أصول الفقه المقارن فيما لا نصّ فيه

الشيخ جعفر السبحاني

أصول الفقه المقارن فيما لا نصّ فيه

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-155-6
الصفحات: ٣٩٤

لهم اتّباعهم حينئذ. (١)

يلاحظ عليه : أنّ قوله : «بإحسان» إشارة إلى وجه الاتّباع والمراد منه هو العمل ، أي الذين اتبعوا المهاجرين والأنصار أو السابقين منهم في العمل حيث إنّهم آمنوا ونصروا الرسول وآووه وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم ، فمن تبعهم بهذا النحو فقد تبعهم ورضي الله عنهم ورضوا عنه.

ويدلّ على أنّ المراد التبعية في العمل مضافاً إلى ما ذكره المفسرون في المقام (٢) أنّه سبحانه يجزيهم بالجنة الّتي هي جزاء الأعمال ، لا جزاء الآراء والأفكار على أنّه لم يكن للصحابة في ذلك اليوم آراء وأفكار حتّى تشملها الآية الكريمة.

والحقّ أنّ الاستدلال بهذه الآية والآية التالية صنع من أعوزه الدليل فأخذ يتمسك بكلّ شاردة وواردة.

الدليل الرابع

قوله سبحانه : (اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ). (٣)

هذا ما قصّه الله سبحانه وتعالى عن صاحب ياسين على سبيل الرضا بهذه المقالة والثناء على قائلها والإقرار له عليها وكلّ واحد من الصحابة لم يسألنا أجراً وهم مهتدون. (٤)

يلاحظ عليه : أنّ قوله لا يسألكم أجراً عنوان مشير إلى الرسل الوافدين من

__________________

(١) (إعلام الموقعين : ١٢٣ / ١٢٤٤.)

(٢) (انظر من باب المثال تفسير الجلالين حيث يذكر بعد لفظة بإحسان قوله : في العمل.)

(٣) (يس : ٢١.)

(٤) إعلام الموقعين : ١٣٠ / ٤.

٢٦١

جانب المسيح إلى أنطاكية وليس علة للحكم ، وإلّا يجب أن يكون رأي كلّ مجتهد لم يسأل أجراً حجة على سائر المجتهدين ، وهو كما ترى.

أضف إلى ذلك أنّ المراد من الاتّباع هو الاتّباع في التوحيد ورفض الوثنية ، لا الاتّباع في الفروع الفقهية الّتي لم يكن فيها أثر لدى الرسل الثلاثة.

الدليل الخامس

قوله سبحانه : (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَ). (١)

وكلّ من الصحابة منيب إلى الله فيجب اتّباع سبيله ، وأقواله واعتقاداته من أكبر سبيله. (٢)

يلاحظ عليه : أنّ ما استدلّ به خطاب من الله للإنسان ورد في ثنايا وصايا لقمان لابنه ، حيث قال تعالى : (وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). (٣)

إنّه سبحانه يحذر عن متابعة طائفة ويأمر بمتابعة طائفة.

الأُولى : المشركون ، وفي طليعتهم الوالدان المشركان ويقول : (وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما).

الثانية : من رجع من الشرك إلى التوحيد كما قال سبحانه : (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ

__________________

(١) (لقمان : ١٥.)

(٢) (نفس المصدر : ١٣٠ / ٤.)

(٣) لقمان : ١٥.

٢٦٢

أَنابَ) ، فيكون حاصل الآية التحذير عن متابعة المشركين والدعوة إلى متابعة الموحدين.

فأي صلة للآية يا تُرى لما يرتئيه القائل من حجّية فتاوى الصحابة؟!

والله لأنّي لأظنّ أن أسود صحائف كتابي بالوجوه الّتي ذكرها ابن القيّم لحجّية فتوى الصحابي. وكلّها ركام من التخيّلات الّتي لا تمسّ بالمقام.

والّذي دعا الكاتب إلى الاستدلال بهذه الآيات هو توغله في حبّ السلف وإحياء السلفية ، فلو كان حياديّاً لما استدلّ بهذه الآيات على ما رامه ولما خطر بباله.

أحاديث الاقتداء بالصحابة

استدلّ ابن قيم الجوزيّة على حجّية رأي الصحابي بأحاديث الاقتداء :

١. ما رواه الترمذي من حديث الثوري ، عن عبد الملك بن عمير ، عن هلال مولى رِبْعي بن حِرَاش ، عن رِبْعي ، عن حذيفة ، قال : قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : «اقتدوا باللّذين من بعدي أبي بكر وعمر». (١)

يلاحظ عليه : أنّ الحديث مخدوش سنداً ودلالةً.

أمّا سنداً فبعبد الملك بن عمير ، حيث روى إسحاق الكوسج ، عن يحيى بن معين قال : مخلِّط.

وقال علي بن الحسن الهسنجاني : سمعت أحمد بن حنبل يقول : عبد الملك بن عمير مضطرب الحديث جداً مع قلّة روايته.

__________________

(١) إعلام الموقعين : ١٤٠ / ٤.

٢٦٣

وذكر إسحاق الكوسج عن أحمد ، أنّه ضعفه جداً. (١)

وقد نُقل هذا الحديث بسند ثان عن أحمد بن محمد بن الجسور ، حدّثنا أحمد بن الفضل الدينوري ، حدّثنا محمد بن جبير ، حدّثنا عبد الرحمان بن الأسود الطفاوي ، حدّثنا محمد بن كثير الملائي ، حدّثنا المفضل الضبي ، عن ضرارة بن مرة ، عن عبد الله بن أبي الهذيل العتري ، عن جدته.

وهو مخدوش أيضاً ، لأنّه مروي عن مولى لربعي مجهول ، كما أنّ المفضل بن محمد الضبي متروك الحديث ، متروك القراءة. (٢)

كما نقل هذا الحديث بسند ثالث عن القاضي أبي الوليد بن الفرضي ، عن ابن الدخيل ، عن العقيلي ، عن محمد بن إسماعيل ، حدثنا محمد بن فضيل ، حدثنا وكيع ، حدثنا سالم المرادي ، عن عمرو بن هرم ، عن ربعي بن حرث وأبي عبد الله ، عن رجل من أصحاب حذيفة ، عن حذيفة.

وفيه أنّ هلال مولى ربعي مجهول ، كما أنّ سالم المرادي قد ضعَّفه ابن معين والنسائي. (٣)

وأمّا دلالةً ، فقد قال ابن حزم : وأمّا رواية : «اقتدوا باللّذين من بعدي» فحديث لا يصح. ولو صحّ لكان عليهم لا لهم ، لأنّهم أصحاب مالك وأبي حنيفة والشافعي أترك الناس لأبي بكر وعمر ، وقد بيّنا أنّ أصحاب مالك خالفوا أبا بكر ممّا رووا في «الموطّأ» خاصة في خمسة مواضع ، وخالفوا عمر في نحو ثلاثين قضية ممّا رووا في «الموطّأ» خاصة ، وقد ذكرنا أنّ عمر وأبا بكر اختلفا ، وإن اتّباعهما

__________________

(١) (سير أعلام النبلاء : ٤٣٩ / ٥.)

(٢) (الجرح والتعديل : ٣١٨ / ٨ برقم ١٤٦٦ ؛ لسان الميزان : ٨١ / ٦ برقم ٢٩٣.)

(٣) كتاب الضعفاء الكبير : ١٥٠ / ٢ برقم ٦٥١ ؛ لسان الميزان : ٧ / ٣ برقم ٢١.

٢٦٤

فيما اختلفا فيه ، متعذر ممتنع لا يقدر عليه أحد. (١)

وثانياً ولو صحّ الحديث فلما ذا لم يستند إليه الشيخان في السقيفة ، بل طوال حياتهما.

وثالثاً انّ مضمون الحديث يضاد ما هو المسلم عند أهل السنة من انّ الخلافة بعد الرسول انتخابي ، لا انتصابي ، إذ لو صحّ الحديث فقد عيّن الرسول خليفة المسلمين.

٢. ما رواه مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن رباح عن أبي قتادة انّ النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قال : إن يطع القوم أبا بكر وعمر يُرشَدُوا. (٢)

أقول : لو صحّت الرواية ، وقلنا بأنّ المراد من القوم هم المسلمون بأجمعهم إلى يوم القيامة ، لدلّت على وجوب طاعتهما فيما لهما فيه أمر ونهي ، وأين هما من لزوم الأخذ ب آرائهما وفتاواهما في الأحكام الشرعية التي ليس لهما فيه أي أمر ونهي؟!

٣. ما روي عن طريق عبد الله بن روح ، عن سلام بن سلم ، قال : حدثنا الحارث بن غصين ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر مرفوعاً أنّ النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قال : أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم. (٣)

هذا الحديث مخدوش سنداً ودلالة.

أمّا سنداً فبالحارث بن غصين ، قال عنه ابن عبد البر في كتاب العلم : مجهول. (٤)

__________________

(١) (الإحكام : ٢٤٣ / ٥.)

(٢) (إعلام الموقعين : ١٤٠ / ٤.)

(٣) (جامع العلم : ٩١ / ٢ ؛ جامع الأُصول : ٥٥٦ / ٨ ، الحديث ٦٣٦٩.)

(٤) لسان الميزان : ١٥٦ / ٢.

٢٦٥

كما أنّ في السند المذكور سلام بن سلم المدائني ، وقيل : سلام بن سليمان المدائني ، قال عنه يحيى : كان ضعيفاً.

وقال الأعين : سمعت أبا نعيم ضعّف سلام بن سلم. (١)

وقال عنه البخاري : سلام بن سلم المدائني : متروك.

وذكره ابن حبان في المجروحين. (٢)

كما روي هذا الحديث أيضاً عن طريق عبد الرحيم بن زيد العمي ، عن أبيه ، عن سعيد بن المسيب ، عن ابن عمر. وعن طريق حمزة الجزري ، عن نافع ، عن ابن عمر.

وفيه أنّ عبد الرحيم بن زيد وأبيه متروكان (٣) ، وحمزة الجزري مجهول.

وأمّا دلالة : فلما قاله ابن حزم : قد ظهر أنّ هذه الرواية لا تثبت أصلاً ، إذ من المحال أن يأمر رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) باتّباع كلّ قائل من الصحابة ، وفيهم من يحلل الشيء ، وغيره منهم يحرّمه. (٤)

ولقد أجاد الشوكاني حينما قال : وأمّا ما تمسّك به بعض القائلين بحجيّة قول الصحابي ممّا روي عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) أنّه قال : أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم ، فهذا ممّا لم يثبت قط ، والكلام فيه معروف عند أهل هذا الشأن بحيث لا يصحّ العمل بمثله في أدنى حكم من أحكام الشرع ، فكيف مثل هذا الأمر العظيم والخطب الجليل؟! (٥)

__________________

(١) (الضعفاء الكبير : ١٥٨ / ٢.)

(٢) (المجروحين : ٣٣٩ / ٢.)

(٣) (سير أعلام النبلاء : ٣٥٨ / ٨ ؛ التاريخ الكبير : ١٣٧ / ٦ ؛ ميزان الاعتدال : ٦٠٥ / ٢.)

(٤) (الإحكام : ٢٤٤ / ٥.)

(٥) إرشاد الفحول : ٢١٤.

٢٦٦

وحاصل الكلام : أنّ الفقيه يجب أن يعتمد على كتاب الله وسنّة رسوله ، وان يحتج بما جعله الله حجّة بينه وبين الله تبارك وتعالى ، كخبر العدل المتصل إلى المعصوم ، أو العقل فيما له فيه قضاء وحكم ، وأمّا في غير هذه الموارد كآراء الصحابة أو سنّتهم وسيرتهم أو التابعين فكلّها أُمور ظنية لا دليل على الاحتجاج بها إلّا إذا ثبت أنّها أقوال الرسول وسننه ، وأنّى لنا إثبات ذلك.

وبذلك يعلم أنّ الفقه ليس هو نقل آراء الصحابة والتابعين ، أو الفقهاء الذين جاءوا بعدهم ، فإنّ مرد ذلك إلى سرد آراء أُناس غير مصونين عن الخطأ والزلل.

أدلة الشاطبي على حجّية رأي الصحابي

ذهب الشاطبي في موافقاته إلى أنّ سنّة الصحابة سنّة يعمل بها ويرجع إليها ، والظاهر منه انّها من مصادر التشريع ، واستدلّ على ذلك بوجوه أربعة لا يستدلّ بها إلّا من أعوزه الدليل مع الرغبة الأكيدة إلى إثبات المدّعى ، قال :

أحدها : ثناء الله عليهم من غير مثنويّة ، مدحهم بالعدالة وما يرجع إليها ، كقوله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) (١) وقوله : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً). (٢) ففي الأُولى إثبات الأفضلية على سائر الأُمم ، وذلك يقضي باستقامتهم في كلّ حال ، وجريان أحوالهم على الموافقة دون المخالفة ؛ وفي الثانية إثبات العدالة مطلقاً ، وذلك يدلّ على ما دلّت عليه الأُولى. (٣)

__________________

(١) (آل عمران : ١١٠.)

(٢) (البقرة : ١٤٣.)

(٣) الموافقات : ٥٥ / ٤ ، ط دار الكتب العلمية.

٢٦٧

يلاحظ على الآية الأُولى : أنّها بمعزل عن الدلالة على «استقامتهم على كلّ حال» وإنّما هي بصدد بيان أحد أمرين :

١. انّ الآية تخاطب معاشر المسلمين عبر القرون بأنّهم خير أُمّة أظهرها الله للناس بهدايتها بحجّة انّهم يؤمنون بالله ويأتون بفريضتي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والخطاب وإن كان للحاضرين في عصر الخطاب لكن خطابات القرآن كخطابات الكتب المصنّفة لا تختص بفرد دون فرد ، بل تشمل كلّ المسلمين من دون اختصاص بالصحابة ، كيف وقد قال سبحانه : (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) (١) ، وقال سبحانه : (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) (٢) فيكون الخطاب عاماً يشمل جميع المسلمين من عصر الرسالة إلى يوم البعث.

ثمّ إنّ وصف الأُمّة بهذا الوصف ليس باعتبار اتصاف كلّ فرد منهم به ، بل لأجل اتّصاف جمع منهم بحقيقة الإيمان والقيام بحق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وليس ذلك بأمر بديع وقد وصف القرآن بني إسرائيل بكونهم ملوكاً وهو وصف لبعضهم وقال : (اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً). (٣)

ولو افترضنا تواجد هذه الصفات في عامة المسلمين ، لما كان دليلاً على حجّية آرائهم وتفكّراتهم ، بل يكون دليلاً على فضيلتهم وكرامتهم ، وأين هي من حجّية آرائهم؟!

__________________

(١) (الفرقان : ١.)

(٢) (الأنعام : ١٩.)

(٣) المائدة : ٢٠.

٢٦٨

٢. انّ الآية تمدح حال المؤمنين في أوّل ظهور الإسلام من السابقين الأوّلين من المهاجرين والأنصار ، وتخاطبهم بقوله كنتم خير أُمّة ظهرت للناس لأجل الإيمان بالله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ثمّ يصف بأنّه لو كان أهل الكتاب مثلكم لكان خيراً لهم ، ولكنّهم اختلفوا ، منهم أُمّة مؤمنون وأكثرهم فاسقون. ويدلّ على ما ذكر ذيل الآية ، وإليك الآية بتمامها : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ). (١)

فاتّضح بذلك انّ الآية ليست بصدد إثبات الاستقامة للصحابة في عامّة الأحوال ولا بصدد إثبات العدالة لهم ، ولا لإفاضة الحجّية على أقوالهم وآرائهم ، وليست للآية أي صلة بهذا الموضوع ، بل يدور المعنى على أحد أمرين :

إذا قلنا بأنّ فعل «كنتم» منسلخ عن الزمان يكون الهدف مدح المسلمين عامة لأجل اتّصافهم بالأوصاف الواردة بالآية ١. الأمر بالمعروف ، ٢. النهي عن المنكر ، ٣. الإيمان بالله ، ٤. ووحدة الكلمة المفهومة من قوله «أُمّة».

ومن المعلوم أنّ عامّة المسلمين لا يشاركون في هذه الأوصاف ، بل عدّة منهم بوصف الجميع باعتبار وصف البعض. ولو افترضنا تواجدها في جميعهم ، لما كان أيضاً دليلاً على حجّية آرائهم.

وإذا قلنا : إنّ فعل «كنتم» غير منسلخ عن الزمان والآية تختص بالمهاجرين والأنصار ، فالآية بصدد تنبيه أهل الكتاب وتذكيرهم بأن يتّصفوا بأوصاف المسلمين ويكونوا مثلهم في الأوصاف الأربعة ، لكنّهم للأسف ليسوا على وتيرة واحدة ، فقليل منهم مؤمن بالله وأكثرهم فاسقون.

__________________

(١) آل عمران : ١١٠.

٢٦٩

هذا كلّه حول الآية الأُولى.

وأمّا الآية الثانية ، أعني قوله : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً). (١)

يلاحظ على الاستدلال : بأنّ ظاهر الآية انّه سبحانه جعل الأُمّة الإسلامية أُمّة وسطاً ، لأجل تخلّلهم بين الناس والرسول فجعلهم وسطاً.

١. ليكونوا شهداء على الناس من جانب.

٢. ويكون الرسول شهيداً عليهم من جانب آخر.

وعندئذ فمعنى كونهم وسطاً لأجل تخلّلهم بين الرسول والناس.

فالناس هم المشهود عليهم.

والأُمّة الإسلامية هم الشهداء عليهم.

والرسول هو الشهيد على الأُمّة.

هذا هو ظاهر الآية ، وبذلك يعلم معنى الوسطية التي هي تخلّلهم بين الناس والرسول.

وعلى ضوء هذا فيجب أن نقف على معنى كون الأُمّة شهداء على الناس ، فهل يصحّ وصف جميع الأُمّة بذلك ، أو هو وصف لطائفة خاصة ، أعني : الذين وصلوا في طهارة القلب والروح إلى حدّ يشهدون يوم القيامة على الناس؟ ومن المعلوم أنّ مثل هذه الشهادة ليست في وسع الإنسان العادي إلّا رجل يتولّى الله أمره وكشف الغطاء عن بصره وبصيرته ، وأمّا من هم الذين لهم تلك الميزة والمكانة فالآية ساكتة عنه ، وكون المراد منهم عامة الصحابة ، قول بلا دليل ، ولكن الآيات

__________________

(١) البقرة : ١٤٣.

٢٧٠

الأُخرى تفصح عن ذلك ، يقول سبحانه : (مَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) (١) ، والمراد من الشهداء هم شهداء الأعمال الذين شملتهم عنايته سبحانه فشهدوا على حقائق الأعمال والمعاني النفسية من الكفر والإيمان والفوز والخسران ، فلا صلة للآية بعدالة الصحابة.

إنّ للإمام الصادق (عليه‌السلام) في تفسير الآية بياناً بديعاً رواه أبو عمرو الزبيري عنه قال : قال الإمام بعد تلاوة الآية : «فإن ظننتَ أنّ الله عنى بهذه الآية جميع أهل القبلة من الموحّدين؟ أفترى أنّ من لا يجوز شهادته في الدنيا على صاع من تمر يطلب الله شهادته يوم القيامة ويقبلها منه بحضرة جميع الأُمم الماضية؟!». (٢)

ثمّ لو افترضنا دلالة الآية على عدالة كلّ صحابي ، ولكنّه لا يكون دليلاً على حجّية كلّ ما يصدر عنهم من السنّة ، وإلّا لعمّمنا الحكم إلى كلّ عادل ، سواء كان صحابياً أم غير صحابي ، لكون الموضوع هو العدل والعدالة ، وغاية ما تقتضيه العدالة انّه لا يتعمّد الكذب ، أمّا مطابقة كلامه وفعله للواقع نزيهاً عن الخطأ والاشتباه ، فالآيتان لا تدلّان عليه.

ثمّ إنّ الإمام الشاطبي استدلّ بوجه ثان وهو التمسّك في مدح الصحابة وقال :

الدليل الثاني : ما جاء في الحديث من الأمر باتّباعهم ، وانّ سنّتهم في طلب الاتّباع كسنّة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، كقوله : «فعليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين المهديين ، تمسّكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ» ، وقوله : «وتفترق أُمّتي على ثلاث وسبعين فرقة كلّها في النار إلّا واحدة». قالوا : ومن هم يا رسول الله؟ قال : «ما أنا عليه

__________________

(١) (النساء : ٦٩.)

(٢) البرهان في تفسير القرآن : ١٦٠ / ١.

٢٧١

وأصحابي».

وعنه أنّه قال : «أصحابي مثل الملح ، لا يصلح الطعام إلّا به».

وعنه أيضاً : انّ الله اختار أصحابي على جميع العالمين سوى النبيّين والمرسلين ، واختار لي منهم أربعة : أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً ، فجعلهم خير أصحابي كلّهم خير. ويروى في بعض الأخبار : «أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم» إلى غير ذلك ممّا في معناه. (١)

يلاحظ على الاستدلال : أنّ الشاطبي أرسل هذه الروايات إرسالَ المسلّمات من دون أن يبحث عن أسانيدها وما جاء فيها من الطعون ، ونحن أيضاً نتغافل عمّا حول الأسانيد من الضعف والنكارة ونركّز الأمر على المضامين.

أمّا الحديث الأوّل ، أعني قوله : «فعليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين المهتدين ...» فقد ذكر محقّق كتاب «الموافقات» أنّه قطعة من الحديث الذي أخرجه أبو داود والترمذي ولم يصف السند بشيء ، فهو قاصر عن إثبات عدالة عامّة الصحابة ، فكيف حجّية أقوالهم ومذاهبهم ، فإنّه يختص بالخلفاء الأربعة لا غير؟!

أضف إلى ذلك أنّ العمل بمضمونه مستحيل لاختلاف سيرة الخلفاء ، وكيف يمكن أن يتعبّدنا الشارع بالمتناقضات من سيرتهم؟!

وهذا هو أبو بكر ساوى في توزيع الأموال الخراجية ، وخالفه عمر حيث فاوت فيها ؛ وكان أبو بكر يرى طلاق الثلاث واحداً ، ورآه عمر ثلاثاً.

وأمّا الاختلاف بين سيرة الشيخين وعثمان فواضح جدّاً حتّى أنّ اختلافه معهما أودى بحياة الخليفة وأثار حفيظة المسلمين على خلافته فقتل في عقر داره.

__________________

(١) الموافقات : ٥٦ / ٤ ، ط دار الكتب العلمية.

٢٧٢

كما أنّ اختلاف سيرة علي مع عثمان ، بل مع الجميع واضح لمن استقرأ التاريخ ، فكيف يمكن للنبي أن يتعبّدنا بالعمل بالمتناقضات؟!

وأمّا الحديث الثاني ، أعني قوله : «تفترق أُمّتي على ثلاث وسبعين فرقة كلّها في النار إلّا واحدة» فيكفي في نكارة الحديث :

أوّلاً : أنّ هذه الزيادة (ما أنا عليه وأصحابي) غير موجودة في بعض نصوص الرواية ، ولا يصحّ أن يقال انّ الراوي ترك نقلها مع عدم الأهمية.

وثانياً : أنّ المعيار الوحيد للهلاك والنجاة هو شخص النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وأمّا أصحابه فلا يمكن أن يكونوا معياراً للهداية والنجاة إلّا بقدر اهتدائهم واقتدائهم برسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، وإلّا فلو تخلّفوا عنه قليلاً أو كثيراً فلا يكون الاقتداء بهم موجباً للنجاة.

وعلى ذلك فعطف «أصحابي» على النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لا يخلو من غرابة!!

وثالثاً : أنّ المراد إمّا صحابته كلّهم ، أو الأكثرية الساحقة.

فالأوّل : مفروض العدم ، لاختلاف الصحابة في مسالكهم ومشاربهم السياسية والدينية بعد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، وأدلّ دليل على ذلك ما وقع من الخلاف في السقيفة وبعدها في كثير من الأحكام والموضوعات.

والثاني : ممّا لا يلتزم به أهل السنّة ، فإنّ الأكثرية الساحقة من الصحابة خالفوا الخليفة الثالث ، وقد قتله المصريون والكوفيون على مرأى ومسمع من بقية الصحابة ، الذين كانوا بين مؤلِّب ، أو مهاجم ، أو ساكت.

وأمّا الحديث الثالث ، أعني قوله : «أصحابي مثل الملح لا يصلح الطعام إلّا به».

قال معلق كتاب «الموافقات» : رواه ابن قيّم الجوزية في «اعلام الموقعين»

٢٧٣

عن ابن بطة باسنادين إلى عبد الرزاق ، ثمّ بطرق أُخرى عن الحسن عنه ، منها رواية البغوي. فلو افترضنا صحّة الحديث ، فالحديث مجمل للغاية ، لا يثبت شيئاً.

وأمّا الحديث الرابع ، أعني «انّ الله اختار أصحابي على جميع العالمين سوى النبيّين والمرسلين ، واختار لي منهم أربعة : أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً ، فجعلهم خير أصحابي كلّهم خير» فمع غض النظر عن سنده ، فهو يناقض ما تضافر عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) من ارتداد كثير من أصحابه فكيف يمكن أن يكونوا كلّهم خيراً؟!

روى البخاري عن أبي هريرة ، عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قال : «بينا أن قائم إذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم ، فقال : هلم ، فقلت : أين؟ قال : إلى النار والله ، قلت : وما شأنهم؟ قال : إنّهم ارتدّوا بعدك على أدبارهم القهقرى ، ثمّ إذا زمرة حتّى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم ، فقال : هلم ، قلت : أين؟ قال : إلى النار والله ، قلت : وما شأنهم؟ قال : إنّهم ارتدّوا بعدك على أدبارهم القهقرى ، فلا أراه يخلص منهم إلّا مثل همل النعم». (١)

وفي روايته الأُخرى عن سهل بن سعد قال : قال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : «إنّي فرطكم على الحوض من مرّ عليّ شرب ، ومن شرب لم يظمأ أبداً ، ليردن عليّ أقوام أعرفهم ويعرفوني ، ثمّ يحال بيني وبينهم» ، قال أبو حازم : فسمعني النعمان بن أبي عياش ، فقال : هكذا سمعت من سهل؟ فقلت : نعم ، فقال : اشهد على أبي سعيد الخدري لسمعته وهو يزيد فيها : «فأقول : إنّهم منّي ، فيقال : إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، فأقول سحقاً سحقاً لمن غير بعدي». (٢)

__________________

(١) (صحيح البخاري : ١٢١ / ٨ ، باب في الحوض ، الحديث ٦٠٩٩.)

(٢) المصدر السابق.

٢٧٤

وكأنّ هذه الأحاديث تفسر قوله سبحانه : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ). (١)

ولا يصحّ حملها على الأعراب المرتدّة لمكان قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : «أعرفهم ويعرفوني».

وأمّا الحديث الخامس ، أعني : «أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم» فيكفي في ضعفه ما قاله ابن حزم في حقّه حيث قال : حديث موضوع مكذوب باطل ، وقال أحمد : حديث لا يصحّ ، وقال البزاز : لا يصحّ هذا الكلام عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم). (٢)

وقد نقل الشارح الحديدي عن النقيب أبي جعفر يحيى بن محمد العلوي البصري أنّه قال : إنّ هذا الحديث : «أصحابي كالنجوم» من موضوعات متعصّبة الأموية ، فإنّ لهم من ينصرهم بلسانه وبوضعه الأحاديث إذا عجز عن نصرهم بالسيف. (٣)

الدليل الثالث : أنّ جمهور العلماء قدموا الصحابة عند ترجيح الأقاويل.

فقد جعل طائفة قول أبي بكر وعمر حجّة ودليلاً.

وبعضهم عدّ قول الخلفاء الأربعة دليلاً.

وبعضهم يعدّ قول الصحابة على الإطلاق حجّة ودليلاً. ولكلّ قول من هذه الأقوال متعلّق من السنّة.

وهذه الآراء وإن ترجّح عند العلماء خلافها ففيها تقوية تضاف إلى

__________________

(١) (آل عمران : ١٤٤.)

(٢) (لاحظ تعليقة الموافقات : ٥٦ / ٤.)

(٣) الشرح الحديدي : ٢٩ / ٢٠ ، اقرأ نقد أبي جعفر النقيب ، كلام الجويني ، ص ١٢ ٣٠.

٢٧٥

أمر كلّي هو المعتمد في المسألة ، وذلك أنّ السلف والخلف من التابعين ومن بعدهم يهابون مخالفة الصحابة ، ويتكثرون بموافقتهم ، وأكثر ما تجد هذا المعنى في علوم الخلاف الدائر بين الأئمّة المعتبرين ، فتجدهم إذا عينوا مذاهبهم قوّوها بذكر من ذهب إليها من الصحابة. وما ذاك إلّا لما اعتقدوا في أنفسهم وفي مخالفيهم من تعظيمهم ، وقوة مآخذهم دون غيرهم ، وكبر شأنهم في الشريعة ، وأنّهم ممّا يجب متابعتهم وتقليدهم فضلاً عن النظر معهم فيما نظروا فيه.

وقد نقل عن الشافعي أنّ المجتهد قبل أن يجتهد لا يُمنع من تقليد الصحابة ، ويمنع من غيره. وهو المنقول عنه في الصحابي : «كيف أتركُ الحديثَ لقول من لو عاصرتُه لحَجَجْتُه؟» ولكنّه مع ذلك يعرف لهم قدرهم. (١)

يلاحظ عليه : أنّ المدّعى في هذا الدليل بطوله هو قوله : «إنّهم ممّا يجب متابعتهم وتقليدهم» ، ولكن الدليل غير واف بإثباته ولا يلازمه ، إذ غاية ما يثبته : انّ جمهور العلماء عند تعارض الأقاويل يرجّحون قول الشيخين أو الخلفاء الأربعة أو عامّة الصحابة ، وأين الترجيح عند التعارض ، من القول بحجّية آرائهم ومذاهبهم وسننهم مطلقاً ، سواء كان هناك تعارض أو لا ، وأنّه يجب على الخلف متابعة الصحابة وتقليدهم مطلقاً.

أضف إلى ذلك انّ أصل الدليل غير ثابت ، إذ طالما خالف الخَلفُ ، السلفَ ، نعم لو اتّفقت الصحابة على أمر من الأُمور يكون حكمه ، حكم سائر الإجماعات ، وعندئذ لا تظهر خصوصية ، لإجماعهم.

هذا وقد علّق على الدليل محقّق الكتاب وقال : فإن كان غرض المسألة وجوب الأخذ بسنّتهم التي اتّفقوا عليها ، فذلك ما لا نزاع فيه ، لأنّه أهمّ أنواع

__________________

(١) الموافقات : ٥٧ / ٤.

٢٧٦

الإجماع فليس من باب السنّة ، وإن كان الغرض ما جرى العمل عليه في عهدهم ، وإن لم يتّفقوا عليه ، فهذا ليس بدليل شرعي يتقيّد به المجتهد.

وقد يقال : أنّه عند الاختلاف لا تخرج سنتهم عن كونها حجّة في نفسها كأخبار الآحاد والنصوص الظاهرة ، وعلى هذا يكون سنّة قولاً وفعلاً في غير موضع الإجماع منهم ، تعدّ سنّة كخبر الآحاد فيعوّل عليها ويرجع إليها كحجّة ظنية. وهذا المعنى مأخوذ من كلام الآمدي في مذهب الصحابة. (١)

يلاحظ عليه : أنّ قياس رأي الصحابة وسنّتهم ، على خبر الواحد ، قياس مع الفارق ، فإنّ الثاني يروي عن المعصوم ويسنده إليه ، فيدخل في باب السنّة المحكية بواسطة الثقة ، بخلاف سنّة الصحابي ، فهي مرددة بين النقل عن المعصوم ، والاستنباط عن الكتاب والسنّة ، ومع هذا التردد كيف يجوز للمجتهد أن يأخذ بها ، إذ لو كان رأي الصحابي لا يكون حجّة عليه.

على أنّك قد عرفت أنّ الأصل في الظن هو عدم الحجّية ، والشكّ فيها يساوق القطع بعدمها ، فكيف يُؤخذ بهذا الظن مع عدم دليل دالّ عليه.

الدليل الرابع : ما جاء في الأحاديث من إيجاب محبّتهم وذم من أبغضهم ، وانّ من أحبّهم فقد أحبّ النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، ومن أبغضهم فقد أبغض النبي عليه الصلاة والسلام ، وما ذاك من جهة كونهم رأوه أو جاوروه أو حاوروه فقط ، إذ لا مزية في ذلك ، وإنّما هو لشدة متابعتهم له وأخذهم أنفسهم بالعمل على سنّته ، مع حمايته ونصرته ، ومن كان بهذه المثابة حقيق أن يتّخذ قدوة ، وتجعل سيرته قبلة ، ولما بالغ مالك في هذا المعنى بالنسبة إلى الصحابة أو من اهتدى بهديهم واستنّ بسنّتهم جعله الله تعالى قدوة لغيره في ذلك ، فقد كان المعاصرون لمالك يتبعون آثاره

__________________

(١) الموافقات : ٥٧ / ٤ ، قسم التعليقة بتلخيص.

٢٧٧

ويقتدون بأفعاله ، ببركة اتّباعه لمن أثنى الله ورسوله عليهم وجعلهم قدوة ، أو من اتّبعهم ، (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (١).(٢)

يلاحظ عليه : أنّ هذا الدليل ، كسابقه ضعيف غايته : إذ مع غض النظر عمّا في أسانيد هذه الروايات انّ أقصى ما يدلّ عليه ، هو تكريمهم وحرمة بغضهم ، لأنّهم رأوا نور الوحي ، وعاشوا معه في السراء والضرّاء ، في الحرب والسلم ، والشدة والرخاء ، وأين هذا من حجّية آرائهم ومذاهبهم واجتهاداتهم ، كمشرِّع يؤخذ بتشريعاته؟!

والعجب انّ الشاطبي يجعل الأمر بحب الصحابة دليلاً على حجّية آرائهم ومذاهبهم مضافاً إلى حجّية أقوالهم عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فلما ذا لم يأخذ شيئاً من أقوال أئمّة أهل البيت وآرائهم ومذاهبهم؟! مع تضافر النصوص على لزوم حبهم ، قال سبحانه : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى). (٣)

وأمّا النصوص فنقتصر من الكثير بالقليل :

١. «لا يؤمن عبد حتّى أكون أحب إليه من نفسه ، وتكون عترتي أحبّ إليه من عترته ، ويكون أهلي أحبّ إليه من أهله».

٢. «إنّ لكلّ نبيّ عصبة ينتمون إليها إلّا ولد فاطمة فأنا وليّهم وأنا عصبتهم وهم عترتي خلقوا من طينتي ، ويل للمكذبين بفضلهم ، من أحبهم أحبه الله ، ومن أبغضهم أبغضه الله».

__________________

(١) (المجادلة : ٢٢.)

(٢) (الموافقات : ٥٨ / ٤.)

(٣) الشورى : ٢٣.

٢٧٨

٣. انّ النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) أخذ بيد حسن وحسين ، وقال : «من أحبّني وأحبّ هذين وأباهما وأُمهما كان معي في درجتي يوم القيامة». (١)

أيّ الفريقين أحقّ بالأمن؟

قد عرفت منزلة مذهب الصحابي ورأيه تحليلاً ونقداً ، وتبيّن أنّ قول الصحابي إنّما يكون حجّة إذا أسنده إلى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، وأمّا لو وقف ولم يسنده ، أو تبيّن أنّه رأيه ومذهبه وسنّته فلا قيمة له في عالم الاعتبار ، ومع ذلك عرفت إصرار ابن قيم الجوزيّة والشاطبي على لزوم الأخذ بآرائهم ومذاهبهم وإن كان نتيجة اجتهادهم واستنباطهم.

وهناك من يوافقهما من قدماء القوم.

١. أخرج السيوطي وقال : قال حاجب بن خليفة شهدت عمر بن عبد العزيز يخطب وهو خليفة ، فقال في خطبته : ألا إنّ ما سنَّ رسولُ الله وصاحباه فهو دين نأخذ به وننتهي إليه ، وما سنّ سواهما فإنّا نرجئه.

٢. أخ (٢) رج ابن سعد في طبقاته عن ثعلبة بن أبي مالك القرطبي انّه قال في محاضرته مع عبد الملك بن مروان : وليست سنّة أحبّ إليّ من سنّة عمر. (٣)

٣. يقول الشيخ أبو زهرة : لقد وجدناهم يأخذون (أي الفقهاء من أهل السنّة) جميعاً بفتوى الصحابي ولكن يختلفون في طريق الأخذ ، فالشافعي كما يصرح في «الرسالة» يأخذ بفتواهم على أنّها اجتهاد منهم واجتهادهم أولى من

__________________

(١) (لاحظ للوقوف على هذه الأحاديث ونظائرها الكثيرة ، كتاب كنز العمال : ج ١٠ و ١٢ و ١٣.)

(٢) (تاريخ الخلفاء : ٢٤١ ، ط مصر.)

(٣) طبقات ابن سعد : ١٧٢ / ٥.

٢٧٩

اجتهاده.

ووجدنا مالكاً يأخذ بفتواهم على أنّها من السنّة ويوازن بينها وبين الأخبار المروية ان تعارض الخبر مع فتوى صحابي ، ثمّ يقول ما حاصله :

انّه اختلف في نظر أبي حنيفة وأبو الحسن الكرخي اعتبر أبو حنيفة الأخذ بفتوى الصحابي من قبيل الأخذ بالحديث والسنّة وأبو سعيد البراذعي يجعل أبا حنيفة مثل الشافعي ، وأمّا أحمد بن حنبل فنراه يقدم الحديث الصحيح على فتوى الصحابي ويأخذ بكلّ فتاوى الصحابة كما نجده يقدّم فتوى الصحابي على الحديث المرسل. ويلخّص أبو زهرة رأي أحمد : انّ فتاوى الصحابة سنّة ولكنّها سنّة بعد الحديث الصحيح وحيث لا تصح سنّة غير أقوالهم. (١)

فإذا دار الأمر بين الأخذ بهذه السنن والآراء التي هي نتاج الاجتهاد والاستنباط دون الاستناد إلى قول الرسول وفعله وتقريره ، وبين الأخذ بأقوال أئمّة أهل البيت الذين يروون عن آبائهم فأجدادهم عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، فأيّهما أولى وأحق بالأخذ؟

١. فهذا هشام بن سالم وحمّاد بن عثمان وغيرهما قالا : سمعنا أبا عبد الله (عليه‌السلام) يقول : «حديثي حديث أبي ، وحديث أبي حديث جدّي ، وحديث جدّي حديث الحسين ، وحديث الحسين حديث الحسن ، وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين (عليه‌السلام) ، وحديث أمير المؤمنين (عليه‌السلام) حديث رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، وحديث رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قول الله عزوجل». (٢)

٢. روى جابر قال : قلت لأبي جعفر (الباقر (عليه‌السلام)) : إذا حدثتني بحديث

__________________

(١) (بحوث مع أهل السنة والسلفية : ٢٣٤.)

(٢) الكافي : ٥٣ / ١ ، الحديث ١٤.

٢٨٠