أصول الفقه المقارن فيما لا نصّ فيه

الشيخ جعفر السبحاني

أصول الفقه المقارن فيما لا نصّ فيه

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-155-6
الصفحات: ٣٩٤

وتحديد مجرى كلّ أصل متميّزاً عن مجرى أصل آخر ، وهذا هو المهم في المقام ، وقد اختلفت كلمتهم في تحديد مجاريها والصحيح ما يلي :

تحديد مجاري الأُصول

إنّ الشكّ إمّا أن يكون ملحوظاً فيه اليقين السابق عليه أو لا يكون. فالأوّل مورد الاستصحاب ؛ والثاني إمّا أن يكون الاحتياط فيه ممكناً ، أو لا ؛ والثاني مورد التخيير ، والأوّل إمّا أن يدلّ دليل عقلي على ثبوت العقاب بمخالفة الواقع المجهول أو لا ؛ والأوّل مورد الاحتياط ، والثاني مورد البراءة.

وعلى ذلك فقد عُيِّن مجرى كلّ أصل بالنحو التالي :

أ. مجرى الاستصحاب : أن تكون الحالة السابقة ملحوظة.

ب. مجرى التخيير : أن لا تكون الحالة السابقة ملحوظة وكان الاحتياط غير ممكن.

ج. مجرى الاشتغال : إذا أمكن الاحتياط ونهض دليل على العقاب لو خالف.

د. مجرى البراءة : إذا أمكن الاحتياط ولم ينهض دليل على العقاب بل على عدمه من العقل ، كقبح العقاب بلا بيان ، أو من الشرع كحديث الرفع.

ومما ذكرنا يُعلم أنّ ما هو المعروف من أنّ الشكّ في التكليف مجرى البراءة غير تام بل مجرى البراءة عمّا لم ينهض فيه دليل على العقاب في صورة وجود التكليف ، وإلّا يجب الاحتياط وإن كان الشكّ في التكليف كما في الشكّ فيه قبل الفحص فيجب الاحتياط مع كون الشكّ في التكليف.

كما أنّ ما هو المعروف من أنّ الشكّ في المكلّف به الذي هو عبارة عمّا إذا

٤١

علم نوع التكليف مع تردد المكلّف به بين أمرين ، كالعلم بوجوب إحدى الصلاتين مجرى الاحتياط غير تام ، بل مجرى الاشتغال هو ما إذا أمكن الاحتياط ونهض دليل على العقاب لو خالف وإن كان نوع التكليف مجهولاً كما إذا علم بوجوب شيء أو حرمة شيء آخر ، فالعلم بالالزام أي الجنس الجامع بين الوجوب والحرمة موجب للاحتياط لوجود الدليل على العقاب وإن كان نوع التكليف مجهولاً.

والحاصل : انّ ما ذكرنا من الميزان لمجرى البراءة والاشتغال أولى من جعل الشكّ في التكليف مجرى البراءة والشكّ في المكلّف به مجرى الاشتغال.

هذه هي الأُصول العملية الأربعة وهذه مجاريها على النحو الدقيق ، وإليك البحث في كلّ من هذه الأُصول العملية الأربعة واحداً تلو الآخر.

٤٢

الأصل

الأوّل أصالة البراءة

دلّت الأدلة على أنّ الوظيفة العملية فيما إذا أمكن الاحتياط ولكن لم ينهض دليل على العقاب حسب تعبيرنا أو إذا كان الشكّ في التكليف حسب تعبير المشهور هو البراءة وعدم وجوب الاحتياط ، فلنذكر ما هو المهم من الأدلة روماً للاختصار :

الاستدلال بالكتاب

١. التعذيب فرع البيان

دلّت آيات الذكر الحكيم على أنّه سبحانه لا يعذِّب قوماً على تكليف إلّا بعد بعث الرسول الذي هو كناية عن بيان التكليف ، وقد تواتر ذلك المضمون في الآيات الكريمة نذكر منها ما يلي :

١. قال سبحانه : (مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً). (١)

__________________

(١) الإسراء : ١٥.

٤٣

٢. وقال تعالى : (وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ). (١)

والاستدلال بالآيتين مبني على أمرين :

الأوّل : انّ صيغة «وما كنّا» أو «وما كان» تستعمل في إحدى معنيين : إمّا نفي الشأن والصلاحية لقوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) (٢) ، أو نفي الإمكان كقوله تعالى : (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً). (٣)

الثاني : انّ بعث الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) كناية عن إتمام الحجّة على الناس ، وبما انّ الرسول أفضل واسطة للبيان والإبلاغ أُنيط التعذيب بالرسول ، وإلّا يصحّ العقاب ببعث غيره أيضاً لوحدة المناط وحصول الغاية المنشودة.

وعلى ضوء ذلك : فلو لم يبعث الرسول بتاتاً ، أو بعث ولم يتوفق لبيان الأحكام أبداً ، أو توفق لبيان البعض دون البعض الآخر ، أو توفق للجميع لكن حالت الحواجز بينه وبين بعض الناس ، لقبح العقاب إلّا من وصل إليه التكليف ، وذلك لاشتراك جميع الصور في عدم تمامية الحجة.

والمكلف الشاك في حكم من الأحكام كالحرمة والوجوب من مصاديق القسم الأخير ، فإذا لم يصل إليه البيان لا بالعنوان الأوّلي ولا بالعنوان الثانوي كإيجاب الاحتياط ، ينطبق عليه قوله سبحانه : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) أي نُبيّن الحكم والوظيفة.

__________________

(١) (القصص : ٥٩.)

(٢) (البقرة : ١٤٣.)

(٣) آل عمران : ١٤٥.

٤٤

ولأجل ذلك نرى أنّه سبحانه يعلّق إهلاك القرية على وجود المنذر ويقول : (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ). (١) هذا كلّه حول الآيتين الأُوليين.

٣. وقال سبحانه : (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى). (٢)

٤. وقال سبحانه : (وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ). (٣)

والاستدلال بهما مبني على أنّه سبحانه استصوب منطق المجرمين ، وهو انّ التعذيب قبل البيان قبيح ، فأرسل الرسل لإفحام المشركين ودحض حجتهم يوم القيامة ، فلو كان منطقهم عند عدم البيان منطقاً ، زائفاً كان عليه سبحانه نقض منطقهم ببيان انّ التعذيب صحيح مطلقاً مع أنّا نرى أنّه سبحانه استصوبه وأرسل الرسل لإتمام الحجّة.

٢. الإضلال فرع البيان

قال سبحانه : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ). (٤)

وجه الاستدلال : انّ التعذيب من آثار الضلالة ، والضلالة معلَّقة على بيان التكليف في الآية ، فيكون التعذيب معلَّقاً عليه ، فينتج انّه سبحانه لا يعاقب إلّا بعد بيان ما يجب العمل أو الاعتقاد به.

__________________

(١) (الشعراء : ٢٠٨.)

(٢) (طه : ١٣٤.)

(٣) (القصص : ٤٧.)

(٤) التوبة : ١١٥.

٤٥

فإن قلت : ما هو المراد من إضلاله سبحانه ، فإنّ الإضلال أمر قبيح فكيف نسب إلى الله سبحانه؟

قلت : إنّ الإضلال يقابل الهداية ، وهي على قسمين ، فيكون الإضلال أيضاً مثلها.

توضيحه : انّ لله سبحانه هدايتين :

هداية عامّة تعمّ جميع الناس من غير فرق بين إنسان دون إنسان حتى الجبابرة والفراعنة ، وهي تتحقق ببعث الرسل وإنزال الكتب ودعوة العلماء إلى بيان الحقائق ، مضافاً إلى العقل الذي هو رسول باطني ، وإلى الفطرة التي تسوق الإنسان إلى فعل الخير.

وهداية خاصّة وهي تختص بمن استفاد من الهداية الأُولى ، فعندئذ تشمله الألطاف الإلهية الخفية التي نعبر عنها بالهداية الثانوية أو الإيصال إلى المطلوب.

قال سبحانه : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ). (١)

وقال تعالى : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا). (٢)

وأمّا إذا لم يستفد من الهداية الأُولى ، فلا يكون مستحقاً للهداية الثانية ، فيضلّ بسبب سوء عمله ، فإضلاله سبحانه ، كناية عن الضلال الذي اكتسبه بعمله بالإعراض من الاستضاءة بالهداية الأُولى.

قال سبحانه : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) (٣) فإضلاله سبحانه كإزاغته نتيجة زيغهم وإعراضهم وكِبْرهم وتولّيهم عن الحقّ.

__________________

(١) (محمد : ١٧.)

(٢) (العنكبوت : ٦٩.)

(٣) الصف : ٥.

٤٦

وبذلك يظهر مفاد كثير من الآيات التي تنسب الضلالة إلى الله سبحانه ، فالمراد هو قبض الفيض لأجل تقصير العبد لعدم استفادته من الهداية الأُولى ، فيصدق عليه انّه أضلّه الله سبحانه. قال سبحانه : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) (١) أي يضلّه لأنّه مسرف كذّاب (لم يهتد بالهداية الأُولى فأسرف وكذّب) فاستحق قبض الفيض وعدم شمول الهداية الخاصة له.

وفي آية أُخرى (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ) (٢) فقوله : (يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ) في هذه الآية هو نفس قوله : (لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) في الآية السابقة فكلاهما يرميان إلى معنى واحد وهو عدم الهداية لقبض الفيض لعدم قابليته للهداية الثانوية لأجل إسرافه وكذبه وارتيابه.

إلى هنا تمّ الاستدلال بالآيات وهناك آيات أُخر تدلّ على براءة المكلّف عند الشك في الحكم الشرعي تركنا البحث فيها روماً للاختصار.

الاستدلال بالسنّة

١. حديث الرفع

روى الصدوق في «التوحيد» و «الخصال» عن أحمد بن محمد بن يحيى ، عن سعد بن عبد الله ، عن يعقوب بن يزيد ، عن حماد بن عيسى ، عن حريز بن عبد الله ، عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : «رفع عن أُمّتي تسعة أشياء : الخطأ ، والنسيان ، وما أكرهوا عليه ، وما لا يعلمون وما لا يطيقون ، وما اضطروا إليه ، والحسد ، والطيرة ، والتفكّر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطقوا بشفة». (٣)

__________________

(١) (غافر : ٢٨.)

(٢) (غافر : ٣٤.)

(٣) الوسائل : ١١ ، الباب ٥٦ من أبواب جهاد النفس ، الحديث ١.

٤٧

ورواه محمد بن أحمد النهدي مرفوعاً عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) : «وضع عن أُمّتي تسع خصال : الخطأ ، والنسيان ، وما لا يعلمون ، وما لا يطيقون ، وما اضطروا إليه ، وما استكرهوا عليه ، والطيرة ، والوسوسة في التفكّر في الخلق ، والحسد ما لم يظهر بلسان أو يد». (١)

ورواة الحديث الأُولى كلهم ثقات ، والرواية صحيحة.

وأمّا أحمد بن محمد بن يحيى ، فهو وإن لم يوثق ظاهراً ، ولكن المشايخ أرفع من التوثيق ، فهو من مشايخ الصدوق ، فهو ثقة قطعاً.

نعم الرواية الثانية مرفوعة ، مضافاً إلى أنّ محمد بن أحمد النهدي مضطرب فيه ، كما ذكره النجاشي في ترجمته.

وتوضيح الاستدلال رهن بيان أُمور :

١. انّ الفرق بين الرفع والدفع هو انّ الأوّل عبارة عن إزالة الشيء بعد وجوده وتحقّقه ، كما أنّ الثاني عبارة عن المنع عن تقرر الشيء وتحقّقه بعد وجود مقتضيه ، يقول سبحانه : (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) (٢) ، فكانت السماء والأرض ملتصقتين فأزالها عن مكانها. ويقول سبحانه :

(إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ* ما لَهُ مِنْ دافِعٍ) (٣) ، أي ما له من شيء يمنع عن تحقّقه بعد تعلّق إرادته بالوقوع.

وعلى ذلك فاستعمال الرفع في المقام لأجل تحقّق هذه الأُمور التسعة في صفحة الوجود ، فتعلّق الرفع بها باعتبار كونها أُموراً متحقّقة.

__________________

(١) (الوسائل : ١١ ، الباب ٥٦ من أبواب جهاد النفس ، الحديث ٣.)

(٢) (الرعد : ٢.)

(٣) الطور : ٨٧.

٤٨

نعم رفع هذه الأُمور التسعة بعد تحقّقها رفع ادّعائي باعتبار رفع آثارها ، فتعلّقت الإرادة الاستعمالية برفع نفس هذه الأُمور التسعة المتحقّقة ، وتعلّقت الإرادة الجدية برفع آثارها.

٢. انّ نسبة الرفع إلى هذه التسعة مع وجودها يحتاج إلى مصحّح ومسوّغ وإلّا يلزم الكذب ، وليس الحديث متفرداً في هذا الباب ، بل له نظائر ، مثل قوله : «لا ضرر ولا ضرار» ، «لا طلاق إلّا على طهر» ، «لا رضاع بعد فطام» ، «لا رهبانية في الإسلام» ، فمع أنّ هذه الأُمور التي دخلت عليها «لا» النافية ، موجودة متحقّقة في صحيفة الوجود لكن الشارع أخبر عن عدمها ، والمصحّح لهذا الإخبار هو سلب آثارها ، مثلاً لا يترتب على الرضاع بعد الفطام أثر الرضاعة وهكذا ، وعلى ذلك فيلزم تعيين ما هو الأثر المسلوب في هذه التسعة خصوصاً قوله : «ما لا يعلمون» وهذا هو المهم في المقام.

٣. انّ لفظة «ما» في قوله : «ما لا يعلمون» موصولة تعمّ الحكم والموضوع المجهولين ، لوضوح انّه إذا جهل المكلّف بحكم التدخين ، أو جهل بكون المائع الفلاني خلاً أو خمراً ، صدق على كلّ منهما أنّه من «ما لا يعلمون» ، فيكون الحديث عاماً حجّة في الشبهة الحكمية والموضوعية معاً.

إذا عرفت ذلك ، فنقول : إنّ الرفع كما عرفت رفع تشريعي ، والمراد منه رفع الموضوع بلحاظ رفع أثره ، فحينئذ يقع الكلام في تعيين ما هو الأثر المسلوب الذي صار مصحِّحاً لنسبة الرفع إليها ، فهنا أقوال ثلاثة :

١. المرفوع هو المؤاخذة.

٢. المرفوع هو الأثر المناسب لكلّ واحد من تلك الفقرات ، كالمضرّة في الطيرة ، والكفر في الوسوسة.

٣. المرفوع هو جميع الآثار أو الآثار البارزة.

٤٩

والظاهر هو الأخير ، لوجهين :

الأوّل : أنّه مقتضى الإطلاق وعدم التقييد بشيء من المؤاخذة والأثر المناسب.

الثاني : أنّ فرض الشيء مرفوعاً في لوح التشريع ينصرف إلى خلوّه عن كلّ أثر وحكم ، أو عن الآثار البارزة له. (١) فلو كان البعض مرفوعاً دون البعض ، فلا يطلق عليه أنّه مرفوع.

وإن شئت قلت : إنّ وصف الشيء بكونه مرفوعاً في صفحة التشريع إنّما يصحّ إذا كان الشيء فاقداً للأثر مطلقاً فيصحّ للقائل أن يقول بأنّه مرفوع ، وإلّا فلو كان البعض مرفوعاً دون بعض لا يصحّ ادّعاء كونه مرفوعاً ، من غير فرق بين الآثار التكليفية كحرمة شرب الخمر ووجوب جلد الشارب إذا كان الشارب جاهلاً بالحرمة ، أو الوضعية كالجزئية والشرطية عند الجهل بحكم الجزء والشرط أو نسيانهما وكالصحة في العقد المكره.

ويؤيد عموم الآثار ما رواه البرقي ، عن صفوان بن يحيى وأحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي جميعاً ، عن أبي الحسن (عليه‌السلام) في الرجل يُستكره على اليمين فيحلف بالطلاق والعتاق وصدقة ما يملك أيلزمه ذلك؟ فقال : «لا ، قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : وضع عن أُمّتي ما أُكرهوا عليه وما لم يطيقوا وما أخطئوا». (٢)

وقد تمسّك الإمام بالحديث على بطلان الطلاق ورفع الصحة ، فيكشف عن أنّ الموضوع أعم من المؤاخذة والحكم التكليفي والوضعي.

__________________

(١) كما في قول الإمام علي (عليه‌السلام) : «يا أشباه الرجال ولا رجال» هذا إذا كان الأثر منقسماً إلى بارز وغيره ، وأمّا إذا كان الجميع على حد سواء ، فالمرفوع هو جميع الآثار كما في المقام.»

(٢) الوسائل : ١٦ ، الباب ١٢ من أبواب الأيمان ، الحديث ١٢ ، نقلاً عن المحاسن.

٥٠

تنبيه المراد من الآثار الموضوعة ، هي الآثار المترتبة على المعنون

، أي ما يعرضه الخطأ ، أو النسيان ، أو الجهل ، مثلاً إذا نسي السورة أو غيرها من أجزاء الصلاة فمعنى رفعها رفع وجوبها الضمني ، وأمّا الآثار المترتبة على نفس تلك العنوانات العارضة في هذه الظروف فلا ترتفع كسجدتي السهو عند نسيان الأجزاء ، لأنّ هذه الآثار أثر نفس العنوانات ، فلا يكون طروء الخطأ رافعاً للحكم المترتّب على نفس الخطأ في لسان الدليل.

ومثله النسيان ، وإنّما تكون تلك العنوانات سبباً لرفع الآثار المترتبة على معروض النسيان والخطأ ، ولأجل ذلك لو قتل خطأ فالقصاص ساقط وأمّا الدية فلا ، لأنّ القصاص مترتب على نفس القتل ، بصورة الإطلاق ، قال سبحانه : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ) (١) ويقيّد بغير الخطأ ، وأمّا الدية فغير مرفوعة ، لأنّها أثر مترتب على عنوان الخطأ في ظرفه فلا يحكم برفعها ، قال سبحانه : (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ). (٢)

٢. مرسلة الصدوق

روى الصدوق مرسلاً في «الفقيه» وقال : قال الصادق (عليه‌السلام) : «كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي». (٣)

والحديث وإن كان مرسلاً ، ولكن الصدوق يُسنده إلى الإمام الصادق (عليه‌السلام)

__________________

(١) (المائدة : ٤٥.)

(٢) (النساء : ٩٢.)

(٣) الوسائل : الجزء ١٨ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٦٠.

٥١

بصورة جازمة ، ويقول : قال الصادق (عليه‌السلام) ، وهذا يعرب عن يقينه بصدور الحديث عن الإمام الصادق (عليه‌السلام) ، نعم لو قال رُوي عن الإمام الصادق (عليه‌السلام) كان الاعتماد على مثله مشكلاً.

أمّا كيفية الاستدلال : فقد دلّ الحديث على أنّ الأصل في كلّ شيء هو الإطلاق والإرسال حتى يرد فيه النهي بعنوانه ، فإنّ الضمير في قوله : «يرد فيه» يرجع إلى الشيء بما هو هو ، كأن يقول : الخمر حرام ، أو الرشوة حرام ، فما لم يرد النهي عن الشيء بعنوانه يكون محكوماً بالإطلاق والإرسال ، وبما أنّ التدخين مثلاً لم يرد فيه النهي بعنوانه الأوّلي فهو مطلق ، وعلى هذا فلا يكفي في رفع الإطلاق ورود النهي بعنوانه الثانوي كأن يقول : إذا شككت فاحتط ، بل هو باق على إطلاقه حتى يرد النهي فيه بالعنوان الأوّلي ، فتكون الشبهات البدوية التي لم يرد النهي فيها بعنوانها الأوّلي محكومة بالإطلاق والحليّة.

إلى هنا تمّ الاستدلال على البراءة بالكتاب العزيز والسنّة المطهّرة ، بقي الكلام في الاستدلال عليها بالعقل.

الاستدلال بحكم العقل

استدلّ القائل بالبراءة بحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان واصل إلى المكلف بعد إعمال العبد ما تقتضيه وظيفتُه من الفحص عن حكم الشبهة واليأس عن الظفر به في مظانّه ، وانّ وجود التكليف في الواقع مع عدم وصوله إلى المكلّف غير كاف في صحّة التعذيب ، وانّ وجوده بلا وصول إلى المكلّف كعدمه في عدم ترتب الأثر ، وذلك لأنّ فوت المراد مستند إلى المولى في كلتا الصورتين التاليتين :

٥٢

١. ما إذا لم يكن هناك بيان أصلاً فحاله معلوم.

٢. ما إذا كان هناك بيان صادر من المولى لكنّه غير واصل إلى العبد ، فلأنّ الفوت أيضاً مستند إلى المولى ، إذ في وسعه إيجاب الاحتياط على العبد ، في كلّ ما يحتمل وجود التكليف ، ومع تركه يكون ترك المراد مستنداً إلى المولى ، وذلك لأنّه اقتصر في طلب المقصود ، بالحكم على الموضوع بالعنوان الواقعي ، ولو كان مريداً للتكليف حتى في ظرف الشك فيه وعدم الظفر به بعد الفحص ، كان عليه استيفاء مراده بإيجاب التحفّظ ، ومع عدمه يحكم العقل بالبراءة وانّ العقاب قبيح ، ويشكَّل قياساً بالشكل التالي :

العقاب على محتمل التكليف بعد الفحص التام وعدم العثور عليه في مظانّه لا بالعنوان الأوّلي ولا بالعنوان الثانوي عقاب بلا بيان.

والعقاب بلا بيان مطلقاً أمر قبيح.

فينتج انّ العقاب على محتمل التكليف أمر قبيح.

الإشكال على كبرى البرهان

ثمّ إنّ السيد الشهيد الصدر (قدس‌سره) استشكل على كبرى هذا البرهان وأنكر قبح العقاب بلا بيان بتأسيس مسلك «حق الطاعة لله سبحانه» ، فقال :

والذي ندركه بعقولنا أنّ مولانا سبحانه وتعالى ، له حقّ الطاعة في كلّ ما ينكشف لنا من تكاليفه بالقطع أو بالظن أو بالاحتمال ، ما لم يرخص هو نفسه في عدم التحفّظ.

وعلى ذلك فليست منجّزية القطع ثابتة له بما هو قطع ، بل بما هو انكشاف ، وانّ أيّ انكشاف ، منجِّز ، مهما كانت درجته ما لم يحرز ترخيص الشارع نفسه في عدم الاهتمام به.

٥٣

نعم كلّما كان الانكشاف بدرجة أكبر كانت الإدانة وقبح المخالفة أشد ، فالقطع بالتكليف يستتبع لا محالة مرتبة أشدّ من التنجز والإدانة ، لأنّها المرتبة العليا من الانكشاف ، وبهذا يظهر انّ القطع لا يتميز عن الظن والاحتمال في أصل المنجزية ، وإنّما يتميز عنهما في عدم إمكان تجريده عن تلك المنجزية (بأن يرخص على خلاف ما قطع) ، لأنّ الترخيص في مورده مستحيل ، وليس كذلك في حالات الظن والاحتمال ، فإنّ الترخيص الظاهري فيها ممكن ، لأنّه لا يتطلب أكثر من فرض الشك ، والشكّ موجود.

ومن هنا صحّ أن يقال بأنّ منجزية القطع غير معلقة ، بل ثابتة على الإطلاق ، وانّ منجزية غيره من الظن والاحتمال معلّقة ، لأنّها مشروطة بعدم إحراز الترخيص الظاهري في ترك التحفظ. (١)

يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ القول بأنّ احتمال التكليف منجِّز للواقع عند العقل وإن لم يستوف المولى البيان الممكن غير تام ، وذلك لأنّ الاعتمادَ في التعذيب والمؤاخذة على مثل هذا الحكم العقلي ، إنّما يصحّ إذا كان ذلك الحكم من الأحكام العقلية الواضحة لدى العقلاء حتى يعتمد عليه المولى سبحانه في التنجيز والتعذيب ولكن المعلوم خلافها ، إذ لو كان حكماً واضحاً لما أنكره العلماء.

وثانياً : أنّ اتّفاق العقلاء على قبح العقاب بلا بيان نابع عن حكم العقل بأنّ العبد إذا قام بوظيفته في الوقوف على مقاصد المولى ولم يجد بياناً بأحد العنوانين ، يُعدُّ العقاب بحكم وحي الفطرة أمراً قبيحاً وإلّا يعود بناء العقلاء إلى أمر تعبدي وهو كما ترى.

وثالثاً : انّ الظاهر من الذكر الحكيم كون المسألة من الأُمور الفطرية حيث

__________________

(١) دروس في علم الأُصول : الحلقة الثانية : ٣٢ ٣٣.

٥٤

يستدلُّ بها الوحي على الناس ويقول : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (١) ، ويذكر في آية أُخرى انّه سبحانه أبطل ببعث الرسل ، حجّة الكفّار والعصاة حيث قال : (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى) (٢). فتبين بذلك انّ الكبرى من الأحكام الواضحة لدى العقل والعقلاء بشرط التقرير على نحو ما ذكرناه.

الإشكال على صغرى البرهان

قد عرفت حال الإشكال على الكبرى ، ولكنّ هناك إشكالاً آخر يتوجه إلى الصغرى تعرّض إليه المحقّقون ، وحاصل الإشكال انّه يكفي في مقام البيان حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل ، الموجود في مورد الشبهة التحريمية الحكمية ، ويكون شكل القياس بالنحو التالي :

في المشتبه التحريمي ضرر محتمل.

وكل ما فيه ضرر محتمل يلزم تركه.

فينتج المشتبه التحريمي يجب تركه.

يلاحظ عليه : أنّ المراد من الضرر في القاعدة أحد الأُمور الثلاثة :

أ. العقاب الأُخروي.

ب. الضرر الدنيوي الشخصي.

ج. المصالح والمفاسد الاجتماعية.

أمّا الأوّل : أي العقاب الأُخروي فهو بين قطعيّ الإحراز ، وقطعيّ الانتفاء ، وليس هنا ضرر محتمل ؛ فالأوّل كما في مورد العلم الإجمالي بحرمة أحد الأمرين أو

__________________

(١) (الاسراء : ١٥.)

(٢) طه : ١٣٤.

٥٥

وجوبه ، فينطبق الكبرى على الصغرى ، ولذلك أطبق العلماء على وجوب الموافقة القطعية.

وأمّا الثاني : أي قطعي الانتفاء كما في المقام ، فانّ الضرر بمعنى العقاب قطعي الانتفاء بحكم العقل على قبح العقاب بلا بيان ، ومع العلم بعدمه لا يصحّ الاحتجاج بالكبرى المجردة عن الصغرى ، وبذلك يعلم أنّه لا تعارض بين الكبريين «قبح العقاب بلا بيان» و «وجوب دفع الضرر المحتمل» وانّ لكلّ موضعاً خاصاً ، فمورد الأُولى هو الشبهة البدوية ، كما أنّ موضع الثانية إنّما هو صورة العلم بالتكليف إجمالاً أو تفصيلاً.

هذا كلّه حول العقاب الأُخروي ، وأمّا الضرر الدنيوي الشخصي فالإجابة عنه واضحة ، لأنّ الأحكام الشرعية لا تدور مدار الضرر أو النفع الشخصيين حتى يكون احتمال الحرمة ملازماً لاحتمال الضرر الشخصي على الجسم والروح ، بل الأحكام تابعة لمصالح ومفاسد نوعية ، وربما تكمن المصلحة النوعية في الضرر الشخصي كما في ترك الربا وترك الظلم على الناس.

نعم ربما يجتمع الضرر الشخصي مع المفسدة النوعية كشرب المسكر لكنّه ليس ضابطة كلية.

سلّمنا انّ في ارتكاب المشتبه احتمالَ ضرر دنيوي لكن إنّما يجب دفعه إذا لم يكن في تجويز الارتكاب مصلحة كما هو المقام ، لأنّ في الترخيص دفعَ عسر الاحتياط.

وأمّا الثالث : أي المصالح والمفاسد النوعية ، فحكم الشارع بالبراءة يكشف عن أحد الأمرين : إمّا عدم الأهمية ، وإمّا لوجود المصلحة الغالبة على المفسدة الحاصلة.

٥٦

الأصل الثاني

أصالة التخيير

وقبل الخوض في المقصود نقدّم أُموراً :

الأوّل : انّ الميزان في جريان أصالة التخيير هو عدم إمكان الاحتياط ، أعني الموافقة القطعية ، سواء أكانت المخالفة القطعية أيضاً ممتنعة كما في دوران الأمر بين الوجوب والحرمة في واقعة واحدة ، كشرب مائع مردد بين الحلف على فعله أو تركه في ليلة واحدة ، أو كانت ممكنة كتردده بينهما مع تعدد الواقعة ككل ليلة جمعة إلى شهر.

الثاني : انّ دوران الأمر بين المحذورين يجتمع تارة مع الشكّ في التكليف إذا كان نوعه مجهولاً ، ومع الشكّ في المكلف به إذا كان نوعه معلوماً والمتعلّق مردداً بين أمرين غير قابلين للاحتياط :

أمّا الأوّل : كتردد العبادة في أيام الاستظهار بين كونها واجبة أو محرمة ، فهنا تكليف واحد مجهول نوعه ، فلو كانت المرأة حائضاً فنوع التكليف هو الحرمة ولو كانت مستحاضة فنوع التكليف هو الوجوب.

وأمّا الثاني : كما إذا علم أنّ واحدة من الصلاتين واجبة وأُخرى محرمة ، وتردد أمرهما بين الظهر والجمعة ، فالنوع هنا معلوم ، وهو انّ هنا واجباً ومحرماً ، غير أنّ

٥٧

الموضوع مردد بين الجمعة والظهر ، فالجامع لكلا القسمين عدم إمكان الموافقة القطعية.

الثالث : انّ الكلام يقع في مقامات ثلاثة :

أ. دوران الأمر بين المحذورين مع الجهل بنوع التكليف التوصلي.

ب. دوران الأمر بين المحذورين مع الجهل بنوع التكليف التعبدي.

ج. دوران الأمر بين المحذورين مع العلم بنوع التكليف والشكّ في المكلّف به.

وإليك الكلام في كلّ واحد منها.

المقام الأوّل : دوران الأمر بين المحذورين مع الجهل بنوع الحكم التوصلي

إذا دار أمر التكليف بين المحذورين ، كما إذا علم إجمالاً بوجوب قتل إنسان أو حرمته ، ومنشأ التردد كونه مجهول الهوية ، فهو دائر بين كونه مؤمناً أو محارباً ؛ فعلى الأوّل يحرم قتله ، وعلى الثاني يجب ، فأمر القتل دائر بين الحرمة والوجوب ، ولكن الحكم الواقعي الأعم من الوجوب والحرمة على فرض ثبوته ، توصلي.

هذا فيما إذا كانت الشبهة موضوعية ، وربما تكون الشبهة حكمية كالولاية عن الجائر لدفع الظلامة عن الناس ، فقالت طائفة بالحرمة ، لأنّها إعانة للظالم ، وأُخرى بالوجوب ، لأنّ فيها التمكّن من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حسب المقدرة.

لا شكّ انّ المخالفة والموافقة القطعيتين غير ممكنة والمكلّف مخيّر تكويناً بين الفعل والترك ، لكن يقع الكلام في الحكم الظاهري والأصل الجاري في المقام. والظاهر انّ المقام محكوم بالبراءة العقلية والنقلية.

٥٨

أمّا الأوّل : فلأنّ كلًّا من الوجوب والحرمة مجهولان فيقبح المؤاخذة عليهما.

وأمّا الثاني : فلعموم قوله : رفع عن أُمّتي ما لا يعلمون.

المقام الثاني : دوران الأمر بين المحذورين مع الجهل بنوع التكليف التعبدي

إذا كان أحد الحكمين أو كلاهما تعبديّين كصلاة المرأة في أيام الاستظهار ، فلو كانت حائضاً حرمت العبادة حرمة توصلية ، وأمّا إذا كانت طاهراً وجبت الصلاة وجوباً تعبدياً ، فلا تجري هنا البراءتان العقلية والنقلية لاستلزام الجريان المخالفة القطعيّة ، للفرق بين المقام وما قبله ، ففي المقام السابق كانت الموافقة القطعيةَ كالمخالفة القطعية ممتنعة ، وأمّا في المقام فالموافقة القطعية وإن كانت ممتنعة لكن المخالفة القطعية ممكنة ، فلو صلت بلا نيّة القربة معتمدة على جريان البراءة من الوجوب والحرمة ، فقد أتت بالمبغوض ، إذ لو كانت طاهرة فصلاتها باطلة ، ولو كانت حائضاً فقد ارتكبت الحرام بناء على أنّ صورة العبادة محرمة عليها.

فالمرجع هو أصالة التخيير إمّا الإتيان بالصلاة مع قصد القربة أو تركها أصلاً ، والميزان في جريان أصالة التخيير هو امتناع الموافقة القطعية ، سواء أمكنت المخالفة القطعية كما في المقام ، أو لا كما في المقام السابق.

المقام الثالث : دوران الأمر بين المحذورين مع الشكّ في المكلّف به

إنّ أصالة التخيير بملاك عدم إمكان الموافقة القطعية كما تجري في الشك في التكليف كما في الصورتين السابقتين ، كذلك تجري في الشكّ في المكلّف به كما في المقام ، مثلاً :

٥٩

١. إذا علم أنّ أحد الفعلين واجب والآخر حرام في زمان معيّن واشتبه أحدهما بالآخر ، فهو مخيّر بين فعل أحدهما وترك الآخر ، لأنّ الموافقة القطعية غير ممكنة ، نعم ليس له ترك كليهما أو فعل كليهما ، إذ تلزم فيه المخالفة القطعية.

٢. إذا علم بتعلّق الحلف بإيجاد فعل في زمان ، وترك ذاك في زمان آخر ، واشتبه زمان كلّ منهما كما إذا حلف بالإفطار في يوم ، والصيام في يوم آخر ، فاشتبه اليومان فهو مخيّر بين الإفطار في يوم ، والصيام في يوم آخر ، لكن ليس له المخالفة القطعية كأن يصومهما أو يفطر فيهما.

نعم لا تجري أصالة التخيير فيما إذا دار أمر شيء بين كونه شرطاً للصحّة أو مانعاً كالجهر ، وذلك لأنّ الموافقة القطعية بإقامة صلاة واحدة وإن كانت غير ممكنة لكنّها ممكنة بإقامة صلاتين يجهر في إحداهما ويخافت في الأُخرى.

وقد عرفت أنّ الملاك لجريان أصالة التخيير امتناع الموافقة القطعية وهو ليس بموجود في هذا المورد.

هذا كلّه في دوران الأمر بين المحذورين عند عدم النص ونظيره إجمال النصّ ، وتعارض النصّين أو الشبهة الموضوعية التحريمية ، فالحكم في الجميع واحد ، وقد استقصينا الكلام في هذه الصور في «الموجز».

فخرجنا بالنتائج التالية :

١. انّ الميزان في جريان أصل التخيير عدم إمكان الموافقة القطعية سواء أمكنت المخالفة القطعية أو لا.

٢. انّ المكلّف في المقام الأوّل مخيّر تكويناً ، والحكم الظاهري هو البراءة ، بخلاف المقامين الأخيرين فالحكم الظاهري فيهما هو التخيير.

٦٠