رسائل الشريف المرتضى - ج ١

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]

رسائل الشريف المرتضى - ج ١

المؤلف:

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار القرآن الكريم
المطبعة: مطبعة الخيام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٥٧

وروى الساجي صاحب اختلاف الفقهاء قال : حدثنا سليمان بن داود ، قال : أخبرنا ابن وهب قال : أخبرني عمرو بن الحارث أن دراجا أبا السمح حدثه.

واجتمعا على أن دراجا قال : ان عمر بن الحكم حدثه عن أم حبيبة زوجة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : ان أناسا من أهل اليمن قدموا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ليعلمهم الصلاة والسنن والفرائض ، فقالوا : يا رسول الله ان لنا شرابا نعمله (١) من القمح والشعير. فقال عليه‌السلام : الغبيراء؟ فقالوا : نعم ، فقال : لا تطعموها. قال الساجي في حديثه : قال عليه‌السلام ذلك ثلاثا.

قال أبو عبيد القاسم بن سلام : ثم لما كان بعد ذلك يومين (٢) ذكروها له عليه‌السلام فقال: الغبيراء؟ قالوا : نعم. قال : لا تطعموها. قالوا : فإنهم لا يدعونها. قال عليه‌السلام : من لم يتركها فأضربوا عنقه.

وروى أبو عبيد أيضا عن ابن أبي مريم ، عن محمد بن جعفر ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله سئل عن الغبيراء ، فنهى عنها وقال : لا خير فيها.

قال : قال زيد بن أسلم : هي الاسكركة. والاسكركة في لغة العرب اسم الفقاع. وقال ابن الرومي وهو ممن لا يطعن عليه في علم اللغة والعربية ، لأنه كان متقدما في علمها ، متولي (٣) الى معانيها قال :

اسقني الاسكركة الصنبر

في جعصلقونه

واجعل القيحن فيها

يا خليلي بغصونه

__________________

(١) خ ل : نصنعه ، في «ن» نصفه.

(٢) في «ن» بيومين.

(٣) في «ن» متوجها.

١٠١

أنها مصفاة أعلاه

ومسك لبطونه

وأراد ب «الاسكركة» الفقاع. و «الجعصلقون» الكوز الذي يشرب فيه الفقاع. و «الصنبر» البارد. و «القيحن» الشراب.

وروى أصحاب الحديث من طرق معروفة : ان قوما من العرب سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن الشراب المتخذ من القمح ، فقال رسول الله : أيسكر؟ قالوا : نعم. فقال عليه‌السلام: لا تقربوه.

ولم يسأل في الشراب المتخذ من الشعير عن الإسكار ، بل حرم ذلك على الإطلاق ، وحرم الشراب الأخر إذا كان مسكرا ، فدل ذلك على أن الغبيراء محرمة بعينها كالخمر.

وروى أصحاب الحديث في كتبهم المشهورة ان عبد الله الأشجعي كان يكره الفقاع.

وقال أحمد بن حنبل كذلك ، وكان ابن المبارك يكرهه. قال أحمد : وحدثنا عبد الجبار بن محمد الخطابي ، عن سمرة (١) قال : الغبيراء التي نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عنها الفقاع.

ويلزم مخالفينا مع هذه الاخبار المروية من طرقهم أن يحرموا الفقاع ، ولا يلزم الإمامية على تحرير (٢) ولا يبدعونهم ولا يبزوهم (٣) بتحريمها ، والنهي عن بيعها.

وشيوخهم مالك بن انس ويزيد بن هارون يكرهان (٤).

__________________

(١) في الانتصار : ضمرة.

(٢) في «ن» ولا يلوموا الإمامية على تحريمه.

(٣) في «ن» يعيرونهم.

(٤) في «ن» يكرهانه.

١٠٢

قال احمد : وحدثنا أبو عبد الله المدائني قال : قال مالك بن أنس : يكره الفقاع ، ويكره أن يباع في الأسواق (١).

وغيره ممن ذكرناه ينهى عن شرب الفقاع وبيعه ، والعصبية تعمي وتصم.

__________________

(١) استخرج هذه الأحاديث مع أحاديث أخر في الانتصار ص ١٩٨ ط نجف الأشرف وكذا الشيخ في رسالته المعمولة في تحريم الفقاع المطبوع في الرسائل العشر ص ٢٥٦.

١٠٣

المسألة الثانية

[علم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالكتابة والقراءة]

ما الذي يجب ان يعتقد في النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله، هل كان يحسن الكتابة وقراءة الكتب أم لا؟.

الجواب :

وبالله التوفيق الذي يجب اعتقاده في ذلك التجويز ، لكونه عليه‌السلام عالما بالكتابة وقراءة الكتب ، ولكونه غير عالم بذلك ، من غير قطع على أحد الأمرين.

وانما قلنا ذلك ، لان العلم بالكتابة ليس من العلوم التي يقطع على ان النبي والامام عليهما‌السلام لا بدّ من ان يكون عالما بها وحائزا لها.

لأنا إنما نقطع في النبي والامام على انهما لا بدّ ان يكون كل واحد عالما بالله تعالى وأحواله وصفاته ، وما يجوز عليه وما لا يجوز ، وبجميع أحوال الديانات وبسائر أحكام الشريعة التي يؤديها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ان يحفظها (١) الامام

__________________

(١) ظ : ويحفظها.

١٠٤

عليه‌السلام ويتقدمها ، حتى لا يشذ على كل واحد منهما من ذلك الشيء يحتاج فيه الى استفتاء غيره ، كما يذهب المخالفون لنا.

اما ما عدي ذلك من الصناعات والحرف ، فلا يجب ان يعلم نبي أو إمام شيئا من ذلك. والكتابة صنعة كالنساجة والصياغة ، فكما لا يجب ان يعلم ضروب الصناعات ، فكذلك الكتابة.

وقد دللنا على هذه المسألة ، واستقصينا الجواب عن كل ما يسأل عنه فيها في مسألة مفردة أمليناها جوابا لسؤال بعض الرؤساء عنه ، وانتهينا إلى أبعد الغايات.

وقلنا : ان إيجاب ذلك يؤدي الى إيجاب العلم بسائر المعلومات الغائبات والحاضرات ، وان يكون كل واحد من النبي والامام محيطا بمعلومات الله تعالى كلها.

وبينا ان ذلك يؤدي الى ان يكون المحدث عالما لنفسه كالقديم تعالى ، لان العلم الواحد لا يجوز ان يتعلق بمعلوم على جهة التفصيل ، وكل معلوم مفصل لا بدّ له من علم مفرد يتعلق به ، وان المحدث لا يجوز ان يكون عالما لنفسه ، ولا يجوز ان يكون أيضا وجود ما لا نهاية له من المعلوم ، ويبطل (١) قول من ادعى ان الامام محيط بالمعلومات.

فان قالوا : الفرق بين الصناعات وبين الكتابة ، ان الكتابة قد تتعلق بأحكام الشرع ، وليس كذلك باقي الصناعات.

قلنا : لا صناعة من نساجة أو بناء أو غيرهما الا وقد يجوز ان يتعلق به حكم شرعي كالكتابة.

__________________

(١) في «ن» فبطل.

١٠٥

ألا ترى ان من استأجر بناء على (١) مخصوص ، وأيضا النساجة قد يجوز ان يختلف ، فيقول الصانع : قد وفيت العمل الذي استؤجرت له ، ويقول المستأجر : ما وفيت بذلك.

فمتى لم يكن الامام عالما بتلك الصناعات ومنتهيا إلى أبعد الغايات لم يمكنه ان يحكم بين المختلفين.

فان قيل : يرجع الى أهل تلك الصناعة فيما اختلفا فيه.

قلنا : في الكتابة مثل ذلك سواء.

وبينا في تلك المسألة التي أشرنا إليها ، بأن هذا يؤدي الى ان علم الامام تصديق (٢) الشهادة أو كذبه فيما يشهد به ، لأنه إذا جاز ان يحكم بشهادة (٣) مع تجويز كونه كاذبا ..

والا جاز ان يحكم بقول ذي الصناعات في قيم المتلفات وأروش الجنايات وكل شيء اختلف فيه فيما له تعلق بالصناعات وان جاز الخطأ على المقومين.

وبينا ان ارتكاب ذلك يؤدي الى كل جهالة وضلالة.

فإن قيل : أليس قد روى أصحابكم ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في يوم الحديبية لما كتب معينة (٤) بين سهيل بن عمرو وكتاب مواعدة (٥) ، وجرى من سهيل ما جرى من إنكار ذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالنبوة ، وامتنع أمير المؤمنين عليه‌السلام مما اقترح سهيل كتب عليه‌السلام في الكتاب.

__________________

(١) في «ن» لبناء.

(٢) في «ن» بتصديق.

(٣) في «ن» بشهادته.

(٤) في «ن» بينه و.

(٥) في «ن» موادعة.

١٠٦

قلنا : هذا قد روي في أخبار الآحاد وليس بمقطوع عليه ، وانما أنكرنا القطع. ونحن مجوزون ـ كما ذكرنا ـ أن يكون عليه‌السلام كان يحسن الكتابة ، كما يجوز أن لا يكون يحسنها.

فان قيل : أليس الله تعالى يقول (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ)(١).

قلنا : ان هذه الآية انما تدل على أنه عليه‌السلام ما يحسن الكتابة قبل النبوة والى هذا يذهب أصحابنا ، فإنهم يعتمدون أنه عليه‌السلام ما كان يحسنها قبل البعثة ، وأنه تعلمها من جبرئيل بعد النبوة ، وظاهر الآية تقتضي ذلك ، لان النفي تعلق بما قبل النبوة دون ما بعدها.

ولان التعليل أيضا يقتضي اختصاص النفي بما قبل النبوة ، ولان المبطلين والمشككين انما يرتابون في نبوته عليه‌السلام لو كان يحسن الكتابة قبل النبوة وأما بعد النبوة فلا تعلق له بالريبة والتهمة.

فإن قيل : من أين يعلم أنه عليه‌السلام ما كان يحسن الكتابة قبل النبوة ، وإذا كان عندكم أنه قد أحسنها بعد النبوة ، ولعل (٢) هذا العلم كان متقدما.

فان قلت (٣) : فلم نعلم أنه عليه‌السلام ما كان يحسن الكتابة قبل النبوة بهذه الآية.

قيل لكم : هذه الآية انما تكون حجة وموجبة للعلم إذا صحت النبوة ، فكيف يجعل نفي الآية دلالة على النبوة وهو مبني عليها؟

قلنا : الذي يجب أن يعتمد عليه في أنه عليه‌السلام لا يحسن الكتابة والقراءة

__________________

(١) سورة العنكبوت : ٤٨.

(٢) في «ن» : فلعل.

(٣) في «ن» : قلتم نعلم.

١٠٧

قبل النبوة هو أنه عليه‌السلام لو كان يحسنها وقد نطق القرآن الذي أتى بنفي ذلك عنه عليه‌السلام قبل النبوة ، مما (١) جاز له أن يخفى الحال فيه مع التتبع والتفتيش والتنقير ، لان هذه الأمور كلها انما يجوز ان تخفى مع عدم الدواعي إلى كشفها ، ومع الغفلة عنها والاعراض عن تأمل أحوالها.

وأما إذا قويت الدواعي وتوفرت البواعث على كشف حقيقة الحال وتعلق ذلك (٢) دعوى مدع بمعجزة ، فلا بد من الفحص والتفتيش ، ومعها لا بدّ من ظهور حقيقة الحال.

ومن كان يحسن القراءة والكتابة لا بدّ من أن يكون قد تعلمها أو أخذها من موقف ومعرف ، والذين كانوا يحسنون الكتابة من العرب في ذلك الزمان معدودون قليلون ممن (٣) تعلم من أحدهم وكشف عن أمره على طول الأيام ، لا بدّ من ظهور حاله بمقتضى العادة. وهذه الجملة تدل على أنه عليه‌السلام ما كان يحسن الكتابة قبل النبوة.

فإن قيل : فقد وصف الله تعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنه أمي في مواضع من القرآن (٤). والأمي الذي لا يحسن الكتابة ، فكيف تقولون أنه عليه‌السلام أحسنها بعد النبوة.

قلنا : أما أصحابنا القاطعون على أنه عليه‌السلام كان يحسن الكتابة بعد النبوة ، فإنهم يجيبون عن هذا السؤال بأن يقولوا : لم يرد الله تعالى بقوله «أمي» أنه لا يحسن الكتابة ، وانما أراد الله تعالى نسبته إلى أم القرى ، لانه من أسماء مكة «أم القرى». فان كانت هذه النسبة محتملة لأمرين ، لم يجز أن يقطعوا على أحدهما بغير دليل.

__________________

(١) في «ن» لما.

(٢) في «ن» : بذلك.

(٣) في «ن» : فمن.

(٤) سورة الأعراف : ١٥٨.

١٠٨

المسألة الثالثة

[تفضيل الأنبياء على الملائكة]

ما تقول في الأنبياء والملائكة؟ أي القبيلين أفضل وأكثر ثوابا؟ وما الذي يجب أن يعتقد في ذلك؟

الجواب :

اعلم ان الفضل الذي هو كثرة الثواب ووفوره لا دلالة في مجرد العقل على أن بعض المكلفين فيه أفضل من غيره ، لان كثرة الثواب وقلته انما يتبعان أثره الذي يقع عليهما الافعال ، وذلك مما لا يطلع عليه الا علّام الغيوب جلّ وعزّ ، وانما المرجع في بعض المكلفين أكثر ثوابا من غيره الى طريق (١) سمعية.

وقد أجمعت الإمامية بلا خلاف بينها على أن كل واحد من الأنبياء أفضل وأكثر ثوابا من كل واحد من الملائكة. وذهبوا في الأئمة عليهم‌السلام أيضا الى مثل ذلك.

__________________

(١) في «ن» : طرق.

١٠٩

وإجماع الإمامية حجة على ما بيناه ، فيجب القطع بهذه الحجة على أن الأنبياء أفضل من الملائكة على جماعتهم.

ومن اعتمد من أصحابنا في أن الأنبياء أفضل ، على أن المشاق على الأنبياء من التكليف أكثر ، لأن لهم شهوات تتعلق بالقبيح ونفار عن فعل الواجب ، والملائكة ليسوا كذلك.

فقد عول على غير صحيح ، لأن الملائكة من حيث كانوا مكلفين لا بدّ له من أن يكون عليهم مشقة في التكليف ، لو لا ذلك لما استحقوا ثوابا ، والتكليف لا يشق الا بشهوات تتعلق بها حظر ومنع منه ونفارا (١) يتعلق بالواجبات.

وإذا كان الأمر على ذلك ، فمن أين يعلم بالعقل بأن مشاق الأنبياء أكثر من مشاق الملائكة في التكليف؟ وليس إذا علمنا على طريق الجملة أن الملائكة لا تتعلق شهواتهم بالأكل والشرب والجماع ، فيكونوا ملتذين ، وآملين بما يرجع الى هذه الأمور أحطنا علما بسائر ما يلتذون ويأملون (٢) معه من ضروب المدركات ولا (٣) يسع التكليف من أن يكونوا ممن يلتذ ويألم ببعض ما يدركونه ، ولو لا ذلك لما استحقوا ثوابا ولا كانوا مكلفين.

وقد أملينا مسألة مفردة في تفضيل الأنبياء على الملائكة واستقصيناها للموافق والمخالف في ذلك ، وأجبنا عن الشبهات التي قد عول عليها مخالفونا بما أوضحنا وأشبعناه.

ومن أوكد ما تعلقوا به قوله تعالى حكاية عن إبليس مخاطبا لادم وحواء عليهما‌السلام (ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا

__________________

(١) ظ : نفار.

(٢) في «ن» : يألمون.

(٣) في «ن» ولا بد مع التكليف ممن يكونوا ممن يلتذ بألم ببعض ـ إلخ.

١١٠

مِنَ الْخالِدِينَ) (١) فرغبهما في أن يكونا ملكين ، ولا يجوز أن يرغبهما بأن يعصيا الله تعالى حتى ينتقلا الى الحال التي هي دون حالهما ، وحالهما هي أفضل منها.

وهي شبهة لها روعة ولا محصل لها عند التفتيش ، لان الفضل الذي هو كثير الثواب لا يجوز أن يستحق إلا بالأعمال ، وهي (٢) صارت خلقته خلقة الملك لا يجوز أن يكون ثوابه مثل ثواب الملك.

وانما رغبهما في أن ينتقلا إلى صورة الملائكة وخلقهم ، لا الى ثوابهم ما تجزأ (٣) على أعمالهم ، لان الجزاء على الاعمال تابع لها ، ولا يتغير بانقلاب الخلق والصورة ، فبطل أن يكون في هذه الآية دلالة على موضع الخلاف.

وأيضا فإن المعتزلة يجوزون على الأنبياء الصغائر من الذنوب :

فيقال لهم : ان يكن آدم عليه‌السلام اعتقد أن الملائكة أفضل من الأنبياء ، وكان ذلك ذنبا صغيرا منه ، فرغب في حال الملائكة والانتقال إليها ، بناء على هذا الخطأ ، ولا تكون الآية دالة في الحقيقة على أن الملائكة أفضل من الأنبياء.

ومما قيل في هذه الآية : ان قوله (إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ) أن يراد به الا أن يصيرا وينقلبا الى هذه الحالة ، وانما أراد إبليس التلبيس عليهما وإيهامهما أن المنهي عن أكل الشجرة غيرهما ، فإن النهي عن تناول الشجر اختص به الملائكة والخالدون. ويجري ذلك مجرى قول أحدنا : ما نهيت عن دخول الدار زيدا دونك.

فأما قوله (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ)(٤)

__________________

(١) سورة الأعراف : ٢٠.

(٢) في «ن» : ومن.

(٣) في «ن» : والجزاء.

(٤) سورة النساء : ١٧٢.

١١١

وادعاء القوم أن ذلك يدل على فضل الملائكة على الأنبياء ، لأنه أخر ذكرهم ، ولا يجوز أن يؤخر في مثل هذا الكلام الا الفاضل دون المفضول.

ألا ترى أنه لا يجوز أن يقول القائل : ما يأنف الأمير من كذا وكذا ولا الحارس ، وانما يجوز ان يقول : ما يأنف من كذا وكذا المفضول ، ثم يعقب بذكر الفاضل مثل أن يقول : ما يأنف من لقاء زيد الوزير ولا الأمير.

وهذا من ركيك الشبه ، لانه يجوز أن يكون الله تعالى خاطب بهذا الكلام فيمن (١) كانوا يعتقدون فضل الملائكة على الأنبياء مرتبة على حسب اعتقادهم ، لا على ما يقتضيه أحوال المذكورين.

وجرى ذلك مجرى أن يقول أحدنا لغيره : ما يأنف أبي من كذا ولا أبوك. وان كان القائل يعتقد فضل أبيه على أب المخاطب.

ويمكن في هذه الآية وجه آخر ، وهو أنا نسلم أن جميع الملائكة أفضل ثوابا من المسيح ، وان كان المسيح أكثر ثوابا من كل واحد منهم ، وهو موضع الخلاف. لأنا لا نمنع من أن يكون الملائكة أكثر ثوابا من كل وأحد منهم ، وأنه كان كل نبي أكثر ثوابا من كل ملك.

ومما يجوز أن يقال في هذه أيضا : ان تأخير الذكر لا يحسن مع تفاوت الفضل وتباعده ، فأما مع التقارب والتساوي فهو حسن جائز ، ولهذا يحسن أن يقول القائل ما يأنف من لقائي والركوب الي زيد ولا عمرو وهو دون زيد في الفضل بيسير غير معتد به. وانما يقبح ذلك مع التفاوت بين الحارس والأمير.

وليس بين الملائكة والأنبياء من الفضل ما يظهر فيه التفاوت الذي لا يليق بتأخر ذكرهم.

__________________

(١) في «ن» : قوما.

١١٢

المسألة الرابعة

[مسألة الذر وحقيقته]

ما تقول في الاخبار التي رويت من جهة المخالف والموافق في الذر وابتداء الخلق على ما تضمن تلك الاخبار ، هل هي صحيحة أم لا؟ وهل لها مخرج من التأويل يطابق الحق؟.

الجواب :

ان الأدلة القاطعة إذ دلت على أمر وجب إثباته والقطع عليه ، وأن لا يرجع عنه بخبر محتمل ، ولا بقول معترض للتأويل ، وتحمل الأخبار الواردة بخلاف ذلك على ما يوافق تلك الدلالة ويطابقه ، وان رجعنا بذلك عن ظواهرها ، وبصحة هذه الطريقة نرجع عن ظواهر آيات القرآن التي تتضمن إجبارا أو تشبيها.

وقد دلت الأدلة أن الله تعالى لا يكلف الا البالغين الكاملين العقول ، ولا يخاطب الا من يفهم عند الخطاب.

وهذه الجملة تدل على أن من روى أنه خوطب في الذر وأخذت عنه (١)

__________________

(١) في «ن» : عليه.

١١٣

المعارف ، فأقر قوم ، وأنكر قوم كان عاقلا كاملا مكلفا. لانه لو كان بغير هذه الصفة لم يحسن خطابه ، ولا جاز أن يقر ، ولا أن ينكر.

ولو كان عاقلا كاملا لوجب أن يذكر الناس ما جرى في تلك الحال من الخطاب والإقرار والإنكار ، لان من المحال أن ينسي جميع الخلق ذلك ، حتى لا يذكروا ولا يذكره بعضهم.

هذا ما جرت العادات به ، ولو لا صحة هذا الأصل لجوز العاقل منا أن يكون أقام في بلد من البلدان متصرفا ، وهو كامل عاقل ثم نسي ذلك كله ، مع تطاول العهد ، حتى لا يذكر من أحواله تلك شيئا.

وانما لم نذكر ما جرى منا وانا في حال الطفولية ، لفقد كمال العقل في تلك الحال به(١) من تخلل أحوال عدم وموت من تلك الحال وأحوالنا هذه ويجعلونه سببا في عدم الذكر غير صحيح ، لان اعتراض العدم أو الموت بين الأحوال لا يوجب النسيان بجميع ما جرى مع كمال العقل.

ألا ترى أن اعتراض السكر والجنون والأمراض المزيلة للمعلوم بين الأحوال ، لا يوجب النسيان للعقلاء بما جرى بينهم.

فهذه الاخبار : اما أن تكون باطلة مصنوعة ، أو يكون تأويلها ـ ان كانت صحيحة ـ ما ذكرناه في مواضع كثيرة من تأويل قوله (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ)(٢).

وهو أن الله تعالى لما خلق الخلق وركّبهم تركيبا وأراهم الآيات والدلائل والعبر في أنفسهم وفي غيرهم ، يدل الناظر فيها المتأمّل لها على معرفة الله وإلهيته ووحدانيته ووجوب عبادته وطاعته ، جاز أن يجعل تسخيرها له وحصولها

__________________

(١) في «ن» : وما يجدون به.

(٢) سورة الأعراف : ١٧٢

١١٤

على هذه الصفات الدالة على ما ذكرناه إقرارا منها بالوحدانية ووجوب العبادة ، ويجعل تصييرها على هذه الصفات الدالّة على ما ذكرنا استشهادا لها على هذه الأمور.

وللعرب في هذا المعنى من الكلام المنثور والمنظوم ما لا يحصى كثرة ، ومنه قول الشاعر:

امتلأ الحوض وقال قطني

مهلا رويدا قد ملأت بطني

ومعنى ذلك : انني ملأته حتى أنه ممن يقول حسبي قد اكتفت ، فجعل ما لو كان قائلا لنطق ، كأنه قال ونطق به.

وهذا تأويل الآية والاخبار المروية في الذر ، وفي هذه الجملة كفاية.

١١٥

المسألة الخامسة

[مسألة البداء وحقيقته]

ما تقول في إطلاق لفظ «البداء» على الله تعالى؟ وهل هو لفظ له معنى مطابق للحق أم لا يجوز إطلاق هذه اللفظة على حال؟

الجواب :

وبالله التوفيق أما «البداء» في لغة العرب : هو الظهور ، من قولهم : بدا الشيء ، إذا ظهر وبان.

والمتكلمون تعارفوا فيما بينهم أن يسموا ما يقتضي هذا البداء باسمه ، فقالوا : إذا أمر الله تعالى بالشيء في وقت مخصوص على وجه معين بمكلف واحد ، ثم نهى عنه على هذه الوجوه كلها ، فهو بداء. لانه يدل عليه من حيث لم تظهر أمر لم يكن ظاهرا اما جاز أن يطابق المنهي أمر بهذه الطائفة (١).

وفرقوا بين النسخ والبداء باختلاف الوقتين في الناسخ والمنسوخ.

والبداء على ما حددناه لا يجوز على الله تعالى ، لانه عالم بنفسه ، لا يجوز له أن يتجدد كونه عالما ، ولا أن يظهر له من المعلومات ما لم يكن ظاهرا.

__________________

(١) في «ن» : المطابقة.

١١٦

ولهذا قالوا : إذا كان البداء لا يجوز عليه (١) لم يجز أيضا عليه ما يدل على البداء ، أو يقتضيه من النهي عن نفس ما أمر به على وجهه في وقته ، والمأمور والمنهي واحد.

وقد وردت أخبار آحاد لا توجب علما ، ولا تقتضي قطعا ، بإضافة البداء إلى الله تعالى ، وحملوها محققو أصحابنا على أن المراد بلفظة البداء فيها النسخ للشرائع ، ولا خلاف بين العلماء في جواز النسخ للشرائع.

وبقي ان نبين هل لفظة «البداء» إذا حملت على معنى النسخ حقيقة أو مستعارة؟ ويمكن ان ينص أنها حقيقة في النسخ غير المستعارة ، لان البداء إذا كان في اللغة العربية اسما للظهور.

وإذا سمينا من ظهر له من المعلومات ما لم يكن ظاهرا ، حتى اقتضى ذلك ان يأمر بنفس ما نهى عنه ، أو ينهى عن نفس ما أمر به ، أنه قد بدا ، لم يمتنع ان يسمي الأمر بعد النهي والحظر بعد الإباحة على سبيل التدريج ، فإنه بداء له ، لانه ظهر من الأمر ما لم يكن ظاهرا ، وبدا ما لم يكن بائنا ، بمعنى البداء الذي هو الظهور والبروز حاصل (٢) في الأمرين.

فما المانع على نفص الاستنفات (٣) ان يسمي الأمرين بداء ، لان فيهما معا ظهور أمر لم يكن ظاهرا.

فان قيل : هذا انما يسوغ إذا أطلق لفظة «البداء» ولم تضف ، فأما إذا أضيفت وقيل : «بدا له في كذا» فلا يليق الا بما ذكرناه دون ما خرجتموه ، لان اطلاع من أمر بعد نهي ، أو نهي بعد أمر على أمر ما كان مطلقا خصه ، فلا يتعدى

__________________

(١) في «ن» : عليهم.

(٢) ظ : الحاصل.

(٣) في «ن» : على يقضى اشتقاق اللغة أن يسمى. وظ : على مقتضى الاشتقاق.

١١٧

الى غيره ، فيجوز ان يقال على سبيل التخصيص : بدا له.

وليس كذلك النسخ ، لأن الأمر وان كان متجددا بعد النهي ، وكذلك الحظر بعد الإباحة ، فذلك مما لا يقتضي الإضافة على سبيل التخصيص ، لأن الأمر المتجدد ظاهر الأمر ، ولكل سامع له ومخاطب به.

قلنا : مرت (١) ضعيف ، لانه قد يجوز ان يضاف من البداء الذي هو الظهور ما شارك فيه غيره (٢) ، ولا يمنع مشاركته (٣) في ان ذلك بأدلة من إضافته الى الأمر. ألا ترى انه قد يجوز ان يظهر لي ولغيري من حسن الفعل أو قبحه ما لم يكن ظاهرا ، فأمر بعد نهي أو نهي بعد أمر ، فدل (٤) انه قد بدا له ويضاف اليه.

وان شاركه في انه ظاهر له غيره ، فالمشاركة ليس تنفي هذه الإضافة ، ويجوز له ان يكون القوي بهذه الإضافة ، وأن الأصل في ظهور هذا الأمر هو الفاعل له ، دون كل من سمعه ، لأنهم وان اشتركوا في العلم به عند ظهوره ، فالأصل في ظهوره هو الفاعل له ، فيقوم الإضافة لذلك.

وليس ينبغي ان ينكر هذا التخريج ، لأن أهل اللغة ما وافقونا على ان البداء لا يكون إلّا في الموضع الذي ذكره بعض المتكلمين ، وشرط بتلك الشرائط المشهورة.

بل قال أهل اللغة : ان البداء هو الظهور ، ولم يزيدوا على ذلك ، والمتكلمون قصروه على موضع بحسب ما اختاروه ، لان معنى البداء الذي هو الظهور ،

__________________

(١) في «ن» : هذا فرق.

(٢) في هامش النسخة : شاركين فيه غيري. وفي «ن» : ما يشاركني فيه غيري.

(٣) في «ن» مشاركة غيري.

(٤) في «ن» تدل.

١١٨

فيجوز لغيرهم ان يديه الى موضع آخر فيه أيضا معنى الظهور في اللغة لا قصر عليه ذلك.

ثم لو سلمنا لخصوص اللغة ان لفظ البداء يختص حقيقة بما ذكروه ، جاز ان يستعار في غيره وهو النسخ لان فيه معنى الظهور على كل حال.

وقد بان بهذه الجملة جميع ما يحتاج في هذه المسألة.

١١٩

المسألة السادسة

[تحقيق حول قوله عليه‌السلام نية المؤمن خير من عمله]

ما تقول في قوله «نية المؤمن خير من عمله» ، ومعلوم ان النية أخفض ثوابا من العمل ، وأبو هاشم يقول : ان العزم لا بدّ من ان يكون دون المعزوم عليه في ثواب وعقاب ، والا لزم ان يكون العزم على الكفر كفرا.

الجواب :

فيه وجهان إذا قدرنا لفظة «خير» في الخبر محمولة على المفاضلة.

أحدهما : ان يكون المراد نية المؤمن مع عمله العاري من نيته. وهذا ما لا شبهة في أنه كذلك.

والوجه الثاني : أن يريد نية المؤمن لبعض أعماله ، قد يكون خيرا من عمل آخر لا يتناوله هذه النية. وهذا صحيح ، فإن النية لا يجوز ان يكون خيرا من عملها نفسها.

وغير منكر ان يكون نية بعض الأعمال الشاقة العظيمة الثواب أفضل من عمل آخر دون ثوابها ، حتى لا يظن ظان أن النية لا يجوز ان تساوي أو تزيد على ثواب بعض الاعمال.

وهذان الوجهان فيها على كل حال ترك لظاهر الخبر ، لإدخال زيادة ليست في الظاهر. والتأويل الأول إذا حملنا لفظة «خير» على خلاف المبالغة والتفضيل مطابق للظاهر وغير مخالف له ، وفي هذا كفاية.

١٢٠