أصول الفقه المقارن فيما لا نصّ فيه

الشيخ جعفر السبحاني

أصول الفقه المقارن فيما لا نصّ فيه

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-155-6
الصفحات: ٣٩٤

وأمّا ما استدلّ به على اعتبار عرف العقلاء بأنّ النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) أمضى ما سنّه عبد المطلب في دية الإنسان ، أو أمضى أنّ الدية على العاقلة ، فهو وإن كان صحيحاً ، لكنّه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في مقابل الأخذ بهذين ألغى عامّة الأعراف السائدة في الجاهلية وسننها ، وجعلها تحت قدميه واستثنى القليل منها ، فهو كان أشبه بالتخصيص الأكثر فالأكثر كما قال في خطبة حجة الوداع : «وإنّ دماء الجاهلية موضوعة ، وإنّ أوّل دم ابدأ به دم عامر بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ، وإنّ مآثر الجاهلية موضوعة غير السدانة والسقاية والسعاية». (١)

على أنّه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لمّا كان عالماً بملاكات الأحكام حيث تعلّم من عند الله ما تعلّم على وجه وصف سبحانه علمه بالعظمة وقال : (وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً) (٢) ميّز الصالح عن غيره ، والصحيح عن الفاسد ، فأعطى ما هو لصالح الأُمّة وألغى ما كان فاسداً ومفسداً ، وأين علمه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) من غيره الّذي وصفه الله سبحانه بقوله : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) (٣)؟!

هذا كلّه يرجع إلى الاستدلال بإمضاء دية النفس أو كون الدية على العاقلة.

ثمّ إنّه استدلّ كما مرّ بإمضاء عادتين مع كونهما مخالفتين لأُصول الشرع ، ألا وهما :

١. أمضى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بيع السلم مع أنّه من أقسام بيع المعدوم.

٢. أمضى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بيع العرايا ، أي بيع الرطب على النخل بالتمر الجافّ ، مع أنّهما من المتجانسين اللّذين لا يجوز فيهما التفاضل ، مع وجوده في هذا النوع من البيع.

__________________

(١) (السيرة النبوية : ٦٠٣ / ٢ ٦٠٤ ؛ تحف العقول : ٢٩.)

(٢) (النساء : ١١٣.)

(٣) الإسراء : ٨٥.

٣٢١

أقول : أمّا الأوّل : أعني : تشريع بيع السلم ، فلم يكن منهياً عنه حتّى يرخّص النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فيه ، وذلك لأنّ المنهي عنه هو قوله : «ولا بيع ما ليس عندك» (١) ، وهو ناظر إلى بيع العين الشخصية الّتي ليست في ملك البائع وإنّما يبيعها فضوليّاً ليشتريها من غيره ثمّ يدفعها إليه ، وأين هذا من بيع السلم؟!

فإنّ السلم عبارة عن ابتياع مال مضمون في ذمّة البائع إلى أجل معلوم بمال حاضر أو في حكمه ، والمبيع كلّي في ذمّته لا عين شخصيّة.

ولذلك اشترط الفقهاء فيه أُموراً منها ذكر الجنس والوصف ، لأنّه يختلف لأجلهما الثمن ، بخلاف العين الشخصية فإنّها محسوسة مشاهدة.

يقول ابن عباس : اشهد انّ السلف المضمون إلى أجل مسمّى قد أحلّه الله في كتابه وأذن فيه ، ثمّ قرأ قوله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ) (٢). (٣)

وبذلك يعلم أنّ عقد الاستصناع هو عقد مقابل مع أهل الصنعة على أن يعمل شيئاً لا صلة له بالنهي عن بيع ما ليس عندك.

وقد صرّح بما ذكرنا بعض فقهاء السنّة منهم :

ابن تيمية حيث قال : وأمّا قولهم «السلم على خلاف القياس» فقولهم هذا من جنس ما رووا عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) أنّه قال : «لا تبع ما ليس عندك» وأرخص في السلم. وهذا لم يرو في الحديث ، وإنّما هو من كلام بعض الفقهاء ، وذلك أنّهم قالوا : السلم بيع الإنسان ما ليس عنده ، فيكون مخالفاً للقياس.

__________________

(١) (بلوغ المرام : ١٦٢ برقم ٨٢٠. قال : ورواه الخمسة ، وروي أيضاً : «ولا تبع».)

(٢) (البقرة : ٢٨٢.)

(٣) مستدرك الحاكم : ٢٨٦ / ٢.

٣٢٢

ونهي النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) حكيم بن حزام عن بيع ما ليس عنده : إمّا أن يراد به بيع عين معينة ، فيكون قد باع مال الغير قبل أن يشتريه. وفيه نظر. وإمّا أن يراد به بيع ما لا يقدر على تسليمه ، وإن كان في الذمّة. وهذا أشبه. فيكون قد ضمن له شيئاً لا يدري هل يحصل أو لا يحصل؟ وهذا في السلم الحال إذا لم يكن عنده ما يوفيه ، والمناسبة فيه ظاهرة.

فأمّا السلم المؤجل ، فإنّه دين من الديون ، وهو كالابتياع بثمن مؤجّل ، فأي فرق بين كون أحد العوضين مؤجّلاً في الذمّة ، وكون العوض الآخر مؤجّلاً في الذمّة ، وقد قال تعالى : (إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ) قال ابن عباس : أشهد أنّ السلف المضمون في الذمّة حلال في كتاب الله ، وقرأ هذه الآية.

فإجابة هذا على وفق القياس لا على خلافه». (١)

ومنهم ابن القيّم حيث قال في «إعلام الموقعين» : «وأمّا السلم ، فمن ظن أنّه على خلاف القياس فوهم دخوله تحت قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) :» لا تبع ما ليس عندك» فإنّه بيع معدوم ، والقياس يمنع منه.

والصواب أنّه على وفق القياس ، فإنّه بيع مضمون في الذمّة موصوف مقدور على تسليمه غالباً ، وهو كالمعاوضة على المنافع في الإجارة ، وقد تقدّم أنّه على وفق القياس.

وقد فطر الله العقلاء على الفرق بين بيع الإنسان ما لا يملكه ولا هو مقدور له وبين السلم إليه في مغل مضمون في ذمّته ، مقدور في العادة على تسليمه. فالجمع بينهما كالجمع بين الميتة والمذكى والربا والبيع». (٢)

__________________

(١) (الموسوعة الفقهية : ١٩٥ / ٢٥ ، نقلاً عن : مجموعة فتاوى ابن تيمية : ٥٢٩ / ٢٠.)

(٢) الموسوعة الفقهية : ١٩٥ / ٢٥ ١٩٦ ، نقلاً عن : إعلام الموقعين عن رب العالمين (مراجعة طه عبد الرءوف سعد) : ١٩ / ٢.

٣٢٣

وأخيراً نضيف أنّ الحياة الاجتماعية في الوقت الحاضر متوقّفة على بيع السلم والسلف ، فالكثير من أصحاب الصنائع وغيرهم يحتاجون إلى أدوات وأجهزة غير موجودة في الخارج وإنّما يهيّئونها حسب ما يطلبونها منهم ، ومن المعلوم أنّ الإسلام دين الفطرة فكيف ينهى عنه أوّلاً ثمّ يرخصه؟

نعم ربّما كان بيع السلف عندهم أوسع ممّا سنّه الشارع ، ولذلك يقول ابن عباس : قدم النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين ، فقال : «من أسلف في تمر فليُسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم». (١) ولو تصرّف فيه الشارع فإنّما حدّده بشرائط خاصّة.

هذا كلّه حول الأمر الأوّل ، وقد عرفت أنّ تجويز السلم لم يكن استثناءً من المنهي عنه.

حول بيع العرايا

وأمّا الثاني : أعني «بيع العرايا الّذي هو عبارة عن بيع الرطب على النخل بالتمر الجافّ ، وهذا لا يمكن فيه التحقّق من تساوي البدلين» فهو ليس استثناءً من الضابطة ، أعني : شرطية تساوي المتجانسين كيلاً ووزناً عند مبادلتهما ، وذلك بالبيان التالي :

إنّ أبا سعيد الخدري قد روى عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قال : «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلّا مثلاً بمثل ولا تشفُّوا بعضها على بعض ، ولا تبيعوا الورق بالورق إلّا مثلاً بمثل ، ولا تُشفّوا بعضها على بعض ، ولا تبيعوا منها غائباً بناجز». (٢)

__________________

(١) (بلوغ المرام : ١٧٤ برقم ٨٧٤.)

(٢) بلوغ المرام : ١٧٠ برقم ٨٥٢.

٣٢٤

وروى عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : «الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبُرّ بالبرّ والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح ، مثلاً بمثل ، سواء بسواء ، يداً بيد ، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد». (١)

فمورد الروايات هو المكيل والموزون من الجانبين فيحرم فيهما التفاضل ، وأمّا الثمرة على الشجرة فهي ليس ممّا يوزن أو يكال عند البيع ، بل هي من قبيل المشاهدات ولذلك يغتفر فيها الجهل إلى حدّ والتفاضل. فالتبادل فيها ولو بالتفاضل الرائج غير داخل في النصّ.

وبعبارة واضحة : ما ذكره الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) راجع إلى المكيل والموزون وبيع العرايا ليس من قبيل المكيل والموزون ولو من جانب واحد ، بل من قبيل المشاهدات فيختلف حكمه عن حكمهما.

فتبيّن أنّ ما زعمه الأُستاذ من أنّ ترخيص بيع السلم أو العرايا كان من قبيل تقديم العرف على النص وانّ النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بنفسه قام بذلك ممّا لا أساس له.

فالنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) أجلّ من أن يقدّم عادة الناس على التشريع الإلهي ، إلّا أن يأذن الله سبحانه.

__________________

(١) المصدر السابق.

٣٢٥

٤

العادة كالقرينة الحالية

ثمّ إنّ فقهاء السنّة ذكروا تخريجات في المقام زاعمين أنّ للعرف بما هو هو دوراً في استنباط الحكم الجزئي للمورد ، غافلين عن أنّ العرف ، قسم من القرائن ، وهو كالقرينة الحالية الّتي هي نظيرة القرينة المقالية فيجب اتباعهما ، والعرف الخاص والعرف العام من أقوى القرائن على توجيه الكلام.

وها نحن نذكر فروعاً من التخريجات التي ذكرت في مجلة الأحكام الّتي كانت تُدرّس في معاهد الحقوق من زمن بعيد في البلاد العربية.

وكلّ ما ذكر فيها للعرف من شأن فهو لأجل كونه قرينة حالية يعتمد عليها المتكلّمون في محاوراتهم ومعاملاتهم لا غير ، وإليك هذه الفروع :

١. كلّما كان من توابع العمل ولم يشترط على الأجير يعتبر فيه عرف البلدة وعادتها : فالعادة في الخيط أن يكون على الخياط ، وفي الحبل أن يكون على المكاري ، وكذلك يعتبر العرف في اللجام والسُّرج إذا استؤجر الحيوان للركوب. فلو اشترط على أحد الطرفين القيام بتوابع العمل فهو ، وإلّا فالعرف هو المتبع.

٢. وإذا استأجر كاتباً فالقلم والحبر عليه.

٣. ولو استأجر الدابة فعلف الدابة على المؤجر.

٣٢٦

٤. ولو دفع ثوبه إلى صبّاغ ليصبغه ولم يعين له أُجرة ، استحقّ أُجرة المثل.

٥. لو اشترى شيئاً من السوق بثمن معلوم ولم يصرّحا بحلول ولا تأجيل يتبع العرف والعادة ولعلها هو التعجيل.

٦. لو استأجر حجرة في دار إجارة مطلقة لم يقيّدها بلون من الألوان كان له أن يسكنها ويضع فيها أمتعته وليس له استعمالها بما يخالف العادة كأن يشتغل فيها بصنعة الحدادة.

٧. إذا وجد المشتري في الحنطة والشعير وأمثالهما من الحبوب المشتراة تراباً ، فإن كان ذلك التراب يُعدّ قليلاً في العرف صحّ البيع ولزم ، وإن كان كثيراً بحيث يعدّ عيباً عند الناس ، كان المشتري مخيراً.

٨. البيع المطلق ينعقد معجلاً أمّا إذا جرى العرف في بلده على أن يكون البيع المطلق مؤجلاً أو مقسّطاً إلى أجل معلوم ، سينصرف البيع المطلق إلى ذلك الأجل.

٩. الهدايا الّتي ترد في الختان والعرس هي لمن ترد باسمه من المختون والعروس والوالد والوالدة ، وإن لم يذكر لمن وردت ، ولم يمكن السؤال والبحث ، فيراعى عرف البلدة وعادتها.

١٠. إذا وقع العقد على الثمن ، فيتبع في تعيين العُمْلة عرف البلدة والعادة الجارية.

١١. إذا وقع العقد بثمن له أجزاء فيتبع في تعيين الجزء عرف البلد ، فإذا اشترى شيئاً بمائة ألف ريال ، فالعرف هو دفع الثمن بعملة كبيرة كالألف وغيره لا بعملة صغيرة كالريال والتومان الواحد.

١٢. كلّ ما كان في حكم جزء من أجزاء المبيع ، أي ما لا يقبل الانفكاك

٣٢٧

عن المبيع نظراً إلى عرف الاشتراء يدخل في المبيع بدون ذكر ، كما إذا بيع قفل دخل مفتاحه. وإذا اشتريت بقرة حلوب لأجل اللبن ، يدخل فلوها الرضيع في البيع بدون ذكر. وما لا يكون من مشتملات المبيع ولا هو من توابعه المتصلة المستقرة أو لم يكن في حكم جزء من المبيع أو لم تجر العادة والعرف في بيعه معه ، لا يدخل في البيع ما لم يذكر وقت البيع ، أمّا ما جرت عادة البلدة والعرف ببيعه تبعاً للمبيع فيدخل في البيع من غير ذكر ، فالأشياء غير المستقرة الّتي توضع لأن تستعمل وتنقل من محل إلى آخر كالخزانة والكرسي والسرير المنفصلات لا تدخل في بيع الدار بلا ذكر. (١)

وهناك فروع أُخرى مذكورة في الكتب الفقهية يظهر حالها بما ذكرنا. وليس للعرف فيها دور سوى كونه قرينة حالية.

وبهذا يظهر انّ كلمات فقهاء السنّة حول العرف لا تخلو من إغراق ، نظير :

١. العرف عادة محكمة.

٢. العرف شريعة محكمة.

٣. التعيين بالعرف كالتعيين بالنص.

٤. الثابت بالعرف كالثابت بالنص.

٥. العرف في الشرع له اعتبار.

٦. استعمال الناس حجة.

٧. الحقيقة تترك بدلالة العادة.

٨. العبرة للغالب.

__________________

(١) انظر شرح المجلة : ١٣.

٣٢٨

٩. المعروف عرفاً كالمشروط.

١٠. المعروف بين التجار كالمعروف بهم.

إلى غير ذلك من التعابير المتكررة الواردة في مجلة الأحكام (١) تحت عناوين مختلفة والّتي يرجع الجميع إلى وجود القرينة الحالية الدالة على المراد.

وفي الختام نلفت نظر القرّاء إلى نكتة ، وهي : أنّ دراسة تاريخ التشريع في المجتمعات البشرية تشهد على أنّ كلّ أُمّة لم يكن لها قانون مدوّن لم يكن لها محيص عن التعاطف مع العرف والعادة ، فكانت تتخذهما قانوناً حاسماً في المخاصمات كما كان الحال كذلك عند الرومان.

وقد كان للعرف والعادة دور هام في شمال فرنسا إلى عهد نابليون ، ولمّا تمّ التقنين العام لمجموع البلد ، انحسرت العادة والعرف عن مجال التقنين فلا يعتمد عليهما إلّا في مجالات التجارة ، وأمّا المسلمون فهم بحمد الله في غنى عن اتخاذ العرف أساساً للتشريع حيث أغناهم الله سبحانه عن كلّ تشريع سوى تشريعه ، والحمد لله على إكمال الدين وإتمام النعمة.

وأمّا إخواننا أهل السنّة فإنّما يلتجئون إلى العرف والعادة في التقنين والتشريع فيما لم يكن له أصل في عصر الرسول بسبب قلّة مصادر التشريع عندهم ، فلذلك التجئوا إلى العرف والعادة في التقنين والتشريع.

يقول الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء في تحرير المجلّة حول مادّة ٣٦ : «العادة محكّمة ، هذا مبنيّ على الأصل المقرّر عندهم من» عدم النص وفقد الدليل الشرعي على حكم جملة من الحوادث» ، خلافاً لما ذهبت إليه الإمامية من

__________________

(١) انظر شرح المجلة : ١٣ ، ٣٤ ، ٣٥ ، ٣٧ ، ٣٨ ، ١١٣ ، ١١٦ ، ١٢٤ ، ١٢٦ ، ١٩٦ ، ٣٠٨ ، ٤٩٢.

٣٢٩

عدم خلوّ واقعة من الدليل على حكمها ، بالعموم أو الخصوص ، وعلى فرض خلوّ واقعة من النصّ فالعادة عند الإمامية لا يعتبر بها ولا تصلح لإثبات حكم شرعيّ». (١)

فخرجنا من هذا البحث الضافي بنتيجتين ، هما :

١. إذا وقع العرف ذريعة لاستكشاف الحكم الشرعي الكلّي ، فهو يرجع لباً إلى السنّة لكن تقريراً وليس دليلاً مستقلاً.

٢. انّ الاعتماد على العرف في رفع المنازعات ونظائرها ، اعتماد على القرينة الحاليّة وهو ليس بشيء بديع.

__________________

(١) تحرير المجلة : ٣١.

٣٣٠

٢

المقاصد الشرعية العامّة

قبل الخوض في البحث نقدّم أُموراً :

١. أفعاله سبحانه تكويناً وتشريعاً معللة بالغايات

إنّ الرأي السائد لدى الأشاعرة ، هو أنّ أفعال الله سبحانه لا تكون معلّلة بالأغراض والمقاصد ، مستدلّين بأنّه لو كان فعله خاضعاً للغرض لكان ناقصاً في ذاته ، مستكملاً بتحصيل ذلك الغرض ، لأنّه لا يصلح غرضاً للفاعل إلّا ما هو أصلح له من عدمه وهو معنى الكمال. (١)

ولكنّهم خلطوا بين الغرض العائد إلى الفاعل ، والغرض المترتّب على الفعل ، وإن كان المستفيد غيره سبحانه فالاستكمال لازم الصورة الأُولى دون الثانية ، والقائل بكون أفعاله معلّلة بالأغراض والدواعي ، يعني بها الصورة الثانية دون الأُولى ، وتبعية الفعل للغرض بالمعنى الأوّل ينافي كونه غنياً في ذاته وصفاته وأفعاله ، ولكنّها بالمعنى الثاني توجب خروج فعله عن كونه عبثاً ولغواً ، وكونه سبحانه عابثاً ولاغياً ، فالجمع بين كونه غنياً غير محتاج إلى شيء ، وكونه حكيماً منزهاً عن العبث واللغو ، يتحقق باشتمال أفعاله على حِكَم ومصالح

__________________

(١) المواقف : ٢٣١.

٣٣١

ترجع إلى العباد لا إلى وجوده وذاته ، كما لا يخفى.

انّ القرآن الكريم يُجلّ أن تكون أفعاله الكونية عبثاً بلا غرض ، وسُدىً بلا غاية ، لأنّ العبث يضادّ كونه حكيماً يضع الأشياء مواضعها.

قال سبحانه :

١. (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ). (١)

٢. (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ). (٢)

٣. (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ). (٣)

٤. (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (٤) إلى غير ذلك من الآيات التي تَنفي العبث عن فعله سبحانه ، وتصرح باقترانه بالحكمة والغرض ومع هذه التصريحات القاطعة للعذر ، كيف يتفلسف الأشعري بما ذكره من الدليل العقلي وينفي كلّ غرض وغاية عن فعله ، ويعرّف فعله سبحانه على خلاف الحكمة ، مع أنّ من صفاته كونه حكيماً.

وكما أنّ أفعاله الكونية مقرونة بالغرض ، فكذا تشريعاته في عامة المجالات تابعة لأغراض تحقّق مصالح للناس عاجلاً وآجلاً.

وسيوافيك نصوص الذكر الحكيم وما رُوي عن أئمّة أهل البيت (عليهم‌السلام) في هذا الصدد.

٢. من خالف المنهج وهو أشعريّ

كان الأصل المعروف لدى الأشاعرة هو خلوّ فعله سبحانه في مجالي

__________________

(١) (المؤمنون : ١١٥.)

(٢) (الدخان : ٣٨.)

(٣) (ص : ٢٧.)

(٤) الذاريات : ٥٦.

٣٣٢

التكوين والتشريع عن أيّ غاية وغرض ، لكن ظهر في القرن الخامس والسادس وما بعده رجال من الأشاعرة أنكروا هذا الأصل وطرحوا نظرية «مقاصد الشرائع الإسلامية» وأنّ لتشريعات القرآن والسنّة غايات وأغراضاً. وإليك أسماء من اختمرت تلك الفكرة بأيديهم في العصور السابقة :

١. أبو المعالي الجُويني الملقّب بإمام الحرمين (٤١٩ ٤٧٨ ه‍) مؤلف «البرهان في أُصول الفقه» ، و «الشامل في أُصول الدين» وسيوافيك كلامه.

٢. محمد بن محمد المعروف بالغزالي (٤٥٠ ٥٠٥ ه‍) مؤلف «المستصفى في أُصول الفقه» و «إرشاد الفحول إلى علم الأُصول» وسيأتي كلامه.

٣. أبو إسحاق بن إبراهيم بن موسى الغرناطي المالكي المتوفّى سنة (٧٩٠ ه‍) فقد خصّص تمام الجزء الثاني من كتابه «الموافقات» لبيان المقاصد العامة للتشريع ، وهو أوّل من كتب في الموضوع بإسهاب ، وقورن اسمه ب «مقاصد الشريعة».

هذا ما وقفنا عليه ممّن أكّدوا على هذا الموضوع خلال القرون السابقة.

لكن طرأ الركود على البحث خلال فترة زمنية لا يستهان بها استمرّت إلى بداية القرن الرابع عشر حيث أخذ البحث ينتعش من جديد ، وذلك بالبيان التالي :

عاش الشيخ محمد عبده (١٢٦٦ ١٣٢٣ ه‍) في الأزهر الشريف بين شيوخ لا يقيمون للعقل وزناً ، ويصفون الدين بالتزمت والتعبدية المحضة ولا يخضع للعقل أبداً ، وقد بلغ تحجّرهم إلى حدّ لو تفوّه أحد منهم بالعلّية بين الظواهر المادية ، أو بأثر الطبيعة يحكم عليه بالكفر وكانوا يردّدون بألسنتهم قول القائل :

٣٣٣

«ومن يقل بالطبع أو بالعلّة

فذاك كفر عند أهل الملّة»

«ولمّا كان هذا النوع من التفكير ، يضفي على الدين جموداً لا يواكب متطلّبات الحضارات ومتغيّرات الزمان ، التجأ الشيخ إلى نقد هؤلاء ، بإرجاع طلابه وتلامذته إلى ما كتبه الشاطبي في القرن الثامن حول مقاصد الشريعة ، وبذلك عاد البحث عنها إلى الساحة من جديد ، وأخذ المحقّقون يبحثون فيها بدقة وأمانة. وبدراسة معمقة بإحدى الصورتين :

١. إفراده بالتأليف والتصنيف.

٢. إدخاله في أبحاث أُصول الفقه بما أنّه من مسائله.

فمن الكتب المخصّصة لذلك :

١. مقاصد الشريعة الإسلامية ، تأليف العلّامة الشيخ محمد طاهر بن عاشور (١٢٩٦ ١٣٩٣ ه‍) ، طبع عام (١٤٢١ ه‍) ، بتحقيق الشيخ محمد طاهر الميساوي. وقد طبع قبله أيضاً طبعة غير محقّقة.

٢. مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها ، تأليف علّال الفاسي. طبع عام ١٤١١ ه‍.

٣. مقاصد الشريعة ، للشيخ طه جابر العلواني. طبع عام ١٤٢١ ، ونشره دار الهادي في بيروت.

٤. مقاصد الشريعة وهو محاضرات متعددة حول الموضوع لعلماء معاصرين ، وهم : ١. محمد مهدي شمس الدين ، ٢. محمد حسين فضل الله ، ٣. طه جابر العلواني ، ٥. محمد حسن الأمين ، ٦. حسن الترابي ، ٧. عبد الهادي الفضلي ، ٨. جمال الدين عطية. وطبع برعاية عبد الجبار الرفاعي عام ١٤٢٣ ه‍.

وهناك من أدخل الموضوع في المسائل الأُصولية وأذكر منهم ما يلي :

٣٣٤

١. الأُستاذ عبد الوهاب خلّاف في كتابه «علم أُصول الفقه» الذي فرغ من تأليفه عام ١٣٦١ ه‍.

٢. أُصول الفقه للشيخ محمد أبو زهرة المصري (١٣١٦ ١٣٩٦ ( ، طبع مرّات.

٣. أُصول الفقه الإسلامي ، تأليف الأُستاذ محمد مصطفى شلبي رئيس قسم الشريعة الإسلامية بجامعة بيروت العربية. طبع عام ١٤٠٦ ه‍. وقد أفرد الأُستاذ تأليفاً حول تعليل الأحكام وهو كتاب ممتع.

٤. أخيرهم لا آخرهم أُصول الفقه الإسلامي للفقيه المعاصر الدكتور وهبة الزحيلي ، أدرجه في الجزء الثاني من كتابه المذكور. طبع عام ١٤١٩ ه‍.

إلى غير ذلك من محاضرات ومقالات يقف عليها المتتبع.

٣. الشيعة الإمامية ومقاصد الشريعة

إنّ الشيعة الإمامية عن بكرة أبيهم أكّدوا على أنّ الأحكام الشرعية تابعة للمقاصد والأغراض ، فلا واجب إلّا لمصلحة في فعله ، ولا حرام إلّا لمفسدة في اقترافه ، وقد تحقّق عندهم إنّ للتشريع الإسلامي نظاماً لا تعتريه الفوضى. وهذا الأصل وإن خالف فيه بعض الأُمّة (الأشاعرة) ، غير أنّ نظرهم محجوج بكتاب الله وسنّة نبيه ونصوص خلفائه. وإليك البيان :

المراد من الأغراض والدواعي ، ما يترتب على تشريع الحكم من مصالح اجتماعية أو فردية ، أو دفع مفاسد كذلك ، مثلاً (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) لما في إباحته من منافع ، (وَحَرَّمَ الرِّبا) لما في تحريمه من درء مفاسد لا تخفى.

ومن قرأ القرآن بإمعان ودقة ، وتدبّر في آيات التشريع والأحكام ، يقف

٣٣٥

بوضوح على أنّه سبحانه تارة يصرح بعلل التشريع ودوافعه ، وأُخرى يشير إليها بأروع الإشارات ، ونحن نذكر من كلّ قسم شيئاً.

التصريح بالعلل

قد وردت في الذكر الحكيم آيات تتضمن تشريع الأحكام مقرونة بذكر عللها والمصالح التي تترتب عليها ، أو المفاسد التي تُدرأ بها ، نظير :

(إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ* إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ). (١)

فالآيتان تشتملان على علل تشريع حرمة الخمر والميسر وما عطف عليهما من الأنصاب والأزلام ، إمّا بالإشارة إليها كقوله : «رجس من عمل الشيطان» و «رجاء الفلاح» وإمّا بالتصريح بها كما في الآية الثانية بأنّ مزاولتهما تورث العداء والبغضاء وتصد عن ذكر الله.

٢. (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ). (٢)

جعل الفيء لله وللرسول ولمن عطف عليهما ، لئلّا يتم تداول الثروة دائماً بين الأغنياء.

٣. (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ ...). (٣)

__________________

(١) (المائدة : ٩٠ ٩١.)

(٢) (الحشر : ٧.)

(٣) الأنعام : ١٠٨.

٣٣٦

فقد نهى سبحانه عن سبّ آلهة المشركين ، لأنّه ينتهي إلى سبّ الله سبحانه.

٤. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ إلى أن قال سبحانه : ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ). (١)

أمر تبارك وتعالى بغسل الوجوه والأيدي ومسح الرءوس والأرجل لمن كان واجداً للماء ، كما أمر لفاقده بالتيمم بمسح الوجوه والأيدي بما يعلق بها من الغبار ، ثمّ علل سبحانه الأمر بالطهارة الأعم من المائية والترابية بأنّه لغاية تطهيركم لا لإيجاد الحرج عليكم.

٥. (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ). (٢)

أمر سبحانه بالقصاص وقتل النفس بالنفس لما فيه حياة للمجتمع.

٦. انّه سبحانه بعد ما قصّ نبأ ابني آدم وانّ أحد الأخوين قتل الآخر قال : (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً). (٣)

فجعل وقوع تلك الحادثة الفجيعة سبباً لكتابته سبحانه على بني إسرائيل : أنّه من قتل نفساً بغير حقّ فكأنّما قتل الناس جميعاً ، فالحكم المكتوب على بني إسرائيل نابع عن قصّة نبأ ابني آدم.

٧. (فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً). (٤)

__________________

(١) (المائدة : ٦.)

(٢) (البقرة : ١٧٩.)

(٣) (المائدة : ٣٢.)

(٤) الأحزاب : ٣٧.

٣٣٧

كان الحكم السائد في الجاهلية تحريم تزوّج الرجال بأزواج أدعيائهم ، وحينما طلّق زيدٌ (الذي تبنّاه رسول الله في الجاهلية) امرأته زينب بنت عمة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، أمر سبحانه نبيّه الكريم أن يتزوجها بهدف إماتة تلك السنّة الجاهلية ، وبذلك جسّد (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قوله سبحانه : (لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ).

٨. (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ* الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ). (١)

فقد علل سبحانه الإذن بقتال الظالمين بقوله «بأنّهم ظُلموا» فالآية صريحة في أنّ المظلوم مأذون في قتال الظالم ما دام كونه مظلوماً والآخر ظالماً.

٩. (وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) (٢) ، فلكونها ناهية عنهما صارت سبباً للأمر بإقامتها.

١٠. (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ). (٣)

وقد أمر سبحانه بلزوم التأهب واتخاذ العدة للقتال ، وذلك لغاية إرهاب عدو الله وعدو المسلمين من غير فرق بين معلوم العداء وغيره.

هذه نماذج من آيات التشريع التي صرّح الذكر الحكيم بعللها ، وإليك نماذج من القسم الآخر.

__________________

(١) (الحج : ٤٠٣٩.)

(٢) (العنكبوت : ٤٥.)

(٣) الأنفال : ٦٠.

٣٣٨

الإلماع إلى علل التشريع دون التصريح

هناك آيات في الذكر الحكيم تشير إلى علل الأحكام لا بصورة واضحة ، بل بالكناية والإشارة يقف عليها من تدبّر الذكر الحكيم وإليك نماذج من هذا القسم.

١. (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (١) ، فالآية مشتملة على التعليل الصريح مثل قوله : (جَزاءً بِما كَسَبا) وقوله : (نَكالاً مِنَ اللهِ) ، وعلى الإشارة إليه حيث علق لزوم القطع على عنواني السارق والسارقة مشيراً إلى أنّ علة القطع هو السرقة وقد اشتهر قولهم : «تعليق الحكم بالوصف مشعر بالعلّية».

٢. (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ). (٢)

فالآية مشتملة على الإشارة بالتعليل وهو تعليق الحكم على عنوان الزانية والزاني.

٣. (فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً). (٣)

ذكر سبحانه في هذه الآية صلاة الخوف وبيّن كيفيتها ، ولما كان هناك سؤال

__________________

(١) (المائدة : ٣٨.)

(٢) (النور : ٢.)

(٣) النساء : ١٠٣.

٣٣٩

وهو أنّه سبحانه إذا كان بصدد التخفيف عن العباد ، فلما ذا لم يأمر بتأخير الصلاة حتى يستقر المسافر في بلده؟ فأجاب سبحانه عن ذلك بقوله : (إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) ، أي أنّ الصلاة قد شرّعت موقتةً بأوقات لا بدّ من أدائها فيها بقدر الإمكان.

٤. (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً). (١)

ففي الآية إلماع إلى علّة تحريم الطيبات على اليهود وهو ظلمهم وصدهم عن سبيل الله.

٥. (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ). (٢)

فقد أشار سبحانه إلى علّة تشريع الحكم وإيجاب غض البصر وحفظ الفروج بقوله : (ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ).

٦. (وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَ). (٣)

فقد علّل سبحانه لزوم السؤال من وراء الحجاب بأنّه مورث لطهارة قلوب السائل والمسئول.

٧. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ* فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها

__________________

(١) (النساء : ١٦٠.)

(٢) (النور : ٣٠.)

(٣) الأحزاب : ٥٣.

٣٤٠