القبول.

(٣) في «ن» : فما أرى الى التنفير من القبول.

١٢٢

وذكرنا أيضا في هذا الكتاب تأويل كل آية ادعي أن ظاهرها يقتضي وقوع معصية من نبي ، وبينا الصحيح من تأويلها ، وسقنا الكلام في نبي بعد نبي ، من آدم الى نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفعلنا مثل ذلك في الأئمة. وهذا كتاب جليل الموقع في الدين كثير الفائدة.

فأما قوله تعالى (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) فهذه الآية أول شيء تكلمنا عليها في كتاب «التنزيه» وبينا أنها لا تدل على وقوع قبيح من آدم عليه‌السلام ، وأن ظاهرها يحتمل الصحيح الذي نقوله ، كما أنه محتمل للباطل الذين (١) يذهبون إليه.

لأن لفظة «عصى» تدل على مخالفة الأمر أو الإرادة ، والأمر والإرادة قد يتعلقان بالواجب وبما له صفة الندب ، والأمر على الحقيقة أمر بالندب ، كما أنه أمر بالواجبات دون الندب ، فمن أين لهم أنه خالف الواجب دون أن يكون عصى ، بأن عدل عن المندوب اليه.

وليس أن يكون الله تعالى ندبه الى الكف من تناول الشجرة وعصى ، بأن خالف وتناول ، فلم يستحق عقابا ، لانه لم يفعل قبيحا ، لكنه حرم نفسه الثواب الذي كان يستحقه على الطاعة التي ندب إليها.

ومعنى قوله تعالى (فَغَوى) أي خاب. ولا شبهة في اللغة أن لفظة «غوى» تكون بمعنى «خاب» قال الشاعر :

فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره

ولم (٢) يغو لم يعدم على الغي لائما

ومما لم نذكره في كتاب «التنزيه» أن قوله تعالى (فَغَوى) بعد قوله (عَصى آدَمُ رَبَّهُ) لا يليق الا بالخلبة ، ولا يليق بالغي الذي هو القبيح وضد الرشد ، لان

__________________

(١) ظ : الذي.

(٢) في «ن» : ومن

١٢٣

الشيء يعطف على نفسه ، ولا يكون سببا في نفسه ، ومحال أن يقال : عصى فعصى. ولا بدّ من أن يراد بما عطف بالفاء غير معنى الأول.

والخيبة هي حرمان الثواب بالمعصية التي هي ترك المندوب وسبب فيها ، فجاز أن يعطف عليها. والغي الذي هو الفعل القبيح ، لا يجوز عطفه على المعصية ولا أن يكون سببا فيه.

فان قالوا : ما المانع من أن يريد بعصى أي لم يفعل الواجب من الكف عن الشجرة ، والواجب يستحق بالإخلال به حرمان الثواب ، كالفعل المندوب اليه ، فكيف رجحتم ما ذهبتم اليه على ما ذهبنا نحن اليه؟

قلنا : الترجيح لقولنا ظاهر ، إذ الظاهر من قوله تعالى «(عَصى فَغَوى)» أن الذي دخلته الفاء جزاء على المعصية ، وأنه كل الجزاء المستحق بالمعصية ، لأن الظاهر من قول القائل : سرق فقطع ، وقذف فجلد ثمانين. أن ذلك جميع الجزاء لا بعضه.

وكذا إذا قال القائل : من دخل داري فله درهم. حملناه على أنّ الظاهر يقتضي أن الدرهم جميع جزائه ، ولا يستحق بالدخول سواه.

ومن لم يفعل الواجب استحق الذم والعقاب وحرمان الثواب ، ومن لم يفعل المندوب اليه فهو غير مستحق لشيء كان تركه للندب سببا تاما فيه الّا حرمان الثواب فقط.

وبينا أن من لم يفعل الواجب ليس كذلك ، وإذا كان الظاهر يقتضي أن ما دخلته الفاء جميع الجزاء على ذلك السبب لم يلق الا بما قلناه دون ما ذهبوا اليه ، وهذا واضح لمن تدبره.

١٢٤

المسألة الثامنة

[حقيقة الرجعة]

سئل عن حقيقة الرجعة ، لأن شذاذ الإمامية يذهبون الى أن الرجعة رجوع دولتهم في أيام القائم عليه‌السلام من دون رجوع أجسامهم.

الجواب :

اعلم أن الذي تذهب الشيعة الإمامية اليه أن الله تعالى يعيد عند ظهور امام الزمان المهدي عليه‌السلام قوما ممن كان قد تقدم موته من شيعته ، ليفوزوا بثواب نصرته ومعونته ومشاهدة دولته. ويعيد أيضا قوما من أعدائه لينتقم منهم ، فيلتذوا بما يشاهدون من ظهور الحق وعلو كلمة أهله.

والدلالة على صحة هذا المذهب أن الذي ذهبوا اليه مما لا شبهة على عاقل في أنه مقدور لله تعالى غير مستحيل في نفسه ، فانا نرى كثيرا من مخالفينا ينكرون الرجعة إنكار من يراها مستحيلة غير مقدورة.

وإذا أثبت جواز الرجعة ودخولها تحت المقدور ، فالطريق إلى إثباتها إجماع الإمامية على وقوعها ، فإنهم لا يختلفون في ذلك. وإجماعهم قد بينا في مواضع من كتبنا أنه حجة ، لدخول قول الامام عليه‌السلام فيه ، وما يشتمل على قول

١٢٥

المعصوم من الأقوال لا بدّ فيه من كونه صوابا.

وقد بينا أن الرجعة لا تنافي التكليف ، وأن الدواعي مترددة معها حين (١) لا يظن ظان أن تكليف من يعاد باطل. وذكرنا أن التكليف كما يصح مع ظهور المعجزات الباهرة والآيات القاهرة ، فكذلك مع الرجعة ، لأنه ليس في جميع ذلك ملجئ الى فعل الواجب والامتناع من فعل القبيح.

فأما من تأول الرجعة في (٢) أصحابنا على أن معناها رجوع الدولة والأمر والنهي ، من دون رجوع الأشخاص واحياء الأموات ، فإن قوما من الشيعة لما عجزوا عن نصرة الرجعة وبيان جوازها وأنها تنافي التكليف ، عولوا على هذا التأويل للأخبار الواردة بالرجعة.

وهذا منهم غير صحيح ، لأن الرجعة لم تثبت بظواهر الأخبار المنقولة ، فيطرق التأويلات عليها ، فكيف يثبت ما هو مقطوع على صحته بأخبار الآحاد التي لا توجب العلم؟

وانما المعول في إثبات الرجعة على إجماع الإمامية على معناها ، بأن الله تعالى يحيي أمواتا عند قيام القائم عليه‌السلام من أوليائه وأعدائه على ما بيناه ، فكيف يطرق التأويل على ما هو معلوم ، فالمعنى غير محتمل.

__________________

(١) في «ن» : حيث

(٢) في «ن» : من

١٢٦

المسألة التاسعة

[الطريق إلى معرفة الله تعالى]

قد سأل (رحمه‌الله) عن الطريق إلى معرفة الله بمجرد العقل أو من طريق السمع.

الجواب :

ان الطريق إلى معرفة الله تعالى هو العقل ، ولا يجوز أن يكون السمع ، لان السمع لا يكون دليلا على الشيء إلا بعد معرفة الله وحكمته ، وأنه لا يفعل القبيح ولا يصدق الكذابين ، فكيف يدل السمع على المعرفة.

ووجه دلالته مبني على حصول المعارف بالله حتى يصح أن يوجب عليه النظر. ورددنا على من يذهب من أصحابنا الى أن معرفة الله تستفاد من قول الإمام ، لأن معرفة كون الإمام إماما مبنية على المعرفة بالله تعالى.

وبينا أنهم عولوا في ذلك على أن معرفة الإمام مبنية على النظر في الأدلة. فهو غير صحيح ، لأنا (١) .. الامام على النظر إذا لم يكن العاقل ، لكنه

__________________

(١) بياض في النسخة وفي «ن» : وبينا أنهم عولوا في ذلك على أن الامام ينبه على النظر في الأدلة ، فهو غير صحيح ، لان تنبيه الامام على النظر إذا لم يكن للعاقل ، لكنه في تلك الحال معرفة كونه اماما كتنبيه غيره ممن ليسوا بإمام.

١٢٧

في تلك المعرفة كونه اماما غيره ممن ليس بإمام.

وبينا أن العاقل إذا نشأ بين الناس ، وسمع اختلافهم في الديانات ، وقول كثير منهم ان للعالم صانعا خلق للعقلاء ليعرفوه ، ويستحقوا الثواب على طاعاتهم وأنّ من فرط في المعرفة استحقّ العقاب : لا بدّ من كونه خائفا من ترك النظر وإهماله ، لأن خوف الضرر وجهه على وجوب كل نظر في دين أو دنيا ، وأنه متى خاف الضرر وجب عليه النظر وقبح منه إهماله والإخلال به.

وقلنا (١) : انه ان اتفق هذا العاقل ، بحيث لا عينية له على النظر ولا مخوف ، جاز أن يتنبه هو من قبل نفسه في الأمارات التي تظهر له على مثل ما يخوفه به المخوف ، فيخاف من الاستضرار بترك النظر ، فيجب عليه النظر.

وان كان منفردا عن الناس فان فرضنا أنه مع التفرد من الناس لا يتفق أن ينبه من قبل نفسه ، فلا بد أن يخطر الله بباله ما يخوفه من إهمال النظر حتى يصح أن يوجب عليه النظر والمعرفة.

وذكرنا اختلاف أمن الخاطر ما هو؟ وأن الأقوى من ذلك أن يكون كلاما يفعله الله تعالى في داخل سمع العاقل يتضمن من المبنية (٢) على الأمارات ما يخاف منه من إهمال نظر يجب عليه حينئذ ذلك.

وهذا كله مستقصى في كتاب الذخيرة.

__________________

(١) في «ن» : وبينا

(٢) في «ن» : التنبيه

١٢٨

المسألة العاشرة

[الوجه في حسن أفعال الله تعالى]

القديم تعالى لا يجوز عليه المنافع والمضار ، فما وجه حسن أفعاله في ابتداء خلق العالم؟

الجواب :

الفعل كما يقع حسنا لاجتلاب منفعة أو دفع مضرة ، فكذلك قد يكون حسنا إذا فعل لوجه حسنه من غير اجتلاب منفعة ولا دفع مضرة.

المسألة الحادية عشر

[ما الحكمة في الخلق]

هل يجب على الله تعالى في حكمته إيجاد الخلق أو خلقهم تفضلا منه؟

الجواب :

لو كان إيجادهم واجبا على الله ، للزم أن يكون في وقت مخلا بالواجب ، وكان حينئذ مستحقا للذم.

١٢٩

المسألة الثانية عشر

[حقيقة الروح]

ما تقول في الروح؟

الجواب :

الصحيح عندنا أن الروح عبارة عن : الهواء المتردد في مخارق الحي منا الذي لا يثبت كونه حيا الا مع تردده ، ولهذا لا يسمى ما يتردّد في مخارق الجماد روحا ، فالروح جسم على هذه القاعدة.

المسألة الثالثة عشر

[حكم الزاني بذات البعل في تزويجها]

ما يقول السيد في امرأة ذات بعل زنى بها رجل بعد أن طلقها زوجها تحل أم لا؟

الجواب :

أما إذا كانت ذات بعل ، لا تحل له أبدا. فأما إذا كانت غير ذات بعل يحل تزويجها بعد إظهار توبتها.

١٣٠

المسألة الرابعة عشر

[مسألة الإرجاء]

ما يقول السيد في الإرجاء؟.

الجواب :

هو الدين الصحيح عند الإمامية ، ولا تحابط عندنا في ثواب ولا عقاب. ويجوز أن يبلي بالبلاء في الدنيا ، والتمحيص (١) من الذنوب ، فان فضل من ذلك شيء يعاقب في القبر ، ثم أهوال يوم القيامة.

فإن فضل يعاقب عقابا منقطعا ، ثم يرد إلى الجنة والثواب الدائم ، لأن المؤمن يستحق بإيمانه وحدة الثواب الدائم.

فإن كان عليهم ذنوب موبقات يمحص ويشفع ، والشافعون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة عليهم‌السلام ، ولا يمنع بما يستحقه بإيمانه من الثواب الدائم.

وهذه المسألة مستقصاة في جواب أهل الموصل ، وفي كتاب الذخيرة.

__________________

(١) في «ن» : ويمحص

١٣١

المسألة الخامسة عشر

[دخول العبد الجنة باستحقاقه]

العبد يدخل الجنة بعمله ، أو بتفضل الله تبارك وتعالى؟

الجواب :

العبد يدخل الجنة باستحقاقه الجنة كالحر.

تمت المسائل وأجوبتها ، والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على محمد وآله أجمعين ، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

١٣٢

(٣)

جوابات المسائل الطبرية

١٣٣
١٣٤

المسألة الأولى

[أفعال العباد غير مخلوقة]

سأل الشريف (أحسن الله توفيقه) فقال : ما القول في أفعال العباد ، هل هي مخلوقة أم لا؟ وما معنى قول الصادق عليه‌السلام : أفعال العباد مخلوقة خلق تقدير لا خلق تكوين أمر بين أمرين لا جبر ولا تفويض (١)؟

الجواب :

وبالله التوفيق.

أما أفعال العباد فليست مخلوقة لله عزوجل ، وكيف يكون خلقا له وهي مضافة الى العباد اضافة الفعلية؟

ولو كانت مخلوقة لكانت من فعله ، ولو كانت فعلا له لما توجه الذم والمدح على قبحها وحسنها الى العباد ، كما لا يذمون ويمدحون بخلقهم وصورهم وهيئتهم ، ولكانت أيضا لا يتبع في وقوعها تصور العباد ودواعيهم وأحوالهم.

__________________

(١) التوحيد ص ٣٦٢ ، البحار ٥ ـ ٣٠.

١٣٥

ألا ترى أن أفعاله في العباد التي لا شبهة فيها ، (١) ولا يتبع إرادتهم ، ولا يقع بحسب تصورهم.

هذا ان أريد بالخلق ها هنا الاحداث والإنشاء على بعض الوجوه. وان أريد بالخلق التقدير الذي لا يتبع الفعلية ، جاز القول بأن أفعال العباد مخلوقة لله عزوجل ، فكل (٢) بمعنى أنه مقدر لها مرتب لجميعها.

ألا ترى أن أهل اللغة يسمون مقدر الأديم خالقا له وان كان الأدم من فعل غيره.

قال الشاعر :

ولأنت تعرى (٣) ما خلقت وبعض

القوم يخلق ثم لا يعتري

وقال الأخر :

ولا تبط بأيدي ولا أيدي

الخير الأجيد الأدم

هذا جواب لمن يسأل عن أفعال العباد هل يكون مخلوقة لله تعالى أم لا؟

فأما من سأل هل هي مخلوقة للعباد أم لا؟ فجوابه : أن الصحيح كون العباد خالقين لأفعالهم المقصودة المجرى بها الى الأغراض الصحيحة ، هو (٤) مذهب أكثر أهل العلم.

وخالف أبو القاسم البلخي في ذلك ، وان كان موافقا على أن العباد يحدثون وينشئون ويخترعون. وليس يمتنع أن يوصفوا بأنهم خالقون لأفعالهم ، لان الخلق ان كان معناه إيقاع الفعل مقدرا أو مقصودا ، فهذا المعنى قائم بين العباد وأفعالهم ، ولا معنى للامتناع لا (٥) العبارة مع ثبوت معناها.

__________________

(١) الظاهر زيادة الواو.

(٢) ظ : فيكون.

(٣) لعل : تفري ويفتري.

(٤) ظ : وهو.

(٥) ظ : الا.

١٣٦

وقد بينا أن أهل اللغة قد سموا العبد خالقا بصريح القول ، ولمن كان غيره لا يستحق هذا الوصف أن يشنع أن يقول : أكرم الالهة أو أحسن.

وانما استنكر أبو القاسم البلخي إطلاق القول بأن الإنسان خالق ظنا منه أن ذلك أدخل في تعظيم الله عزوجل وتمييزه عما يجري من الأوصاف على عباده. وليس الأمر على ما ظنه ، لما بيناه من إطلاق هذا الوصف على العباد في القرآن واستعمال أهل اللغة.

وما توهمه البلخي في التمييز والتخصيص له تعالى. ينتقض بوصفه ، بلا خلاف بينه وبين العبد بأنه محدث منشئ مخترع ، كما يصف الله تعالى بذلك ، وان كان في الاشتراك في الوصف بالخلق نقص وإبطال للتعظيم والمزية ، ففي الاشتراك بالوصف بالإنشاء والاختراع مثل ذلك.

وما يعتذر به البلخي في الاختراع والإنشاء إلى المجبرة ، يعتذر اليه بمثله في الخلق.

فأما ما روى عن الصادق عليه‌السلام في أن أفعال العباد مخلوقة خلق تقدير لا خلق تكوين. والمراد (١) بأنها مخلوقة لله تعالى على وجه التقدير كالتكوين (٢).

فلم يرد (٣) عليها أنها مخلوقة للعباد على أحد الوجهين لا الأخر ، لأنه عليه‌السلام لو أراد ذلك لم يكن صحيحا ، لأن أفعال العباد مخلوقة لهم خلق تقدير وتكوين معا بل المكون (٤) لفعل العبد سواه.

__________________

(١) ظ : فالمراد.

(٢) ظ : لا التكوين.

(٣) ظ : ولم يرد أنها.

(٤) ظ : لا مكون.

١٣٧

فأما معنى اضافة الصادق عليه‌السلام في الخبر المروي من (١) أفعال العباد إلى أنها مخلوقة لله تعالى خلق تقدير ، فجار على ما قدمنا بيانه من أنه تعالى لما كان مبينا لها مفصلا لحسنها من قبحها مميزا خيرها من شرها ، كان بذلك مقدرا لها ، وإذا كان مقدرا جاز أن يقال : انه خالق لها ، كما قالوا في مقدر الأديم ومربية ، ومبين ما يجيء منه من مراده وغيرها أنه خالق.

وقد صرح في الخبر بالمعنى الذي أشرنا اليه ، وأعرب عنه أحسن اعراب ، لقوله «خلق تقدير لا خلق تكوين».

فأما قوله عليه‌السلام في الخبر «أمر بين أمرين لا جبر ولا تفويض» عن (٢) حسن التخلص والتمييز للحق من الباطل ، لان العباد غير مجبرين على أفعالهم عند من أمعن النّظر، بل هم مختارون لها وموقعون لجميعها بحسب إيثارهم ودواعيهم.

وقد لوحنا في صدر هذه المسألة بالدلالة على ذلك ، غير أنهم وان كانوا غير مجبرين ، فالأمر في أفعالهم غير مفوض إليهم من وجهين :

أحدهما : أن الله تعالى لو لم يقدرهم ويمكنهم بالآلات وغيرها ، لما تمكنوا من تلك الافعال ، فأشفق عليه‌السلام من أن يقتصر على نفي الإجبار عنهم ، فيظن أنهم مستقلون بنفوسهم ، وأنهم غير محتاجين الى الله تعالى في تلك الافعال فنفى التفويض ، ليعلم أن الأمر في تمكنهم وأقدارهم ليس إليهم.

والوجه الأخر : أن يكون المراد بنفي التفويض أن الأمر في تمييز هذه الافعال وترتيبها ، وتبين حسنها من قبحها ، وواجبها من ندبها ، ليس مفوضا إليهم بل هو مما يختص اللهعزوجل بالدلالة عليه والإرشاد.

__________________

(١) الظاهر زيادة كلمة «من».

(٢) ظ : فمن

١٣٨

وهذا الوجه أشبه بالجملة الاولى من الكلام وتعلق معنى آخر الخبر بأوله ، لأنه عليه‌السلام قال : هي مخلوقة خلق تقدير لا تكوين. وقوله «لا جبر» تفسير بأن الخلق على سبيل التكوين.

وقوله «لا تفويض» إيضاح الخلق على سبيل التقدير ، ونبه على أن تقديرها على ما بيناه الى غيرهم.

١٣٩

المسألة الثانية

[عدم ارادة الله تعالى المعاصي والقبائح]

وسأل (أحسن الله توفيقه) هل تكون المعاصي بإرادة الله تعالى ومشيته أم لا تكون بإرادة الله تعالى؟ وهل شاءها تعالى ورضاها أم شاءها ولم يرضها؟

الجواب :

وبالله التوفيق اعلم أن الله تعالى لم يرد شيئا من المعاصي والقبائح ، ولا يجوز أن يريدها ولا يشاؤها ولا يرضاها ، بل هو تعالى كاره وساخط لها.

والذي يدل على ذلك أنه جلت عظمته قد نهى عن سائر القبائح والمعاصي بلا خلاف ، والنهي انما يكون نهيا بكراهة الناهي للفعل المنهي عنه ، وقد بين ذلك في الكتب، والأمر فيه واضح لا يخفى.

ألا ترى أن أحدنا لا يجوز أن ينهى عما (١) يكرهه ، فلو كان النهي في كونه نهيا غير مفتقر إلى الكراهة لم يجب ما ذكرناه ، ولانه لا فرق بين قول أحدنا

__________________

(١) ظ : الا عما.

١٤٠