رسائل الشريف المرتضى - ج ١

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]

رسائل الشريف المرتضى - ج ١

المؤلف:

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار القرآن الكريم
المطبعة: مطبعة الخيام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٥٧

١
٢

(١)

جوابات السائل التبانيات

٣
٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

بحمد الله نستفتح كل قول ، ونستعين على كل عمل ، وبأنوار هدايته نسترشد في الشبهات ، ونستضيء في الظلمات ، وإياه جلت عظمته نسأل أن يصلي أولا وآخرا على سيدنا محمد نبيه وصفية ، وعلى آله الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم من الأنجاس وتبرأهم من الأدناس ، صلاة سالمة من الرياء ، لازمة للاستواء ، موصولة غير مقطوعة ، ومبذولة غير ممنوعة ، وسلم عليهم تسليما.

ومن بعد : فانني وقفت على المسائل التي سألت ـ أحسن الله توفيقك ، وأجزل من كل خير نصيبك ـ الجواب عنها ، والإيضاح لما أشكل منها. فوجدتها عند التصفح والتأمل دالة على فكر دقيق التوصل ، لطيف التغلغل ، فكم من شبهة كانت لقوتها ودقتها أدل على الفطنة من حجة جلية ظاهرة.

وأنا أجيب عن هذه المسائل بما يتسع له وقتي المضيق ، وقلبي المتقسم المتشعب ، ومن الله تعالى أستمد المعونة والتوفيق ..

حكاية ما افتتحت به .. المسائل .. إذا كان الله جلت عظمته وتقدست

٥

أسماؤه ، فقد أنعم على الكافة بسيدنا الأجل المرتضى ذي المجدين علم الهدى أدام الله سلطانه ، وأعز نصره ، وأيد الإسلام وأهله بدوام بقائه ، وكبت أعداءه وجعل (١) المفزع فيما يعرض لهم من أمر دينهم ، فيكشف ملتبسه ، ويوضح مشكلة ، ويظهر خفيه ، ويبين مجمله، ويزيل بذلك ريبهم ، وينفي شكهم ، ويشرح صدورهم ، ويسكن نفوسهم.

ولا عذر بعد هذه النعمة لمن أقام على ظلمة الريب ومنازعة الشك ، مع التمكن من مفارقتهما والراحة من مجاهدتهما. وأحق ما سأل (٢) المسترشد ، وطلب معرفته المتدين ، ما لا رخصة في إهماله ، ولا توسعة في إغفاله ، هو (٣) العلم بما يلزمه من العبادات الشرعية والأحكام السمعية ، التي لا ينفك المكلف من وجوبها ، ولا يخلو من لزومها ، ولا يصح منه التقرب بها والأداء لما يجب عليه منها الا بعد معرفتها ، والتمييز لها من غيرها.

وإذا تضمن السؤال ما هذه حاله ، فقد تعين على من لا يتمكن من الجواب عنه غيره فرضه ، ولزمه بذله وبيانه.

وها أنا سائل مسترشد ، وطالب متفهم ، وذاكر ما استفدته من المجلس الأشرف عند الدروس ، وحصلته بالمسائلة والبحث ، وراغب الى الدين المهذب والورع المتنزه ، في إجابتي بما يكون عليه اعتمادي ، واليه مفزعي ، ويحتسبه عملي ، وعليه معولي ، وله في ذلك على الرأي إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) ظ : جعله.

(٢) ظ : سأله.

(٣) ظ : وهو.

٦

الفصل الأول

[الطريق إلى معرفة الاحكام الشرعية عن أدلتها]

الذي يظهر منا عند المناظرة لمخالفينا ، التخطئة لهم فيما يرونه ويذهبون اليه ، من إثبات العبادات والاحكام بالقياس والاستحسان ، والاجتهاد بالرأي ، وبأخبار الآحاد. التي يعترفون بفقد العلم بصدق رواتها ، وتجويز الخطأ [على](١) ناقليها.

وبإجماع ما يجوزون تعمد الباطل على كل واحد منهم ، ولا يعتبرون حصول المقصود فيهم ، وان ذلك بدعة وضلال من فعلهم. وهذا سبيل ما تدعونه (٢) من الطريق الى ثبوت الإجماع من الأمة ، والعلم به أنهم لا يعرفون مخالفا لما قالوا لان فقد العلم بالخلاف والنكير لا يدل على الرضا والتدين.

وان كان جميع ما عددناه فاسدا ، فهل بقي بعده ما يتوصل به الى إثبات العبادات والاحكام؟ والإجماع أمر زائد على ظواهر القرآن والمتواتر من الاخبار وان كان هناك زيادة فما هي؟

__________________

(١) الزيادة منا.

(٢) ظ : ما يدعونه.

٧

وهل من جملتها ما يذكره كثير من أصحابنا عند ورود الخبرين اللذين لا يوجد مغمز في ناقليهما وظنهم تنافيهما ، وأنه لا بدّ من اطراح العمل بأحدهما ومن أن عمل الطائفة بواحد يعينونه (١) منهما؟

وهل ما يذكرونه قرينة للرواية ، يحصل لأجلها طريق العلم أم لا؟ وان كان عمل الطائفة قرينة ، فما المراد بالطائفة؟ وهل هم جميع من تدين بالإمامة من مشارق الأرض ومغاربها أو بعضهم؟

فان كان المراد الكل فما الطريق التي نتوصل به الى معرفة عملها ، ولسنا نشاهد جميعها ، ولا تواتر ثابت ينافي فعل من لم نشاهد منها؟

وما الذي نعول عليه بعد فقد هذين منها؟ وان كان هناك طريق للعلم بعمل لم نشاهده ولا تواتر علينا الخبر عنه ، فما المانع من سلوكه في معرفة عمل الرسول والامام (صلوات الله عليهما والسلام)؟.

اللهم الا أن يكون الطريق مختصا بالطائفة ، ومحالا ثبوته في عمل الرسول والامام ، فما هو؟ وما وجه احالته؟ وهل هو أيضا أم يختص (٢) بصحة التعلق به دون من يخالفنا فيما يدعونه من ثبوت الإجماع فيما يمنعهم منه نحن القول بأنا لا نعلم مخالفا من الطائفة.

وما الفرق بين القائل لذلك؟ وبين من قال مثله في عمل الرسول والامام؟ إذا لم يكن معنا علم بعمل من غاب عنا (٣).

ولم صار القائل بأني إذا لم أعلم أن من غاب عني من الطائفة عامل بما

__________________

(١) ظ : يعين العمل به.

(٢) ظ : أمر نختص.

(٣) في هامش النسخة : عنى.

٨

تضمنه الروايتين (١) وقطعنا على أنهم عاملون بما تضمنه الرواية الأخرى ، أولى ممن عكس ذلك ، وقال : إذا لم أعلم أن من غاب عني من الطائفة عامل بما تضمنه الرواية الأخرى ، قطعت على أنهم عاملون بما تضمنه الرواية التي ادعيت نفي عملهم بها.

ثم له أن يسلك مثل ذلك في فعل الرسول والامام ، فيعين احدى الروايتين ويقول : إذا لم أعلم أن الرسول والامام عاملان بها ، قطعت على أنهما عاملان بالأخرى.

ويكون بهذا القول أولى ، لأن الدواعي إلى نقل ما يفعله الرسول والامام مما فيه تبيان للدين ، وما يلزم المكلفين متوفرة ، لأنهما الحجة والمفزع ، وعلى قولهما وفعلهما المعول ، والتواتر به والحفظ به ممكن متسهل ، ونقل فعل جميع من يتدين بالإمامة في مشارق الأرض ومغاربها ، حتى لا يبقى منهم واحد ممتنع متعذر ، ولو كان ممكنا متسهلا لم يكن الى حفظه ونقله داع.

هذا ان أريد بالطائفة الكل ، فأما ان أريد البعض فمن ذلك البعض؟ وما الذي أفردهم بهذا الحكم وقصره عليهم دون غيرهم.

وأي الأمرين أريد بالطائفة ـ أعني الكل أو البعض ـ هل العلم بحصول المعصوم فيها ووجود علمه في جملة علمها معتبر أم لا؟ فان كان معتبرا فما الطريق اليه؟

وما الذي إذا سلكناه لأن (٢) دلالة عليه مع فقد المشاهدة والتواتر؟ وهل لنا

__________________

(١) الظاهر زيادة كلمة الواو.

(٢) لعل الصحيح «كان».

٩

أن نقول إذا علمنا صحة حكم من الاحكام فلا .. (١) خطابه (٢) عزوجل وقف على الدليل الدال على إضافته إليه.

[الطريق إلى معرفة خطاب الله والرسول]

وقد يعلم في بعض الخطاب أنه كلامه تعالى بوجوه : منها أن يختص بصفة لا تكون الا لكلامه تعالى ، مثل أن يختص بفصاحة وبلاغة خارجين عن العادة فعلم أنه من مقدور غير البشر ، كما يذهب أيضا من جعل إعجاز القرآن من جهة الفصاحة الخارقة للعادة.

وقد اعتمد قوم في إضافته في كلامه اليه تعالى على أن يحدث على وجه لا يتمكن البشر من أحداثه عليه ، كسماعه من شجرة ، أو ما يجري مجراها.

وهذا ليس بمعتمد ، لان سماع الكلام من الشجرة يدل على أنه ليس من فعل البشر ، من أين أنه ليس من فعل جني وملك سلكا أفنان الشجرة وخلالها وسمع ذلك من كلامه.

وهذا القدح أيضا يمكن أن يعترض به في الفصاحة. اللهم الا أن يتقدم لنا العلم بأن فصاحة الجن والملائكة لا تزيد على فصاحة البشر ، فيكون ذلك الوجه دليلا على أنه من كلام الله تعالى.

والوجه المعتمد في إضافة الخطاب الى الله تعالى ، أن يشهد الرسول المؤيد

__________________

(١) قال في هامش النسخة : بياض في نسخة الأصل المصحح بجملة من يعتمد تصحيحه ، وهكذا في موارد أخر من هذه الأوراق انتهى. ويؤيده ما في الذريعة [٥ ـ ٢١٧] قال : في أثناء الفصول بياضات في النسخة التي رأيتها. إلخ.

(٢) الظاهر أن هذا من جملة جواب السيد المرتضى ، وأجاب بأنه لا بدّ من العلم بطريق الذي هو خطابه تعالى وخطاب الرسول والامام ، فأما خطابه عزوجل ـ إلخ.

١٠

بالمعجز المقطوع على صحة نبوته وصدقه ، بأن ذلك الكلام من كلامه تعالى فيقطع العلم ويزول الريب ، كما فعل نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله بسور القرآن.

وأما الطريق إلى معرفة خطاب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والامام عليه‌السلام فقد يكون بالمشافهة لمن يشهدهما ، ويعلم ضرورة اضافة الخطاب إليهما.

ومن نأى عنهما فطريقه الى هذه المعرفة الخبر المتواتر الذي يفضي الى العلم.

[إثبات حجية الإجماع]

وها هنا طريق آخر يجري في وقوع العلم مجرى التواتر والمشافهة ، وهو أن يعلم عند عدم تمييز عين الامام وانفراد شخصه ، إجماع جماعة على بعض الأقوال ، يوثق بأن قوله داخل في جملة أقوالهم.

فإن قيل : هذا القسم أيضا لا يخرج عن المشافهة أو التواتر ، لأن إمام العصر إذا كان موجودا ، فاما أن يعرف مذهبه وأقواله مشافهة وسماعا ، أو بالمتواتر عنه.

قلنا : الأمر على ما تضمنه السؤال غير أن الرسول والامام إذا كان متميزا متعينا ، علمت مذاهبه وأقواله بالمشافهة أو بالتواتر عنه. وإذا كان مستترا غير متميز العين ـ وان كان مقطوعا على وجوده واختلاطه بنا ـ علمت أقواله بإجماع الطائفة التي نقطع على أن قوله في جملة أقوالهم ، وان كان العلم بذلك من أحواله لا يعد واما المشافهة أو التواتر ، وانما يختلف الحالان بالتمييز والتعيين في حال ، وفقدهما في أخرى.

فإن قيل : من أين يصح العلم بقول الإمام إذا لم يكن متعينا متميزا ، وكيف يمكن أن يحتج بإجماع الفرقة المحقة في أن قوله داخل في جملة أقوالهم.

أو ليس هذا يقتضي أن تكونوا قد عرفتم كل محق في سهل وجبل

١١

وبر وبحر وحزن ووعر ، ولقيتموه حتى عرفتم أقواله ومذاهبه ، أو أخبرتم بالتواتر عن ذلك ، ومعلوم لكل عاقل استحالة هذا وتعذره.

وليس يمكنكم أن تجعلوا إجماع من عرفتموه من الطائفة المحقة هو الحجة ، لأنكم لا تأمنون من أن يكون قول الإمام الذي هو الحجة في الحقيقة خارجا عنه.

قلنا : هذه شبهة معروفة مشهورة ، وهي التي عوّل عليها واعتمدها من قدح في الإجماع ، من جهة أنه لا يمكن معرفة حصوله واتفاق الأقوال كلها على المذهب الواحد. والجواب عن ذلك سهل واضح.

وجملته : أنه لا يجب دفع حصول العلم الذي لا ريب فيه ولا شك ، لفقد العلم بطريقه على سبيل التفصيل. فان كثيرا من العلوم قد تحصل من غير أن تنفصل المعالم طريقها.

ألا ترى ان العلم بالبلدان والأمصار والحوادث الكبار والملوك العظام ، فإنه يحصل بلا ارتياب لكل عاقل يخالط الناس حتى لا يعارضه شك ، ولو طالبته بطريق ذلك على سبيل التفصيل لتعذر عليه ذكره والإشارة اليه.

ولو قيل لمن عرف البصرة والكوفة وهو لم يشاهدهما ، وقطع على بدر وحنين والجمل وصفين وما أشبه ذلك : أشر الى من خبرك بهذا ، وعين من أنبأك به ، وكيف حصل لك العلم به؟ لتعذر عليه تفصيل ذلك وتمييزه ولم يقدح تعذر التمييز والتفصيل عليه في علمه بما ذكرناه ، وان كان عند التأمل على الجملة أنه علم ذلك بالاخبار ، وان لم ينفصل له كل مخبر على التعيين.

وإذا كانت مذاهب الأمة مستقرة على طول العهد وتداول الأيام ، وكثرة الخوض والبلوى ، وتوفر الدواعي وقوتها ، فما خرج عن المعلوم منها نقطع على أنه ليس مذهبا لها ولا قول من أقوالها.

وكذلك إذا كانت مذاهب فرق الأمة على اختلافها مستمرة مستقرة على

١٢

طول الأزمان ، وتردد الخلاف ، ووقوع التناظر والتجادل ، جرى العلم بإجماع كل فرقة على مذاهبها المعروفة المألوفة وتميزه مما بائنة وخالفه ، مجرى العلم بمذاهب جميع الأمة وما وافقه وخرج عنه.

ومن هذا الذي يشك في أن تحريم الخمر ولحم الخنزير والربا ، ليس من مذهب أحد المسلمين ، وان كنا لم نلق كل مسلم في البر والبحر والسهل والوعر.

وأي عاقل من أهل العلم يرتاب في أن أحدا من الأمة لم يذهب في الجد والأخ إذا انفردا في الميراث ، أن المال للأخ لا للجد ، وأن الاخوة من الام يرثون مع الجد.

وإذا كانت أقوال الأمة على اتساعها وانتشارها في الفتاوي تنضبط لنا ، حتى لا نشك فيما دخل فيها وما خرج عنها ، فكيف يستعبد انحصار أقوال الشيعة الذين نذكر أن قول الحجة فيهم ، ومن جملة أقوالهم ، وهم أقل عددا وأقرب انحصارا؟.

أو ليس أقوال أبي حنيفة وأصحابه والشافعي ، والمختلف من أقوالهم قد انحصرت ، حتى لا يمكن أحدا أن يدعي أن حنفيا أو شافعيا يذهب الى خلاف ما عرف وظهر وسطر، وان لم تجب البحار وتحل الأمصار وتشافه كل حنفي وشافعي. فما المنكر من مثل ذلك في أقوال الشيعة الإمامية؟

وان أظهر مظهر الشك في جميع ما ذكرنا منه القليل وهو الكثير الغريز وقال : انني لا أقطع على شيء مما ذكرتم أنه مقطوع عليه ، لفقد طريق العلم الذي هو المشاهدة أو التواتر. لحق بالسمنية جاحدي الاخبار ، وقرب من السوفسطائية منكري المشاهدات.

ولا فرق البتة عند العقلاء من تجويز مذهب للأمة لم نعرفه ولم نألفه ولم

١٣

ينقل إلينا ، مع كثرة البحث واستمرار الخوض. وبين بلد عظيم في أقرب المواضع مما لم ينقل خبره إلينا ، وحادثة عظيمة لم نحط بها علما.

وقيل لمن تعلق بذلك : ان كنت تدفع العلم عن نفسك والسكون الى ما ذكرناه ، فأنت مكابر كالسمنية والسوفسطائية. وان كنت تقول : طريق العلم متعذر ، لانه المشاهدة والتواتر وقد ارتفعا.

قلنا لك : ما تقدم من أن التفصيل قد يتعذر مع حصول العلم ، والتواتر والمشاهدة في الجملة طريق الى ما ذكرناه ، غير أنه ربما تجلى ويعتق ، وربما التبس واشتبه. ولن يلتبس الطريق ويتعذر تفصيله الّا عند قوة العلم وامتناع دفعه.

ألا ترى أن العالم بالبلدان والحوادث الكبار على الوجه القوي الجلي ، لو قيل له : من أين علمت؟ ومن خبّرك ونقل إليك؟ لتعذر عليه الإشارة الى طريقه. وليس هكذا من علم شيئا بنقل خاص متعين ، لانّه يتمكن متى سئل عن طريق علمه أن يشير اليه.

فقد صار تعذر التفصيل للطريق علما على قوة العلم وشدة اليقين ، فلهذا استغني عن تفصيل طريقه.

وانما يحتاج الى تعيين الطريق فيما لم يستو العلم بالطريق المعلوم ، فأما ما يستو (١) فيه قوة المعلوم بوضوحه وتجليه وارتفاع الريب والشك فيه ، فأي حاجة الى العلم بتعيين طريقه؟

[دخول الامام عليه‌السلام في الإجماع]

وبعد ، فالإجماع الموثوق به في الفرقة المحقة ، هو إجماع الخاصة دون

__________________

(١) ظ : يستوي فيه.

١٤

العامة ، والعلماء دون الجهال. ومعلوم أن الحصر أقرب الى ما ذكرناه.

ألا ترى أن علماء أهل كل نحلة وملة في العلوم والآداب ، معروفون محصورون متميزون، وإذا كانت أقوال العلماء في كل مذهب مضبوطة ، والامام لا يكون الا سيد العلماء وأوحدهم ، فلا بد من دخوله في جملتهم ، والقطع على أن قوله كقولهم.

وهل الطاعن على الطريقة التي ذكرناها بأنا لم نلق كل امامي ولا عرفناه ، الا كالطاعن في إجماع النحويين واللغويين على ما أجمعوا عليه في لغاتهم وطرقهم ، بأنا لم نلق كل نحوي ولغوي في الأقطار والأمصار ، ويلزمنا الشك في قول زائد على ما عرفناه من أقوالهم المسطورة المشهورة.

فإن قيل : لم يبق الا أن تدلوا على أن قول الامام مع عدم تميزه وتعينه في جملة أقوال الشيعة الإمامية خاصة دون سائر الفرق ، حتى تقع الثقة بما يجمعون عليه ويذهبون اليه ، ولا ينفع أن يكون قوله موجودا في جملة أقوال الأمة ، من غير أن يتعين لنا الفرقة التي قوله فيها ولا يخرج عنها.

قلنا : إذا دل الدليل القاهر على أن الحق في قول هذه الفرقة دون غيرها ، فلا بد من أن يكون الإمام الذي نثق بأنه لا يفارق الحق ولا يعتمد سواه ، مذهبه مذهب هذه الفرقة ، إذ لا حق سواه.

وكما نعلم مع غيبته وتعذر تمييزه أن مذهبه مذهب أهل العلم والتوحيد ، ثم مذهب أهل الإسلام من جملتهم ، من حيث علمنا أن هذه المذاهب هي التي دل الدليل على صوابها وفساد ما عداها. فكذلك القول في الامام.

وإذا فرضنا أن الامام امامى المذهب ، علمنا بالطريق الذي تقدم في مذهب مخصوص، أن كل امامى عليه ، وزال الريب في ذلك. فقد بان أن إجماع الإمامية على قول أو مذهب لا يكون الا حقا ، لأنهم لا يجمعون الا وقول الامام

١٥

داخل في جملة أقوالهم ، كما أنهم لا يجمعون الا وقول كل عالم منهم داخل في جملة أقوالهم.

فإن عاد السائل الى أن يقول : فلعل قول الامام وان كان موافقا للإمامية في مذاهبها لم تعرفوه ولم تسمعوه (١) ، لأنكم ما لقيتموه ولا تواتر عنه الخبر على التمييز والتعيين.

فهذا رجوع الى الطعن في كل إجماع وتشكيك في الثقة بإجماع كلّ فرقة على مذهب مخصوص ، وليس بطعن يختص ما نحن بسبيله.

والجواب عنه قد تقدم مستقصى ، وأوضحنا أن التشكيك في ذلك دفع للضروريات ولحوق بأهل الجهالات.

[الإجماع حجة في كل حكم ليس له دليل]

وإذ قد قدمنا تقديمه مما هو جواب عند التأمل عن جميع ما تضمنه الفصل الأول ، فنحن نشير الى المواضع التي تجب الإشارة إليها ، والتنبيه على الصواب فيها من جملة الفصل.

أما ما مضى في الفصل من أنكم إذا اطلعتم على طرق مخالفيكم التي يتوصلون بها الى الأحكام الشرعية ، لا بدّ من ذكر طريق لا يلحقه تلك الطعون ، توضحون أنه موصل الى العلم بالأحكام ، فلعمري أنه لا بدّ من ذلك.

وقد بينا فيما قدمناه كيف الطريق الى العلم بالأحكام وشرحناه وأوضحناه ، وليس رجوعنا الى عمل الطائفة وإجماعها في ترجيح أحد الخبرين الروايين على صاحبه أمرا يختص هذا الموضع ، حتى يظن ظان أن الرجوع الى إجماع الطائفة انما هو في هذا الضرب من الترجيح.

__________________

(١) فيما لا يعرفوه ولا يسمعوا به. كذا في هامش النسخة.

١٦

بل نرجع إلى إجماعهم في كل حكم لم نستفده بظاهر الكتاب ، ولا بالنقل المتواتر الموجب للعلم عن الرسول أو الإمام عليه‌السلام ، سواء ورد بذلك خبر معين أو لم يرد ، وسواء تقابلت فيه الروايات أو لم تتقابل ، لأنّ العمل بخبر الواحد المجرّد ليس بحجة عندهم على وجه من الوجوه ، انفرد من معارض أو قابله غيره على سبيل التعارض.

فأما ما مضى في الفصل من ذكر طرف المشارق والمغارب والسهول والوعور ، وأن ذلك إذا تعذر لم يقع الثقة بعموم المذهب بكل واحد من الفرقة. فقد مضى الجواب عنه مستوفى مستقصى ، وبينا أن العلم بذلك حاصل ثابت بالمشافهة والتواتر ، وان [لم] تجب البلاد وتعرف كل نسالها.

فأما التقسيم الذي ذكر أنه لا يخلو القائل بأن الفرقة أجمعت ، من أن يريد كل متدين بالإمامة ومعتقد لها ، أو يريد البعض ، وتعاطي إفساد القسم الأول بما تقدم ذكره.

والكلام على الثاني بالمطالبة بالدليل المميز لذلك البعض من غيرهم ، والحجة الموجبة لكون الحق فيه ، ثم بإقامة الدلالة على أن قول الامام المعصوم الذي هو الحجة على الحقيقة في جملة أقوال ذلك البعض دون (١) ما عداهم من أهل المذاهب.

فالكلام عليه أيضا مستفاد بما تقدم بيانه وإيرادنا له ، غير أنا نقول : ليس المشار بالإجماع الذي نقطع على أن الحجة فيه الى إجماع العامة والخاصة والعلماء والجهال. وانما المشار بذلك إلى إجماع العلماء الذين لهم في الأحكام الشرعية أقوال مضبوطة معروفة ، فأما من لا قول له فيما ذكرناه ـ ولعله لا يخطر بباله ـ أي إجماع له يعتبر.

__________________

(١) ظ : من.

١٧

[كيفية العلم بدخول قول الإمام في الإجماع]

فأمّا الدليل على أن قول الإمام في هذا البعض الذي عيناه دون غيره فواضح ، لأنه إذا كان الامام عليه‌السلام أحد العلماء بل سيدهم ، فقوله في جملة أقوال العلماء.

وإذا علمنا في قول من الأقوال أنه مذهب لكل عالم من الإمامية فلا بد من أن يكون الامام عليه‌السلام داخلا في هذه الجملة ، كما لا بدّ من أن يكون كل عالم امامي ، وان لم يكن اماما يدخل في الجملة .. (١).

قرينة للخبر لا يخلو من أن يعتبر فيه العلم بعمل المعصوم في جملة عملهم الى آخر الفصل.

فالكلام عليه أن عمل المعصوم هو الحجة دون عمل غيره ممن انضم اليه ولا حجة في عمل الجماعة التي لا يعلم دخول المعصوم فيها ، ولا هو أيضا إذا خرج المعصوم منه ، إجماع جميع أهل الحق. ولو انفرد لنا عمل المعصوم وتميز ، لما احتجنا الى سواه ، وانما راعينا عند فقد التمييز دخوله في جملة غيره ، لنثق بأن قوله في جملة تلك الأقوال.

ولا معنى لقول من يقول : فإذا كان علمه (٢) مستقلا بنفسه في كونه حجة ودلالة ، فلا اعتبار بغيره. لأنا ما اعتبرنا غيره الا على وجه مخصوص ، وهو حال الالتباس ، وما كان اعتبارنا لغيره الا توصلا اليه ولنثق بما نعلمه.

__________________

(١) بياض في النسخة والظاهر أن يكون : إذا كان عمل الطائفة قرينة لصحة الخبر من حيث وجود المعصوم فيها ، فما الوجه في اعتبار عمل غيره؟ وما الوجه في العلم بصدق الخبر.

(٢) ظ : عمله.

١٨

فأما مطابقة فائدة الخبر بعمل المعصوم ، فلا شبهة في أنها لا تدل على صدق الراوي فيما رواه ، ومن هذا الذي جعل فيما رواه المطابقة دليلا على صدق الراوي.

والذي يجب تحصيله في هذا أن الفرقة المحقة إذا علمت (١) بحكم من الاحكام أو ذهبت الى مذهب من المذاهب ، ووجدنا روايته مطابقة لهذا العمل لا نحكم بصحتها ونقطع على صدق رواتها ، لكنا نقطع على وجوب العمل بذلك الحكم المطابق للرواية ، لا لأجل الرواية ، لكن بعمل المعصوم الذي قطعنا على دخوله في جملة عمل القائلين بذلك الحكم.

اللهم الا أن تجمع الفرقة المحقة على صحة خبر وصدق راويه ، فيحكم حينئذ بذلك مضافا الى العمل.

فان قيل : وكيف تجمع الفرقة المحقة على صدق بعض أخبار الآحاد ، وأي طريق لها الى ذلك؟

قلنا : يمكن أن تكون عرفت ذلك بأمارة ، أو علامة على الصادق (٢) من طريق الجملة. ويمكن أيضا أن يكونوا عرفوا في راو بعينه صدقه على سبيل التمييز والتعيين ، لأن هؤلاء المجمعين من الفرقة المحقة قد كان لهم سلف قبل سلف يلقون الأئمة عليهم‌السلام الذين كانوا في أعصارهم ، وهم ظاهرون بارزون تسمع أقوالهم ويرجع إليهم في المشكلات.

وفي الجملة : إجماع الفرقة المحقة لأن المعصوم فيه حجة ، فإذا أجمعوا على شيء قطعنا على صحته ، وليس علينا أن نعلم دليلهم الذي أجمعوا لأجله

__________________

(١) ظ : عملت.

(٢) ظ : دلت على الصدق.

١٩

ما هو بعينه ، فان ذلك عنا موضوع ، لان حجتنا التي عليها نعتمد هي إجماعهم لا ما لأجله كان إجماعهم.

ومخالفونا في مسألة الإمامة بمثل هذا الجواب يجيبون إذا سئلوا عن علل الإجماع وطرقه وأولويته.

فإن قيل : فما تقولون في خبرين واردين من طرق الآحاد تعارضا وتنافيا ، ولم تعمل الفرقة المحقة بما يطابق فائدة أحدهما ، ولا أجمعوا في واحد منهما على صحة ولا فساد.

قلنا : لا نعمل بشيء من هذين الخبرين ، بل يكونان عندنا مطروحين وبمنزلة ما لم يرد، ونكون على ما تقتضيه الأدلة الشرعية في تلك الاحكام التي تضمنها الأخبار الواردة من طريق الآحاد. وان لم يكن لنا دليل شرعي في ذلك ، استمررنا على ما يقتضيه العقل

٢٠