أصول الفقه المقارن فيما لا نصّ فيه

الشيخ جعفر السبحاني

أصول الفقه المقارن فيما لا نصّ فيه

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-155-6
الصفحات: ٣٩٤

الأمثلة ، كإنشاء الدواوين أو سكّ النقود ، وتكثير الجنود وغيرها فالمنصوص ، هو حفظ بيضة الإسلام ، للحيلولة دون غلبة الكفار. قال سبحانه : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ). (١) وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : «الإسلام يعلو ولا يعلى عليه». (٢)

فعند ذلك فالحكم المنشأ على وفق المصلحة ليس حكماً شرعياً أوّلياً ، ولا حكماً شرعياً ثانوياً وإنّما هو حكم ولائي نابع من ولاية الحاكم على إجراء القانون المنصوص عليه على صعيد الحياة وفقاً للمصالح ، ما لم يخالف تشريع الكتاب والسنّة فقد سُمِح للحاكم وضع هذه الضوابط والمقررات ضمن «إطار خاص» لأجل تطبيق الأحكام الكلية على صعيد الحياة فهي لازمة الاتّباع ما دامت تضمن مصلحة الأُمة فيدوم ما دام الحكم مقروناً بالمصلحة ، فإذا فقد الملاك ينتفي.

والأولى تسمية هذا النوع من الأحكام بالمقررات ، لتمييزها عن الأحكام الشرعية المجعولة الصادرة من ناحية الشرع.

فلو أُريد كون الاستصلاح مبدأ لهذا النوع من الحكم ، فهو صحيح لكن يبدو انّه غير مراد للقائلين بكونه من مبادئ التشريع ومصادره.

الثالثة : تشريع الحكم حسب المصالح والمفاسد العامة الذي اتّفق عليه العقلاء ، فلو افترضنا انّ موضوعاً مستجدّاً لم يكن له نظير في عصر النبي والأئمّة المعصومين ، لكن وجد فيه مصلحة عامة للمسلمين أو مفسدة لهم ، فالعقل يستقل بارتكاب الأُولى والاجتناب عن الثانية ، فالعقل عندئذ لا يكون مشرِّعاً بل كاشفاً عن حكم شرعي دون أن يكون للمجتهد حقّ التشريع. وذلك كتعاطي المخدّرات فقد اتّفق العقلاء على ضررها وإفسادها الجسم والروح ، فيكون العقل

__________________

(١) (الأنفال : ٦٠.)

(٢) الوسائل : الجزء ١٧ ، الباب ١ من أبواب موانع الإرث ، الحديث ١١.

٢٠١

كاشفاً عن حكم شرعي ، للملازمة بين الحكمين ، وعندئذ تكون قاعدة الاستصلاح من شعب حجّية العقل.

ومثله التلقيح الوقائي عند ظهور الأمراض السارية كالجدري ، والحصبة وغيرهما فقد أصبح من الأُمور التي لا يتردد في صلاحيتها ذوو الاختصاصات.

يقول الأُستاذ عبد الوهاب خلاف : إنّ الأحكام الشرعية إنّما شرعت لتحقيق مصالح العباد وانّ هذه المصالح التي بنيت عليها الأحكام الشرعية ، أمر معقول ، أي ممّا يدرك العقل حسنها كما أنّه يدرك قبحها فيصح ما نهى عنه ، فإذا حدثت واقعة لا نصّ فيها ، وبنى المجتهد حكمه فيها على ما أدركه عقله من نفع أو ضرر ، كان حكمه على أساس صحيح معتبر من الشارع ولذلك لم يقع باب الاستصلاح إلّا في المعاملات ونحوها ممّا تعقل معاني أحكامها. (١)

أقول : ما ذكره لا غبار عليه لو لا ما في قوله : «وبنى المجتهد حكمه فيها على ما أدركه عقله من نفع أو ضرر» حيث اتّخذ الإدراك الفردي ملاكاً للتشريع وهو غير صحيح ، لأنّ كون الفعل ذا مصلحة أو مفسدة عند الفقيه ، لا يكشف عن كونه كذلك في الواقع ، لقصور العقل الفردي عن الإحاطة بالمصالح والمفاسد الواقعية ، فربما يدرك المصلحة والمفسدة ويغفل عن موانعهما ، فإدراك فرد واحد أو فردين ، أو ثلاثة وجود المصلحة أو المفسدة في الفعل لا يكون ملاكاً للتشريع على وفقه.

وهذا بخلاف ما أطبق عليه العقلاء جيلاً بعد جيل على اشتمال الفعل على المصلحة الملزمة أو المفسدة ، فيؤخذ بما يحكم فيه العقل.

الرابعة : إذا استدعى العمل بالتشريع الإسلامي حرجاً عاماً أو مشقة

__________________

(١) مصادر التشريع الإسلامي : ٧٥.

٢٠٢

للمجتمع الإسلامي لأجل ظروف وملابسات مقطعية أو كان هناك تزاحم بين الحكمين الواقعيين ، فللحاكم الإسلامي رفع الحرج بتقديم أحكام العناوين الثانوية على أحكام العناوين الأوّلية ما دام الحرج باقياً ، أو تقديم الأهم من الحكمين على المهم ، وهذا النوع من الأحكام ليست أوّلية ، كوجوب الصلاة ولا ثانوية كالتيمم عند فقدان الماء ، بل صلاحيات خوّلها الشارع إلى الحاكم الشرعي لما يتمتع به من ولاية على الناس. فهذا النوع من التصرّف لغاية تطبيق الأحكام على صعيد الحياة.

المقام الثالث : كون المصلحة موضوعاً للأحكام الولائية

إنّ للرسول الأعظم مناصب ومقامات ثلاثة ، لكلّ مقام حكمه ومقتضاه :

١. انّه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) رسول ، يوحى إليه في مجالي العقيدة والشريعة والأخلاق وغيرها فهو مبين الفرائض والمناهي والمندوبات والمكروهات والمباحات دون أي تصرف في تشريعاته سبحانه فهو حامل رسالات الله ومبلغها إلى الأُمة بقوله وفعله وتقريره وهذه سمة لكلّ مبعوث من الله سبحانه كما يقول : (ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ) (١)

٢. انّه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قاض ، وحاسم للخصومات وقاطع للمرافعات ، يُجسد بقضائه قضاء داود وسليمان وغيرهما قال سبحانه : (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) (٢) وفي الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : «انّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان». (٣)

__________________

(١) (المائدة : ٩٩.)

(٢) (ص : ٢٦.)

(٣) الوسائل : ١٨ ، الباب ٢ من أبواب كيفية القضاء ، الحديث ١.

٢٠٣

وقال أيضاً : «البينة على من ادّعى ، واليمين على من ادّعي عليه». (١)

إلى غير ذلك من الروايات الحاكية عن قضائه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وقضاء من نصبه لذلك المنصب.

٣. انّه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) سائس وحاكم وإمام يدير دفة الحكم والسياسة ويقود الأُمّة بسياسته الحكيمة إلى ما هو الأصلح ، فيؤمّن الطرق ، ويجلب الأرزاق ، ويحفظ النواميس ، ويسدّ الثغور ، إلى غير ذلك مما تقتضيه إدارة المجتمع ممّا لا محيص عنه ، وقد أشار إلى شيء من وظائف الحاكم بقوله : (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ). (٢)

والنبي الخاتم قد قام بإنجاز كلّ ما تقتضيه المناصب الثلاثة التي منحت له ، فبما أنّه كان رسولاً ، بيّن الشرائع الإلهية في العبادات والمعاملات والإيقاعات والسياسات.

كما أنّه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) حكم بالأيمان والبيّنات بما أنزل الله تبعاً لقوله سبحانه : (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ). (٣) كما أنّه أسّس حكومة إسلامية وأرسى قواعدها طيلة إقامته في المدينة ، فجهّز الجيوش وبعث البعوث العسكرية إلى مختلف المواطن وراسل الملوك والأُمراء يدعوهم إلى الانضواء تحت راية الإسلام ، إلى غير ذلك من مئات الأعمال التي قام بها النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) والتي لا يسع المقام لذكر معشارها.

ثمّ إنّ المنصب الأوّل بمعنى كونه طرف الوحي ، مختص به (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، وأمّا

__________________

(١) (الوسائل : ١٨ ، الباب ٣ من أبواب كيفية الحكم ، الحديث ١.)

(٢) (الحج : ٤١.)

(٣) المائدة : ٤٩.

٢٠٤

المنصبان الأخيران ، فهو للإمام بعده أيضاً ، فهو بما أنّه خليفة النبي في منصب القضاء يفصل الخصومات ، وبما أنّه خليفته في القيادة الحكمية في أُمور الدين والدنيا يسعى في أن يوجّه الأُمة الإسلامية إلى أرقى المستويات في عامّة الجهات ، ويجب على الأُمّة إطاعته فيما يأمر وينهى.

يقول شيخ الأُمة المحقّق النائيني في أثره الخالدة «تنبيه الأُمّة وتنزيه الملّة» : فوّض إلى الحاكم الإسلامي وضع ما يراه لازماً من المقررات لمصلحة المجتمع وسدّ حاجاته في إطار القوانين الإسلامية. (١)

وعلى ضوء ما ذكرنا يتّضح موقف الاستصلاح في مجال التشريع للحكم الحكومي ، فهو أساس لأحكام حكوميّة ، في إدارة المجتمع ، وهو كلام صحيح ، قطع به الإمامية خصوصاً كلّ من يقول بولاية الفقيه.

مثلاً إذا رأى العالم أنّ المصلحة تقتضي فتح طريق ، أو شارع لصيانة نفوس المسلمين ، فقد فوّض إليه ذلك أن ينفذ ذلك في ضوء العدل والإنصاف كما له أن يجبر أصحاب الأراضي التي يمرّ بها الطريق ، على البيع ، بثمن رائج وبقيمة عادلة.

إذا اقتضت المصالح العامة فرض ضريبة على صنف خاص من الشعب ، أو على نوع من الأمتعة الوطنية والمستوردة من الخارج ، فله ذلك.

ووجه ذلك ، أنّ طبيعة الحكومة لا تنفك عن الأمر والنهي ، وإلّا لفاتت المصالح الكبيرة ، ووقعت الأُمة في أغوار المفاسد في مثل هذه الموارد ، فيكون الاستصلاح مبدأ للأمر والنهي والإيجاب والتحريم يدور على ملاك المصالح والمفاسد ، إلى حد لو انتفى الملاك لانتفى الحكم بانتفاء موضوعه.

__________________

(١) تنبيه الأُمة وتنزيه الملّة : ٩٧.

٢٠٥

٤

سدّ الذرائع

إنّ سدّ الذرائع من الأُصول المعتبرة لدى المالكية والحنابلة دون غيرهما.

ولأجل إيضاح الحال نبحث في أُمور :

١. سدّ الذرائع لغة واصطلاحاً

«الذريعة» في اللغة ، بمعنى الوسيلة التي يتوصّل بها إلى الشيء ، سواء أكان الشيء محبوباً أم مبغوضاً ، أم أمراً مباحاً غير محبوب ولا مبغوض. و «السدّ» يقابل الفتح ، والظاهر عدم الفرق بين الذريعة والمقدّمة ، فالمراد ما يتوقّف عليه وجود الشيء سواء أكانت علّة تامّة للشيء أم جزء العلة ، وسواء أكانت علّة منحصرة أم غير منحصرة.

ولمّا أُضيف إلى الذريعة كلمة السد وقيل «سدّ الذرائع» يكون هذا قرينة على أنّ المراد هو مقدّمة الحرام ، وعندئذ تصبح المسألة من فروع حكم مطلق المقدّمة ، سواء أكانت مقدّمة للواجب أو للحرام.

وقد طرحه الأُصوليون في كتبهم واختلفوا في اتّحاد المقدّمة مع ذيها في الحكم

٢٠٦

إلى أقوال :

١. فمن قائل بلزوم اتّحاد الحكم مطلقاً.

٢. إلى آخر بلزوم الاتّحاد إذا كانت المقدّمة موصلة.

٣. إلى ثالث بلزوم الاتّحاد في المقدّمة الّتي يتوصّل بها إلى ذيها.

٤. إلى قائل بنفي لزوم اتّحاد الحكم وأنّه يمكن أن تكون المقدّمة محكومة بحكم كالإباحة وذو المقدمة بحكم آخر كالوجوب ، والحرمة.

نعم يجب أن لا يكونا متضادين غير ممكنين للامتثال ، كما إذا كان ذو المقدمة واجباً والمقدّمة حراماً ، أو كان ذو المقدّمة حراماً والمقدّمة واجبة.

فتلخّص من ذلك أنّ هذه القاعدة «سدّ الذرائع» فرع من أحكام مطلق المقدّمة ، غاية الأمر أنّ الأُصوليّين يبحثون عن حكم مطلق المقدّمة ، سواء أكانت المقدّمة للواجب أو الحرام أو المكروه أو المستحبّ أو المباح ، ولكن القائل بسدّ الذرائع يبحث في فرع من فروع هذه المسألة وهو مقدّمة الأمر الحرام.

ومن ذلك يظهر ضعف ما ذكره الدكتور وهبة الزحيلي : انّ المقدّمة عبارة عمّا يتوقّف عليها وجود الشيء ولولاها لما تمكّن أحد من تحقيق الهدف المقصود ، وأمّا الذريعة فهي لا يتوقّف عليها وجود الشيء ولكن أُتي بها للتوصّل إليه ، فقوله سبحانه : (وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَ). (١) من باب الذريعة لا من قبيل المقدّمة ، لأنّ افتتان الرّجل بالمرأة لا يتوقّف على الضرب بالرِّجْل ، ولكن هذا ذريعة إلى تلك المفسدة ، لأنّ من شأنه أن يؤدّي إليها. (٢)

يلاحظ عليه : أنّ ضرب الرِّجْل أيضاً مقدّمة لافتتان الرَّجُل بها ، غاية الأمر

__________________

(١) (النور : ٣١.)

(٢) الوجيز في أُصول الفقه : ١٠٨.

٢٠٧

ليس مقدّمة منحصرة ، بل له أسباب كثيرة ، منها ، ضرب النساء بأرجلهن ، أمامهم فما ذكره من أنّ افتتانه بالمرأة لا يتوقّف على الضرب بالرجل ، إن أراد عدم انحصاره بهذه الوسيلة فهو صحيح ، لكنّه لا يمنع عن كونه مقدّمة أيضاً ، إذ لا يشترط في صدقها ، الانحصار وإن أراد عدم دخالته في الافتتان ، فهو كما ترى ، لأنّه من أسبابه في بعض الظروف.

٢. تعريفه

وقد عرّف بتعاريف منها :

١. العمل الّذي يُعدّ حلالاً في الشرع لكن الفاعل يتوصّل به إلى فعل محظور.

٢. التذرّع بفعل جائز إلى عمل غير جائز.

٣. ما يتوصّل به إلى شيء ممنوع مشتمل على مفسدة.

٤. التوصّل بما هو مصلحة إلى مفسدة.

إلى غير ذلك من التعاريف الّتي جمعها محمد هاشم البرهاني في كتابه «سدّ الذرائع في الشريعة الإسلامية».

فلو قلنا بأنّ لفظ التوصّل يدلّ على القصد والعزم ، يكون مرجع التعاريف الأربعة إلى أنّ الفاعل يتدرّع بفعل الحلال إلى فعل حرام ، وعند ذلك يصحّ توضيح هذه التعاريف الأربعة بما ذكره الشاطبي بالمثال التالي :

إذا اشترى شخص غنماً من رجل بعشرة إلى أجل ، ثمّ باعها منه بثمانية نقداً ، فقد صار هذا العمل مقدّمة لأكل الربا ، لأنّ المشتري أخذ ثمانية ودفع عشرة عند حلول الأجل. فالقائل بسدّ الذرائع يمنع البيع الأوّل تجنّباً عن الربا. (١)

__________________

(١) الموافقات : ١١٢ / ٤.

٢٠٨

وهو نفس «بيع العينة» وعُرّف : ان يبيع شيئاً من غيره بثمن مؤجّل ويسلّمه إلى المشتري ثمّ يشتريه قبل قبض الثمن ، بثمن نقد أقل من ذلك القدر. (١)

وعلى هذا : يكون البحث في هذا الفصل غير مركّز على حكم مقدّمة الحرام بما هي هي ، بل يكون مركّزاً على حكم قسم واحد وهو ما قصد بالمقدّمة ، التوصّل إلى الحرام ، دون ما لم يُقصد ، وعندئذ كلّ من قال بسدّ الذرائع يجب أن يقول بمنع فتحها ، لأنّ الذرائع في ذلك الفصل الّذي يجيء البحث عنه عبارة عن الأُمور المحللة ، ولكن المكلّف يقصد بها التوصّل الحرام ، وكأنّه يأخذ الأمر الحلال واجهة لارتكاب الحرام.

ومع ذلك يمكن أن يقال : الموضوع مطلق مقدّمة الحرام سواء قصد بها التوصل إلى الحرام أو لا ، بشهادة الاستدلال في المقام بالنهي عن سبّ آلهة المشركين ، لأنّها مقدّمة لسب إله الموحّدين ، ومن المعلوم أنّ سبّهم ليس لغاية أمر حرام وإنّما ينتهي إليه ، ومثلها النهي عن خطاب النبي ب «راعنا» مع أنّ القائل لا يقصد به التوصّل إلى الحرام وإنّما ينتهي إليه ، فيكون الموضوع الشيء المفضي إلى مقصد ممنوع ، سواء أكان هناك قصد أو لا.

ويؤيّد ما ذكرنا من أنّ مصب البحث هو مطلق المفضي إلى الحرام ما ذكره الباحث محمد سلّام مذكور في المدخل لدراسة الفقه الإسلامي قال : «الذرائع إذا كانت تفضي إلى مقصد هو قربة وخير أخذت الوسيلة حكم المقصد ، وإذا كانت تفضي إلى مقصد ممنوع هو مفسدة أخذت حكمه ؛ ولذا فإنّ الإمام مالكاً يرى أنّه يجب فتح الذرائع في الحالة الأُولى ، لأنّ المصلحة مطلوبة ، وسدّها في الحالة الثانية ، لأنّ المفاسد ممنوعة». (٢)

__________________

(١) (الموسوعة الفقهية الكويتية : ٢٠٧ / ٥.)

(٢) المدخل للفقه الإسلامي : ٢٦٦.

٢٠٩

ويؤيد ما ذكرنا ، من كون محلّ النزاع مطلق ما ينتهي إلى الحرام ، سواء أكان هناك قصد إليه أو لا ، قول ابن القيم قال : «وباب سدّ الذرائع أحد أرباع التكليف ، فإنّه أمر ونهي ، والأمر نوعان : أحدهما : مقصود لنفسه ، والثاني وسيلة إلى المقصود ؛ والنهي نوعان : أحدهما ما يكون النهي عنه مفسدة في نفسه ، والثاني ما يكون وسيلة إلى المفسدة ، فصار سدّ الذرائع المفضية إلى الحرام أحد أرباع الدين». (١)

ولا يصحّ التقسيم (سدّ الذرائع رُبع التكليف) إلّا على القول بأنّ الموضوع هو مطلق ما ليس فيه مفسدة ولكن ينتهي إليها. ولو كان الموضوع ما قصد به التوصّل إلى الحرام يكون سدّ الذرائع ثُمْن التكليف كما لا يخفى.

فخرجنا بالنتيجة التالية : أنّ إفضاء الأمر الحلال إلى حرام ، ممنوع عند المالكية والحنابلة وجائز عند الشافعية والحنفية.

نعم هناك قاعدة فقهية ، وهي حرمة التعاون على الإثم والعدوان ، ولا صلة لها بسدّ الذرائع وانّما هي قاعدة أُخرى.

٣. حرمة الوسيلة حرمة غيرية لا نفسية

تنقسم الحرمة إلى نفسية وغيرية ، فلو كان ملاك الحرمة (المفسدة) موجوداً في نفس الشيء يكون حراماً نفسياً. وأمّا إذا كان الشيء في حدّ ذاته فاقداً للمفسدة ، ولكنّه صار مقدّمة لما فيه المفسدة ، فلو قلنا بلزوم اتّحاد حكم المقدّمة وذيها يوصف بالحرمة الغيرية لا النفسية كحرمة المشي إلى النميمة.

وبما أنّ الذريعة في المقام حلال بالذات خال عن المفسدة ، غير أنّه وقع

__________________

(١) إعلام الموقعين : ١٧١ / ٣.

٢١٠

ذريعة للأمر الحرام يكون النهي المتعلّق به نهياً غيرياً ، فلو وجدنا في الشريعة تعلّق النهي بالشيء وفي الوقت نفسه تعلّق بغايته يكون هذا خارجاً عن هذا الفصل.

٤. أقسامه

قد ذكر ابن القيم للذريعة أقساماً أربعة :

١. الوسائل الموضوعة للإفضاء إلى المفسدة كشرب الخمر المفضي إلى مفسدة السكر ، والزنا المفضي إلى اختلاط المياه وفساد الفراش.

٢. الوسائل الموضوعة للأُمور المباحة ، إلّا أنّ فاعلها قصد بها التوصّل إلى المفسدة كما يعقد البيع قاصداً الربا (كما في مثال الشاطبي).

٣. الوسائل الموضوعة للأُمور المباحة ، والتي لم يقصد بها التوصّل إلى المفسدة لكنّها مفضية إليها غالباً ، كسبّ آلهة المشركين المفضي إلى سبّ الله سبحانه.

٤. الوسائل الموضوعة للمباح وقد تفضي إلى المفسدة ومصلحتها أرجح من مفسدتها ، كالنظر إلى المخطوبة ، أو المشهود عليها. (١)

أقول : إنّ مصبّ القاعدة حسب ما يشهد عليه الفروع المترتبة عليها هو الفعل المباح الخالي عن المفاسد ، غير المحكوم بالحرمة ، إذا وقع ذريعة للحرام وما فيه المفسدة. وأمّا لو كان الفعل ذات مفسدة ، وبالتالي أمراً محرّماً بالذات ومع ذلك وقع ذريعة لحرام آخر ، فهو خارج عن الكلام ، لأنّ الغاية من القاعدة إثبات الحرمة عليه ، والمفروض أنّه حرام نفسي ، وإثبات الحرمة عليه يكون تحصيلاً للحاصل.

__________________

(١) إعلام الموقعين : ١٤٨ / ٣.

٢١١

وبذلك يظهر خروج القسم الأوّل من كلام ابن القيم عن تحت القاعدة ، لأنّ المفروض أنّ الزنا في حدّ نفسه حرام ولا حاجة في عروض الحرمة عليه ، كونه مستلزماً لاختلاط المياه الّذي فرض في كلام القائل إنّه أيضاً حرام.

كما يظهر خروج القسم الرابع باتّفاق منّا ومن ابن القيم ، لأنّ المفروض أنّ مصلحته أرجح من مفسدته ، فتكون (١) القاعدة مختصّة بالقسمين : الثاني والثالث.

وقد أكثر الإمام مالك العمل بهذه القاعدة حتّى أفتى لمن رأى هلال شوال وحده ، أن لا يفطر لئلّا يقع ذريعة إلى إفطار الفسّاق ، محتجّين بما احتجّ به ، ولكن كان في وسع الإمام أن لا يُحرِّم عليه الإفطار عملاً بالسنّة : «صوموا عند الرؤية وأفطروا عند الرؤية» (٢) ، وفي الوقت نفسه يمنعه عن التظاهر به ويجمع بين القاعدتين ، ولعلّ هذا مراد الإمام.

٥. سدّ الذرائع أصل برأسه عند القائل

الظاهر من القائلين بسدّ الذرائع أنّه دليل مستقل وراء الأدلّة الاجتهادية ، كالكتاب والسنّة والإجماع والعقل ، ولذلك جعلوه دليلاً فيما لا نصّ فيه.

ولكنّك عرفت أنّ المقام من فروع المسألة الأُصولية وهي لزوم اتّحاد حكم المقدّمة وذيها ، فإذا كان الشيء مقدّمة للواجب يحكم بوجوبه ، وإذا كان مقدّمة للحرام يحكم بحرمته ، فالمسألة من فروع تلك القاعدة. فمن قال بلزوم الاتّحاد يحكم في المقام كذلك ، وإلّا فلا.

__________________

(١) (إعلام الموقعين : ١٤٨ / ٢.)

(٢) بلوغ المرام برقم ٢٧١ باختلاف يسير.

٢١٢

وأظن أنّ علم الأُصول لم يكن مدوّناً في عصر الإمام مالك وقد أخذ هو بهذا الأصل وأفتى بحرمة التوصّل. ووجوب السدّ وعذر الإمام مالك مسموع ، وأمّا المتأخّرون عنه الذين نضج علم الأُصول بأيديهم وأفكارهم فكان عليهم أن يجعلوا هذا الأصل فرعاً من أحكام المقدّمة أو لا أقلّ من أحكام مقدّمة الحرام أو خصوص ما قصد به التوصّل لو قيل باختصاص البحث بصورة القصد خلافاً لما حقّقناه ، وعندئذ يتخلّصوا من عناء البحث الطويل.

٦. أدلّته

ثمّ إنّ القائلين بسدّ الذرائع استدلّوا بوجوه مختلفة ، وممن أطنب الكلام فيه ابن القيّم في كتابه إعلام الموقعين ، فقد استدلّ تارة بالاستقراء ، وأُخرى بدليل العقل ، ونحن نأتي بكلا الدليلين ثمّ نشير إلى سائر الأدلّة.

الأوّل : الاستدلال بالاستقراء

لقد جمع ابن القيّم مسائل كثيرة تبلغ تسعاً وتسعين مسألة ، وجد فيها جميعاً اتّحاد الحكم في الوسائل وما تفضي إليه. واستنتج من هذا الاستقراء انّ الشارع يعطي للوسائل دائماً حكم ما تنتهي إليه ، فإذا وجدنا وسيلة وذريعة لحرام ، ولم نعثر في الكتاب والسنّة على دليل لحرمتها على حرمته نستنتج أنّ الشارع أعطى لها حكم ذيها آخذاً بالاستقراء.

وإليك شيئاً من الأمثلة التي استقرأها من مواضع مختلفة ووجد فيها وحدة الحكم بين المقدّمة وذيها :

الأوّل : قوله تعالى : (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً

٢١٣

بِغَيْرِ عِلْمٍ) (١) ، فحرّم الله تعالى سبّ آلهة المشركين لكونه ذريعة إلى سبّهم الله تعالى.

الثاني : قوله تعالى : (وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَ) (٢) ، فمنعهن من ضربهن بالأرجل وإن كان جائزاً في نفسه لئلّا يكون سبباً لسماع الرجال صوت الخلخال ، فيثير ذلك دواعي الشهوة منهم إليهن.

الثالث : قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ). (٣)

أمر تعالى مماليك المؤمنين ومن لم يبلغ منهم الحُلُم أن يستأذنوا عليهم في هذه الأوقات الثلاثة لئلّا يكون دخولهم بغير استئذان ، فيها ذريعة إلى اطّلاعهم على عوراتهم وقت إلقاء ثيابهم عند القائلة والنوم واليقظة.

الرابع : قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا). (٤) نهاهم سبحانه أن يقولوا هذه الكلمة مع قصدهم بها الخير لئلّا يكون قولهم ذريعة إلى التشبّه باليهود في أقوالهم وخطابهم ، فإنّهم كانوا يقصدون بها السبّ.

الخامس : انّه تعالى نهى عن البيع وقت نداء الجمعة لئلّا يتّخذ ذريعة إلى التشاغل بالتجارة عن حضورها.

السادس : انّ الله حرم القطرة الواحدة من الخمر لئلّا تتّخذ القطرة ذريعة إلى الحشوة ، كما حرم إمساكها للتخليل لئلّا يتّخذ ذريعة إلى إمساكها للشرب.

السابع : حرم الخلوة بالأجنبية ولو في إقراء القرآن والسفر بها ، سدّاً لذريعة ما يحاذر من الفتنة.

__________________

(١) (الأنعام : ١٠٨.)

(٢) (النور : ٣١.)

(٣) (النور : ٥٨.)

(٤) البقرة : ١٠٤.

٢١٤

الثامن : انّه تعالى حرم نكاح أكثر من أربع ، لأنّ ذلك ذريعة إلى الجور.

التاسع : انّ الله حرم خِطْبة المعتدة صريحاً ، لأنّ إباحة الخطبة قد تكون ذريعة إلى استعجال المرأة بالإجابة والكذب في انقضاء عدتها.

العاشر : انّ الله حرم عقد النكاح في حال العدة وفي الإحرام وإن تأخّر الوطء إلى وقت الحل لئلّا يتّخذ العقد ذريعة إلى الوطء. (١)

هذه نماذج ممّا استقرأه ابن قيم الجوزية من مواضع مختلفة ليُثبت أنّ الغالبية في الشيء وذريعته ، هو اتّحاد الحكم.

فلو قلنا بحجّية الاستقراء ، ففي مورد لم نجد دليلاً على حرمة الذريعة نحكم بحرمته إذا كانت الغاية محرمة. والاستقراء يكون رصيداً لقاعدة سدّ الذرائع.

يلاحظ عليه أوّلاً :

الظاهر أنّ القائلين بسدّ الذرائع هو أنّ الأمر المباح إذا وقع ذريعة لحرام يكون حراماً غيرياً (أي مقدّمياً) لا حراماً نفسياً ، وأغلب ما ذكره من الأمثلة فهو حرام نفسي ، وإن وقع ذريعة لحرام نفسيّ آخر ، فما جمعه واستقرأه من الأمثلة إنّما يكون شاهداً على القاعدة ، إذا كانت المقدّمة فيها محرمة بالحرمة الغيرية لا بالنفسية.

والفرق بين الحرمة الغيرية والنفسية واضحة ، فإنّ الحرام غيرياً لا يعاقب عليه بخلاف الحرام النفسي ، فالمشي إلى النميمة حرام غيري ، فلو مشى ونمّ فلا يعاقب عقابين : أحدهما للمشي والآخر للنميمية ، بل يعاقب عقاباً واحداً ، وهذا بخلاف الحرام النفسي ، فإنّه يعاقب عليه حتّى وإن وقع ذريعة لحرام آخر.

__________________

(١) إعلام الموقعين : ١٤٧ / ٣ ١٥٣.

٢١٥

وما ذكره من الأمثلة من هذا القبيل نظير :

١. سبُّ آلهة المشركين أمامهم.

٢. ضرب النساء بأرجلهنّ عند سماع الرجال.

٣. البيع وقت النداء الذي يقع ذريعة لترك صلاة الجمعة.

٤. شرب القطرة الواحدة من الخمر وإن لم تُسكر ، لأنّ ما يسكر كثيره فقليله أيضاً حرام.

٥. الخلوة بالأجنبية.

٦. خطبة المعتدة في عدّتي الطلاق والوفاة.

٧. عقد المعتدة في تلك الحالة.

إلى غير ذلك من الأمثلة ، فإنّ هذه الأُمور محرّمة حراماً نفسياً وإن كانت ذريعة لمفاسد أُخرى. وكون الشيء مشتملاً على مفسدة لا يكون سبباً لصيرورة النهي المتعلّق به نهياً غيرياً.

فلو صحّ ما ذكره فإنّما يصحّ في بعض الأمثلة ، وعندئذ يصبح الاستقراء استقراءً ناقصاً جداً غير مفيد للعلم بالملازمة.

وثانياً : أنّه إذا علم في الموارد الّتي استقرأها أنّ النهي المتعلّق بالذريعة نفسي أو غيري ، فهو ، وإلّا فإن شكّ في كونه غيرياً أو نفسياً فمقتضى الإطلاق هو كونه نفسياً ، وذلك لأنّ الغيري يتوقّف على بيان زائد أعني : «ما وجب لأمر آخر» بخلاف النفسي فهو ما وجب بلا قيد ، أي سواء وجب شيء آخر أو لا ، فلو تعلّق النهي بشيء وفي الوقت نفسه تعلّق بغايته ، ودار أمر النهي بين كونه نفسياً أو غيرياً ، فيحمل بحكم الإطلاق على كونه نفسياً ما لم يدلّ دليل على أنّه غيري. والتفصيل يُطلب في محلّه.

٢١٦

الثاني : حكم العقل

وقد استدلّ على سدّ الذرائع بحكم العقل على أنّ المولى إذا حرم شيئاً ، يُحرّم الوسيلة الّتي تُفضي إليه ، ولو أباح الوسيلة يكون ذلك نقضاً للغرض ، وقد أوضح ذلك ابن القيّم ببيان طويل قال : لمّا كانت المقاصد لا يتوصّل إليها إلّا بأسباب وطُرُق تُفْضي إليها ، كانت طرقها وأسبابها تابعةً لها معتبرة بها ، فوسائل المحرمات والمعاصي في كراهتها والمنع منها بحسب إفضائها إلى غاياتها وارتباطاتها بها ، ووسائل الطاعات والقُربَات في محبتها والإذن فيها بحسب إفضائها إلى غايتها ؛ فوسيلة المقصود تابعة للمقصود ، وكلاهما مقصود ، لكنّه مقصود قصدَ الغاياتِ ، وهي مقصودة قصد الوسائل ؛ فإذا حَرَّم الربُّ تعالى شيئاً وله طرق ووسائل تُفْضِي إليه فإنّه يحرمها ويمنع منها ، تحقيقاً لتحريمه ، وتثبيتاً له ، ومنعاً أن يقرب حِماه ، ولو أباح الوسائل والذرائع المُفْضِية إليه لكان ذلك نقضاً للتحريم ، وإغراء للنفوس به. وحكمته تعالى وعلمه يأبى ذلك كلّ الإباء ، بل سياسة ملوك الدنيا تأبى ذلك ؛ فإنّ أحدهم إذا منع جُنْدَه أو رعيته أو أهل بيته من شيء ثمّ أباح لهم الطرق والأسباب والذرائع الموصِّلة إليه لعدَّ متناقضاً ، ولحصل من رعيته وجنده ضدّ مقصوده. وكذلك الأطباء إذا أرادوا حَسْمَ الداء منعوا صاحبه من الطرق والذرائع الموصّلة إليه ، وإلّا فسد عليهم ما يرومون إصلاحه. فما الظن بهذه الشريعة الكاملة الّتي هي في أعلى درجات الحكمة والمصلحة والكمال؟ (١)

يلاحظ عليه أوّلاً : أنّه لو صحّ ما ادّعاه من الملازمة بين حرمة الشيء وحرمة ذريعته تكون القاعدة من فروع حكم العقل ولا تكون قاعدة مستقلة وراء الأدلّة الأربعة. وهذا خلاف ما يرتئيه القائل بأصل «سدّ الذرائع».

__________________

(١) إعلام الموقعين : ١٤٧ / ٣.

٢١٧

وثانياً : أنّه لا ملازمة بين حرمة الشيء وحرمة مقدّمته ، بل لا مانع من حرمة الشيء وحلّية مقدّمته ، وليس فيه أي نقض للتحريم ، إذ ليس معنى الإباحة ، هو الإلزام بإتيان المقدّمة ، بل معناها هو كون المكلّف مختاراً بين الفعل والترك ، ولكن لو أتى بها يعاقب لأجل إتيان ذيها ، لا لإتيانها ولذلك يشترط في المقدّمة عدم التنافي بين حكمها وحكم ذيها ، بأن يكون الشيء حراماً وذريعته واجبة ، إذ مثل هذا يعدّ نقضاً للتحريم ، دون ما إذا كانت مباحة ، فإنّه وإن لم يكن في هذه الحالة إلزام شرعي بتركها ، بل الفعل والترك سيان عنده ، لكن العقل يوجّهه ويرشده إلى ما هو فيه الصلاح ، ويدعوه من باب النُّصح إلى ترك الذريعة خوفاً من الوقوع في الحرام.

وثالثاً : يمكن أن يقال انّ تحريم المقدّمة ، تحريماً غيريّاً أمر لغو ، وذلك لأنّ حرمة المقدّمة حرمة غيرية ، والتحريم الغيري لا يترتّب عليه ثواب ولا عقاب ، وعندئذ يُصبح تحريم المقدّمة أمراً لا طائل تحته ، وذلك : لأنّ الغرض من الإيجاب المولوي فيما إذا كانت مقدّمة للواجب هو جعل الداعي وإحداثه في ضمير المكلّف ، لينبعث ويأتي بالمتعلّق ، مع أنّه إمّا غير باعث ، أو غير محتاج إليه ، فإنّ المكلّف إن كان بصدد الإتيان بذي المقدّمة ، فالأمر النفسي الباعث إلى ذيها باعث إليها أيضاً ، ومعه لا يحتاج إلى باعث آخر بالنسبة إليها. وإن لم يكن بصدد الإتيان بذيها وكان مُعرِضاً عنه ، لما حصل له بعث بالنسبة إلى المقدّمة.

والحاصل : أنّ الأمر المقدّمي يدور أمره بين اللغوية إذا كان المكلّف بصدد الإتيان بذيها ، وعدم الباعثية وإحداث الداعوية أبداً ، إذا لم يكن بصدد الإتيان بذيها.

هذا ، وأيّة فائدة لبعث لا يترتّب عليه ثواب ولا عقاب؟!

ومنه يعلم حكم مقدّمة الحرام حذوا النعل بالنعل.

٢١٨

الثالث : الاستدلال بالسنّة

قد استدلّوا وراء الكتاب بما ورد في السنّة أوضحها : ما رواه معاذ بن جبل قال : كنت رديف رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) على حمار يقال له عفير قال : فقال : «يا معاذ تدري ما حقّ الله على العباد ، وما حقّ العباد على الله؟» قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : «فإنّ حقّ الله على العباد أن يعبدوا الله ، ولا يشركوا به شيئاً ؛ وحقّ العباد على الله عزوجل أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً» ، قال : قلت يا رسول الله : أفلا أبشّر الناس؟ قال : «لا تبشّرهم فيتّكلوا». (١)

مناقشة حديث معاذ

أ. انّ ما نقله عن النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) من حقّ العباد على الله وأمره بكتمانه ، فقد جاء في الذكر الحكيم ولم يكتمه سبحانه حيث قال : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) (٢) ، وقوله سبحانه : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (٣) ، وقوله تعالى : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ) (٤) ، أي في حالة كونهم ظالمين وعاصين ، إلى غير ذلك من الآيات الدالّة على غفرانه سبحانه لذنوب عباده.

ب. لو صحّ الحديث ، فقد أمر النبي معاذاً بالكتمان ، فلما ذا أفشى سرّه وارتكب الحرام مع أنّه كسائر الصحابة عدل؟!

__________________

(١) (شرح النووي على صحيح مسلم : ٢٣٢ / ١.)

(٢) (النساء : ٤٨.)

(٣) (الزمر : ٥٣.)

(٤) الرعد : ٦.

٢١٩

الرابع : الاستدلال بالإجماع

اتّفقوا على النهي عن إلقاء السم في أطعمة المسلمين المبذولة للتناول ، بحيث يعلم أو يظن أنّهم يأكلونها فيهلكون ، والمنع عن حفر بئر خلف باب الدار في الظلام الدامس لئلّا يقع فيها الداخل.

يلاحظ عليه : أنّ النهي في هذه الموارد نفسيّ وإن كان لغاية أُخرى ، كما شأن عامة النواهي في المصدرين.

٧. دراسة بعض الفروع المبنيّة عليها

ثمّ ذكر بعض الكتّاب المعاصرين تطبيقات عملية لهذه القاعدة نسرد بعضها :

١. الاجتهاد لاستنباط أحكام الوقائع أمر مقرر مشروع ، لكنّ في الاجتهاد الفردي في هذه الأيّام مفسدة ينبغي التحرّز عنها وسدّ أبوابها بأن تؤلّف مجالس تَضُم كبارَ العلماء المختصّين في مختلف علوم الشريعة وأبوابها ويسند إليها أمر الاجتهاد.

أقول : إنّ الحقيقة بنت البحث ، والاختلاف إذا نشأ عن نيّة صادقة يؤدي إلى نضج العلم وتكامله ، ولذلك يُعدّ الاجتهاد الجَماعي أوثق وأقوى ، ولكن إذا بلغ الرجل مبلغَ الاجتهاد ، فمنعه عن الاجتهاد والعمل برأيه والإفتاء به ، أمر بالمنكر وصدّ عن العمل بالواجب.

٢. ترجمة القرآن إلى اللغات الأجنبية ، فزعم القائل عدم جوازه سدّاً لذريعة التبديل والتغيير والتحريف. مضافاً إلى أنّ اللغات الأجنبية لا تسع لمعاني القرآن العميقة والدقيقة.

٢٢٠