أصول الفقه المقارن فيما لا نصّ فيه

الشيخ جعفر السبحاني

أصول الفقه المقارن فيما لا نصّ فيه

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-155-6
الصفحات: ٣٩٤

١. المناسب المعتبر

هو ما شهد الشارع باعتباره حيث وضع أحكاماً توصل إليه وشرّع الشارع أحكاماً لتحقيقها وجعلها عللاً لما شرّع ، والّتي تسمّى في اصطلاح الأُصوليّين من أهل السنّة بالمصالح المعتبرة من الشارع ، وهي خمسة :

«حفظ الدين والنفس والعقل والعرض والمال» وهذه الأُمور مقاصد وغايات لجميع الأحكام الشرعية الموضوعة. (١)

فشرّع الجهاد لأجل حفظ الدين ، والقصاصَ للحفاظ على النفوس والدماء ، وحرّم المسكرات لصيانة العقول وحرّم السرقة للمحافظة على أموال الناس ، وحرّم الزنا لأجل صيانة الأعراض ، وربّما يعبر عن الجميع بجلب المنفعة ودفع المفسدة.

ويوضحه الغزالي بقوله : المصلحة هي عبارة في الأصل عن جلب منفعة أو دفع مضرة وقال : ولسنا نعني به ذلك ، فإنّ جلب المنفعة ودفع المضرة مقاصد الخلق وصلاح الخلق في تحصيل مقاصدهم ، لكنّا نعني بالمصلحة المحافظة على مقصود الشرع ؛ ومقصود الشرع من الخلق خمسة : وهو أن يحفظ عليهم دينَهم ، ونفسَهم ، وعقلَهم ، ونسلهم ، وما لهم ؛ فكلّ ما يتضمن هذه الأُصول الخمسة فهو مصلحة ، وكلّ ما يفوِّت هذه الأُصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة. (٢)

٢. المناسب الملغى

وهو ما شهد الشارع بإلغائه ويكشف أحكامُه عن عدم اعتداده ، بهذا

__________________

(١) (أُصول الفقه الإسلامي : ٧٥٢ / ٢.)

(٢) المستصفى : ١٤٠ / ١.

١٨١

الوصف المناسب وذلك كالمثال التالي :

يجب في كفّارة شهر رمضان أحد الخصال الثلاث على الترتيب عند السنّة والتخيير عند الشيعة الإمامية ، ولا شكّ أنّ إيجاب خصوص صوم شهرين على الغنيّ أبلغ في الزجر والردع من إيجاب العتق لكن الشارع ألغاه حيث أوجب العتق أوّلاً على القول بالترتيب ، أو أوجب الجميع تخييراً في عرض واحد على قول الإمامية ، فالقول بتعيين صوم شهرين للمصلحة المذكورة مخالف لتنصيص الشارع على الترتيب أو التخيير.

٣. المناسب المرسل

وهو الوصف الّذي لم يعلم من الشارع إلغاؤه ولا اعتباره لا بنصّ ولا بإجماع.

أي لم يوجد في الأحكام الشرعية ما يوافقه أو يخالفه.

ويوضحه عبد الوهاب خلاف بقوله : وأمّا المصالح التي اقتضتها البيئات والطوارئ بعد انقطاع الوحي ، ولم يشرع الشارع أحكاماً لتحقيقها ، ولم يقم دليل منه على اعتبارها أو إلغائها ، فهذه تسمّى المناسب المرسل ، أو بعبارة أُخرى المصلحة المرسلة. (١)

وعلى ضوء ما ذكره ، فالمصالح المرسلة عبارة «عن كلّ مصلحة لم يرد فيها أيُّ نصّ يدعو إلى اعتبارها ، أو عدم اعتبارها ، ولكن في اعتبارها نفع أو دفع ضرر». فيكون الاستصلاح طريقاً شرعياً لاستنباط الحكم فيما لا نصّ فيه ولا إجماع والمصلحة المطلقة الّتي لا يوجد من الشرع ما يدلّ على اعتبارها ولا إلغائها ، تكون

__________________

(١) علم أُصول الفقه : ٩٤.

١٨٢

مصلحة صالحة لأن يبنى عليها الاستنباط. (١)

وقد أوضحها المتأخّرون من الأُصوليّين بأمثلة :

أ. المصلحة الّتي اقتضت أنّ الزواج الّذي لا يثبت بوثيقة رسمية ، لا تسمع الدعوى به عند الإنكار.

ب. المصلحة الّتي اقتضت أنّ عقد البيع الّذي لا يسجل ، لا ينقل الملكية.

قال عبد الوهاب خلّاف بعد ذكر المثالين : فهذه كلّها لم يشرع الشارع أحكاماً لها ولم يدلّ دليل منه على اعتبارها أو إلغائها فهي مصالح مرسلة. (٢)

ج. ما إذا صال الكفّار علينا متترّسين بأسارى المسلمين وقطعنا بأنّنا لو امتنعنا عن قتل الترس لصدمونا ، واستولوا على ديار المسلمين وقتلوا المسلمين كافّة ، ولو رمينا الترس لقتلنا مسلماً معصوماً من غير ذنب صدر منه ، فإن قتل الترس ، والحالة هذه مصلحة مرسلة ، لكونه لم يعهد في الشرع جواز قتل مسلم بلا ذنب.

ولا دليل أيضاً على عدم جواز قتل المسلم في سبيل تحقيق مصلحة للمسلمين ، بل إنّ التحقيق يؤدّي إلى أنّ هذا الأسير مقتول بكلّ حال ، فحفظ جماعة المسلمين أقرب إلى مقصود الشرع من حفظ مسلم واحد ؛ لأنّ مقصود الشرع تقليل القتل ، كما يقصد حسم سبيله عند الإمكان ، فإن لم نقدر على الحسم قدرنا على التقليل. (٣)

د. لو اشتغل الجنود بالكسب لخيف دخول الكفّار بلاد الإسلام أو خيف

__________________

(١) (مصادر التشريع : ٧٣.)

(٢) (علم أُصول الفقه : ٩٤.)

(٣) أُصول الفقه الإسلامي : ٧٥٩ / ٢.

١٨٣

ثوران الفتنة في بلاد الإسلام ، وحينئذٍ فيجوز لولي الأمر أن يوظف على الأغنياء مقدار كفاية الجند ، لأنّه إذا تعارض شرّان أو خيران ، قصد الشارع دفع أشدّ الضررين وأعظم الشرّين ، وما يؤديه كلّ فرد وحده قليل بالنسبة لمداهمة الخطر الذي يترتّب على زوال السلطة الّتي تحفظ النظام وتقطع دابر الشر والفساد. (١)

إلى هنا تم الكلام في الأمر الأوّل ، أعني : تقسيم الوصف المناسب إلى معتبر وملغى ومرسل.

وإليك الكلام في الأمر الثاني.

الأمر الثاني : أدلّة حجّية المصالح المرسلة

استدلّ على حجّيتها بوجوه :

الدليل الأوّل : قلّة النصوص والمصالح المتجددة

١. أنّ مصالح الناس تتجدّد ولا تتناهى ، فلو لم تشرع الأحكام لما يتجدّد من صالح الناس ، ولما يقتضيه تطورهم واقتصر التشريع على المصالح الّتي اعتبرها الشارع فقط ، لعطَّلت كثير من مصالح الناس في مختلف الأزمنة والأمكنة ، ووقف التشريع عن مسايرة تطورات الناس ومصالحهم ، وهذا لا يتفق وما قصد بالتشريع من تحقيق مصالح الناس. (٢)

وقال المعاصر الزحيلي حول هذا الدليل : إنّ الحياة في تطور مستمر ، وأساليب الناس للوصول إلى مصالحهم تتغير في كلّ زمن وبيئة ، وفي أثناء التطور

__________________

(١) (المصدر نفسه.)

(٢) علم أُصول الفقه : ٩٤.

١٨٤

تتجدّد مصالح الناس ، فلو اقتصرنا على الأحكام المبنية على مصالح نص الشرع على اعتبارها لتعطل كثير من مصالح الناس ، وجمد التشريع ووقف عن مسايرة الزمن ، وفي ذلك إضرار بهم كبير لا يتّفق مع قصد التشريع من تحقيق المصالح ودفع المفاسد ، وحينئذٍ لا بدّ من إصدار أحكام جديدة تتلاءم مع مقاصد الشريعة العامة وأهدافها الكلية ، حتّى يتحقّق خلود الشريعة وصلاحيتها الدائمة. (١)

أقول : حاصل هذا الوجه ادّعاء وجود النقص في التشريع الإسلامي لو اقتصر في مقام الاستنباط على الكتاب والسنّة ، لأنّ حاجات المجتمع إلى قوانين وتشريعات جديدة لا زالت تتزايد كلّ يوم ، فإذا لم يكن هناك تشريعات وأحكام جديدة تتلاءم مع هذه الحاجات لم تتحقق مقاصد الشريعة العامّة وأهدافها الكلّية.

يلاحظ عليه : أنّ أحكام الشريعة بمفاهيمها الكلّية لا تضيق عن مصالح العباد ولا تقتصر عن حاجاتهم ، وهي بذلك مسايرة لمختلف الأزمنة والأمكنة والبيئات والأحوال ، يعلم كلّ ذلك بالإمعان في ما سنذكره :

١. حجّيّة العقل في مجالات خاصّة

إنّ العقل حجّة قاطعة في مواضع له الصلاحية التامة في القضاء والحكم فيها ، فعندئذ فبحكم الملازمة بين الحكم القاطع للعقل والحكم الشرعي ينكشف لنا أحكام شرعية في مواضع شتّى ، كما سيوافيك بيانها.

إنّ القائلين بالاستصلاح لمّا أخرجوا العقل عن مصادر التشريع وأنكروا

__________________

(١) أُصول الفقه الإسلامي : ٧٦٣ / ٢.

١٨٥

التحسين والتقبيح العقليين ، هذا من جانب ، ومن جانب آخر آمنوا بمقاصد الشريعة وأنّ أحكام الشرع تابعة لمصالح ومفاسد فلم يجدوا طريقاً إلى إدراكها سوى العمل بالظن ، أي المصالح المرسلة.

وهذا من عجيب الأُمور ، حيث لا يعتدّون بالحكم القطعي للعقل ، ومع ذلك يعملون بالظن بالمصالح أو المفاسد.

فلو كان العمل بالقطع العقلي ممنوعاً ، فالعمل بالظن «المصالح المرسلة» يكون مثله ، فما هو المبرّر للفرار من الرمضاء إلى النار.

إنّ الاعتراف بحجّية العقل ليس بمعنى أنّه يطلق سراحه في جميع المجالات حتّى يتاح له أن يتسرّع بالحكم في مصالح الفرد والمجتمع بشكل العلاقات والروابط الاجتماعية والعبادات ، وإنّما يُفسح له المجال فيما أعطاه الله سبحانه له حقّ القضاء الحاسم ، وذلك كما في الموارد التالية.

أ. الحكم بالحسن والقبح العقليين الّذي يندرج تحته قسم كبير من الأُمور الّتي فيها المصلحة والمفسدة ، مثلاً يحكم بالبراءة عند عدم البيان ، والاشتغال عند وجوده مع تردّد الأطراف ، أو التخيير فيما إذا لم يمكن الاحتياط.

ب. باب الملازمات نظير الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّمته ووجوب وحرمة ضدّه ، أو عدمهما ، وحرمة العبادة وفسادها ، وإجزاء الأوامر الاضطرارية كالتيمّم والظاهرية كالصلاة في ثوب نجس مستصحب الطهارة ، إلى غير ذلك من الموارد.

ج. أبواب التزاحم ، أي تزاحم المصالح التي لا بدّ من أخذها ، أو تزاحم المصالح والمفاسد ، فإنّ للعقل دوراً فيها ، وله ضوابط لتقديم إحدى المصلحتين على الأُخرى ، أو تقديم المصلحة على المفسدة ، أو بالعكس.

١٨٦

٢. التشريع الإسلامي ذو مادة حيوية

إنّ التشريع الإسلامي في مختلف الأبواب ، مشتمل على أُصول وقواعد عامة ، تفي باستنباط آلاف من الفروع الّتي يحتاج إليها المجتمع البشري ، على امتداد القرون والأجيال ، وهذه الثروة العلمية الّتي اختصت بها الأُمّة الإسلامية من بين سائر الأُمم أغنت الشريعة الإسلامية عن التمسّك بكلّ تشريع سواها ، أو بظنون لم يقم دليل على حجّيتها.

وهذا هو العلّامة الحلّي أحد فقهاء الإمامية في القرن الثامن (٦٤٨ ٧٢٦ ه‍) ، قد ألّف كتباً وموسوعات في الفقه وأُصوله ، منها «تحرير الأحكام الشرعية» وقد حوى من الأحكام والقوانين ما يربو عن أربعين ألف مسألة ، استنبطها من هذه الأُصول الواردة في القرآن والسنّة النبوية ، والأحاديث المأثورة عن أئمّة الدين ، رتّبها على ترتيب كتب الفقه في أربع قواعد : العبادات ، والمعاملات ، والإيقاعات ، والأحكام.

وهذا صاحب الجواهر ذلك الفقيه الأعظم من فقهاء القرن الثالث عشر (١١٩١ ١٢٦٦ ه‍) قد جاء في مشروعه الوحيد «جواهر الكلام» بأضعاف ما جاء به العلّامة الحلّي ، فإنّ الباحث عند ما يقف أمام هذا الكتاب الثمين وينظر في مباحثه ، يرى أمامه بحراً يزخر بالدرر الّتي تحار في حصرها النهى والخواطر ، وتنبهر لها عيون البصائر ، فلقد حوى من الفروع والقوانين ما يعسر عدّها. وقد اعتمد في استنباط هذه الأحكام الشرعية الهائلة على الكتاب والسنّة والعقل والإجماع.

٣. الأحكام الّتي لها دور التحديد

من الأسباب الموجبة لمرونة هذا الدين وحفظ المصالح ودرء المفاسد

١٨٧

وانطباقه على جميع الحضارات الإنسانية تشريعه لقوانين خاصة الّتي لها دور التحديد والرقابة بالنسبة إلى عامة تشريعاته وقد اصطلح عليها الفقهاء ، بالأدلّة الحاكمة ، لأجل حكومتها وتقدّمها على كلّ حكم ثبت لموضوع بما هو هو. فهذه القوانين الحاكمة تعطي لهذا الدين مرونة يماشي بها كلّ حضارة إنسانية ، مثلاً : قوله سبحانه : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (١) حاسم على كل تشريع استلزم العمل به حرجاً ، لا يتحمل عادة ، للمكلّف ، فهو مرفوع ، في الظروف الحرجية.

ومثله قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : «لا ضرر ولا ضرار» فكلّ حكم استتبع العمل به ضرراً شديداً ، فهو مرفوع في تلك الشرائط ، وقس عليهما غيرهما من القوانين الحاكمة التي لها دور التحديد والحكومة.

٤. صلاحيات الحاكم الإسلامي

المراد بالحاكم الإسلامي هو الفقيه العارف بالكتاب والسنّة الّذي يقتدر على استنباط الأحكام الشرعية في عامّة المجالات من مصادرها.

فالحاكم بهذا المعنى هو الممثل للقيادة الحكيمة في أُمور الدين والدنيا الّتي من شأنها أن توصل المجتمع البشري إلى أرقى المستويات الحضارية الصحيحة ، فقد مُنح لمثل هذا الحاكم بنص أحاديث العترة الطاهرة كافة الصلاحيات المؤدية إلى حق التصرف المطلق في كلّ ما يراه ذا مصلحة للأُمّة ، لأنّه يتمتع بمثل ما يتمتع به النبي والإمام من النفوذ المطلق ، إلّا ما يعد من خصائصهما.

وإلى ذلك يشير شيخ الأُمّة الميرزا النائيني في أثره الخالد «تنبيه الأُمّة وتنزيه

__________________

(١) الحج : ٧٨.

١٨٨

الملّة» ويقول : «فوّض إلى الحاكم الإسلامي وضع ما يراه لازماً من المقررات لمصلحة الجماعة وسدّ احتياجاتها في إطار القوانين الإسلامية». (١)

وعلى سبيل المثال أنّ الحاكم الإسلامي لو رأى أنّ المصلحة اللازمة تقتضي فتح طريق وهذا الأمر لا يتمّ إلّا بإجبار بعض أصحاب الأراضي على بيع أراضيهم ، فله العمل بما يراه ، ولكن على ضوء العدل والإنصاف.

إنّ الحضارة الصناعية تلازم وضع مقررات ولائيّة خاصة في دائرة المرور لأجل سلامة النفوس وسهولة الذهاب والإياب فللحاكم تلك الصلاحية في ضوء سائر القواعد العامة.

إنّ هذه الصلاحيات كانت ثابتة في الدرجة الأُولى للنبي الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لقوله سبحانه : (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ). (٢) وبعده لخلفائه أعني : المعصومين (عليهم‌السلام) أئمّة الدين ، وبعدهم فوّضت إلى فقهاء الأُمّة وعلمائهم الذين أُلقيت على كواهلهم أُمور تدبير الحياة وصيانة الشريعة.

ومع إدخال هذه الأُمور في التشريع الإسلامي سواءً أكان تشريعاً واقعياً أم حكماً ولائياً حكومياً موقتاً فما دام الملاك موجوداً فلا تجد أي حاجة إلى إعمال قاعدة الاستصلاح أو المصالح المرسلة المظنونة.

٥. ما هو السبب لجعل الاستصلاح مصدراً للتشريع؟

قد تبيّن ممّا ذكرنا أنّ الّذي حمل القائلين بالاستصلاح والمصالح المرسلة على عدها من مصادر التشريع هو أنّهم أهملوا هذه الأُمور الأربعة التي بها يحلّ ما أشكل من المسائل أو تزاحم من المصالح ، أعني :

__________________

(١) (تنبيه الأُمّة وتنزيه الملّة : ٩٧.)

(٢) الأحزاب : ٦.

١٨٩

أ. إهمال العقل كأحد مصادر التشريع في مجال التحسين والتقبيح العقليين أو الملازمات أو التزاحمات.

ب. إقفال باب الاجتهاد في أواسط القرن السابع إقفالاً سياسياً ، فقد صار ذلك سبباً لوقف الدراسات الفقهية منذ قرون ، ولذلك توهّم وجود النقص في التشريع الإسلامي ، وعدم كفايته لتحقيق مقاصد الشريعة ، ولو كان القوم غير مقفلين لباب الاجتهاد لعرفوا أنّ الفقه الإسلامي ذو مادة حيوية قادرة على تلبية كافة الحاجات المستجدة.

ج. عدم دراسة عناوين الأحكام الأوّلية والثانوية كأدلّة الضرر والحرج والاضطرار والنسيان. فالأحكام الأوّلية محدّدة بعدم استلزام إطلاقها الحرج والضرر ، فإذا صارت موجبة لأحدهما يقدّم حكمهما على الأحكام الأوّلية.

د. عدم الاعتراف بصلاحيات الفقيه الجامع للشرائط بوضع أحكام ولائية كافية في جلب المصلحة ودفع المفسدة أحكاماً مؤقتة ما دام الملاك موجوداً.

والفرق بين الأحكام الواقعية والولائية هي أنّ الطائفة الأُولى أحكام شرعية جاء بها النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لتبقى خالدة إلى يوم القيامة ، وأمّا الطائفة الثانية فإنّما هي أحكام مؤقتة. أو مقررات يضعها الحاكم الإسلامي (على ضوء سائر القوانين) لرفع المشاكل العالقة بحياة المجتمع الإسلامي.

وبذلك يتّضح أنّ أكثر الأمثلة الّتي ذكروها لقاعدة الاستصلاح أو المصالح المرسلة على قسمين : قسم فيه ما له رصيد في الكتاب والسنّة من دون حاجة إلى الاستصلاح. وقسم آخر من شعب حقوق الحاكم الإسلامي ، فلو كانوا معترفين بذلك (أي بولاية الفقيه) لم يكن هنا أيّة حاجة لقاعدة الاستصلاح ، وإليك ما ذكروه من أمثلة :

١٩٠

١. جمع القرآن الكريم في مصحف.

٢. قتال مانعي الزكاة.

٣. وقف تنفيذ حكم السرقة في عام المجاعة.

٤. إنشاء الدواوين.

٥. سك النقود.

٦. فرض الإمام العادل على الأغنياء من المال ما لا بدّ منه ، كتكثير الجند وإعداد السلاح وحماية البلاد.

٧. سجن المتهم كي لا يفر.

٨. حجر المفتي الماجن والطبيب الجاهل والمكاري المفلس.

إلى غير ذلك من المسائل الّتي لها دليل في الكتاب والسنّة ، أو هي من شئون الحاكم الّذي فوض إليه إدارة المجتمع وحفظ الدين.

وأمّا النوع الأوّل أي ما له دليل في الكتاب والسنّة ، فجمع القرآن الكريم ومحاربة مانعي الزكاة ، فإنّ جمع القرآن الكريم كان تجسيداً لقوله سبحانه : (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) (١) حيث إنّ الآية تكشف عن كون الجمع أمراً مرغوباً ومحبوباً عند الله ، والله سبحانه تنفّذ إرادته من خلال إرادة عباده.

ونظيره محاربة مانعي الزكاة فإنّه من شعب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، قال سبحانه : (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ). (٢)

ويقرب منهما ، وقف تنفيذ حد السرقة في عام المجاعة ، فلعلّه لانصراف أدلّة

__________________

(١) (القيامة : ١٧.)

(٢) الحج : ٤١.

١٩١

الحدود عن الظروف القاسية.

وأمّا الثاني ، أي ما يعدّ من شئون الحاكم الإسلامي وصلاحياته فكالأمثلة الباقية : فإنّ إنشاء الدواوين من الأُمور المباحة ، فإذا اقتضت المصلحة يقوم بذلك الحاكم ، ويليه سك النقود ، فإنّه بذاته من الأُمور المباحة ، فإذا اقتضت المصلحة سك النقود ، والاستغناء عن نفوذ الأجانب يقوم به الحاكم ، إذ فيه عزّة الإسلام التي خوّل تحقيقها إلى الحاكم الأعلى.

وسجن المتهم الّذي هو على عتبة الفرار أمر لازم لحفظ حقوق الناس الذي وكّل إلى الحاكم حفظ حقوقهم. وقس عليه ما بقي من الأمثلة كحجر المفتي الماجن و....

نعم ربّما يمثّلون بأُمور لا تبرّرها أدلّة التشريع الواقعي ولا صلاحية الحاكم ، نظير :

١. تنفيذ الطلاق الثلاث ثلاثاً.

٢. درء القصاص عن خالد بن الوليد من قبل أبي بكر.

٣. تجديد الأذان الثاني لصلاة الجمعة.

أمّا الأوّل فقد خالف المنفذ كتاب الله وسنّة رسوله والرأي العام للصحابة في ذلك اليوم وقد ندم بعد ما بلغ السيل الزبى.

وأمّا درء القصاص عن خالد بن الوليد حيث قتل «مالك بن نويرة ، ثمّ نزا على امرأته» فكان خطيئة ، إذ كيف يمكن درء هذه الخطيئة الّتي لا تغسل عن ثوب المقترف بماء البحار؟! ولذلك قال عمر بن الخطاب لخالد عند ما دخل المدينة : قتلت امرأً مسلماً ثمّ نزوت على امرأته والله لأرجمنّك بأحجارك.

وأقصى ما كان عند أبي بكر من العذر هو ما قال في جواب عمر : «ما كنتُ

١٩٢

لأغمد سيفاً سلّه الله عليهم» مع أنّ الغاية من سلّ السيف هي صيانة دماء المسلمين وأعراضهم ، لا سفك دمائهم واستباحة نواميسهم ، فما قيمة هذا السيف الّذي يُستعمل ضد الإسلام والمسلمين؟!

إلى هنا تمّ الوجه الأوّل ، وإليك سائر ما استدلّ به على حجّية الاستصلاح.

الدليل الثاني : وجوب العمل بالظن بالمصلحة

ثبت بالاستقراء أنّ أحكام الشرع روعي فيها الأخذ بمصالح الناس ، واعتبار جنس المصالح في جملة الأحكام يوجب ظن اعتبار هذه المصلحة في تعليل الأحكام ؛ لأنّ العمل بالظن واجب. والدليل على اعتبار المصالح قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) (١) ، ومقتضى الرحمة تحقيق مصالح الناس : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (٢) ، وقوله تعالى في إباحة لحم الميتة للمضطر : (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). (٣) وقوله عزوجل : (أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) (٤). وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : «لا ضرر ولا ضرار». (٥)

أقول : ما ذكره الفقيه المعاصر ، صحيح إذا قطع الفقيه بالمصلحة خصوصاً إذا تشاور مع الخبراء في الموضوع ، وأصبح الموضوع ، عند العقلاء من الأُمور المبتلى

__________________

(١) (الأنبياء : ١٠٧.)

(٢) (البقرة : ١٨٥.)

(٣) (المائدة : ٣.)

(٤) (يونس : ٥٧.)

(٥) أُصول الفقه الإسلامي : ٧٦٢ / ٢ ٧٦٣.

١٩٣

بها أكثر الناس. وأمّا إذا كانت المصلحة مظنونة فالإفتاء على وفق هذا الظن الذي لم يدلّ الدليل على حجّيته ، أمر حرام يُعدُّ بدعة حيث إنّه من إدخال ما لم يعلم أنّه من الدين في الدين.

والذي يثير العجب قوله : «... لأنّ العمل بالظن واجب» فما ذا يريد من الظن؟ فهل يريد ما دلّ الدليل القاطع على حجّيته ، فهو صحيح ، لكن المورد عندئذ ممّا نص فيه ، والكلام فيما لا نصّ فيه؟

أو أراد ما لم يدلّ دليل على حجّيته ، فقد مرّ أنّ العمل بمثل هذا الظن يصبح بدعة وأمراً محرماً ، لا تصحّ نسبته إلى الشارع جزماً.

الدليل الثالث : عمل الصحابة بالمصلحة الراجحة

إنّ من يتتبّع اجتهادات الصحابة ومن جاء بعدهم يجد أنّهم كانوا يفتون في كثير من الوقائع بمجرّد اشتمال الواقعة على مصلحة راجحة ، دون تقييد بمقتضى قواعد القياس ، أي بقيام شاهد على اعتبار المصلحة ، دون إنكار من أحد ، فكان فعلهم إجماعاً على اعتبار المناسب المرسل ، والإجماع كما هو معروف حجة يجب العمل به. (١)

الأمر الثالث : شروط العمل بها

إنّ الاستصلاح من مصادر الفقه والاستنباط عند المالكية والحنابلة ، دون الحنفية والشافعية ، فقد ذهب الأوّلان إلى أنّ الاستصلاح طريق شرعي لاستنباط الحكم فيما لا نصّ فيه ولا إجماع ، وانّ المصلحة المطلقة التي لا يوجد دليل

__________________

(١) أُصول الفقه الإسلامي : ٧٦٣ / ٢.

١٩٤

من الشرع يدلّ على اعتبارها ولا على إلغائها مصلحة صالحة لأن يبنى عليها الاستنباط.

والمعروف من الحنفية انّهم لا يأخذون بالاستصلاح ، وكذا الشافعية ، حتّى روي عن الشافعي أنّه قال : من استصلح فقد شرّع ، كما أنّ من استحسن فقد شرّع ، والاستصلاح كالاستحسان متابعة الهوى.

وقد اعتبرها الإمام مالك بشروط ثلاثة :

١. أن لا تنافي إطلاق أُصول الشرع ، ولا دليلاً من أدلّته.

٢. أن تكون ضرورية للناس مفيدة لهم ، أو دافعة ضرراً عنهم.

٣. أن لا تمسّ العبادات ، لأنّ أغلبها لا يعقل لها معنى على التفسير.

وعلى ذلك فالاستصلاح عبارة عن تشريع حكم في واقعة لا نصّ فيها ولا إجماع ، بناء على مراعاة مصلحة مرسلة مطلقة. (١)

الأمر الرابع : الكلام الحاسم في الاستصلاح

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ الكلام في الاستصلاح يقع في مقامات ثلاثة :

١. الأحكام الشرعية تابعة للمصالح والمفاسد.

٢. المصلحة من مصادر التشريع فيما لا نصّ فيه.

٣. الأحكام الولائية خاضعة للمصالح والمفاسد الاجتماعية.

إنّ دراسة كلّ من هذه الأُمور الثلاثة ، تلقي بصيصاً من الضوء على الموضوع ويتضح موقف الاستصلاح من التشريع ، ولعلّ ما يمرّ عليك يكون قولاً حاسماً في المقام.

__________________

(١) تاريخ التشريع الإسلامي : ١٧٢ ١٧٣.

١٩٥

فنقول :

المقام الأوّل : الأحكام الشرعية تابعة للمصالح والمفاسد

اتّفقت العدلية خلافاً للأشاعرة على ما حكي انّ الأحكام الشرعية تابعة لمصالح ومفاسد واقعية في متعلّقها وانّه سبحانه لم يفرض أو يحرم شيئاً إلّا فيه مصلحة أو مفسدة عائدة إلى المكلّف وإلّا يلزم أن يكون التكليف عبثاً وفعله سبحانه لغواً وقد أشار نصير الدين الطوسي إلى الموضوع بجملة موجزة وقال : ونفي الغرض يستلزم العبث ، ولا يعود إليه. (١)

والجملة الأُولى دليل المسألة وانّه لو لا الغرض ، يعود فعله سبحانه عبثاً تعالى عن ذلك ، وهو ينافي كونه حكيماً ، ويؤيده النقل قال سبحانه : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) (٢) إلى غير ذلك من الآيات الدالة على تنزيه فعله سبحانه عن العبث واللغو.

وتؤكد ذلك الآيات التي تتضمن بيان ملاكات الأحكام ومناطاتها يقول سبحانه في وجه تحريم الخمر : (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) (٣) ، ويقول تعالى : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) (٤). إلى غير ذلك من الآيات المبينة لمناطات الأحكام وملاكاتها.

وقد وردت عن أئمة أهل البيت (عليهم‌السلام) روايات حول علل الشرائع حتى ألف الشيخ الصدوق (٣٠٦ ٣٨١ ه‍) في الموضوع كتاباً خاصا أسماه «علل الشرائع».

__________________

(١) (كشف المراد : ٦٤ مع تعليقاتنا.)

(٢) (المؤمنون : ١١٥.)

(٣) (المائدة : ٩١.)

(٤) العنكبوت : ٤٥.

١٩٦

المقام الثاني : المصلحة من مصادر التشريع فيما لا نصّ فيه

هل المصلحة من مصادر التشريع ومن منابع استنباط الحكم الشرعي فيما لا نصّ فيه؟ فهناك صور ربّما يختلف حكمها.

الأُولى : تقديم المصلحة على النصّ ، ونبذ الآخر

إنّ الاستصلاح بهذا المعنى تشريع محرّم وتقدّم على الله ورسوله قال سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) (١) ، والواجب على كلّ مسلم ، التجنّب عن هذا القسم من الاستصلاح ، فمن يتوهّم المصلحة في سلب حقّ التطليق عن الزوج ، أو منح الزوجة حقّ التطليق أيضاً ، لا يصحّ له التشريع ، ولكن نجد مع الأسف رواج هذا الأُسلوب بين لفيف من الصحابة بعد رحيل الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) حيث كانوا يقدّمون المصلحة على النص.

١. روى مسلم عن ابن عباس ، قال : كان الطلاق على عهد رسول الله وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة ، فقال عمر بن الخطاب : إنّ الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة ، فلو أمضيناه عليهم ، فأمضاه عليهم.

٢. وروى عن ابن طاووس ، عن أبيه : أنّ أبا الصهباء قال لابن عباس : أتعلم انّما كانت الثلاث تجعل واحدة على عهد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وأبي بكر وثلاثاً من خلافة عمر؟ فقال : نعم.

٣. وروى أيضاً : أنّ أبا الصهباء قال لابن عباس : هات من هناتك ألم يكن الطلاق على عهد رسول الله وأبي بكر واحدة؟ قال : قد كان ذلك ،

__________________

(١) الحجرات : ١.

١٩٧

فلمّا كان في عهد عمر تتابع الناس في الطلاق فأجازه عليهم. (١)

هذه النصوص تدلّ بوضوح على أنّ عمل الخليفة لم ينطلق من الاجتهاد فيما لا نصّ فيه ولا أخذاً بروح القانون الذي يعبّر عنه بتنقيح المناط ، وإنّما كان عمله من الاجتهاد تجاه النص ونبذ الدليل الشرعي والسير وراء رأيه لمصلحة مذكورة في كلامه.

ومن هذا القبيل : نهي الخليفة عن متعة الحجّ ، ومتعة النساء ، والحيعلة في الأذان ، وغير ذلك.

الثانية : تقييد النصّ بالمصلحة

روي أنّه جاء رجل إلى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وقال : هلكت يا رسول الله ، قال : «ما أهلكك؟».

قال : وقعت على امرأتي في رمضان ، فقال : «هل تجد ما تعتق رقبته؟» قال : لا ، قال : «فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟» قال : لا ، قال : «فهل تجد ما تطعم ستين مسكيناً؟» قال : لا ، ثمّ جلس فأُتي النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بعرق فيه تمر ، فقال : «تصدّق بهذا». (٢)

ومقتضى إطلاق الحديث كفاية كلّ من الخصال في مقام التكفير ، فالغنيّ المفطر ، له أن يكفّر بالعتق كما له التكفير بالأُخرى ، ولكن ربما يقال بتعيّن الصيام على الغني ، لأنّه لا يُكفّر ذنبه إلّا به ، أي صوم شهرين متتابعين ، لأنّه هو الرادع له عن العود إلى الإفطار لا الإطعام ولا عتق الرقبة ، لعسر الأوّل ويسر الثانيين.

__________________

(١) (صحيح مسلم : ١٨٣ / ٤ ١٨٤ ، باب الطلاق ثلاثاً ، الحديث ٣١.)

(٢) بلوغ المرام / ١٣٦ برقم ٦٩٥.

١٩٨

وقد منع عمر بن الخطاب المؤلّفة قلوبهم ... من أخذ الزكاة قائلاً بأنّ مناط الحكم هو ضعف المسلمين وشوكة الكافرين فيصرف شيء من الزكاة فيهم ، لكي يستعان بهم على الكفار ، وهو منتف الآن. وبهذا ، قيّد إطلاق الآية : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (١) وخصّصها بصورة الضعف وأخرج صورة القوّة.

ولكنّه تشريع تجاه النص ، والاستصلاح في المقام ، كالاستصلاح في القسم الأوّل بدعة ، غير أنّه في الأوّل بمعنى نبذ النص من رأسه وفي المقام نبذ لإطلاقه.

إنّ هذا القسم من الاستصلاح ربما يعبّر عنه بالأخذ بروح القانون (٢) ، وهو بذل الجهد للوقوف على ملاك الحكم ومناطه الذي يقع التشريع وراءه ، وهو يكون أساساً لعملين :

١. إسراء الحكم ممّا فيه النصّ إلى ما ليس فيه إذا كان حائزاً للمناط ، وهنا تلتقي المصالح المرسلة مع القياس.

٢. تقييد إطلاق النصّ بالمناط والاسترشاد بالمصلحة والأخذ بروح القانون لا بحرفيّته.

إنّ الاستصلاح في كلا الموردين ممنوع ، امّا إذا كان أساساً للقياس فقد مرّ الكلام فيه وانّه لا دليل على حجّيته ؛ وأمّا الثاني ما كان سبباً لتقييد إطلاق الدليل فيه ، ففيه :

أمّا أوّلاً : فإنّ عقول الناس أقصر من أن تحيط بالمصالح والمفاسد.

وثانياً : فإنّ الاستصلاح بهذا المعنى ، فوق ما يرومه الأُصوليّون من أهل

__________________

(١) (التوبة : ٦٠.)

(٢) فجر الإسلام : ٢٣٨ ، نشر دار الكتاب.

١٩٩

السنّة ، وقد عرفت أنّ الإمام مالكاً خصّ العمل به بما إذا توفّرت فيه الشروط الثلاثة التي منها أن لا تنافي إطلاق أُصول الشرع ولا دليلاً من أدلّته.

فتلخّص أنّ الاستصلاح بالمعنى الأوّل والمعنى الثاني بكلا قسميه خارج عمّا هو محط البحث لدى الأُصوليين ، وإليك سائر الأقسام.

الثالثة : إنشاء الحكم فيما لا نصّ فيه على وفق المصلحة

إذا كان الموضوع ممّا لا نصّ فيه ولكن أدركنا بعقولنا وجود مصلحة فيه وإن لم يرد من الشارع أمر بالأخذ ، ولا بالرفض ، فتشريع الحكم الشرعي على وفقها هو الاستصلاح ولا مانع منه ويعلّله بعض المعاصرين بأنّ الحياة في تطوّر مستمر ، ومصالح الناس تتجدّد وتتغير في كلّ زمن ، فلو لم تشرع الأحكام المناسبة لتلك المصالح ، لوقع الناس في حرج ، وتعطّلت مصالحهم في كلّ الأزمنة والأمكنة ، ووقف التشريع عن مسايرة الزمن ومراعاة المصالح والتطوّرات ، وهذا مصادم لمقصد التشريع في مراعاة مصالح الناس وتحقيقها. (١)

يلاحظ عليه : أنّ لتشريع الحكم على وفق المصلحة صوراً :

الأُولى : تشريعه في الأُمور العبادية التوقيفية ، كتشريع الأذان الثاني لصلاة الجمعة لمّا كثر المسلمون ولم يكف الأذان بين يدي الخطيب لإعلامهم ، فلا شكّ انّه تشريع محرّم وإدخال في الدين ما لم يأذن به الله ، لأنّ الأذان الثاني عمل عباديّ لم يأذن به الشارع مع توفّر طرق أُخرى عاديّة لإعلام المصلّين ، من دون لزوم التشريع كما هو واضح.

الثانية : إذا كان أصل الحكم منصوصاً بوجه كلي ، ولكن فُوِّضت كيفيةُ العمل به وتحقيقه على صعيد الحياة إلى الحاكم الشرعي ، وذلك مثل ما مرّ من

__________________

(١) الوجيز في أُصول الفقه : ٩٤ ؛ مصادر التشريع الإسلامي : ١٠٠.

٢٠٠