أصول الفقه المقارن فيما لا نصّ فيه

الشيخ جعفر السبحاني

أصول الفقه المقارن فيما لا نصّ فيه

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-155-6
الصفحات: ٣٩٤

٣. ويكفي في الإشارة إلى أهميّة الفهم العرفي أنّ القرآن الكريم قد أنزل بلسان قوم النبي وقال سبحانه : (ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ...) (١) ، فنزل القرآن الكريم بلسان عربي مبين ، وهو كتاب عالمي حجّة على الناس على ضوء ما يدركه العربي الصميم في عصر النزول ، فالخطابات القرآنية حجّة للأجيال المتأخّرة على نفس القياس.

ويكفي في أهمية الموضوع أنّ قسماً من الخلافات بين الفقهاء يرجع إلى الاختلاف في ما هو المفهوم من الكتاب والسنّة عند العرف.

يقول الإمام الخميني في بيان شرائط الاجتهاد : «الأنس بالمحاورات العرفية ، وفهم الموضوعات العرفية ممّا جرت محاورة الكتاب والسنّة على طبقها والاحتراز عن الخلط بين دقائق العلوم والعقليات الرقيقة ، وبين المعاني العرفية العادية ، فإنّه كثيراً ما يقع الخطأ لأجله كما يتّفق كثيراً لبعض المشتغلين بدقائق العلوم الخلط بين المعاني العرفية السوقية الرائجة بين أهل المحاورة المبني عليها الكتاب والسنّة والدقائق الخارجة عن فهم العرف». (٢) ولذلك يجب على المجتهد في فهم المفردات والجمل التركيبية الرجوع إلى المعاجم الأصلية التي تذكر معاني الألفاظ ومقاصد التراكيب في عصر النزول ، ومما لا شكّ فيه طروء التطور على كثير من المفاهيم عبر القرون الغابرة وهكذا مفاد الهيئات التركيبيّة.

٤. ذكروا للعرف تعاريف مختلفة ، ولعلّ أفضلها ما ذكره الأُستاذ عبد الوهاب خلّاف : «العرف ما تعارفه الناس وساروا عليه من قول أو فعل أو

__________________

(١) (إبراهيم : ٤.)

(٢) الرسائل للإمام الخميني : ٩٦ / ٢.

٣٠١

ترك». (١)

وإن شئت قلت : العرف عبارة عن كلّ ما اعتاده الناس وساروا عليه من فعل شاع بينهم أو قول تعارفوا عليه.

٥. الفرق بينه وبين الإجماع هو انّه يشترط في الإجماع الاتّفاق في المسائل الولائيّة كالإمامة أو اتّفاق المجتهدين في المسائل الفقهية ، بخلاف العرف فيكفي فيه الأكثرية الساحقة ، ولا يشترط فيه الاجتهاد ، بل القارئ والأُمّي فيه سواء.

٦. ينقسم العرف إلى : عام ، وخاص.

والمراد من الأوّل : ما يشترك فيه أغلب الناس على اختلاف بيئاتهم وظروفهم وثقافاتهم ، كرجوع الجاهل إلى العالم.

والثاني : ما يشترك فيه فئة من الناس في مكان أو زمان معيّن ، وهذا ما يعبّر عنه بالآداب والرسوم المحلّية.

٧. ينقسم العرف إلى : عملي كبيع المعاطاة في أغلب البيئات ، وقولي كلفظ الولد حيث يستعمل عند العراقيين في الذكر دون الأُنثى خلافاً لقوله سبحانه : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) (٢) ، فلو وقف الواقف مزرعة على الأولاد فلا يتبادر عندهم إلّا الذكور منهم.

٨. ينقسم العرف إلى : صحيح ، وفاسد.

والمراد من الأوّل : ما لا ينافي عمومات الكتاب والسنّة ولا سائر الأدلّة ، كتأجيل بعض المهر وتعجيل البعض الآخر.

والمراد من الثاني : ما يخالف الحكم الشرعي ، كالعقود الربوية واختلاط

__________________

(١) (علم أُصول الفقه : ٩٩.)

(٢) النساء : ١١.

٣٠٢

النساء بالرجال في مجالس اللهو.

قد قام التشريع الإلهي بردّ بعض الأعراف من رأس كالبيع الربوي والغرري انطلاقاً من قول الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لمعاذ بن جبل عند ما بعثه إلى اليمن قائلاً : «وأمِتْ أمر الجاهلية إلّا ما سنّه الإسلام». (١) كما قام بإقرار بعض العادات والأعراف دون أن يتصرّف فيها إلّا بشيء بسيط ، كالنكاح والطلاق والبيع والإجارة والرهن.

٩. إنّما يعتبر العرف عنصراً في الشرع إذا لم يكن في مجراه حكم شرعي. وبتعبير آخر : يكون المورد ، منطقة فراغ ، وإلّا فلو كان هناك حكم شرعي فلا يكون العرف مورداً للاعتماد.

١٠. إنّ مصب البحث هو صيرورة العرف مصدراً لاستنباط الحكم الشرعي الكلّي ، كخبر الواحد والإجماع المنقول والشهرة على القول بحجّيتها ، وإلّا فمجرد كونه ممّا يرجع إليه الفقيه في تبيين المفاهيم أو تمييز المصاديق أو القاضي في القضاء وفصل الخصومات لا يكون سبباً لعدّه من المسائل الأُصولية.

__________________

(١) من كلمات الرسول في خطابه التاريخي في حجة الوداع ، ولقد نقله الفريقان باختلاف يسير ، ولعلّ ما نقله ابن شعبة الحراني في «تحف العقول» : ٢٥ أفضل وأجمع ممّا نقله ابن هشام في سيرته.

٣٠٣

٢

دور العرف في فهم المقاصد

إذا عرفت هذه الأُمور فاعلم أنّ للعرف أو السيرة مجالات يعتمد عليها الفقيه أو القاضي في مختلف الموارد نأتي بها واحداً بعد الآخر :

١. الرجوع إلى عرف أهل اللغة

العرف هو المرجع في فهم اللغة وتشخيص معاني الألفاظ وما وضعت له ، وقد أُلّفت معاجم اللغة من عصر الخليل (المتوفّى ١٧٠ ه‍) إلى يومنا هذا على ضوء الرجوع إلى أهل اللغة ، وقد حقّقنا في محلّه ، انّ تنصيص أهل اللغة حجّة تحت شرائط خاصة ، ليس المقام مناسباً لبيانها.

٢. الرجوع إلى العرف في رفع الإجمال

١. إذا وقع البيع والإجارة وما شابههما موضوعاً للحكم الشرعي ثمّ شكّ في مدخلية شيء في صدقه أو صحّته أو مانعيته شرعاً فالصحة عند العرف دليل على أنّه هو الموضوع عند الشرع.

إذ لو كان المعتبر غير البيع بمعناه العرفي لما صحّ من الشارع إهماله مع تبادر غيره وكمال اهتمامه ببيان الجزئيات من المندوبات والمكروهات ، إذ يكون

٣٠٤

تركه إغراء بالجهل ، وهو لا يجوز.

وبهذا تحلّ المشكلة المعروفة في التمسّك بالعمومات والإطلاقات في أبواب المعاملات ، حيث يتمسّك بإطلاق : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) أو عموم قوله : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) عند الشكّ في الجزئية والشرطية ، وعندئذ يستشكل بأنّه إذا كانت ألفاظ المعاملات أسماء للصحيح منها ، فمرجع الشكّ في الشرطية والجزئية ، إلى الشكّ في صدق الموضوع ، فيكون المورد من قبيل التمسّك بالعام أو المطلق في الشبهة المصداقية لهما.

ويجاب بأنّه إذا كان مفهوم البيع عند العرف أوسع من الواجد للجزء أو الشرط المشكوك وجوبهما ، نستكشف من ذلك ، كونه كذلك عند الشرع ، فالصحيح عرفاً يكون طريقاً إلى ما هو الصحيح شرعاً إلّا إذا قام الدليل على الخلاف. وممن صرّح بذلك الشيخ الأنصاري في أوّل المتاجر بعد الفراغ من تعريف البيع قال : إذا قلنا بأنّ أسماء المعاملات موضوعة للصحيح عند الشارع ، فإذا شككنا في صحّة بيع أو إجارة أو رهن يصحّ لنا أن نستكشف ما هو الصحيح عند الشارع ممّا هو الصحيح عند العرف ، بأن يكون الصحيح عند العرف طريقاً إلى ما هو الصحيح عند الشارع إلّا ما خرج بالدليل. (١)

٢. لو افترضنا الإجمال في مفهوم الغبن أو العيب في المبيع فيحال في تحديدهما إلى العرف.

قال المحقّق الأردبيلي : قد تقرر في الشرع انّ ما لم يثبت له الوضع الشرعي يحال إلى العرف جرياً على العادة المعهودة من ردّ الناس إلى عرفهم. (٢)

__________________

(١) (المتاجر : ٨٠ ، ط تبريز.)

(٢) مجمع الفائدة والبرهان : ٣٠٤ / ٨.

٣٠٥

٣. لو افترضنا الإجمال في حدّ الغناء ، فالمرجع هو العرف ، فكلّ ما يسمّى بالغناء عرفاً فهو حرام وإن لم يشتمل على الترجيع ولا على الطرب.

٤. «الإحياء» ورد في الشرع مطلقاً من غير تفسير كقوله : «من أحيا أرضاً مواتاً فهي له» (١) ، فلا بدّ فيه من الرجوع إلى العرف والتعويل على ما يسمّى في العرف «احياء». (٢)

٥. وقد ورد لفظ «المئونة» في قوله (عليه‌السلام) : «الخمس بعد المئونة» (٣) ، ومفهوم «العيال» في وجوب الفطرة وغيره (٤) ، فالمرجع في تفسير هذه المفاهيم هو العرف ، كما أنّ المرجع في تفسير الاستحالة والانقلاب هو العرف ، فإنّ الاستحالة هي إحدى المطهرات ، كاستحالة الكلب ملحاً ، أو انقلاب الخمر خلاً ، فالتشخيص في تعيين ذينك المفهومين على عاتق العرف.

يقول صاحب مفتاح الكرامة : المستفاد من قواعدهم حمل الألفاظ الواردة في الأخبار على عرفهم ، فما علم حاله في عرفهم جرى الحكم بذلك عليه ، وما لم يعلم يرجع فيه إلى العرف العام كما بيّن في الأُصول. (٥)

يقول الإمام الخميني (رحمه‌الله) : أمّا الرجوع إلى العرف في تشخيص الموضوع والعنوان فصحيح لا محيص عنه إذا كان الموضوع مأخوذاً في دليل لفظي أو معقد الإجماع. (٦) والشاهد في قوله : «والعنوان». وكان الأولى أن يقول : «وتحديد العنوان».

__________________

(١) (الوسائل : ١٧ ، الباب ١ من كتاب الإحياء ، الحديث ٥.)

(٢) (كفاية الأحكام : ٢٤١.)

(٣) (الوسائل : ٦ ، الباب ١٢ من أبواب الخمس ، الحديث ١.)

(٤) (الوسائل : ٦ ، الباب ٥ من أبواب زكاة الفطرة ، الحديث ٦ وغيره.)

(٥) (مفتاح الكرامة : ٢٢٩ / ٤.)

(٦) البيع : ٣٣١ / ١.

٣٠٦

٣. الرجوع إلى العرف في تشخيص المصاديق

قد اتّخذ الشرع مفاهيم كثيرة وجعلها موضوعاً للأحكام ، ولكن ربّما يعرض الإجمال على مصاديقها ويتردّد بين كون الشيء مصداقاً له أو لا.

وهذا كالوطن والصعيد والمفازة والمعدن والحرز في السرقة والأرض الموات إلى غير ذلك من الموضوعات التي ربّما يشك الفقيه في مصاديقها ، فيكون العرف هو المرجع في تطبيقها على موردها.

يقول المحقّق الأردبيلي في حفظ المال المودع : وكذا الحفظ بما جرى الحفظ به عادة ، فإنّ الأُمور المطلقة غير المعيّنة في الشرع يرجع فيها إلى العادة والعرف ، فمع عدم تعيين كيفية الحفظ يجب أن يحفظها على ما يقتضي العرف حفظه ، مثل الوديعة ، بأن يحفظ الدراهم في الصندوق وكذا الثياب ، والدابة في الاصطبل ونحو ذلك ، ثمّ إنّ في بعض هذه الأمثلة تأمّلاً ، إذ الدراهم لا تحفظ دائماً في الصندوق ، ولا الثياب ، وهو ظاهر. (١)

ومع ما للعرف من الدور في فهم الحكم الشرعي وتطبيقه على المصداق ولكن ذلك الدور للعرف الدقيق لا للعرف المتهاون ، وقد كان سيدنا الأُستاذ السيد الخميني (قدس‌سره) يركّز على ذلك في دروسه الشرعية ، فلو وصف العرف ما يبلغ وزنه تسعمائة وتسعة وتسعين كيلو بكونه طُناً فلا عبرة به ، لأنّه عرف متسامح ، وأمّا العرف الدقيق فيقول : إنّه ينقص من الطن كيلو واحد ، نعم لون الدم وإن كان في العقل الدقيق من أقسام الدم لكنّه عند العرف حتّى الدقيق لونه لا نفسه ، فيوصف بالطهارة لا بالنجاسة.

__________________

(١) مجمع الفائدة والبرهان : ٢٧٩ / ١٠ ٢٨٠.

٣٠٧

فإن قلت : إنّ المختار عند المحقّق النائيني هو أنّ العرف مرجع في المفاهيم دون المصاديق قال :

فالتعويل على العرف إنّما يكون في باب المفاهيم ، ولا أثر لنظر العرف في باب المصاديق ، بل نظره إنّما يكون متبعاً في مفهوم «الكرّ» و «الفرسخ» و «الحقّة» ونحو ذلك ؛ وأمّا تطبيق المفهوم على المصداق : فليس بيد العرف ، بل هو يدور مدار الواقع ؛ فإن كان الشيء مصداقاً للمفهوم ينطبق عليه قهراً ، وإن لم يكن مصداقاً له فلا يمكن أن ينطبق عليه.

قلت : انّه (قدس‌سره) يخطّئ مرجعية العرف المتسامح لا الدقيق ولذلك يقول بعد كلامه المتقدّم : ولو فرض أنّ العرف يتسامح أو يخطئ في التطبيق ، فلا يجوز التعويل على العرف في تطبيق المفهوم على المصداق مع العلم بخطائه أو مسامحته أو مع الشكّ فيه ، بل لا بدّ من العلم بكون الشيء مصداقاً للمفهوم في مقام ترتيب الآثار. (١)

٤. كشف العرف عن مراد الشارع عند الملازمة العادية

إذا كان بين الحكم الشرعي المنطوق والحكم الشرعي الآخر غير المنطوق ملازمة عادية ينتقل العرف من الحكم الأوّل المجعول إلى الحكم الثاني وإن لم يكن ملفوظاً ، وهذا كما إذا دلّ الدليل على طهارة الميت بعد الأغسال الثلاثة فهو يلازم طهارة يد الغسّال ، والخشب الذي أجرى الغسل عليه وسائر الأدوات عند العرف.

ونظير ذلك ما دلّ على طهارة الخمر بانقلابه إلى الخل الملازم للحكم

__________________

(١) فوائد الأُصول : ٥٧٤ / ٤ ، النشر الإسلامي.

٣٠٨

بطهارة جميع أطراف الإناء.

ومثله ما دلّ على طهارة العصير العنبي بعد التثليث بناء على نجاسته بالغليان ، فإنّ طهارة العصير يلازم عادة طهارة الإناء والأدوات التي كان الطبّاخ يستخدمها.

٥. كشف الأعراف عن مقاصد المتكلّم

إنّ لكلّ قوم وبلد أعرافاً خاصة بهم ، يتعاملون في إطارها ويتّفقون على ضوئها في كافّة العقود والإيقاعات ، فهذه الأعراف تشكل قرينة حالية لحلّ كثير من الاختلافات المتوهمة في أقوالهم وأفعالهم ، ولنقدّم نماذج منها :

١. إذا باع دابة ثمّ اختلفا في مفهومها ، فالمرجع ليس هو اللغة ، بل ما هو المتبادر في عرف المتعاقدين وهو الفرس.

٢. إذا باع اللحم ثمّ اختلفا في مفهومه ، فالمرجع هو المتبادر في عرف المتبايعين ، وهو اللحم الأحمر دون اللحم الأبيض كلحم السمك والدجاج.

٣. إذا وصّى بشيء لولده ، فالمرجع في تفسير الولد هو العرف ، ولا يطلق فيه إلّا على الذكر لا الأُنثى خلافاً للفقه والكتاب العزيز ، قال سبحانه : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ). (١)

٤. إذا اختلف الزوجان في أداء المهر ، فالمرجع هو العرف الخاص ، فلو جرت العادة على تقديم المهر أو جزء منه قبل الزفاف ولكن ادّعت الزوجة بعده انّها لم تأخذه ، وادّعى الزوج دفعه إليها ، فللحاكم أن يحكم على وفق العرف الدارج في البلد.

__________________

(١) النساء : ١١.

٣٠٩

وقد روي عن الإمام الصادق (عليه‌السلام) فيما إذا اختلف أحد الزوجين مع ورثة الزوج الآخر ، انّه جعل متاع البيت للمرأة وقال للسائل : «أرأيت إن أقامت بيّنة إلى كم كانت تحتاج؟» فقلت : شاهدين ، فقال : «لو سألت من بين لابتيها يعني الجبلين ونحن يومئذ بمكة لأخبروك انّ الجهاز والمتاع يهدى علانية ، من بيت المرأة إلى بيت زوجها ، فهي التي جاءت به وهذا المدّعي ، فإن زعم أنّه أحدث فيه شيئاً فليأت عليه البيّنة». (١)

٥. إذا اختلف البائع والمشتري في دخول توابع المبيع في البيع فيما إذا لم يصرّحا به ، كما إذا اختلفا في دخول اللجام والسرج في المبيع ، فإذا جرى العرف على دخولهما في المبيع وإن لم يذكر يكون قرينة على أنّ المبيع هو المتبوع والتابع ، ولذلك قالوا : إنّ ما يتعارفه الناس من قول أو فعل عليه يسير نظام حياتهم وحاجاتهم ، فإذا قالوا أو كتبوا فإنّما يعنون المعنى المتعارف لهم ، وإذا عملوا فإنّما يعملون على وفق ما يتعارفونه واعتادوه ، وإذا سكتوا عن التصريح بشيء فهو اكتفاء بما يقتضي به عرفهم ، ولهذا قال الفقهاء : المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً.

٦. ويظهر من المحقّق الأردبيلي (قدس‌سره) انّ العرف هو المعتمد في تشخيص كون الشيء مكيلاً أو موزوناً حتى يجري فيه الربا المعاوضي ، لأنّه يحرم التفاضل في مبادلة المتجانسين إذا كانا مكيلين أو موزونين ، دون ما إذا كانا معدودين أو مزروعين. فلو اختلفت البلاد فكان جنس موزوناً في بلد ، ومعدوداً في بلد آخر ، يكون لكلّ بلد حكمه بشرط أن لا يعلم حاله في عهد الرسول ، وإليك كلامه :

قال : كلّما لم يثبت فيه الكيل ولا الوزن ولا عدمهما في عهده (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فحكمه حكم البلدان ، فإن اتّفق البلدان فالحكم واضح ، وإن اختلفا ففي بلد الكيل أو

__________________

(١) الوسائل : ١٧ ، الباب ٨ من أبواب ميراث الأزواج ، الحديث ١.

٣١٠

الوزن يكون ربوياً تحرم الزيادة وفي غيره لا يكون ربوياً فيجوز التفاضل ، والظاهر انّ الحكم للبلد لا لأهله وإن كان في بلد غيره. (١)

٧. الشروط المبنيّ عليها العقد ، يجب الوفاء بها وإن لم تذكر في العقد كالبكارة في التزويج عند المسلمين ولو بانت ثيّباً فللزوج حقّ الفسخ إذا لم يدخل بها بعد العلم بحالها.

٨. الرجوع إلى العرف في تعيين حريم القرية فإنّه يختلف حسب اختلاف الأعراف والعادات.

فقد اتضح ممّا ذكرنا انّ للعرف دوراً في تبيين الموضوع (تبيين المفاهيم) ، أو تشخيص المصاديق ، أو تشكيل قرينة على مقصود الشارع كما في الملازمات العادية ، أو مقصود المتعاملين كما هو الحال في الأعراف والرسوم القومية ، أو تشخيص الموضوع عند الشارع كما هو في الشك في كون الشيء مكيلاً أو موزوناً ، ومرجع الجميع إلى تشخيص المفاهيم أو الصغريات أو الموضوعات ، أو المقاصد.

ومع ذلك يقع في بعض الموارد صغرى لاستكشاف حكم شرعي ، وبذلك يعود البحث عن حجّيته ، بحثاً أُصولياً كالبحث في حجّية الإجماع المنقول ، أو الشهرة الفتوائية.

٦. استكشاف الجواز تكليفاً أو وضعاً بالعرف

ربّما يستكشف جواز الفعل تكليفاً أو وضعاً من السيرة العقلائية الدارجة بينهم ، لكن بشرطين :

١. اتّصال السيرة إلى أعصارهم وكونها بمرأى ومسمع منهم.

__________________

(١) مجمع الفائدة والبرهان : ٤٧٧ / ٨ ، كتاب المتاجر ، مبحث الربا.

٣١١

٢. عدم ردعهم عنها ، بقول أو فعل.

وهذا ما نلاحظه في العقود التالية :

١. العقود المعاطاتية في البيع والإجارة والرهن وغيرها ، فهي حجّة على مَن يشترط العقد اللفظي في صحّة المعاملات المزبورة.

٢. وقف الأشجار والأبنية منفكّة عن وقف العقار ، فالسيرة حجّة عند الشكّ في صحّة هذا النوع من الوقوف.

٣. دخول الحمام من دون تقديره المكث فيه ومقدار المياه التي يصرفها.

٤. استقلال الحافلة بأُجرة عينية من دون أن يعين حدّ المسافة.

٥. بيع الصبي وشراؤه في المحقرات ، دون الجلائل. مع أنّ الثالث والرابع غرريّان ، والخامس ، ينافيه قول علي (عليه‌السلام) عمد الصبي خطأ. (١) أو قول الصادق : عمد الصبي وخطؤه واحد. (٢)

فإن قلت : يكفي في ردع هذه السير ما دلّ على بطلان البيع والإجارة المجهولين ، أو ما ورد في مورد الصبي من أنّ عمده كلا عمد ، وقصده كلا قصد.

قلت : إنّ رسوخ هذه السير في حياة المسلمين والفقهاء على نحو لا يمكن لأحد إنكاره ، يكشف أنّ ما ورد في الكتاب والسنّة حول مانعية جهالة المبيع والأُجرة ، منصرفان عن هذه الموارد أو ما ورد حول عمد الصبي ناظر إلى غير هذه الصورة.

فالسيرة في هذه الموارد ونظائرها ، كاشفة عن حكم شرعي كلّي وبهذا يصحّ

__________________

(١) (الوسائل : ١٩ ، الباب ١١ من أبواب العاقلة ، الحديث ٣.)

(٢) الوسائل : ١٩ ، الباب ١١ من أبواب العاقلة ، الحديث ٢. بناء على عدم اختصاص الحديثين ، بباب الديات.

٣١٢

عدّ حجّيته ، مسألة أُصولية. ويكون البحث عن حجّيتها بحثاً أُصوليّاً.

وبهذا تبيّن انّ الاحتجاج بالسيرة يتوقّف على وجود شرطين :

١. اتّصال السيرة بعصر المعصومين (عليهم‌السلام) وكونها بمرأى ومسمع منهم.

٢. عدم ردع صريح عنها.

فخرج بالشرط الأوّل العقود التالية الرائجة بين العقلاء الحادثة في الحضارة الصناعية :

١. عقد التأمين : وهو عقد رائج بين العقلاء ، عليه يدور رحى الحياة العصرية ، فموافقة العرف لها ليس دليلاً على مشروعيتها ، بل يجب التماس دليل آخر عليها.

٢. عقد حقّ الامتياز : قد شاع بين الناس شراء الامتيازات كامتياز الكهرباء والهاتف والماء وغير ذلك التي تعد من متطلّبات الحياة العصرية ، فيدفع حصة من المال بغية شرائها وراء ما يدفع في كلّ حين عند الاستفادة والانتفاع بها ، وحيث إنّ هذه السيرة استحدثت ولم تكن من قبل ، فلا تكون موافقة العرف لها دليلاً على جوازها ، فلا بد من طلب دليل آخر.

٣. بيع السرقفلية : قد شاع بين الناس أنّ المستأجر إذا استأجر مكاناً وسكن فيه مدّة فيصبح له حقّ الأولوية وربما يأخذ في مقابله شيئاً باسم «السرقفلية» حين التخلية.

٤. عقود الشركات التجارية على أنواعها الرائجة في عصرنا هذا ، ولكلّ منها تعريف يخصّها ، ولم يكن لها أثر في عصر الوحي ، فتصويب كلّ هذه العقود بحاجة ماسة إلى دليل آخر وراء العرف ، فإن دلّ عليها دليل شرعي يؤخذ بها وإلّا فلا يحتج بالعرف.

٣١٣

وخرج بالشرط الثاني : ما يصادم الكتاب والسنّة نظير السير التالية :

١. اختلاط الرجال بالنساء في الأفراح والأعراس.

٢. المعاملات الربوية بأنواعها.

٣. اشتراط المرتهن الانتفاع من العين المرهونة.

٤. تجويز اشتراط رب المال في المضاربة قدراً معيناً من الربح لا بالنسبة بهذه السيرة ، لأنّه لا يحتج بها.

هل السيرة دليل مستقل أو راجع إلى السنّة؟

قد عرفت أنّ السيرة تستخدم تارة في تبيين المفاهيم وتشخيص المصاديق ، وأُخرى في استكشاف مرادات الشارع فيما يرجع إلى الدلالات الالتزامية بالنسبة لكلامه ، وثالثة مقاصد المتكلّم الذي وقع فعله أو كلامه موضوعاً للحكم الشرعي ، إلى غير ذلك من الموارد التي لا تتجاوز عن تشخيص الصغرى أو الموضوع للحكم الشرعي ، دون أن يقع ذريعة لاستنباط الحكم الشرعي الكلّي ، وبذلك لا يصلح أن تعدّ السيرة مسألة أُصولية يستنبط بها ، الحكم الشرعي الكلّي.

نعم السيرة المتّصلة في قسم من المعاملات بعصر المعصوم وسكوتهم عنها وعدم ردعهم ربّما يكون ذريعة لتقريرهم وإمضائهم إذا كانت السيرة بمرأى ومسمع منهم ، وهذا وإن كان يصحّح كون البحث عنها مسألة أُصولية ، لكنّها لا تخرج عن الكشف عن السنّة التي هي قول المعصوم وفعله وتقريره ، فلا يصحّ عدّها أصلاً مستقلاً ، أو دليلاً خاصاً وراء الأدلّة الأربعة ، فهي داخلة تحت تقرير المعصوم الذي هو قسم من السنّة.

٣١٤

٣

هل العرف من مصادر التشريع؟

هذا حسب أُصولنا ولكن الظاهر من أهل السنّة ، انّه من مصادر التشريع لا بمعنى انّه كاشف عن الحكم الشرعي ، بل هو خلّاق للحكم الشرعي ، نظير الإجماع عندهم ، فهو عندهم من مصادره كالكتاب والسنّة ، فالإجماع يضفي المشروعية على الحكم المتّفق عليه ، ويصير بالاتّفاق حكماً واقعياً إلهياً.

يقول الأُستاذ السوري «وهبة الزحيلي» في مستند الإجماع ، بأنّه إمّا دليل قطعي من قرآن أو سنّة متواترة ، فيكون الإجماع مؤيّداً ومعاضداً له ؛ وإمّا دليل ظنّي وهو خبر الواحد والقياس ، فيرتقي الحكم حينئذ من مرتبة الظن إلى مرتبة القطع واليقين. (١)

والسيرة عندهم كالإجماع ، غير أنّ الثاني يشترط فيه الاتّفاق والاجتهاد ، دون السيرة ، غاية الأمر أن لا تكون مخالفة لنصّ الكتاب والسنّة أو روح الشريعة ولذلك اشتهرت في ألسنة فقهائهم.

إنّ العرف عندهم من مصادر التشريع ، وهو أصل أخذ به الحنفية والمالكية

__________________

(١) الوجيز في أُصول الفقه : ١٤٩.

٣١٥

في غير موضع النص.

والعرف عندهم ما اعتاده الناس من معاملات واستقامت عليه أُمورهم ، وهذا يُعدّ أصلاً من أُصول الفقه ، ولذلك ذكر الفقهاء من الحنفية والمالكية : أنّ الثابت بالعرف ثابت بدليل شرعي.

ويقول السرخسي في «المبسوط» : الثابت بالعرف كالثابت بالنص. ومعناه أنّ الثابت بالعرف ثابت بدليل يعتمد عليه كالنص حيث لا نص.

وقالوا أيضاً : العرف شريعة محكمة ، والعرف المعتبر ما يخصّص به العام ويقيد المطلق. (١)

يقول محمد أبو زهرة في حقّ العرف من منظار الحنفية والمالكية : إنّ العلماء الذين يقرّرون أنّ العرف أصل من أُصول الاستنباط ، يقرّرون أنّه دليل حيث لا يوجد نصّ من كتاب أو سنّة. وإذا خالف العرف الكتاب ، أو السنّة ، كتعارف الناس في بعض الأوقات تناول بعض المحرمات كالخمر ، وأكل الربا ، فعرفهم مردود عليهم ، لأنّ اعتباره إهمال لنصوص قاطعة ، واتّباع للهوى وإبطال للشرائع ، لأنّ الشرائع ما جاءت لتقرير الفساد.

ثمّ قال : إنّ العرف قسمان : عرف فاسد لا يؤخذ به ، وهو الّذي يخالف نصاً قطعياً ، فإنّ هذا يرد ؛ والقسم الثاني عرف صحيح ، فإنّه يؤخذ به ويعتبر الأخذ به أخذاً بأصل من أُصول الشرع. (٢) +

ما أفاده الأُستاذ أبو زهرة من تخصيص حجّية العرف في مجال ما لا نصّ فيه

__________________

(١) (رسائل ابن عابدين : رسالة نشر العرف التي فرغ منها عام ١٢٤١ ه‍ ، ومصادر التشريع الإسلامي فيما لا نصّ فيه للشيخ عبد الوهاب خلاف مطابع دار الكتاب العربي وغيرهما.)

(٢) أُصول الفقه : ٢٥٥.

٣١٦

وانّه لا يحتجّ به إذا خالف الكتاب والسنّة ، ممّا لا غبار عليه.

إنّما الكلام في جواز الاعتماد عليه في كشف الحكم الشرعي الكلّي ، سواء أكان سائداً في عصر المعصوم أو لا.

قال أبو زهرة : العرف العام هو الّذي اتّفق عليه الناس في كلّ الأمصار ، كدخول الحمام واطّلاع الناس بعضهم على عورات البعض أحياناً ، وعقد الاستصناع. نعم العرف الخاص الّذي يسود في بلد أو طائفة فإنّ هذا العرف لا يقف أمام النص. (١)

وقال ابن عابدين : وتجويز الاستصناع بالتعامل تخصيص للنصّ الّذي ورد في النهي عن بيع ما ليس عند الإنسان لا ترك للنص ، لأنّا عملنا بالنصّ في غير الاستصناع. (٢)

وهذه الجمل توضح موقفهم من العرف وانّه حجّة فيما نصّ فيه وانّه ربما يكون مصدراً للتشريع بل مخصصاً له. وهذا هو المدّعى ، ولنذكر دلائلهم على مدّعاهم.

ثمّ إنّهم استدلوا على حجّية العرف ببعض الآيات والروايات :

١. قوله سبحانه : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ). (٣)

قال ابن عابدين : واعلم أنّ بعض العلماء استدلّ على اعتبار العرف بقوله سبحانه : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ). (٤)

__________________

(١) (أُصول الفقه : ٢٥٥ ٢٥٦.)

(٢) (سيوافيك توضيح عقد الاستصناع.)

(٣) (الأعراف : ١٩٩.)

(٤) رسائل ابن عابدين ، رسالة نشر العرف : ١١٣.

٣١٧

والاستدلال مبني على أنّ المراد به المتعارف بين الناس كما هو المتبادر من هذا اللفظ في مصطلح اليوم ؛ ولكن الظاهر أنّ المراد هو كلّ خصلة تعرف صوابها العقول وتطمئن إليها النفوس ولا صلة له بالرسوم والأعراف القومية. (١)

يقول السيد الطباطبائي : العرف هو ما يعرفه عقلاء المجتمع من السنن والسير الجميلة الجارية بينهم ، بخلاف ما ينكره المجتمع وينكره العقل الاجتماعي من الأعمال النادرة الشاذة. (٢)

والإمعان فيما ورد في الآية من الجمل الثلاث ، يكشف عن أنّه سبحانه يأمر النبي بالأخذ بخصال ثلاث كلّها خير وصلاح ، وهي :

أ. العفو عن المجرم وقبول عذره وبالتالي المداراة مع الناس.

ب. الدعوة إلى خصال الخير التي يعرفها العقل والشرع.

ج. الصبر والاستقامة أمام إيذاء الجاهلين.

وأين هذا من دلالة الآية على العادات السائدة بين الناس ، سواء أكانت لها جذور في العقل والشرع أم لا؟

ولذلك فسّر السيوطي الآية بالنحو التالي :

(خُذِ الْعَفْوَ) : اليسر من أخلاق الناس ، ولا تبحث عنها (وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) : المعروف ، (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) : فلا تقابلهم بسفههم. (٣)

وعلى ضوء هذا فالاستدلال بالآية على اعتبار الحسن والقبح العقليين أظهر من الاستدلال على غيره ، فالعقل يدرك حسن الأفعال وقبحها في مجالات مختلفة.

__________________

(١) (مجمع البيان : ٢١٢ / ٢.)

(٢) (الميزان : ٣٣٠ / ٩.)

(٣) تفسير الجلالين : ٢٢٢.

٣١٨

٢. قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : «ما رآه المسلمون حسناً ، فهو عند الله حسن». (١)

يلاحظ على الاستدلال : أنّ الرواية على فرض صحّة سندها تهدف إلى الحسن العقلي ، الّذي رآه المسلمون حسناً حسب ضوء العقل وإرشاده فهو عند الله حسن ، للملازمة بين ما يدركه العقل وما هو عند الله.

أضف إلى ذلك أنّ الحديث موقوف رواه عبد الله بن مسعود دون أن يسنده إلى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم).

قال ابن عابدين : ناقلاً عن كتاب الأشباه : القاعدة السادسة : العادة محكم وأصلها قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن. قال العلائي : لم أجده مرفوعاً في شيء من كتب الحديث أصلاً ولا بسند ضعيف بعد طول البحث وكثرة الكشف والسؤال ، وإنّما هو من قول عبد الله بن مسعود موقوفاً عليه أخرجه الإمام أحمد في مسنده. (٢)

٣. انّ النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) أمضى بعض الأعراف السائدة بين العرب ، مثلاً أمضى ما سنّه عبد المطلب في دية الإنسان وانّه مائة من الإبل كما أمضى انّ الدية على العاقلة.

إنّ الرسول لمّا وجد عرف أهل المدينة جارياً على بيع السلم وعلى بيع العرايا وأصبح هذان النوعان من البيوع الّتي لا يستغني عنهما المتعاملون أباحهما ، فرخّص في السلم ورخّص في العرايا مع أنّ كلاً منهما حسب الأحكام الشرعية عقد غير صحيح ، لأنّ السلم بيع مبيع غير موجود وقت البيع بثمن حال فهو

__________________

(١) (رسائل ابن عابدين ، رسالة نشر العرف : ١١٣.)

(٢) رسائل ابن عابدين ، رسالة نشر العرف : ١١٣ ؛ لاحظ مسند أحمد : مسند المكثرين من الصحابة ، الحديث ٣٤١٨.

٣١٩

عقد على معدوم ، وقد نهى (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عن بيع المعدوم.

والعرايا : عبارة عن بيع الرطب على النخل بالتمر الجاف ، وهذا لا يمكن فيه التحقّق من تساوي البدلين ، وقد نهى (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عن بيع الشيء بجنسه متفاضلاً ، ولكن ضرورات الناس دعتهم إلى هذا النوع من التعامل وجرى عرفهم به ، فراعى الرسول ضرورتهم وعرفهم ورخّص فيه.

أقول (١) : كأنّ الأُستاذ خلاف يهدف بكلامه هذا إلى أنّ النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) إذا اعترف ببعض الأعراف الّتي كانت تنسجم مع حياة الناس ، فنحن أيضاً إذا واجهنا سيراً تنسجم مع حياة الناس وتتلاءم معها يلزم علينا إمضاؤها وتطبيق الحياة عليها وإن لم يرد على صحتها نصّ في الكتاب ولا في السنّة.

وعلى ضوء ذلك فكلّما سار عليه العقلاء في الحضارة الصناعية من المعاملات المستحدثة ، فتتخذ لنفسها صبغة شرعية اقتداءً بالنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) حيث أخذ بالسير السائدة.

نحن نصافق الأُستاذ بالأخذ بهذه السير ولكن بشروط محددّة :

١. أن لا تكون السيرة وما جرى عليه الناس مخالفة لنصوص الكتاب والسنّة ، ولا أظن أنّ الأُستاذ لا يوافقنا في هذا الشرط ، وكيف ومجال العرف هو منطقة الفراغ أي في ما لا نص فيه ، ولو كان هناك نص سواء أوافق العرف أم خالفه فلا يكون هناك موضوع للاحتجاج بالعرف.

٢. أن يكون ما اعتبره العقلاء موجوداً في عصر الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) على نحو كان بمرأى ومسمع منه ، وإلّا فلا قيمة لما اجتمع عليه العقلاء مع إمضاء الشارع وتصديقه.

__________________

(١) مصادر التشريع الإسلامي : ١٤٦.

٣٢٠