أصول الفقه المقارن فيما لا نصّ فيه

الشيخ جعفر السبحاني

أصول الفقه المقارن فيما لا نصّ فيه

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-155-6
الصفحات: ٣٩٤

ولا يخفى أنّ النوع الثاني والثالث ليس من قبيل الحيل فإنّ الشارع هو الّذي رخّص تعطيل باب والدخول من باب آخر.

فإنّ الاتجار بالمال الزكوي قبل السنة أو السفر في شهر رمضان ممّا رخّص فيه الشارع فلا يوصف بالتحيّل.

وأمّا النوع الرابع فتجويزه عجيب ، وأنّ مع ذلك أن لا يستقر حجر على حجر في باب الأيمان ، إذ عندئذ يجوز لكلّ من يريد أن يحنث أن يدخل من نفس الباب الّذي فتحه الشاشي.

٥. فصّل الفقيه المعاصر الدكتور وهبة الزحيلي بين ما قصد بالوسيلة الوصول إلى المحرّم فهو حرام وإلّا فلا ، ورتّب على ذلك ما يلي :

١. حيلة شرعية مباحة : وهي التحيّل على قلب طريقة مشروعة وضعت لأمر معيّن ، واستعمالها في حالة أُخرى بقصد التوصّل إلى إثبات حقّ أو دفع مظلمة ، أو إلى التيسير بسبب الحاجة ، فهذا الفرع من الحيل لا يهدم مصلحة شرعية ، فهو إذن جائز شرعاً ؛ لأنّه ليس المقصود به إبطال الحق ، وإنّما هو تخريج فقهي للخروج من مأزق ، ولا يقصد به إبطال أحكام الشرع ، أو التعدي على أحد في ماله أو نفسه.

مثاله : أنّ أهالي بخارى اعتادوا الإجارة الطويلة ، وبما أنّ هذه الإجارة لا تجوز عند الحنفية في الأشجار ، اضطرّوا إلى وضع حيلة بيع الكرم وفاء (١) ، فالبيع الوفائي حيلة شرعية اتّخذت بسبب حاجة الناس ، ولأجل التخلّص من قاعدة منع الإجارة الطويلة في الأشجار.

__________________

(١) بيع الوفاء هو البيع بشرط أنّ البائع متى ردّ الثمن يرد المشتري المبيع إليه ، وإنّما سمّي بيع الوفاء لأنّ المشتري يلزمه الوفاء بالشرط ، وربّما يسمّى بيع العهدة أو بيع الأمانة ، أو بيع الطاعة ، إلى غير ذلك من الأسماء. لاحظ الموسوعة الفقهية : ٢٦٠ / ٩.

٢٤١

٢. حيلة شرعية محظورة : وهي الّتي يقصد منها التحيّل على قلب الأحكام الثابتة شرعاً إلى أحكام أُخر بفعل صحيح الظاهر ، لغو في الباطن ، مثل الحيل الموضوعة لإسقاط الشفعة ، وتخصيص بعض الورثة بالوصية ، ولإسقاط حدّ السرقة. (١)

وحاصل ما اختاره هو التفريق في الغاية ، فإن كان الهدف هو الحصول على أمر مباح كإثبات حقّ أو دفع مظلمة فهو جائز ، وأمّا إذا كان المقصود إسقاط حقّ الغير كالشفعة أو حدّ السرقة فلا.

هذه بعض كلمات القوم ، ولعلّ في ما ذكرنا كفاية في الاطلاع على آراء الفريقين في المقام.

القول الحاسم في إعمال الحيل

قد تعرّفت على كلمات الفريقين حول إعمال الحيل فمن محرِّم مطلقاً ، إلى مجوِّز كذلك ، إلى مفصّل بين كون الغاية حلالاً أو حراماً كما كان عليه المحقّق الحلّي في شرائعه والدكتور الزحيلي أخيراً ، أو بين ما يفوت مقصد الشارع أو فيه إضاعة لحق الغير ، وما ليس كذلك ، فلا يجوز في الأوّل ويجوز في غيره كما عليه ابن عاشور على ما مرّ.

والّذي يمكن أن يقال ربّما يكون حاسماً ورأياً قاطعاً ونافعاً للخلاف :

إنّ الحيل الّتي يتوصّل بها في المقام على أقسام :

الأوّل : أن يكون التوصّل بالوسيلة منصوصاً في الكتاب والسنّة ، وليس المكلّف هو الذي يتحيّلها ، بل أنّ الشارع هو الذي جعلها سبباً للخروج عن

__________________

(١) أُصول الفقه الإسلامي : ٩١٢ / ٢.

٢٤٢

المضائق ، نظير تجويز السفر في شهر رمضان لغاية الإفطار ، قال سبحانه : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ). (١)

فخيّر المكلّف بين البقاء في بلده فيصوم ، والخروج عنه فيفطر ، فالخروج عن ضيق الصوم بالسفر ، ممّا أرشده إليه الشارع. وليس بإيعاز من المكلّف نفسه.

ونظير تجويز نكاح المطلّقة ثلاثاً بعد التحليل ، إذ من المعلوم أنّه من طلّق زوجته ثلاثاً حرمت عليه أبداً ، قال سبحانه : (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ) وفي الوقت نفسه إنّ الشارع قد أرشده إلى الخروج من هذا المأزق بقوله : (حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللهِ). (٢)

فلو طلّقها بعد نكاحها والدخول بها عن رضى ، جاز نكاحها ثانياً عملاً بالنص.

فلا أظن فقيهاً من المذاهب يرى مثل هذا التحيّل أمراً قبيحاً ، أو على خلاف المصلحة ، فإنّ معنى ذلك هو رفض التشريع الإلهي ، بل يمكن أن يقال : إنّ هذا القسم خارج عن محلّ الكلام ، لاختلاف موضوعي الحكمين ، فقد وجب الصوم على الحاضر ، والإفطار على المسافر ، ومثله المطلقة ثلاثاً. فالمحرّمة هي غير المنكوحة للغير ، والمحلّلة هي المنكوحة بعد الطلاق.

الثاني : إذا كان هناك أمر واحد له طريقان ، أحلّ الشارع أحدهما وحرّم الآخر ، فلو سلك الحلال لا يعدّ ذلك تمسّكاً بالحيلة ، لأنّه اتّخذ سبيلاً حلالاً إلى أمر حلال.

__________________

(١) (البقرة : ١٨٥.)

(٢) البقرة : ٢٣٠.

٢٤٣

مثاله : انّ مبادلة التمر الرديء بالجيّد تفاضلاً رباً محرّم ، ولكنّ بيع كلّ على حدة أمر جائز ، وإن كانت النتيجة في كلا الأمرين واحدة ، ولكن الحرام هو سلوك الطريق الثاني لا الأوّل. وإن كانت النتيجة واحدة وليس للعقل الإنساني الإحاطة بعامة المصالح والمفاسد.

وهذا القسم خارج عن محلّ النزاع أيضاً ، لأنّه فيما إذا احتال وتوصّل بالحلال إلى الحرام ، وأمّا هنا فقد توصّل بالحلال إلى الحلال.

الثالث : إذا كان السبب غير مؤثر في حصول النتيجة شرعاً ، فالتوصّل في مثله محرّم غير ناتج ، وذلك كالمثال الذي نقله الإمام البخاري عن أبي حنيفة وانّه أفتى فيما إذا غصب الرجل جارية ، فزعم انّها ماتت فقضى بقيمة الجارية الميتة ، وانّ الجارية للغاصب وإن تبيّن بعدُ انّها حيّة ، وليس لصاحبها أخذها إذا وجدها حيّة.

وغير خفي أنّ زعم الغاصب موت الجارية لا يخرجها عن ملك صاحبها ، ولا يوجب اشتغال ذمة الغاصب بقيمتها ، بل تبقى الجارية على ملكية المالك ، فلو ظهر حياتها انكشف انّ القضاء بردّ القيمة ، كان باطلاً من أصله.

ومن خلاله ظهر أنّ السبب (زعم الغاصب موت الجارية) غير مؤثر في الانتقال فلا يقع ذريعة لتملّكها ، وهو الذي رتّب عليه البخاري رداً على أبي حنيفة وقال : إنّه يحتال من اشتهى جارية رجل لا يبيعها ، فغصبها واعتلّ بأنّها ماتت حتّى يأخذ ربّها قيمتها ، فيطيب للغاصب جارية غيره. (١)

لما عرفت من أنّ اعتقاد الغاصب بموت الجارية جازماً لا يكون سبباً لخروج الجارية عن ملك صاحبها وخروج قيمتها عن ملك الغاصب ، فكيف إذا كان

__________________

(١) صحيح البخاري : ٣٣ / ٩ ، كتاب الإكراه.

٢٤٤

عالماً بالخلاف وكاذباً في الإخبار؟ فعدم جواز التحيّل في هذه المسألة ، لأجل انّ السبب حلالاً كان أو حراماً غير مؤثر فيه.

ومن هذا الباب ما حكي عن أبي حنيفة : إذا غصب الرجل دابة الغير وانتفع بها ، لا يضمن أُجرة ما انتفع به ، مستدلاً بأنّه إذا خالف بالغصب صار ضامناً ويكون الخراج ومنافع العين في مقابل الضمان تمسّكاً بقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : «الخراج بالضمان».

فإنّ التوصّل بهذه الوسيلة لغاية تملّك منافع الدابة مجاناً ، توصل بسبب حرام لا حلال ، فإنّ قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : «الخراج بالضمان» ناظر إلى الضمان بسبب صحيح ، كما إذا استأجر الدابة في مقابل أُجرة معيّنة فيملك المنافع ، لا في مثل المقام الّذي يوصف عمله بالغصب وشخصه غاصباً ، وقد ورد تفصيل ذلك في بعض رواياتنا.

إنّ أبا ولّاد الحنّاط اكترى بغلاً إلى قصر ابن هبيرة ذاهباً وجائياً بكذا وكذا ، ثمّ خالف الإجارة لسبب من الأسباب ، فلمّا رجع إلى الكوفة ، أخبر صاحب البغل بعذره وأنّه مكان أن يذهب إلى قصر ابن هبيرة ذهب إلى مكان آخر ولذلك طال سفره.

يقول أبو ولّاد الحناط : فبذلت لصاحب البغل خمسة عشر درهماً فأبى أن يقبل ، فتراضينا بأبي حنيفة فأخبرته بالقصة ، وأخبره الرجل ، فقال لي : ما صنعت بالبغل؟ فقلت : قد دفعته إليه سليماً ، قال : نعم ، بعد خمسة عشر يوماً ، قال : فما تريد من الرجل؟ فقال : أُريد كراء بغلي ، فقد حبسه عليّ خمسة عشر يوماً ، فقال : ما أرى لك حقّاً ، لأنّه اكتراه إلى قصر ابن هبيرة ، فخالف وركبه إلى النيل وإلى بغداد فضمن قيمة البغل ، وسقط الكراء ، فلمّا ردّ البغل سليماً وقبضته ، لم يلزمه الكراء.

قال : فخرجنا من عنده وجعل صاحب البغل يسترجع فرحمته ممّا أفتى به

٢٤٥

أبو حنيفة ، فأعطيته شيئاً وتحلّلت منه ، وحججت تلك السنة فأخبرت أبا عبد الله (عليه‌السلام) بما أفتى به أبو حنيفة فقال : «في مثل هذا القضاء وشبهه تحبس السماء ماءها ، وتمنع الأرض بركتها».

قال : فقلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) : فما ترى أنت؟ فقال : «أرى له عليك مثل كراء بغل ذاهباً من الكوفة إلى النيل ، ومثل كراء بغل راكباً من النيل إلى بغداد ، ومثل كراء بغل من بغداد إلى الكوفة توفّيه إياه». (١)

ترى أنّ الإمام (عليه‌السلام) رد فتوى أبي حنيفة بسقوط الأُجرة ، لأنّه توصّل بسبب غير مسوّغ ، فإنّ الخراج إنّما يباح إذا كان الضمان بسبب صحيح لا بسبب باطل كالغصب.

الرابع : إذا كانت الوسيلة حلالاً ، ولكن الغاية هي الوصول إلى الحرام على نحو لا تتعلّق إرادته الجدّية إلّا بالمحرّم ، ولو تعلّق بالسبب فإنّما تعلّق بها صورياً لا جدياً ، كما إذا باع ما يسوى عشرة بثمانية نقداً ، ثمّ اشتراه بعد بعشرة نسيئة إلى شهرين ، فمن المعلوم أنّ إرادته الجدية تعلّقت باقتراض ثمانية ودفع عشرة ، وحيث إنّ ظاهره ينطبق على الربا ، فاحتال ببيعين مختلفين مع عدم تعلّق الإرادة الجدية بهما ، فيكون عندها التحيّل أمراً محرّماً.

وما مرّ من كلام الشاطبي ناظر إلى هذا القسم قال : إنّ المشروعات وضعت لتحصيل المصالح ودرء المفاسد ، فإذا خولفت لم يكن في تلك الأفعال التي خولف بها ، جلب مصلحة ولا درء مفسدة «فالمفسدة التي لأجلها حرم الربا موجود في هذا القسم وعلى ضوء ذلك يكون التحيل حراماً إمّا لعدم القصد الجدي في المقام ، أو لعدم درء المفسدة بالتحيل.

__________________

(١) الوسائل : ١٣ ، الباب ١٧ من أبواب كتاب الإجارة ، الحديث ١.

٢٤٦

ولعلّ من هذا القسم قوله سبحانه في سورة الأعراف : (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ). (١)

فإنّ الغرض من تحريم الاصطياد في السبت هو امتحانهم في أُمور الدنيا ، ولكنّهم توصّلوا بحيلة مبطلة لغرضه سبحانه ، وهي حيازة الحيتان وحبسها عن الخروج إلى البحر يوم السبت ، لغاية الاصطياد يوم الأحد ، فكيف يمكن أن يكون مثل هذا التحيّل أمراً جائزاً؟!

ومنه يعلم أنّ أكثر الحيل المطروحة للمرابين أمر محرّم ، لعدم تعلّق الإرادة الجدّية بصورة المعاملة وإنّما تعلّقت بالنتيجة وهو أخذ الفائض.

الخامس : إذا كانت الحيل سبباً لإضاعة حقّ الآخر ، وذلك مثل منع فضل الماء لغاية حرمان الرعاة عن رعي الكلأ ، ولذلك نهى عنه الرسول كما مرّ.

هذا هو القول الحاسم في العمل بالحيل ، وبذلك خرجنا بالنتائج التالية :

١. إذا كان الشارع هو الذي أرشد إلى الخروج عن المضائق ، كما في تجويز السفر في شهر رمضان للإفطار.

٢. أو أنّه لم يُشِرْ إلى الخروج ، ولكن جعل لأمر واحد طريقين ، حرّم أحدهما وأحلّ الآخر ، فهاتان الصورتان خارجتان عن محطّ البحث.

٣. إذا كان السبب غير مؤثر في حصول النتيجة ، والتوصّل به للوصول إلى الحلال توصّلاً باطلاً لافتراض أنّه غير مؤثر في نظر الشارع ، كالجارية المغصوبة التي يزعم الغاصب موتها كذباً ويكتم حياتها ، ففي مثله لا يكون الخروج عن الغرامة بدفع القيمة مؤثراً في تملك الجارية.

__________________

(١) الأعراف : ١٦٣.

٢٤٧

٤. إذا كانت الغاية من التوصّل بالأمر الحلال صوريّاً وتعلّقت الإرادة الجدية بالأمر الحرام ، أو كانت نفس المفسدة موجودة ، فالتوصّل بها حرام ، نظير توصل أصحاب السبت إلى اصطياد الحيتان بحفر جداول قرب البحر لحبسها يوم السبت واصطيادها يوم الأحد ، أو بيع الشيء نقداً بثمانية واشترائه نسيئة بعشرة.

ولذلك قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : «قاتل الله اليهود ، إنّ الله تعالى لما حرّم عليهم شحومها جملوه ثمّ باعوه فأكلوا ثمنه». (١)

٥. إذا كان الحيل سبباً لاضاعة حقّ الآخر على ما مرّ.

أدلّة القائلين بجواز التحيّل

وقد استدلّ المثبتون له بالكتاب والسنّة :

الاستدلال بالكتاب

١. قوله سبحانه : (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ). (٢)

روى المفسّرون أنّ أيّوب قد حلف على ضرب امرأته بمائة سوط ، فأمره سبحانه أن يجمع مائة من شماريخ (٣) ويجعلها ضِغثاً ، ويضربها مرة واحدة ، وكأنّه ضربها مائة سوط ، فذلك تحلّة أيمانه.

يلاحظ عليه : أنّ الاستدلال بالآية غير صحيح ، لاحتمال أن يكون ذلك الحكم تخفيفاً من الله سبحانه في حقّ أيّوب لمّا صبر طيلة سنين متمادية حتّى وصفه

__________________

(١) (بلوغ المرام : برقم ٨٠١. وجملوه : أي جمعوه ثمّ أذابوه احتيالاً على الوقوع في المحرم.)

(٢) (ص : ٤٤.)

(٣) جمع الشمارخ غصن دقيق ينبت في أعلى الغصن الغليظ.

٢٤٨

الله سبحانه بقوله : (إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ) فهذا النوع من التخفيف كان جزاءً له على صبره ، وتخفيفاً عن امرأته ورحمة بها.

ولو كان هذا الحكم عامّاً لما خفي على أيوب وهو نبيّ من أنبيائه سبحانه ، وسّع الله صدره بالعلم.

وبذلك يظهر الفرق بين المقام وتحيّل بني إسرائيل ، فانّ احتيال بني إسرائيل كان لغاية سخيفة محرّمة وهي صيد الحيتان ، وهذا بخلاف المقام فهو احتيال من أجل الرحمة والإنسانية وليس احتيالاً على الحقّ والإنسانية.

وحاصل الكلام : أنّه من خصائص أيّوب (عليه‌السلام) لا يعدوه إلى غيره وما ذلك إلّا لكونه تخفيفاً من الله.

وما ربما يقال من أنّ الخصوصية لا تثبت إلّا بدليل (١) ، وإن كان صحيحاً ، ولكن الدليل على الخصوصيّة هو التعليل الوارد في الآية. أعني : صبره وحسن عبوديته.

٢. وقوله سبحانه : (فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ). (٢)

حيث أمر يوسف (عليه‌السلام) بجعل صواع الملك في رحل أخيه ليتوصّل بذلك إلى أخذه وكيد إخوته.

يلاحظ عليه (٣) : أنّ يوسف توصّل بالحلال إلى الحلال ، وهو أخذ الأخ ولم يكن غير راض بذلك في الواقع ، كما لم يكن قصده بذلك إيذاء إخوته ولا إيذاء أبيه.

__________________

(١) (الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي : ٤٩١ / ٢.)

(٢) (يوسف : ٧٠.)

(٣) إعلام الموقعين : ٢٢٤ / ٣.

٢٤٩

أمّا الأوّل (إيذاء الإخوة) فواضح ، إذ لو كان قاصداً لذلك لعاقبهم بغير هذا الأُسلوب ، وأمّا الثاني (إيذاء الأب) فلأنّ الوالد كان واقفاً على أنّ أخا يوسف سيُحاصر ، حيث قال لهم : (قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ). (١)

والظاهر من الكتاب العزيز أنّ يوسف قام بذلك بأمر من الله سبحانه حيث قال : (كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) (٢) ، أمره سبحانه بذلك ليبلغ الكتاب أجله ويتم البلاء الذي أحاط بيعقوب ويوسف وتبلغ حكمة الله تعالى التي قضاها لهم نهايتها.

وهل يكون ذلك دليلاً على الجواز لعامة الناس لغايات سخيفة؟!

الاستدلال بالسنّة

استدلّوا من السنّة بما رواه البخاري ، عن أبي هريرة ، وأبي سعيد الخدري ، أنّ رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) استعمل رجلاً على خيبر ، فجاءه بتمر جنيب ، فقال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : أكلُّ تمر خيبر هكذا؟ قال : لا والله يا رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) انّا لنأخذ الصاعَ من هذا ، بالصاعين ، والصاعين بالثلاثة ، فقال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : «لا تفعل ، بع الجمع بالدراهم ، ثمّ ابتع بالدراهم جنيباً». (٣)

والجمع نوع من تمر خيبر رديء ، والجنيب نوع جيد ، ولم يفصّل بين أن يكون البيع من رجلين أو رجل واحد.

وقد ظهر الجواب ممّا ذكرناه من أقسام الحيل ، وأنّ الشارع هو الّذي جعل للشيء طريقين حرّم أحدهما وسوّغ الآخر.

__________________

(١) (يوسف : ٦٦.)

(٢) (يوسف : ٧٦.)

(٣) إعلام الموقعين : ٢٠٢ / ٣ ؛ ولاحظ بلوغ المرام برقم ٨٥٥.

٢٥٠

٦

قول الصحابي

يعدُّ الأئمّة الثلاثة غير أبي حنيفة قولَ الصحابي من مصادر التشريع ، وربّما ينقل عنه أيضاً خلافه ، لكن المعروف انّه لا يعترف بحجية قول الصحابي. والمهم في المقام هو تحرير محل النزاع وتعيين موضوعه ، فإنّه غير منقّح في كلامهم.

إنّ ظاهر العنوان مذهب الصحابي من مصادر التشريع هو انّ مذهبه من مصادره ، في عرض الكتاب والسنّة والإجماع والعقل وغيرها وربما يعبّر عن مذهب الصحابي ، بسنّته ، الظاهرة في أنّ له سنّة ، عرض سنّة النبي ، فلو أُريد هذا فهو محجوج بما ذكره الغزالي حيث قال :

إنّ من يُجوَّز عليه الغلط والسهو ، ولم تثبت عصمته عنه ، فلا حجّة في قوله ، فكيف يحتجُّ بقولهم مع جواز الخطأ؟ وكيف تدّعى عصمتهم من غير حجّة متواترة؟ وكيف يتصوّر قوم يجوز عليهم الاختلاف؟ وكيف يختلف المعصومان؟ كيف وقد اتّفقت الصحابة على جواز مخالفة الصحابة؟ فلم ينكر أبو بكر وعمر على من خالفهما بالاجتهاد ، بل أوجبوا في مسائل الاجتهاد على كلّ مجتهد أن يتبع

٢٥١

اجتهاد نفسه. (١)

وعلى ظاهر العنوان (مصادر التشريع) اعترض عليه الشوكاني وقال : والحقّ أنّه ليس بحجّة ، فإنّ الله سبحانه لم يبعث إلى هذه الأُمّة إلّا نبيّنا محمّداً (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، وليس لنا إلّا رسول واحد وكتاب واحد ، وجميع الأُمّة مأمورة باتّباع كتابه وسنّة نبيّه ولا فرق بين الصحابة ومن بعدهم في ذلك ، فكلّهم مكلّفون بالتكاليف الشرعية ، وباتّباع الكتاب والسنّة ، فمن قال : إنّه تقوم الحجّة في دين الله عزوجل بعد كتاب الله تعالى وسنّة رسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وما يرجع إليهما ، فقد قال في دين الله بما لا يثبت. (٢)

وعلى كلّ تقدير ، فنحن نذكر صور القاعدة.

لا شكّ انّه لو نقل الصحابي سنّة الرسول يؤخذ به بالإجماع عندهم ، وعندنا إذا اجتمعت فيه شرائط الحجّية. وهذا خارج عن محل البحث.

كما إذا اتّفق سائر الصحابة على رأي الصحابي ؛ فمن قال بحجّية الإجماع بما هو هو ، أو لكشفه عن وجود الحجّة في البين ، يكون قوله حجّة ، لأجل انعقاد الإجماع عليه. وهذا أيضاً خارج عن محل البحث.

فينحصر النزاع في الموارد الثلاثة التالية :

١. قول الصحابي

إذا نقل الصحابي قولاً ، ولم يُسْنده إلى الرسول ، ودلّت القرائن على أنّه نقلُ قول لا نقلُ رأي فهل هو حجّة أو لا؟ لاحتمال كونه ناقلاً قول الرسول ، أو قول

__________________

(١) (المستصفى : ١٣٥ / ١.)

(٢) إرشاد الفحول : ٢١٤.

٢٥٢

غيره ، وهذا ما يطلق عليه «الموقوف» لوقف النقل على الصحابي دون أن يتجاوز عنه إلى غيره.

٢. رأي الصحابي

إذا نقل رأيه واستنباطه من الكتاب والسنّة وما فهمه منهما ، فهو حجّة له ولمقلِّديه ، ولا يكون حجّة لسائر المجتهدين.

٣. المردّد بين النقل والرأي

إذا تردّد بين كونه نقلَ قول أو نقلَ رأي ؛ فلو قلنا بحجّية قوله ورأيه على سائر المجتهدين ، يكون حجّةً في المقام بخلاف ما لو خصّصنا الحجّية بنقل القول دون الرأي كما هو الحقّ فلا يكون النقل المردّد بين القول والرأي حجّة.

هذه هي الصور الثلاث التي تصلح لأن تقع محلاً لورود النفي والإثبات.

وأمّا الأقوال ، فمن قائل بحجّية ما روي عن الصحابي ، إلى آخر ناف لها ، إلى ثالث يفصّل بين كون المنقول موافقاً للقياس فليس بحجّة وكونه مخالفاً له فهو حجّة.

إذا وقفت على الصور المتصوّرة لمحلّ النزاع والأقوال ، فلنتناول كلّ واحدة منها بالدراسة :

١. حجّية قول الصحابي

يظهر من السرخسي انّ محلّ النزاع هو الصورة الأُولى ، فقد حاول في كلام مبسوط أن يثبت انّ قول الصحابي ظاهر في أنّ مستنده هو قول النبي وإن لم

٢٥٣

يُسنده إليه ظاهراً ، يقول :

لا خلاف بين أصحابنا المتقدّمين والمتأخرين انّ قول الواحد من الصحابة حجّة فيما لا مدخل للقياس في معرفة الحكم فيه ، وذلك لأنّ أحداً لا يظن بهم المجازفة في القول ، ولا يجوز أن يحمل قولهم في حكم الشرع على الكذب ؛ فإنّ طريق الدين من النصوص إنّما انتقل إلينا بروايتهم ، وفي حمل قولهم على الكذب والباطل قولٌ بفسقهم ، وذلك يبطل روايتهم.

فلم يبق إلّا الرأي أو السماع ممّن ينزل عليه الوحي ، ولا مدخل للرأي (القياس) في هذا الباب ، فتعيّن السماع وصار فتواه مطلقاً كروايته عن رسول الله ، ولا شكّ انّه لو ذكر سماعه من رسول الله لكان ذلك حجّة لإثبات الحكم به ، فكذلك إذا أفتى به ولا طريق لفتواه إلّا السماع ، ولهذا قلنا : إنّ قول الواحد منهم فيما لا يوافقه القياس يكون حجّة في العمل به كالنص يترك القياس به. (١)

وخلاصة كلامه : أنّ قول الصحابي إن كان موافقاً للقياس نحدس بأنّه رأيه ونظره استند إلى القياس فلا يكون حجّة للمجتهد الآخر ، وأمّا إذا كان مخالفاً للقياس ، فلا يكون لقوله مبدأ سوى السماع عن الرسول ويكون حجّة.

يلاحظ على كلامه بوجوه :

الأوّل : أنّ كلامه مبنيّ على أنّ للاجتهاد دعامتين : إحداها : القياس ، والأُخرى : النص. فإذا كان قول الصحابي مخالفاً للقياس ، فيكون دليلاً على أنّه اعتمد على النص ونقله ، ولكنّك خبير بأنّ للاجتهاد دعامات أُخرى ، فمن الممكن أن يستند في قوله إلى إطلاق الآية وليس لها إطلاق ، أو عموم دليل وليس

__________________

(١) أُصول السرخسي : ١١٠ / ٢ بتلخيص.

٢٥٤

بعام ، وعلى كلّ تقدير استنتج الحكم من دليل لو وصل إلينا لم نعتبره دليلاً ، فمع هذا الاحتمال لم يبق وثوق بأنّه سبحانه أذن في الإفتاء وفق قوله.

الثاني : أنّ أقصى ما يمكن أن يقال هو الظنّ بأنّه استند إلى النّص ، لا القطع ، ومن المعلوم أنّ الظنّ ليس بحجّة ما لم يدل دليل قاطع على حجّيته فما لم يحرز انّه استند إلى النص ، لا يحكم عليه بالحجيّة وإلّا يدخل الإفتاء به تحت قوله سبحانه : (آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ). (١)

الثالث : لو كان قول الصحابي مستنداً إلى سماعه عن النبي ، أو عمّن سمعه من النبي ، لم يكن يترك ذكره ، لما فيه من الشرف والمفخرة له ، بشهادة أنا نجد اهتمام الصحابة بنقل كلّ ما يمتّ إلى النبي بصلة من دقيق وجليل وقول وفعل وتقرير وتصديق.

فالإفتاء بلا ذكر السماع يُشرف الفقيه على القطع بأنّ ما نقله الصحابي هو في الواقع اجتهاد منه ، وبذلك لا يبقى أيّ اطمئنان ووثوق بمثل هذا القول.

وهناك حقيقة مرّة ، وهي انّ التأكيد على حجية قول الصحابي لأجل انّ حذفه من الفقه السنّي يوجب انهيار صرح البناء الفقهي الذي أشادوه ، وتغيّر القسم الأعظم من فتاواهم ، وحلول فتاوى أُخر محلّها ربما استتبع فقهاً جديداً لا أُنس لهم به.

والحاصل : انّ الحجّة هو العلم بأنّه بصدد نقل سنة الرسول ، وأمّا إذا ظنّ بأنّه كذلك فليس بحجّة ، وما دلّ من الأدلّة على حجّية قول الصحابي ، منحصر بما إذا علم أنّه بصدد بيان كلام الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وقوله ، أو عمله وفعله ، أو تقريره وتصديقه.

__________________

(١) يونس : ٥٩.

٢٥٥

٢. حجّية رأي الصحابي

يظهر من كلام ابن القيّم ، أنّ موضوع النزاع أعمّ من القول والرأي فقد أقام على حجّيته ٤٦ دليلاً لا يسعنا ذكرها ، لأنّ غالبها لا يخرج عن نطاق الحدس وليس لها أصالة ، وإنّما نقتصر على قليل منها :

الدليل الأوّل

إنّ قول الصحابي يحتمل أوجهاً لا تخرج عن ستة :

١. أن يكون قد سمعها من النبي.

٢. أن يكون سمعها ممّن سمعها منه.

٣. أن يكون فهمها من آيات كتاب الله فهماً خفي علينا.

٤. أن يكون قد اتّفق عليها ملؤُهم ولم ينقل إلينا إلّا قول المفتي بها وحده.

٥. أن يكون لمكان علمه باللغة ودلالة اللفظ على الوجه الذي انفرد به عنّا ، أو لقرائن حالية اقترنت بالخطاب ، أو لمجموع أُمور فهموها على طول الزمان لأجل معاشرة النبي.

٦. أن يكون فهم ما لم يرده الرسول وأخطأ في فهمه ، والمراد غير ما فهمه ، وعلى هذا التقدير لا يكون قوله حجّة ، ومعلوم قطعاً أنّ وقوع احتمال من خمسة أغلب على الظن من وقوع احتمال واحد معين ، وذلك يفيد ظناً غالباً قوياً على أنّ الصواب في قوله دون ما خالفه من أقوال مَن بعده وليس المطلوب إلّا الظنّ الغالب والعمل به متعيّن ، ويكفي العارف هذا الوجه. (١)

__________________

(١) إعلام الموقعين : ١٤٨ / ٤ في ضمن الدليل الثالث والأربعين.

٢٥٦

أقول : يلاحظ عليه بوجوه :

أوّلاً : أنّ أقصى ما يمكن أن يقال هو الظن الغالب بأنّه استند إلى الوجوه الخمسة الأُولى لا القطع به ، وقد أثبتنا في محلّه أنّ الأصل في الظن عدم الحجّية ، إلّا إذا دلّ دليل قطعي على حجّيته.

ثانياً : من أين نعلم أنّ فهمه من الكتاب كان فهماً صحيحاً؟ أو انّ استفادته من اللغة كانت استفادة رصينة مع أنّ التابعين من العرب الأقحاح مثله؟ فما هو الفرق بين قوله وقول التابعين؟

ثالثاً : على أنّه يحتمل أن يكون لفتواه مصادر ظنّية اعتمد عليها ، كالقياس بشيء لا يخطر في أذهاننا ، أو الاعتماد على وجوه واعتبارات تبلورت في ذهنه ، أو الاستناد إلى الإطلاق والعموم مع أنّه ليس من مواردهما ، لكون المورد شبهة مصداقية لهما.

الدليل الثاني

قد ذكر ابن القيّم في الوجه الرابع والأربعين ما هذا لفظه : انّ النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قال : «لا تزال طائفة من أُمّتي ظاهرين بالحق».

وقال علي كرم الله وجهه : «لا تخلو الأرضُ من قائم لله بحجّة ، لئلّا تبطل حججُ الله وبيّناته» فلو جاز أن يخطئ الصحابي في حكم ولا يكون في ذلك العصر ناطق بالصواب في ذلك الحكم لم يكن في الأُمّة قائم بالحقّ في ذلك الحكم ، لأنّهم بين ساكت ومخطئ ، ولم يكن في الأرض قائم لله بحجّة في ذلك الأمر ، ولا من يأمر فيه بمعروف أو ينهى فيه عن منكر. (١)

__________________

(١) إعلام الموقعين : ١٥٠ / ٤ ، فصل جواز الأخذ بفتاوى الصحابة.

٢٥٧

أقول : أمّا الحديث الأوّل فيدلّ على وجود طائفة ظاهرين بالحقّ من أُمّته ، ولكن من أين نعلم أنّهم هم الصحابة؟ فإنّ الإخبار عن الكبرى لا تثبت الصغرى ، أي كون القائمين بالحقّ هم الصحابة ، فليكن هؤلاء ، التابعين لهم بإحسان أو تابعي التابعين وليس في الرواية ما يدلّ على اتصال زمانهم بزمان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم).

وأمّا الحديث الثاني فيدلّ على وجود القائم بالحقّ بين الأُمّة في كلّ الأزمنة والأعصار لا الناطق بالحقّ ، وشتان ما بين القائم بالحقّ والناطق بالحقّ ، والقائم بالحقّ بطبيعة الحال يكون ناطقاً ، ولكن ربما يكون مضطراً للسكوت خوفاً من حكّام الجور ، فلا يكون سكوت الأُمّة دليلاً على إصابة الصحابي الناطق وكونه القائم بالحقّ.

وعلى كلّ تقدير فالحديث الثاني يدلّ على حجّية قول شخص واحد لا عامة الصحابة والتابعين ، وأين هذا من حجّية أقوال وآراء عامة الصحابة؟!

وجود المخالفة بين الصحابة

إنّ تاريخ التشريع حافل بنماذج كثيرة من مخالفة صحابي لصحابي آخر حتى بعد سماع كلامه وقوله ، فلو كان قول الصحابي نتاجاً للسماع لما جاز لآخر أن يخالفه ويقدّم رأيه على قوله ، فإنّه يكون من قبيل تقديم الرأي على النصّ ، وهذا يعرب على أنّ قول الصحابي لا يساوق سماعه عن النبي ، بل أعمّ منه بكثير ، وهذا هو الذي يسوغ وجود المخالفة بينهم ، فمثلاً :

كان أبو بكر وعمر وعبد الله بن عباس يرون قول الرجل لامرأته : أنت عليّ حرام ، إيلاء ويميناً ، وفي الوقت نفسه كان ابن مسعود يراه طلقة واحدة ، وكان زيد

٢٥٨

بن ثابت يراه طلاق ثلاث ، فلم يقل أحد انّ قول الخليفتين حجّة على الآخرين.

وذلك لأنّ كلّ واحد كان مجتهداً ومستنبطاً ، وليس رأي المستنبط حجّة على الآخرين من الصحابة ، فإذا كان هذا هو الحال بين الصحابة ، فليكن كذلك بعدهم ، فإنّ التكليف واحد ، والتشريع فارد ، فلا معنى أن يكون تكليف الصحابة مغايراً لتكليف التابعين لهم بإحسان ، أي لا يكون رأي الصحابي حجّة على مثله ، ولكنّه حجّة على التابعين.

اجتهاد الصحابي بين الردّ والقبول

كان اجتهاد الصحابة عند غيبتهم عن الرسول حجّة لهم لعدم تمكّنهم من الرجوع إليه ، فإذا ما رجعوا إليه ، إمّا يقرّهم على ما رأوا ، وإمّا أن يبيّن لهم خطّ الصواب ، فلم يكن اجتهاد الصحابي بما هو اجتهاد من مصادر التشريع ، وهو ظاهر لمن رجع إلى اجتهادات الصحابة وطرحها على الرسول ، وهو (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بين مصوّب لهم ومخطِّئ ، ولنذكر نموذجين :

١. كان علي (عليه‌السلام) باليمن أتاه ثلاثة نفر يختصمون في غلام ، فقال كلّ واحد منهم هو ابني ، فجعل علي (عليه‌السلام) يخبرهم واحداً واحداً أترضى أن يكون الولد لهذا؟ فأبوا ، فقال : «أنتم شركاء متشاكسون» فأقرع بينهم ، فجعل الولد للذي خرجت له القرعة ، وجعل عليه للرجلين الآخرين ثلثي الدية ، فبلغ ذلك النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فضحك حتى بدت نواجذه ، من قضاء علي (عليه‌السلام). روى ذلك الخطيب البغدادي في كتاب «الفقيه والمتفقّه». (١)

__________________

(١) إعلام الموقعين : ٢٠٣ / ١.

٢٥٩

وقد اعتبر علي (عليه‌السلام) في هذا الحكم أنّه بالنسبة للقارع بمنزلة الإتلاف للآخرين ، كمن أتلف رقيقاً بينه وبين شريكين له ، فإنّه يجب عليه ثلثا القيمة لشريكيه ، فإتلاف الولد الحر بحكم القرعة ، كإتلاف الرقيق الذي بينهم.

٢. روى مسلم ، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى ، عن أبيه أنّ رجلاً أتى عمر ، فقال : إنّي أجنبت فلم أجد ماء؟ قال : لا تصلّ ، فقال عمار : ما تذكر يا أمير المؤمنين إذ أنا وأنت في سرية ، فأجنبنا فلم نجد ماء ، فأمّا أنت فلم تصلّ ، وأمّا أنا فتمعكت في التراب وصليت.

فقال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : إنّما يكفيك أن تضرب بيديك الأرض ، ثمّ تنفخ ، ثمّ تمسح بهما وجهك وكفيك.

فقال عمر : اتّق الله يا عمار ، قال : إن شئت لم أُحدّث به. (١)

قوله سبحانه : (السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ). (٢)

وجه الدلالة أنّ الله تعالى أثنى على من اتّبعهم ، فإذا قالوا قولاً ، فاتّبعهم متَّبع عليه قبل أن يعرف صحّته فهو متبع لهم ، فيجب أن يكون محموداً على ذلك ، وأن يستحق الرضوان ، ولو كان اتّباعهم تقليداً محضاً كتقليد بعض المفتين لم يستحق من اتبعهم الرضوان إلّا أن يكون عامياً ، فأمّا العلماء والمجتهدون فلا يجوز

__________________

(١) (صحيح مسلم : ١٩٣ / ١ ، باب التيمّم.)

(٢) التوبة : ١٠٠.

٢٦٠