أصول الفقه المقارن فيما لا نصّ فيه

الشيخ جعفر السبحاني

أصول الفقه المقارن فيما لا نصّ فيه

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-155-6
الصفحات: ٣٩٤

يلاحظ عليه : لا شكّ انّ ترجمة القرآن بأيّ لغة كانت لا تواكب معاني القرآن العميقة ، وهذا أمر ليس بحاجة إلى برهنة ، ولكن الحيلولة بين القرآن وترجمته ، يوجب سدّ باب المعرفة للأُمم التي لا تجيد اللغة العربية ، فإذا أقر المترجم في مقدّمة ترجمته بما ذكرناه وانّ ترجمته اقتباس ممّا جاء في الذكر الحكيم فعندها سترتفع المفسدة ، فتكون الترجمة ذات مصلحة خالية عن المفسدة.

ثمّ إنّ النصّ القرآني محفوظ بين المسلمين فهو المرجع الأصيل دون الترجمة.

٣. تدخّل الدولة في أيّام الأزمات والحروب لتحديد الأسعار ، والأُجور والخدمات وتنظيم الحياة العامة على نحو معين لحماية الضعفاء من أرباب الجشع والطمع على أن لا يتجاوز حدّ الضرورة.

أقول : المراد من مصادر التشريع ، ما يقع في طريق استنباط الأحكام الشرعية التي أمر النبي بإبلاغها ، للناس ، وهي أحكام ثابتة عبر الأجيال والقرون.

وأمّا تحديد الأسعار ، فليس من الأحكام الشرعية بالمعنى المتقدّم ، بل هو حكم حكومي ، يعدّ من حقوق الحاكم واختياره ، فلو مسّت الحاجة إلى التسعير قام به ، وإلّا ترك الناس والأجناس بحالها ، فعدّ سدّ الذرائع من مصادر التشريع ، واستنتاج جواز تحديد الأسعار منه واقع في غير محلّه.

حصيلة البحث

إنّ سدّ الذرائع ، ليس دليلاً مستقلاً في عرض سائر الأدلّة الأربع ، فإنّ حرمة المقدّمة إمّا مستفادة من نفس النهي عن ذيها ، على قول بعض الأُصوليّين حيث يقول بدلالة دليل ذيها على حكمها دلالة التزامية ، فتدخل في السنّة حيث إنّ النهي عن ذيها ، الوارد في السنّة مثلاً يدلّ بإحدى الدلالات على تحريم المقدّمة.

٢٢١

أو مستفادة من العقل الحاكم بالملازمة بين التحريمين وانّه إذا حرم الشيء ، يجب أن يحرم ما يتوصّل به إليه فيكون جزءاً من أحكام العقل.

وعلى كلّ تقدير فليس سدّ الذرائع أصلاً برأسه.

بقيت هنا نكتتان :

الأُولى : ربّما يكون الشيء مقدّمة لحرام نفسي وفي الوقت نفسه يكون حراماً بالذات أيضاً ، فلا يصحّ الاستدلال بهذا القسم على حرمة المقدّمة ، نظير ما ورد أنّ رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لعن في الربا خمسة : آكله ومؤكله وشاهديه وكاتبه. (١)

أو ما ورد في بيع الخمر أنّ رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لعن في الخمر عشرة : غارسها ، وحارسها ، وعاصرها ، وشاربها ، وساقيها ، وحاملها ، والمحمولة إليه ، وبائعها ، ومشتريها ، وآكل ثمنها. فإنّ (٢)

اللعن دليل على الحرمة المستلزمة للعقاب.

وقد مرّ أنّه لا مانع من أن يكون شيء بنفسه حراماً وفي الوقت نفسه مقدّمة لحرام آخر.

هذا كما أنّ الحرمة الغيرية المقدّمية لا عقاب فيها كذلك الوجوب المقدّمي الغيري لا يترتّب على امتثاله ثواب.

نعم ربّما نستكشف أنّ الشيء مع كونه واجباً غيرياً واجب نفسي أيضاً ، وذلك لأجل ترتّب الثواب عليه ، كما هو الحال في المشي إلى الجهاد ، يقول سبحانه : (وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ). (٣)

__________________

(١) (وسائل الشيعة : ١٢ ، الباب ٤ من أبواب الربا ، الحديث ١ ، ٢ ، ٣.)

(٢) (وسائل الشيعة : ١٢ ، الباب ٥٥ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٤.)

(٣) التوبة : ١٢٠.

٢٢٢

الثانية : بما أنّ بين سدّ الذرائع وفتحها الّذي يأتي في الفصل التالي ، صلة وتقابل فالذي يصلح للاستدلال به على هذا المقام الآيتان التاليتان :

أ. (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ). (١)

ب. قوله سبحانه : (وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَ). (٢)

فإنّ السبّ والضرب بالرِّجل يقعان ذريعة للأمر المحظور وهو سب الله ، أو افتتان الغير بالنساء.

وأمّا قوله سبحانه : (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ). (٣)

فهي أنسب لباب فتح الذرائع ، فتدبّر.

__________________

(١) (الأنعام : ١٠٨.)

(٢) (النور : ٣١.)

(٣) الأعراف : ١٦٣.

٢٢٣

٥

فتح الذرائع

أو

إعمال الحيل الشرعية

وتحقيق المقام يقتضي البحث في أُمور :

الأوّل : قد عرفت أنّ القوم فتحوا بابين : أحدهما سدّ الذرائع ، وهو للمالكية والحنابلة ، والآخر فتح الذرائع وهو للأحناف ، وقد قلنا : إنّ مصب البحث في سدّ الذرائع هو حرمة المقدّمة المفضية إلى الحرام ، سواء أكان الفاعل قاصداً الغاية المحرّمة ، أم كان العمل مفضياً إليه وإن لم يكن الفاعل قاصداً. فمن أوجب سدّ الذرائع حرّم فتحها ، ومن أجاز فتح الذرائع فلم يوجب سدّ الذرائع.

وعلى ما ذكرنا فليس هناك بابان ، بل باب واحد ، وهو حرمة المقدّمة للحرام أو جوازها.

ولو حاولنا أن نردف سدّ الذرائع بباب آخر فالأولى أن نعبّر عنه بتعبير

٢٢٤

آخر له مساس واضح بما في ذلك الباب وهو : تجويز الحيل الشرعية للتخلّص عن ألم المآزق الشرعية. وهذا ما يعبّر عنه بالحيل الشرعية الّتي أفاض الفقهاء فيه في مختلف الأبواب. ونعم ما قال الأُستاذ المعاصر : ويجب العلماء على أصل «سدّ الذرائع» منعَ الحيل في الشريعة الإسلامية. (١)

الثاني : انّ إعمال الحيل الشرعية لم يزل موجوداً من عصر النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) أو بعد رحيله إلى زماننا هذا ، وصار ذلك سبباً لفتح باب خاص له يسمّى الحيل الشرعية من غير فرق بين السنّة والشيعة.

أمّا الشيعة فقد بحثوا فيه بعد الفراغ من كتاب الطلاق ، فهذا هو المحقّق الحلي صاحب الشرائع وشرّاحه (٢) أفاضوا الكلام في إعمال الحيل جوازاً أو منعاً أو تفصيلاً.

وأمّا السنّة فممّن كتب فيه بنفس طويل هو ابن القيم فقد خصّص الجزء الثالث وقسماً من الرابع من كتابه «إعلام الموقعين» لقاعدة الحيل وضرب لها أمثلة كثيرة تناهز ١١٦ مثالاً ، وقد استغرق بحثه من كتابه حول هذه القاعدة ٣٥١ صفحة.

فلو كانت المالكية والحنابلة من الدعاة إلى سدّ الذرائع فتكونان بالطبع من دعاة تحريم فتح الذرائع.

الثالث : إنّ الحنابلة من المتحمّسين لمنع هذه القاعدة ، ثمّ المالكية ، كما أنّ الحنفية من المتحمّسين لتجويزها ، ولمّا كان البخاري مخالفاً لأبي حنيفة مع أنّه

__________________

(١) (أُصول الفقه الإسلامي : ٩١١ / ٢.)

(٢) مسالك الأفهام : ٣٣٤ / ٣ وج ٢٠٣ / ٩ ؛ مجمع الفائدة : ٤٨٨ / ٨ ؛ الحدائق : ٣٧٥ / ٢٥ ؛ والجواهر : ٢٠١ / ٣٢ ، إلى غير ذلك من المصادر الفقهية.

٢٢٥

جعل عنوان الباب من كتابه ب «كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم)» ولكنّه جاء بعده بحديث لا صلة له بعنوان الباب فقال : حدّثني الحميدي إلى أن قال : سمعت عمر بن الخطاب يقول على المنبر : قال : سمعت رسول الله يقول : «إنّما الأعمال بالنيات ، ولكلّ امرئ ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه». (١)

وما أراد بذلك إلّا الإطاحة برأي أبي حنيفة حيث فتح الذرائع واكتفى بالظواهر مع كون النيّات والمقاصد على خلافه.

ولم يكتف البخاري بذلك بل أشار في ثنايا كتابه إلى نقد الحيل الشرعية ونسبه إلى بعض الناس مريداً به (أبا حنيفة).

قال : «باب» إذا غصب جارية فزعم أنّها ماتت ، فقُضي بقيمة الجارية الميتة ، ثمّ وجدها صاحبها فهي له ويردّ القيمة ، ولا تكون القيمة ثمناً فقال البخاري : وقال بعض الناس : الجارية للغاصب لأخذه القيمة. وفي هذا احتيال لمن اشتهى جارية رجل لا يبيعها فغصبها واعتلّ بأنّها ماتت حتّى يأخذ ربُّها قيمتها ، فيطيب للغاصب جارية غيره ، قال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : «أموالكم عليكم حرام ، ولكلّ غادر لواء يوم القيامة». (٢)

قال ابن القيّم : وقد فصل قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : «إنّما الأعمال بالنيّات ، ولامرئ ما نوى» الأمر في هذه الحيل وأنواعها ، فأخبر أنّ الأعمال تابعة لمقاصدها ونيّاتها ، وأنّه ليس للعبد من ظاهر قوله وعمله إلّا ما نواه وأبطنه ، لا ما أعلنه وأظهره ، وهذا نصّ في أنّ من نوى التحليل كان محللاً ، ومن نوى الربا بعقد التبايع كان مرابياً ، ومن نوى

__________________

(١) (صحيح البخاري : ٢ / ١.)

(٢) صحيح البخاري : ٣٣ / ٩ ، كتاب الإكراه.

٢٢٦

المكر والخداع كان ماكراً مخادعاً ، ويكفي هذا الحديث وحده في إبطال الحيل ، ولهذا صدر به حافظ الأُمّة محمد بن إسماعيل البخاري إبطال الحيل ، والنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) أبطل ظاهر هجرة مهاجر أُمّ قيس بما أبطنه ونواه من إرادة أُمّ قيس. (١)

الرابع : إنّ ابن القيّم الّذي أفاض الكلام في القاعدة حاول أن يبرّئ ساحة أئمّة المذاهب الأربعة عن تجويز الحيل الشرعية وقال في ذلك : إنّ هؤلاء المحتالين الّذين يُفتون بالحيل الّتي هي كفر أو حرام ليسوا مقتدين بمذهب من أحد الأئمّة ، وأنّ الأئمّة أعلم بالله ورسوله ودينه وأتقى له من أن يُفتوا بهذه الحيل ، وقد قال أبو داود في مسائله : سمعت أحمد وذكر أصحاب الحيل : يحتالون لنقض سنن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم)! وقال في رواية أبي الحارث الصانع : هذه الحيل الّتي وضعوها عمدوا إلى السنن واحتالوا لنقضها ، والشيء الّذي قيل لهم إنّه حرام احتالوا فيه حتّى أحلُّوه ، قالوا : الرهن لا يحل أن يستعمل ، ثمّ قالوا : يحتال له حتّى يستعمل ، فكيف يحل بحيلة ما حرّم الله ورسوله؟ وقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : «لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فأذابوها فباعوها وأكلوا ثمنها» أذابوها حتّى أزالوا عنها اسم الشحم. (٢)

يلاحظ عليه : أنّه كيف يقول إنّ القول بالحيل كفر أو حرام وليس بمقتد بمذهب أحد من الأئمّة ، وهذا هو الإمام أبو حنيفة قد أبدع هذه القاعدة أو روّجها ، فكيف ينزّهه عنها وقد عرفت كلام البخاري في الرد عليه؟!

الخامس : أنّ القول بالحيل الشرعية نابع عن أحد أمرين :

١. نفي المناطات والملاكات المقصودة من الأحكام الشرعية حتّى يكون الإنسان مكلّفاً بالألفاظ والصور لا إلى المعاني والمقاصد.

__________________

(١) (إعلام الموقعين : ١٧٦ / ٣.)

(٢) إعلام الموقعين : ١٩١ / ٣.

٢٢٧

٢. الاجتراء على إبطال الحكمة الشرعية بما يرضي العامّة ، وهذه نزعة إسرائيلية معروفة تشهد بها قصة أصحاب السبت في سور مختلفة هي : البقرة : ٦٥ ٦٦ ، النساء : ١٥٤ ١٥٥ ، الأعراف : ١٦٣ ، النحل : ١٢٤ وقد جاء لعنهم في سورة النساء : ٤٧ ، قال سبحانه : (أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ).

إنّ الأحكام الشرعية عند العدلية الذين يمثّلون الطبقة العليا من المسلمين تابعة لمصالح ومفاسد في متعلّقاتها ، فلا واجب إلّا لمصلحة في فعله ، ولا حرام إلّا لمفسدة في اقترافه ، وقد تحقّق عندهم إنّ للتشريع الإسلامي نظاماً لا تعتريه الفوضى وهذا الأصل ، وإن خالف فيه بعض الأُمّة ، غير أنّ نظرهم محجوج بكتاب الله وسنّة نبيّه ونصوص خلفائه (عليهم‌السلام) ترى أنّه سبحانه يعلّل حرمة الخمر والميسر بقوله : (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ). (١)

ويستدلّ على وجوب الصلاة بقوله سبحانه : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) (٢) ، إلى غير ذلك من الفرائض والمناهي التي صرّح أو أُشير إلى ملاكات تشريعهما في الذكر الحكيم.

وقد قال الإمام الطاهر علي بن موسى الرضا (عليه‌السلام) : «إنّ الله تبارك وتعالى لم يبح أكلاً ولا شرباً إلّا لما فيه المنفعة والصلاح ، ولم يحرّم إلّا ما فيه الضرر والتلف والفساد». (٣)

وقال (عليه‌السلام) في الدم : «إنّه يسيء الخلق ويورث القسوة للقلب ، وقلّة الرأفة

__________________

(١) (المائدة : ٩١.)

(٢) (العنكبوت : ٤٥.)

(٣) مستدرك الوسائل : ٧١ / ٣.

٢٢٨

والرحمة ، ولا يؤمن أن يقتل ولده ووالده». (١)

وهذا باقر الأُمّة وإمامها يقول : «إنّ مدمن الخمر كعابد وثن ، ويورثه الارتعاش ، ويهدم مروته ، ويحمله على التجسّر على المحارم من سفك الدماء وركوب الزنا». (٢)

وغيرها من الأقوال المتضافرة عن أئمّة الدين. (٣)

السادس : في نقل آراء الفريقين في المسألة ولنبدأ بكلمات أصحابنا فقد أفاضوا القول في الكتب الفقهية بمناسبات خاصّة ، تارة في باب الربا في البيع ، وأُخرى في آخر باب الطلاق ، وإليك بعض كلماتهم فيهما.

إنّ الربا في البيع يثبت ببيع أحد المتساويين جنساً مع الآخر زيادة عينية أو حكمية ، إذا كانا مقدّرين بالكيل والوزن ، كبيع قفيز حنطة بقفيزين منها ، أو قفيز حنطة مقبوض بقفيز مؤجّل منها. (٤)

ثمّ إنّه ربّما تمسّ الحاجة بمبادلة حنطة جيدة بحنطة رديئة ، والتبادل على نحو التساوي لا يرضى به البائع ، وبالزيادة يلزم الربا ، فما هو طريق الخروج من هذا المأزق؟

١. كلام المحقّق الحلّي

قد احتيل بوجوه ذكرها المحقّق في «الشرائع» حيث قال :

__________________

(١) (بحار الأنوار : ١٦٥ / ٦٢ ، الحديث ٣.)

(٢) (المصدر نفسه ، ص ١٦٤ ، الحديث ٢.)

(٣) راجع علل الشرائع للشيخ الصدوق فقد أورد فيه ما أثر عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) والأئمّة (عليهم‌السلام) في بيان علل التشريع وفلسفته.

(٤) المثال الأوّل للزيادة العينية ، والثاني للزيادة الحكمية.

٢٢٩

١. أن يبيع أحد المتبايعين سلعة من صاحبه بجنس غيرها ثم يشتري الأُخرى بالثمن ويسقط اعتبار المساواة.

٢. لو وهبه سلعته ثمّ وهبه الآخر.

٣. لو أقرضه صاحبه ثمّ أقرضه هو تبارءا.

٤. لو تبايعا ووهبه الزيادة.

كلّ ذلك من غير شرط. (١)

وقال أيضاً في كتاب الطلاق : يجوز التوصّل بالحيل المباحة دون المحرّمة في إسقاط ما لو لا الحيلة لثبت ، ولو توصّل بالمحرّمة أثم وتمّت الحيلة.

١. فلو أنّ امرأة حملت ولدَها على الزنا بامرأة لتمنع أباه من العقد عليها ، أمّا لو توصّل بالمحلّل كما لو سبق الولد إلى العقد عليها في صورة الفرض لم يأثم.

٢. ولو ادّعي عليه دين قد برأ منه بإسقاط أو تسليم فخشي من دعوى الإسقاط أن تنقلب اليمين إلى المدّعي لعدم البيّنة ، فأنكر الاستدانة وحلف ، جاز بشرط أن يورّي ما يخرجه عن الكذب. كذا لو خشي الحبسَ بدين يدّعى عليه فأنكر. (٢)

ثمّ إنّ المحقّق قد ذكر بعد هذين المثالين أمثلة خارجة عن الموضوع ، كالإكراه على اليمين ، والإجبار على الطلاق ، فذكر أنّه يورّي خروجاً عن المأزق ، مع أنّه ليس للإكراه أثر في الطلاق واليمين فلا حاجة إلى التورية.

٢. كلام العلّامة الحلّي

قد عرفت أنّ استيهاب الزيادة أحد الحيل الشرعية ، وقد جوّزه العلّامة في

__________________

(١) (الشرائع : ٤٧ / ٢ ، ط دار الأضواء.)

(٢) الشرائع : ٣١ / ٣.

٢٣٠

«إرشاد الأذهان» وقال : وأن يبيع الناقص بمساويه من الزائد ويستوهب الزيادة. (١)

٣. كلام الشهيد الثاني

وقال الشهيد الثاني في التوصّل بالحيل : هذا باب واسع في جميع أبواب الفقه ، والغرض منه التوصّل إلى تحصيل أسباب يترتّب عليها أحكام شرعية ، وتلك الأسباب قد تكون محلّلة وقد تكون محرّمة ، والغرض تعليم الفقيه الأسباب المباحة ، وأمّا المحرّمة فيذكرونها بالعرض ليعلم حكمها على تقدير وقوعها. فمن ذلك الحيل على إسقاط الربا والشفعة وهي مذكورة في بابهما. وكذلك الحيل على التخلّص من الرضاع المحرِّم ، ونحو ذلك. (٢)

٤. نظرية المحقّق الأردبيلي

منع المحقّق الأردبيلي من إعمال الحيل الشرعية وقال : وينبغي الاجتناب عن الحيل مهما أمكن ، وإذا اضطر يستعمل ما ينجيه عند الله ولا ينظر إلى الحيل وصورة جوازها ظاهراً لما عرفت من علّة تحريم الربا ، فكأنّه إلى ذلك أشار في «التذكرة» بقوله : لو دعت الضرورة إلى بيع الربويات مستفضلاً مع اتحاد الجنس الخ وذكر الحيل منها ما تقدّم. (٣) أي الاستيهاب.

٥. كلام المحدّث البحراني

قال المحدّث البحراني بعد ما نقل كلام المحقّق الأردبيلي : إنّ الفقهاء قد

__________________

(١) (إرشاد الأذهان : ٣٧٩ / ١.)

(٢) (مسالك الأفهام : ٢٠٣ / ٩ ٢٠٤.)

(٣) مجمع الفائدة والبرهان : ٤٨٨ / ٨.

٢٣١

ذكروا جملة من الحيل الموجبة للخروج من الربا كما قدّمنا ذكره في كتاب البيع ، ومنها ما ذكر هنا ، وهو أن يبيعه المساوي ويهب له الزائد. وظاهر المحقّق المذكور التوقّف في ذلك من حيث عدم القصد إلى الهبة ، وإنّما الغرض منها التوصّل إلى تحليل ما حرّم الله تعالى بالحيل إلّا ما ورد به النصّ. (١)

وعلى كلّ تقدير فالذي يمنع فقهاء الشيعة من التحيّل حتّى بأسباب محلّلة الأمران التاليان :

الأوّل : فقدان القصد ، وإنّما القصد إلى تحليل الربا فقد اعتمد المحقّق الأردبيلي في مبادلة الزائد بالناقص مع استيهاب الزائد على عدم قصد الهبة جداً حيث قال : وهو ظاهر لو حصل القصد في البيع والهبة. (٢)

وهذا الإشكال لا يختصّ به ، وقد أشار إليه قبله الشهيد الثاني ، وأجاب عنه بقوله : ولا يقدح في ذلك كون هذه الأُمور غير مقصودة بالذات ، والعقود تابعة للقصود ، لأنّ قصد التخلّص من الربا إنّما يتم مع القصد إلى بيع صحيح ، أو قرض ، أو غيرهما من الأنواع المذكورة ، وذلك كاف في القصد ، إذ لا يشترط في القصد إلى عقد ، قصدُ جميع الغايات المترتبة عليه ، بل يكفي قصد غاية صحيحة من غاياته ، فإنّ من أراد شراء دار مثلاً ليؤاجرها ويكتسب بها فإنّ ذلك كاف في الصحّة ، وإن كان لشراء الدار غايات أُخر أقوى من هذه وأظهر في نظر العقلاء. وكذا القول في غير ذلك من أفراد العقود. وقد ورد في أخبار كثيرة ما يدلّ على جواز الحيلة على نحو ذلك. (٣)

وقد سلك منهج الشهيد الثاني ، المحدّث البحراني فقال : فما ذكره المحقّق

__________________

(١) (الحدائق الناضرة : ٣٧٧ / ٢٥.)

(٢) (مجمع الفائدة والبرهان : ٤٨٨ / ٨.)

(٣) مسالك الأفهام : ٣٣٢ / ٣.

٢٣٢

الأردبيلي من أنّ القصد لم يكن للهبة من حيث هي هي ، وإنّما القصد إلى تحليل الربا ؛ يمكن خدشه بأنّه لا يشترط قصد جميع الغايات المترتّبة على ذلك العقد ، بل يكفي قصد غاية صحيحة من غاياته. ثمّ نقل كلام صاحب «المسالك» إلى آخره. (١)

الثاني : أنّ الحيل نقض للغرض الّذي شُرّع لأجله الحكم ، وعلى ذلك يعتمد صاحب الجواهر حيث قال : ومن الحيل ما يتعاطاه بعض الناس في هذه الأزمنة من التخلّص ممّا في ذمّته من الخمس والزكاة ببيع شيء ذي قيمة ردية ، بألف دينار مثلاً من فقير برضاه ليحتسب عليه ما في ذمّته عن نفسه ، ولو بأن يدفع له شيئاً فشيئاً ، ممّا هو مناف للمعلوم من الشارع من كون المراد بمشروعية ذلك نظم العباد وسياسة الناس في العاجل والآجل بكفّ حاجة الفقراء من مال الأغنياء ، بل فيه نقض للغرض الّذي شُرّع له الحقوق ، وكلّ شيء تضمّن نقض غرض أصل مشروعية الحكم يحكم ببطلانه ، كما أومأ إلى ذلك غير واحد من الأساطين ، ولا ينافي ذلك عدم اعتبار اطّراد الحكمة ، ضرورة كون المراد هنا ما عاد على نقض أصل المشروعية ، كما هو واضح.

ولعلّ ذلك هو الوجه في بطلان الاحتيال المذكور لا ما قيل من عدم القصد حقيقة للبيع والشراء بالثمن المزبور ضرورة إمكان تحقّق القصد ولو لإرادة ترتّب الحكم وتحصيل الغرض ، إذ لا يجب تحقيق جميع فوائد العقد. (٢)

وتحصّل من ذلك أمران :

١. أنّ جماعة منهم يجوّزون التوصّل بالحيلة إذا كان السبب حلالاً دون ما إذا كان حراماً.

__________________

(١) (الحدائق الناضرة : ٣٧٧ / ٢٥.)

(٢) جواهر الكلام : ٢٠٢ / ٣٢.

٢٣٣

٢. أنّ بعضهم كالأردبيلي وغيره يجتنبون عن إعمال الحيل ، إمّا لأجل فقدان القصد إلى السبب الحلال ، حيث إنّ القصد متوجّه إلى الأمر الحرام ، أو لكون التوصّل إلى الحيل يناقض غرض الشارع في تشريع الأحكام والحقوق ، وهذا أشبه بمن حرّم شيئاً ثمّ جعل طريقاً لنقضه.

ونختم الكلام بما جاء في تفسير الإمام العسكري (عليه‌السلام) عند قوله سبحانه في سورة البقرة (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) (١) ، فنقل فيه عن علي بن الحسين (عليه‌السلام) : كان هؤلاء قوماً يسكنون على شاطئ بحر ، فنهاهم الله وأنبياؤه عن اصطياد السمك في يوم السبت ، فتوصّلوا إلى حيلة ليحلّوا بها لأنفسهم ما حرم الله ، فخدّوا أخاديد وعملوا طرقاً تؤدي إلى حياض يتهيّأ للحيتان الدخول فيها من تلك الطرق ، ولا يتهيّأ لها الخروج إذا همّت بالرجوع ، فجاءت الحيتان يوم السبت جارية على أمان الله لها ، فدخلت الأخاديد وحصّلت في الحياض والغدران ، فلمّا كانت عشيّة اليوم همّت بالرجوع منها إلى اللجج لتأمن من صائدها ، فرامت الرجوع فلم تقدر ، وبقيت ليلتها في مكان يتهيّأ أخذها بلا اصطياد لاسترسالها فيه ، وعجزها عن الامتناع لمنع المكان لها ، فكانوا يأخذون يوم الأحد ويقولون : ما اصطدنا يوم السبت وإنّما في الأحد ، وكذب أعداء الله ، بل كانوا آخذين لها بأخاديدهم الّتي عملوها يوم السبت حتّى كثر من ذلك مالهم». (٢)

هذا بعض ما وقفنا عليه من الكلمات ، وإليك بعض ما ورد عن فقهاء أهل السنّة.

__________________

(١) (البقرة : ٦٥.)

(٢) تفسير الإمام العسكري : ١٣٦.

٢٣٤

كلمات فقهاء السنّة

إنّ لفقهاء السنّة في المقام نظريات متقاربة ، نذكرها وفقاً لتاريخ وفياتهم.

ولنقدّم ما أخرجه البخاري (المتوفّى ٢٥٦ ه‍) من الأحاديث وما علّق من النتائج وكلّها ردود للإمام أبي حنيفة ولأجل ذلك نرى أنّ الأحناف غير مرتاحين من كلمات البخاري في المقام.

أخرج البخاري في كتاب الحيل من صحيحه أحاديث دالّة على إبطال الحيل مبوبة على أبواب من تصرفات المكلّفين كترتيب كتب الفقه ، ونحن نختار منها ما يلي :

١. أخرج عن ثمامة بن عبد الله بن أنس ، أنّ أنساً حدثه : أنّ أبا بكر كتب له فريضة الصدقة الّتي فرض رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، ولا يجمع بين متفرّق ، ولا يفرّق بين مجتمع خشية الصدقة. (١) فانّ تفريق المجتمع ربما ينتهي إلى طروء النقص في النصاب.

٢. نقل عن بعض الناس (وأراد أبا حنيفة) في عشرين ومائة بعير حقّتان ، فإن أهلكها متعمداً أو وهبها أو احتال فيها فراراً من الزكاة فلا شيء عليه. (٢)

٣. قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : «إذا ما ربُّ النعَم لم يعط حقها تُسلّط عليه يوم القيامة تخبط وجهه بأخفافها». وقال بعض الناس في رجل له إبل فخاف أن تجب عليه الصدقة فباعها بإبل مثلها أو بغنم أو ببقر أو بدراهم فراراً من الصدقة احتيالاً : فلا بأس عليه ، وهو يقول : إن زكّى إبله قبل أن يحول الحول بيوم أو بسنة

__________________

(١) (صحيح البخاري : كتاب الحيل الحديث برقم ٦٩٥٥.)

(٢) المصدر السابق : برقم ٦٩٥٦.

٢٣٥

جازت عنه. (١)

٤. استفتى سعد بن عبادة الأنصاري رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في نذر كان على أُمّه توفّيت قبل أن تقضيه ، فقال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : «اقضه عنها». وقال بعض الناس : إذا بلغت الإبل عشرين ففيها أربع شياه ، فإن وهبها قبل الحول ، أو باعها فراراً واحتيالاً لإسقاط الزكاة فلا شيء عليه ، وكذلك إن أتلفها فمات فلا شيء في ماله. (٢)

٥. إنّ رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) نهى عن الشغار ، قلت لنافع : ما الشغار؟ قال : ينكح ابنة الرجل ويُنكحه ابنته بغير صداق ، وينكح أُخت الرجل وينكحه أُخته بغير صداق. وقال بعض الناس : إن احتال حتّى تزوج على الشغار فهو جائز ، والشرط باطل ، وقال في المتعة : النكاح فاسد والشرط باطل. وقال بعضهم : المتعة والشغار جائز والشرط باطل. (٣)

٦. إنّ رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قال : «لا يمنع فضل الماء ليمنع به فضل الكلَا». (٤)

وصلته بالمقام واضحة ، لأنّ صاحب البئر لأجل إبعاد الرعاة عن الكلأ يمنع فضل الماء لئلّا يأتي الرعاة بأغنامهم للرعي أطراف البئر.

إلى آخر ما ذكره من الأمثلة.

إنّ الحنابلة من أشدّ المنكرين لفتح الذرائع وتجويز الحيل ، وإليك بعض كلماتهم :

١. قال ابن تيمية (المتوفّى ٧٢٨ ه‍) : إنّ الشارع سدّ الطريق إلى ذلك

__________________

(١) (المصدر السابق : برقم ٦٩٥٨.)

(٢) (المصدر السابق : برقم ٦٩٥٩.)

(٣) (المصدر السابق : ٦٩٦٠.)

(٤) المصدر السابق : ٦٩٦٢.

٢٣٦

المحرّم بكلّ طريق ، والمحتال يريد أن يتوسّل إليه. ولهذا لما اعتبر الشارع في البيع والصرف والنكاح وغيرها شروطاً سدّ ببعضها طريق الزنا والربا ، وكمل بها مقصود العقود ، لم يمكن لمحتال الخروج منها في الظاهر ، فإذا أراد الاحتيال ببعض هذه العقود على ما منع الشارع منه ، أتى بها مع حيلة أُخرى توصله بزعمه إلى نفس ذلك الشيء الّذي سدّ الشارع ذريعته ، فلا يبقى لتلك الشروط الّتي يأتي بها فائدة ولا حقيقة ، بل يبقى بمنزلة اللعب والعبث. (١)

٢. ولخّصه تلميذه ابن القيّم (المتوفّى ٧٥١ ه‍) بقوله : وتجويزُ الحِيَل يُناقض سدّ الذرائع مناقضة ظاهرة ؛ فإنّ الشارع يَسُدُّ الطريق إلى المفاسد بكلّ ممكن ، والمحتال يفتح الطريق إليها بحيلة ، فأين مَن يمنع من الجائز خشية الوقوع في المحرّم ، إلى من يعمل الحيلة في التوصّل إليه؟ (٢)

٣. وقال أبو إسحاق الشاطبي (المتوفّى ٧٩٠ ه‍) : إنّ الله أوجب أشياء ، وحرّم أشياء ، إمّا مطلقاً ، من غير قيد ولا ترتيب على سبب ، كما أوجب الصلاة والصيام ... وكما حرّم الزنا والربا ... وأوجب أيضاً أشياء مترتبة على أسباب ، وحرم آخر كذلك كإيجاب الزكاة والكفّارات ... وكتحريم المطلقة والانتفاع بالمغصوب أو المسروق وما أشبه ذلك ، فإذا تسبّب المكلّف في إسقاط ذلك الوجوب عن نفسه ، أو في إباحة ذلك المحرّم عليه ، بوجه من وجوه التسبب ، حتّى يصير الواجب غير واجب في الظاهر ، أو المحرّم حلالاً في الظاهر أيضاً ... فعند التسبب يسمّى حيلة وتحيلاً. (٣)

ولا يخفى ما في كلامه من الإطناب من تقسيم الواجب والحرام ، إلى المترتّب

__________________

(١) (فتاوى ابن تيمية : ١٤٦ / ٢.)

(٢) (إعلام الموقعين لابن القيّم : ١٧١ / ٣.)

(٣) الموافقات : ٢٦٥ / ٢ ، المسألة العاشرة من القسم الثاني ، ط مصر ؛ وفي طبعة أُخرى : ٦٥٥ / ٢ ٦٥٦.

٢٣٧

على سبب وغير المترتّب مع أنّ هذا التقسيم لا مدخلية له في مقصوده ، وحاصله : إذا انتهى التحيل إلى إسقاط الواجب أو تحلّل الحرام مطلقاً فهو تحيّل غير جائز.

وسيوافيك أنّه بإطلاقه غير صحيح ، كما سيوافيك عند بيان المختار ، نعم ما ذكره في المسألة الثامنة عشرة أفضل ممّا تقدّم قال :

لما ثبت أنّ الأحكام شُرِّعت لمصالح العباد ، كانت الأعمال معتبرة بذلك ، لأنّ مقصود الشارع فيها ، فإذا كان العمل في ظاهره وباطنه (أي منفعته وحكمته) على أصل المشروعية فلا إشكال.

وإن كان الظاهر موافقاً والمصلحة مخالفة فالفعل غير صحيح ، لأنّ الأعمال الشرعية ليست مقصودة لأنفسها وإنّما قصد بها أُمور هي معانيها ، وهي المصالح الّتي شرّعت لأجلها ، فالذي عمل من ذلك على غير هذا الوضع فليس على وضع المشروعات. (١)

وقال أيضاً في موضع آخر : قصد الشارع من المكلّف أن يكون قصده في العمل موافقاً لقصد الشارع في التشريع ، والدليل على ذلك ظاهر من وضع الشريعة ، إذ قد مرّ أنّها موضوعة لمصالح العباد. (٢)

وقال في موضع ثالث : إنّ المشروعات إنّما وضعت لتحصيل المصالح ودرء المفاسد ، فإذا خولفت لم يكن في تلك الأفعال الّتي خولف بها جلب مصلحة ولا درء مفسدة. (٣)

وحاصل النظرية : انّه إذا كان فعل المكلّف مفوّتاً مصلحة الشارع أو غير

__________________

(١) (الموافقات : ٢٦٨ / ٢.)

(٢) (الموافقات : ٢٣٠ / ٢ ، ٦١٣.)

(٣) نفس المصدر : ٢٣١ / ٢ ، ٦١٣.

٢٣٨

دارء للمفسدة التي لأجلها حرّم الفعل ، يكون التحيّل حراماً.

٤. قسّم الشيخ محمد طاهر بن عاشور (المتوفّى ١٣٩٣ ه‍) في كتابه «مقاصد الشريعة الإسلامية» ، التحيّل إلى خمسة أنواع استقراءً لا بالحصر العقلي ، وإليك بيانها على وجه الإيجاز :

النوع الأوّل : تحيّل ، يفيت المقصد الشرعي كلّه ولا يعوضه بمقصد شرعي آخر. وذلك بأن يتحيّل بالعمل لإيجاد مانع من ترتّب أمر شرعي ، وهذا النوع لا ينبغي الشكّ في ذمّه وبطلانه.

النوع الثاني : تحيّل على تعطيل أمر مشروع على وجه ينقل إلى أمر مشروع آخر.

وهذا نظير التجارة بالمال المجتمع خشية أن تُنقصه الزكاة ، فإنّه إذا استعمل المال في المأذون فيه فحصل مسبب ذلك وهو بذل المال في شراء السلع ، وترتّب عليه نقصانه عن النصاب فلا يزكّى زكاة النقدين. ولكن انتقلت مصلحة ذلك المال من نفع الفقير إلى منافع عامة تنشأ عن تحريك المال ، وانتقلت زكاتُه إلى زكاة التجارة.

النوع الثالث : تحيّل على تعطيل أمر مشروع على وجه يسلك به أمراً مشروعاً هو أخف عليه من المنتقل منه ، مثل من أنشأ سفراً في رمضان لشدة الصيام عليه في الحر منتقلاً منه إلى قضائه في وقت أرفق به ، وهذا مقام الترخُّص.

النوع الرابع : تحيّل في أعمال ليست مشتملة على معان عظيمة مقصودة للشارع ، وفي التحيّل فيها تحقيق لمماثل مقصد الشارع ، مثل التحيّل في الأيمان التي لا يتعلّق بها حقّ الغير كمن حلف أن لا يدخل الدار فإنّ البرّ في يمينه هو الحكم الشرعي.

٢٣٩

والمقصد المشتمل عليه هو تعظيم اسم الله تعالى الّذي جعله شاهداً عليه ليعمل ذلك العمل. فإذا ثقل عليه البر فتحيل للتفصِّي من يمينه بوجه يشبه البر ، فقد حصل مقصود الشارع من تهيّب اسم الله تعالى.

ثمّ مثّل لذلك بما ذكره القاضي أبو بكر ابن العربي في كتاب العواصم ، قال : «وكنت أُشاهد الإمام أبو بكر فخر الإسلام الشاشي في مجلسه بباب العامّة من دار الخلافة يأتيه السائل فيقول له : حلفت أن لا ألبس هذا الثوب ، فيأخذ من هدبته مقدار الإصبع ثمّ يقول له : البسه لا حنث عليك».

النوع الخامس : تحيّل لا ينافي مقصد الشارع أو هو يعين على تحصيل مقصده ولكن فيه إضاعة حقّ لآخر أو مفسدة أُخرى. مثل التحيّل على تطويل عدة المطلقة حين كان الطلاق لا نهاية له في صدر الإسلام.

فقد روى مالك في «الموطأ» من طريقين أنّ الرجل كان إذا طلق امرأته له أن يرتجعها قبل انقضاء عدتها ولو طلقها ألف مرّة ، فعمد رجل إلى امرأته وطلقها حتّى إذا شارفت انقضاء عدّتها راجعها ثمّ طلقها فأنزل الله قوله تعالى : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) (١). (٢)

وحاصله : أنّ المحرّم هو النوع الأوّل والأخير ، فالأوّل لا يعوّض مقصد الشارع بمقصد شرعي آخر ، وأمّا الخامس ففيه إضاعة حقّ لآخر ، أو مفسدة ، وأمّا النوع الثاني أي ما يعطل أمراً مشروعاً ولكن ينقله إلى مشروع آخر ، أو ينتقل من مشروع إلى مشروع أخفّ ، أو ما لا يشمل الفعل معنى عظيماً سوى تعظيم اسم الله وكان الغرض حاصلاً في صورة التحيّل أيضاً والجميع جائز.

__________________

(١) (البقرة : ٢٢٩.)

(٢) مقاصد الشريعة الإسلامية : ٣٥٦ ٣٦٠.

٢٤٠