أصول الفقه المقارن فيما لا نصّ فيه

الشيخ جعفر السبحاني

أصول الفقه المقارن فيما لا نصّ فيه

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-155-6
الصفحات: ٣٩٤

فأسنده لي.

فقال : «حدّثني أبي ، عن جدّي رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، عن جبرئيل (عليه‌السلام) ، عن الله عزوجل ، وكلّما أحدّثك بهذا الاسناد».

فقال : يا جابر لحديث واحد تأخذه عن صادق خير لك من الدنيا وما فيها. (١)

٣. وهذا عنبسة قال : سأل رجل أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن مسألة فأجابه فيها ، إلى أن قال : «مهما أجبتك بشيء فهو عن رسول الله لسنا نقول برأينا من شيء».

٤. وفي رواية لجابر عن أبي جعفر قال : «يا جابر انّا لو كنّا نحدّثكم برأينا وهوانا لكنّا من الهالكين ، ولكنّا نحدّثكم بأحاديث نكنزها عن رسول الله». إلى غير ذلك من الروايات. (٢)

(فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ). (٣)

رؤيا الصحابي والتشريع

قد وقفت على أنّ التشريع الإلهي أعلى وأجلّ من أن تناله يد الاجتهاد ، فالتشريع فيض إلهي جار من ينبوع فياض لا يشوبه خطأ ولا وهم ولا ظن ولا خرص ولا تخمين ، والنبي هو المبيّن للتشريع ، وليس بمجتهد فيه يضرب الآراء بعضها ببعض كي يصل إلى حكم الله سبحانه.

وأسوأ من ذلك أن تكون رؤيا الصحابة أو تصويبهم مصدراً للتشريع ، ومع

__________________

(١) (أمالي المفيد : ٤٢.)

(٢) (لاحظ كتاب جامع أحاديث الشيعة : ١ ، الباب الرابع من أبواب المقدّمات وما هو الحجّة في الفقه : ١٨١ ١٨٣ وقد أخذنا بالقليل من الكثير.)

(٣) الأنعام : ٨١.

٢٨١

الأسف نرى نماذج كثيرة منها مروية في الصحاح والمسانيد ، فلنقتصر على ذكر نموذجين على سبيل المثال :

١. اهتم النبي للصلاة كيف يجمع الناس لها ، فقيل له : انصب راية عند حضور الصلاة ، فإذا رأوها آذن بعضهم بعضاً ، فلم يعجبه ذلك ، قال : فذكر له القبع يعني الشبور قال زياد : شبور اليهود ، فلم يُعجبه ذلك ، وقال : هو من أمر اليهود.

قال : فذكر له الناقوس ، فقال : هو من أمر النصارى.

فانصرف عبد الله بن زيد بن عبد ربّه وهو مهتم لهمِّ رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فأُري الأذان في منامه ، قال : فغدا على رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فأخبره ، فقال له : يا رسول الله ، إنّي لبين نائم ويقظان ، إذ أتاني آت فأراني الأذان.

قال : وكان عمر بن الخطاب قد رآه قبل ذلك ، فكتمه عشرين يوماً ، ثمّ أخبر النبي به ، قال (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : ما منعك أن تخبرني؟ فقال : سبقني عبد الله بن زيد ، فاستحييت.

فقال رسول الله : يا بلال قم فانظر ما يأمرك به عبد الله بن زيد فافعله ، قال : فأذّن بلال ، قال أبو بشر : فأخبرني أبو عمير أنّ الأنصار تزعم أنّ عبد الله بن زيد لو لا انّه كان يومئذ مريضاً لجعله رسول الله مؤذناً. (١)

إنّ هذه الرواية وما شاكلها لا تتفق مع مقام النبوة ، لأنّه سبحانه بعث رسوله لإقامة الصلاة مع المؤمنين في أوقات مختلفة ، وطبيعة الحال تستدعي أن

__________________

(١) سنن أبي داود : ١٣٤ / ١٣٥١ برقم ٤٩٨ ٤٩٩ ، تحقيق محمد محيي الدين. لاحظ سنن ابن ماجة : ٢٣٢ / ١ ٢٣٣ ، باب بدء الأذان برقم ٧٠٦ ٧٠٧ ؛ سنن الترمذي : ٣٥٨ / ١ ، باب ما جاء في بدء الأذان برقم ١٨٩.

٢٨٢

يعلّمه سبحانه كيفية تحقّق هذه الأُمنية ، فلا معنى لتحيّر النبي أياماً طويلة ، وهو لا يدري كيف يحقّق المسئولية الملقاة على عاتقه!!

إنّ الصلاة والصيام من الأُمور العبادية وليست من الأُمور الطبيعية العادية حتى يشاور النبي فيها أصحابه ، أوليس من الوهن في أمر الدين أن تكون رؤيا وأحلام أشخاص عاديّين مصدراً لأمر عبادي في غاية الأهمية كالأذان والإقامة؟!

إنّ هذا يدفعنا إلى القول بأنّ الرؤيا كانت مصدراً للأذان أمر مكذوب ومجعول على الشريعة ، وانّ الكذّابين المنتمين إلى بيت عبد الله بن زيد هم الذين أشاعوا هذه الأُكذوبة طلباً لعلو المنزلة والجاه.

إنّ البحث عن اسناد الروايات الواردة في هذا الموضوع وما فيها من التناقضات لا يناسب وضع كتابنا هذا.

٢. روى الإمام أحمد أنّ الصحابة كانوا يأتون الصلاة ، وقد سبقهم النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ببعضها ، فكان الرجل يشير إلى الرجل إن جاءكم صلى ، فيقول : واحدة أو اثنتين ، فيصلّيها ، ثمّ يدخل مع القوم في صلاتهم.

قال : فجاء معاذ ، فقال : لا أجده على حال أبداً إلّا كنت عليها ، ثمّ قضيت ما سبقني.

قال : فجاء وقد سبقه النبي ببعضها ، قال : فثبت معه ، فلمّا قضى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) صلاته قام فقضى.

فقال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : قد سنَّ لكم معاذ فهكذا فاصنعوا. (١)

__________________

(١) مسند أحمد : ٢٤٦ / ٥.

٢٨٣

قد سبق انّ الصلاة عبادة إلهية وليس في الإسلام عبادة أعظم منها ، فكيف تخضع لسنّة صحابي مقطوع عن الوحي ، وقد سنَّ شيئاً اعتباطياً دون أن يستأذن من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فكان عمله أشبه بالبدعة وإدخال شيء في الدين ما لم يأذن به الله؟! ومعاذ أجلّ من أن لا يعرف حد البدعة والسنّة ويدخل في الصلاة مع النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وقد سبقه النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ثمّ يقضي ما فاته.

وأنت إذا تصفّحت الصحاح والمسانيد تعثر على نماذج كثيرة لهذا النوع من التشريع.

٢٨٤

٧

إجماع أهل المدينة

قد نقل أنّ مالك بن أنس اعتمد في فقهه على أحد عشر دليلاً :

١. القرآن ، ٢. السنّة ، ٣. الإجماع ، ٤. إجماع أهل المدينة ، ٥. القياس ، ٦. قول الصحابي ، ٧. المصلحة المرسلة ، ٨. العرف والعادة ، ٩. سدّ الذرائع ، ١٠. الاستصحاب ، ١١. الاستحسان.

غير أنّ الشاطبي في «الموافقات» أرجع هذه الأدلّة إلى أربعة ، وهي : الكتاب والسنّة والإجماع والرأي ، فإنّ إجماع أهل المدينة وقول الصحابي كاشفان عن السنّة فهما من شعبها ، والخمسة الباقية من شعب الرأي ومن وجوهه.

وعلى كلّ تقدير فقد ذهب مالك إلى حجّية اتّفاق أهل المدينة قائلاً : بأنّ المدينة دار الهجرة ، وبها نزل القرآن وأقام رسول الله وأقام صحابته ، وأهل المدينة أعرف الناس بالتنزيل وبما كان من بيان رسول الله للوحي ، وهذه ميزات ليست لغيرهم ، وعلى هذا فالحقّ لا يخرج عمّا يذهبون إليه ، فيكون عملهم حجّة يقدّم على القياس وخبر الواحد.

وقد أوجد مشربه هذا ضجة كبيرة بين معاصريه ، فردّ عليه فقيه عصره اللّيث

٢٨٥

ابن سعد في رسالة مفصّلة نقد فيها قسماً من آراء مالك التي أفتى بها نظراً لاتّفاق أهل المدينة عليها وإن كان موضع خلاف بينهم وبين من خرجوا من دار الهجرة إلى غيرها من أمصار الإسلام.

وقد نقل الحافظ أبو يوسف يعقوب بن سفيان الفسوي (المتوفّى ٢٧٧ ه‍) في كتاب «المعرفة والتاريخ» رسالة الليث (١) بن سعد إلى مالك بن أنس.

ولمّا وصلت رسالة الليث إلى مالك ردّ عليها وكتب رسالة نقلها القاضي عياض (المتوفّى ٥٤٤ ه‍) في كتابه «ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة اعلام مذهب مالك» وحيث إنّ هذه الرسالة موجزة ننقلها بنصها ، وكان الأحرى أن ننقل رسالة الليث أيضاً ، لكن إسهابها عاقنا عن إثباتها بنصّها :

رسالة مالك إلى الليث بن سعد

من مالك بن أنس إلى الليث بن سعد.

سلام عليكم!

فإنّي أحمد الله إليك الذي لا إله إلّا هو. أمّا بعد عصمنا الله وإيّاك بطاعته في السر والعلانية ، وعافانا وإيّاك من كلّ مكروه. اعلم رحمك الله أنّه بلغني أنّك تفتي الناس بأشياء مخالفة لما عليه جماعة الناس عندنا وببلدنا الذي نحن فيه وأنت في إمامتك وفضلك ومنزلتك من أهل بلدك ، وحاجة من قبلك إليك ، واعتمادهم على ما جاءهم منك ، حقيق بأن تخاف على نفسك وتتبع ما ترجو النجاة باتّباعه ، فإنّ الله تعالى يقول في كتابه : (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ) (٢) الآية. وقال تعالى : (فَبَشِّرْ عِبادِ* الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ

__________________

(١) (المعرفة والتاريخ : ٦٨٧ / ١ ٦٩٧.)

(٢) التوبة : ١٠٠.

٢٨٦

أَحْسَنَهُ) (١) الآية.

فإنّما الناس تبع لأهل المدينة ، إليها كانت الهجرة ، وبها نزل القرآن ، وأحلّ الحلال وحرّم الحرام ، إذ رسول الله بين أظهرهم يحضرون الوحي والتنزيل ، ويأمرهم فيطيعونه ، ويسنّ لهم فيتّبعونه ، حتى توفّاه الله ، واختار له ما عنده صلوات الله عليه ورحمته وبركاته. ثمّ قام من بعده أتبع الناس له من أُمّته ممّن ولي الأمر من بعده ، فما نزل بهم ممّا علموا أنفذوه ، وما لم يكن عندهم فيه علم سألوا عنه ، ثمّ أخذوا بأقوى ما وجدوا في ذلك في اجتهادهم وحداثة عهدهم ، وإن خالفهم مخالف أو قال امرؤ غيره أقوى منه أو أولى ، ترك قوله وعمل بغيره.

ثمّ كان التابعون من بعدهم يسلكون تلك السبل ويتبعون تلك السنن ، فإذا كان الأمر بالمدينة ظاهراً معمولاً به لم أر لأحد خلافه للذي في أيديهم من تلك الوراثة التي لا يجوز لأحد انتحالها ولا ادّعاؤها ، ولو ذهب أهل الأمصار يقولون هذا العمل ببلدنا ، وهذا الذي مضى عليه من مضى منّا ، لم يكونوا من ذلك على ثقة ، ولم يكن لهم من ذلك الذي جاز لهم.

فانظر رحمك الله فيما كتبت إليك فيه لنفسك ، واعلم أنّي أرجو أن لا يكون دعاني إلى ما كتبت به إليك إلّا النصيحة لله تعالى وحده ، والنظر لك والضن بك ، فانزل كتابي منك منزلته ، فإنّك إن فعلت تعلم أنّي لم آلك نصحاً. وفقنا الله وإيّاك لطاعته وطاعة رسوله في كلّ أمر وعلى كلّ حال. والسلام عليك ورحمة الله ، وكتب يوم الأحد لتسع مضين من صفر. (٢)

__________________

(١) (الزمر : ١٧ ١٨.)

(٢) ترتيب المدارك : ٦٤ / ٦٥١.

٢٨٧

ردّ ابن حزم على رسالة مالك

ولم تكن رسالة مالك إلى الليث مقنعة لمن أتى بعده ، فقد رد عليه ابن حزم الظاهري قائلاً في إبطال قول من قال : الإجماع هو إجماع أهل المدينة ، فإنّ هذا قول لهج به المالكيون قديماً وحديثاً ، وهو في غاية الفساد ، لأنّ قولهم : إنّ أهل المدينة أعلم بأحكام رسول الله من سواهم ، كذب وباطل ، وإنّما الحقّ انّ أصحاب رسول الله وهم العالمون بأحكامه ، سواء بقى منهم من بقى بالمدينة ، أو خرج منهم من خرج لم يزد (١) الباقي بالمدينة بقاءه فيها درجة في علمه وفضله ولا حطّ (٢) الخارج منهم عن المدينة خروجه عنها درجة من علمه وفضله.

وأمّا قولهم : شهدوا آخر حكمه وعلموا ما نسخ ممّا لم ينسخ ، فتمويه فاحش وكذب ظاهر ، بل الخارجون من الصحابة عن المدينة شهدوا من ذلك كالذي شهده المقيم لها منهم سواء ، كعلي وابن مسعود وأنس وغيرهم ، والكذب عار في الدنيا ونار في الآخرة.

فظهر فساد كلّ ما موّهوا به ، وبنوه على هذا الأصل الفاسد ، وأسموه بهذا الأساس المنهار. (٣)

رد الآمدي على رسالة مالك

وردّ عليه الإمام الآمدي أيضاً بقوله : اتّفق الأكثرون على أنّ إجماع أهل المدينة وحدهم لا يكون حجّة على من خالفهم في حالة انعقاد إجماعهم ، خلافاً

__________________

(١) (في المطبوع : لم يرد ، وهو تصحيف.)

(٢) (في المطبوع : لاحظ ، وهو تصحيف.)

(٣) الإحكام : ٥٨٦ / ٥٨٧٤. ولكلامه صلة ، فراجع.

٢٨٨

لمالك ، فإنّه قال : يكون حجّة.

ومن أصحابه من قال : إنّما أراد بذلك ترجيح روايتهم على رواية غيرهم.

ومنهم من قال : أراد به أن يكون إجماعهم أولى ، ولا تمتنع مخالفته.

ومنهم من قال : أراد بذلك أصحاب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم).

والمختار مذهب الأكثرين ، وذلك انّ الأدلّة الدالّة على أنّ الإجماع حجّة ، ليست ناظرة إلى أهل المدينة دون سواهم لا سيما وانّهم لا يشكّلون كلّ الأُمة ، فلا يكون إجماعهم حجة.

ثمّ ذكر من نصر مذهب مالك بالنص والعقل ، وذكر من الثاني ثلاثة أوجه ، ثمّ أخذ بالرد على جميع الوجوه ، وخرج بالنتيجة التالية :

لا يكون إجماع أهل الحرمين : مكة والمدينة ، والمصرين : الكوفة والبصرة ، حجّة على مخالفيهم ، وإن خالف فيه قوم لما ذكرناه من الدليل. (١)

نظرنا في الموضوع

إنّ اتّفاق أهل المدينة على حكم شرعي ليس بأقوى من إجماع علماء عصر واحد على حكم شرعي ، فكما أنّ الثاني لا يكون حجّة على المجتهد ولا يمكن أن يستدلّ به على الحكم الشرعي ، فهكذا اتّفاق أهل المدينة خاصة انّ عنصر الاتّفاق تم على تقليد بعضهم البعض ، فالاحتجاج بهذا الاتفاق ونسبته إلى الشارع بدعة وإفتاء بما لم يعلم أنّه من دين الله.

نعم لو كان اتفاقهم ملازماً لإصابة الواقع خاصة في العصور الأُولى ،

__________________

(١) الإحكام في أُصول الأحكام : ٣٠٢ / ١ ٣٠٥.

٢٨٩

فيؤخذ به لحصول العلم ، وأنّى للمجتهد إثبات تلك الملازمة ، أو لو كشف اتّفاقهم عن وجود دليل معتبر وصل إليهم ولم يصل إلينا يمكن أن يحتج به.

وحصيلة البحث : أنّ اتّفاق أهل المدينة أو اتّفاق المصرين : الكوفة والبصرة رهن وجود الملازمة العادية بين الاتّفاق وإصابته للواقع ، أو بين الاتّفاق ووجود دليل معتبر وإلّا فلا قيمة لاتّفاق غير المعصوم قليلاً كان أو كثيراً.

٢٩٠

٨

إجماع العترة (١)

كلّ من كتب في تاريخ الفقه الإسلامي وتعرض لمنابع الفقه والأحكام غفل عن ذكر أئمّة أهل البيت (عليهم‌السلام) وحجّية أقوالهم فضلاً عن حجّية اتّفاقهم ، وذلك بعين الله بخس لحقوقهم ، وحيث إنّ المقام يقتضي الاختصار نستعرض المهم من الأدلّة الدالّة على حجّية أقوالهم فضلاً عن اتّفاقهم على حكم من الأحكام ، كقوله سبحانه : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً). (٢)

والاستدلال بالآية على عصمة أهل البيت وبالتالي حجية أقوالهم رهن أُمور :

الأوّل : الإرادة في الآية إرادة تكوينية لا تشريعية ، والفرق بين الإرادتين واضحة ، فإنّ إرادة التطهير بصورة التقنين تعلّقت بعامّة المكلّفين من غير اختصاص بأئمّة أهل البيت (عليهم‌السلام) كما قال سبحانه : (وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ). (٣)

__________________

(١) (وهو نفس تعبير الطوفي في رسالته. وإلّا فالحجّة عندنا قول أحد العترة فضلاً عن إجماعهم.)

(٢) (الأحزاب : ٣٣.)

(٣) المائدة : ٦.

٢٩١

فلو كانت الإرادة المشار إليها في الآية إرادة تشريعية لما كان للتخصيص والحصر وجه مع أنّا نجد فيها تخصيصاً بوجوه خمسة :

أ : بدأ قوله سبحانه بحرف (إِنَّما) المفيدة للحصر.

ب : قدّم الظرف (عَنْكُمُ) وقال : (لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ) ولم يقل ليذهب الرجس عنكم لأجل التخصيص.

ج : بيّن من تعلّقت إرادته بتطهيرهم بصيغة الاختصاص ، وقال : (أَهْلَ الْبَيْتِ) أي أخصّكم.

د : أكد المطلوب بتكرير الفعل ، وقال : (وَيُطَهِّرَكُمْ) تأكيداً (لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ).

ه : أرفقه بالمفعول المطلق ، وقال : (تَطْهِيراً).

كلّ ذلك يؤكد أنّ الإرادة التي تعلّقت بتطهير أهل البيت غير الإرادة التي تعلّقت بعامة المكلّفين.

ونرى مثل هذا التخصيص في مريم البتول قال سبحانه : (إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ). (١)

الثاني : المراد من الرجس كل قذارة باطنية ونفسية ، كالشرك ، والنفاق ، وفقد الإيمان ، ومساوئ الأخلاق ، والصفات السيئة ، والأفعال القبيحة التي يجمعها الكفر والنفاق والعصيان ، فالرجس بهذا المعنى أذهبه الله عن أهل البيت ، ولا شكّ انّ المنزّه عن الرجس بهذا المعنى يكون معصوماً من الذنب بإرادة منه سبحانه ، كيف وقد ربّاهم الله سبحانه وجعلهم هداة للأُمة كما بعث أنبياءه ورسله لتلك الغاية.

__________________

(١) آل عمران : ٤٢.

٢٩٢

الثالث : المراد من أهل البيت هو علي وفاطمة وأولادهما ، لأنّ أهل البيت وإن كان يطلق على النساء والزوجات بلا شك ، كقوله سبحانه : (أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ). (١) ولكن دلّ الدليل القاطع على أنّ المراد في الآية غير نساء النبي وأزواجه وذلك بوجهين :

أ : نجد انّه سبحانه عند ما يتحدّث عن أزواج النبي يذكرهن بصيغة جمع المؤنث ولا يذكرهن بصيغة الجمع المذكر ، فإنّه سبحانه أتى في تلك السورة (الأحزاب) من الآية ٢٨ إلى الآية ٣٤ باثنين وعشرين ضميراً مؤنثاً مخاطباً بها نساء النبي ، وإليك الإيعاز بها :

١. كُنْتُنّ ، ٢. تُرِدْنَ ، ٣. تَعالَيْنَ ، ٤. أُمتّعكُنّ ، ٥. أُسرّحْكُنَّ. (٢)

٦. كُنْتُنَّ ، ٧. تُرِدْنَ ، ٨. مِنْكُنَّ. (٣)

٩. مِنْكُنَّ. (٤)

١٠. مِنْكُنَّ. (٥)

١١. لَسْتُنَّ ، ١٢. إِنِ اتَّقَيْتُنَّ ، ١٣. فَلا تَخْضَعْنَ ، ١٤. قُلْنَ. (٦)

١٥. قَرنَ ، ١٦. فِي بُيُوتِكُنَّ ، ١٧. تَبَرَّجْنَ ، ١٨. أَقِمْنَ ، ١٩. آتِينَ ، ٢٠. أَطِعْنَ اللهَ. (٧)

٢١. اذكُرْنَ ، ٢٢. في بُيُوتِكُنَّ. (٨)

وفي الوقت نفسه عند ما يذكر أئمة أهل البيت في آخر الآية ٣٣ يأتي بضمائر

__________________

(١) (هود : ٧٣.)

(٢) (الأحزاب : ٢٨.)

(٣) (الأحزاب : ٢٩.)

(٤) (الأحزاب : ٣٠.)

(٥) (الأحزاب : ٣١.)

(٦) (الأحزاب : ٣٢.)

(٧) (الأحزاب : ٣٣.)

(٨) الأحزاب : ٣٤.

٢٩٣

مذكّرة ويقول : (لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ ... وَيُطَهِّرَكُمْ) فإنّ هذا العدول دليل على أنّ الذكر الحكيم انتقل من موضوع إلى موضوع آخر ، أي من نساء النبي إلى أهل بيته ، فلا بدّ أن يكون المراد منه غير نسائه.

ب : انّ النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) أماط الستر عن وجه الحقيقة ، فقد صرّح بأسماء من نزلت الآية بحقّهم حتى يتعيّن المنظور منه باسمه ورسمه ولم يكتف بذلك ، بل أدخل جميع من نزلت الآية في حقّهم تحت الكساء ومنع من دخول غيرهم.

ولم يقتصر على هذين الأمرين (ذكر الأسماء وجعل الجميع تحت كساء واحد) بل كان كلّما يمرّ ببيت فاطمة إلى ثمانية أشهر يقول : الصلاة ، أهل البيت (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً).

وقد تضافرت الروايات على ذلك ، ولو لا خوف الإطناب لأتينا بكلِّ ما روي عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، ولكن نذكر من كلّ طائفة نموذج.

أمّا الطائفة الأُولى : أخرج الطبري في تفسير الآية عن أبي سعيد الخدري قال ، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نزلت الآية في خمسة : فيّ وفي علي (رضي الله عنه) وحسن (رضي الله عنه) ، وحسين (رضي الله عنه) ، وفاطمة رضي الله عنها ، (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً).

وقد رويت روايات كثيرة في هذا المجال ، فمن أراد فليرجع إلى تفسير الطبري والدر المنثور للسيوطي.

وأمّا الطائفة الثانية : فقد روى السيوطي وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد ومسلم وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : خرج رسول الله غداة وعليه مرط مرجل من شعر أسود ، فجاء الحسن والحسين رضي الله عنهما فأدخلهما معه ، ثمّ جاء علي فأدخله معه ، ثمّ قال : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ

٢٩٤

الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً).

ولو لم تذكر فاطمة في هذا الحديث ، فقد جاء في حديث آخر ، حيث روى السيوطي ، قال : واخرج ابن جرير والحاكم وابن مردويه عن سعد ، قال : نزل على رسول الله الوحي ، فأدخل علياً وفاطمة وابنيهما تحت ثوبه ، قال : اللهمّ إنّ هؤلاء أهل بيتي.

وفي حديث آخر جاء رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) إلى فاطمة ومعه حسن وحسين ، وعلي حتى دخل ، فأدنى علياً وفاطمة فأجلسهما بين يديه وأجلس حسناً وحسيناً كلّ واحد منهما على فخذه ، ثمّ لفّ عليهم ثوبه وأنا مستدبرهم ، ثمّ تلا هذه الآية : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً).

وأمّا الطائفة الثالثة : فقد أخرج الطبري عن أنس أنّ النبي كان يمرّ ببيت فاطمة ستة أشهر كلّما خرج إلى الصلاة فيقول : الصلاة أهل البيت (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً).

(١) والروايات تربو على أربع وثلاثين رواية ، رواها من عيون الصحابة : أبو سعيد الخدري ، أنس بن مالك ، ابن عباس ، أبو هريرة الدوسي ، سعد بن أبي وقاص ، واثلة بن الأسقع ، أبو الحمراء ، أعني : هلال بن حارث ، وأُمهات المؤمنين : عائشة وأُمّ سلمة. (٢)

فعلى ضوء هذا فأئمّة أهل البيت (عليهم‌السلام) معصومون من الذنب ، قولاً وفعلاً فيكون قولهم كاتفاقهم حجّة وإن غاب هذا الأمر عن أكثر إخواننا أهل السنّة.

__________________

(١) (وللوقوف على مصادر هذه الروايات لاحظ : تفسير الطبري : ٥ / ٧٢٢ ، والدر المنثور : ١٩٨ / ٥ ١٩٩.)

(٢) ورواه مسلم في صحيحه : ١٢٢ / ١٢٣٧. ولاحظ جامع الأُصول لابن الأثير : ١٠٣ / ١٠.

٢٩٥

نعم قد عدّ نجم الدين الطوفي (المتوفّى ٧١٦ ه‍) إجماع العترة الطاهرة من مصادر التشريع الإسلامي كما أنهاها إلى ١٩ مصدراً ، وإليك رءوسها :

١. الكتاب.

٢. السنّة.

٣. إجماع الأُمّة.

٤. إجماع أهل المدينة.

٥. القياس.

٦. قول الصحابي.

٧. المصلحة المرسلة.

٨. الاستصحاب.

٩. البراءة الشرعية.

١٠. العوائد.

١١. الاستقراء.

١٢. سد الذرائع.

١٣. الاستدلال.

١٤. الاستحسان.

١٥. الأخذ بالأخف.

١٦. العصمة.

١٧. إجماع أهل الكوفة.

١٨. إجماع العترة.

١٩. إجماع الخلفاء الأربعة. (١)

ولا يخفى انّ بعضها متّفق عليه وبعضها مختلف فيه ، وأنّ كثيراً ممّا عدّه من مصادر التشريع قابل للإدغام في البعض الآخر ، كما مرّ في بعض الفصول.

إلى هنا قد تمّ الضوابط التي يرجع إليها فقهاء السنّة في الموضوعات التي لم

يرد فيها نصّ وقد عرفت موقفنا منها وهي بين مرفوضة ومقبولة.

بقي هنا أصلان عليهما الفريقان وإن اختلفا في بعض الخصوصيات ،

ألا وهما :

١. دور العرف والسيرة العقلية فيما لا نصّ فيه.

٢. مقاصد الشريعة وأهدافها.

وهذا ما دعاني للبحث فيهما وجعلهما خاتمة المطاف.

__________________

(١) رسالة الطوفي ، نشرها الأُستاذ عبد الوهاب خلاف في مصادر التشريع الإسلامي فيما يرجع إلى المقام ، ص ١٠٩.

٢٩٦

خاتمة المطاف

١. دور العرف وسيرة العقلاء فيما لا نصّ فيه

٢. مقاصد الشريعة العامة

٢٩٧
٢٩٨

١

دور العرف وسيرة العقلاء

فيما لا نصّ فيه

العرف والسيرة والعادة وبناء العقلاء ، أسماء أربعة تهدف إلى معنى واحد ، وهي ألفاظ كثيرة الدوران على ألسنة الفقهاء ، وربّما يعتمد عليها القضاة في فصل الخصومات ، كما يعتمد عليها الفقهاء في تبيين المفاهيم وتمييز المصاديق ، وأحياناً في استنباط الأحكام ونحن نستخدم كلمة العرف تارة والسيرة أُخرى.

وهل العرف ، حجّة شرعية يُستنبط منه حكم كلّي شرعي كسائر المسائل الأُصولية ويصبح البحث عن حجّيته بحثاً أُصولياً كالبحث عن حجّية خبر الواحد ، أو لا؟ فسنرجع إليه عند بيان مجالاته.

وقبل الدخول في صلب الموضوع نقدّم أُموراً تسلّط الضوء على المقصود :

٢٩٩

١

تقديم أُمور

١. لقد حاول بعض المعاصرين إلغاء الأحكام الشرعيّة الواردة في الأصعدة المختلفة بإحلال ما عليه العرف العام مكانها ، وهؤلاء هم المنكرون لخاتميّة الإسلام ، وأنّ تشريعاته كانت تشريعاً مؤقّتاً إلى أن يبلغ المجتمع درجة من الرقي يستغني بها عن تشريع السماء ، وخطابنا في هذه الرسالة غير موجّه إليهم ، وإنمّا نحن نتكلّم مع من يحترم تشريع الإسلام في عامّة الأصعدة غير أنّه يتخذ العرف طريقاً لاستنباط الحكم الشرعي أو العمل به فيما لا نصّ فيه كما يظهر ذلك في ثنايا الرسالة.

٢. إنّ للعرف دوراً واضحاً في فهم الأحكام الشرعية في مختلف المجالات ولكنّ فقهاءنا لم يفتحوا له باباً ولم يخصّوا له فصلاً وإنّما أشاروا إلى ما له من دور في مناسبات مختلفة في شتّى الأبواب ، وهذا ما صار سبباً لتعطش طلاب الحوزة إلى معرفة مكانته ودوره في الاستنباط ، ولقد كتبنا في ذلك في مقدّمة موسوعة طبقات الفقهاء القسم الأوّل كما طرحناه على وجه الإيجاز في الجزء الثاني من كتاب «الوسيط في أُصول الفقه» ، ولكن الموضوع بحاجة إلى تفصيل أكثر.

٣٠٠