أصول الفقه المقارن فيما لا نصّ فيه

الشيخ جعفر السبحاني

أصول الفقه المقارن فيما لا نصّ فيه

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-155-6
الصفحات: ٣٩٤

عليه رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بأنّ الأشياء المماثلة المتقاربة لا تتساوى أحكامها.

وثانياً : أنّ القياس عبارة عن استفادة حكم الفرع من حكم الأصل ، بحيث يستمد الفرع حكمه من الأصل ، وليس المقام كذلك ، بل كلاهما على مستوى واحد كغصني شجرة ، أو نهر.

وإن شئت قلت : إنّ المبطل هو الشرب لا مقدّمته (المضمضة) ، كما أنّ المبطل هو الجماع لا مقدّمته (القُبلة) ، فبما أنّ المخاطب كان واقفاً على ذلك الحكم في الشرب ، دون الجماع ، أرشده النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) إلى تشبيه القُبلة بالمضمضة إقناعاً للمخاطب ، لا استنباطاً للحكم من الأصل.

وكم فرق بين كون المتكلم في مقام استنباط حكم الفرع من الأصل ، وكونه في مقام إرشاد المخاطب إلى حكم الله وإقناعه بالمثال؟ وهذا المورد وما تقدّم من قبيل الثاني دون الأوّل.

٤. حديث الأعرابي

روى البخاري عن أبي هريرة أنّ رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) جاءه أعرابيّ فقال : يا رسول الله إنّ امرأتي ولدت غلاماً أسود (وإني أنكرته) ، فقال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : «هل لك من إبل؟» قال : نعم ، قال : «ما ألوانها؟» قال : حمر ، قال : «هل فيها من أورق (١)»؟ قال : نعم ، قال : «فأنّى كان ذلك؟» ، قال : أراه عرق نزع ، قال : «فلعلّ ابنك هذا عرق نزعه (٢)». (٣)

يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ الأصل المقرر في الشرع هو أنّ الولد للفراش ، ولمّا كان

__________________

(١) (الأورق : الإبل الأسود غير الحالك ، أي الّذي يميل إلى الغبرة.)

(٢) (نزع : أي رجع إليه.)

(٣) صحيح البخاري : ١٧٣ / ٨ ، كتاب الحدود.

١٤١

الأعرابي بصدد نفي الولد بحجة عدم التوافق في اللون حاول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) أن يبطل حجته بأنّ عدم التوافق لا يكون دليلاً على عدم ولادته منه ، وذلك لأنّه يوجد نظير ذلك في الحيوانات ، فربّما تلد الإبل الحمر ولداً أورق يغاير لونه لون والديه. وأين هذا من القياس؟

وإن شئت قلت : الحديث بصدد رفع استبعاده وإقناعه وإزالة شكّه ببيان انّ هذه القاعدة (لزوم التوافق في اللون) ليست ضابطة كلية وإنّما ربّما تنتقض كما في الأورق من الإبل.

وثانياً : أنّ القياس يتشكّل من أصل وفرع وجهة جامعة ، وعندئذ يقاس الفرع على الأصل ، وعلى ضوء هذا فما هو الأصل في الرواية وما هو الفرع؟!

فهل ولادة الإبل أصل وولادة الإنسان فرع ، مع أنّ كلا النوعين في الإيلاد واللقاح سواء؟

يقول ابن حزم : وهل من قال : إنّ توالد الناس مقيس على توالد الإبل ، إلّا بمنزلة من قال : إنّ صلاة المغرب إنّما وجبت فرضاً ، لأنّها قيست على صلاة الظهر ، وإنّ الزكاة إنّما وجبت قياساً على الصلاة. (١)

وحصيلة الكلام :

أوّلاً : أنّ هذه الروايات روايات أُحادية لا تفيد العلم اليقين ، فكيف يمكن أن يستدلّ بما لا يفيده في المقام؟ وقد عرفت أنّ الأصل في العمل بالظن ومنه القياس هو الحرمة ، فلا يخرج عن الأصل إلّا بدليل قطعي.

وثانياً : أنّ هذه الأحاديث ليست بصدد الاستدلال على الحكم الشرعي ، بل بصدد رفع الاستبعاد وإرشاد الطرف إلى الحكم الشرعي بأسهل الطرق ، وحاشا أن

__________________

(١) الإحكام : ٤١٣ / ٧.

١٤٢

يكون النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) مستدلاً بالقياس على الحكم الشرعي ، فإنّه عالم بعامّة الأحكام عن طريق الوحي ، وقد وصفه سبحانه بقوله : (وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً). (١)

وفضله سبحانه على نبيّه هو علمه ، فمن وُصف علمه بالعظمة ، فهو غني عن أن يلتجئ إلى القياس. وإنّما حاول في المقام رفع الاستبعاد عن المخاطب أو إرشاده إلى الحكم الشرعي بأسهل الطرق.

وقد استدلّوا بروايات غير صحيحة ولا ظاهرة في المقصود أعرضنا عن ذكرها ، ونتطرق هنا إلى استدلالهم بالعقل.

__________________

(١) النساء : ١١٣.

١٤٣

الاستدلال على القياس بالدليل العقلي

ويقرر بوجوه :

الأوّل : وحدة المناط تقتضي وحدة الحكم

إنّه سبحانه ما شرّع حكماً إلّا لمصلحة ، وأنّ مصالح العباد هي الغاية المقصودة من تشريع الأحكام ، فإذا ساوت الواقعةُ المسكوت عنها ، الواقعة المنصوص عليها في علّة الحكم الّتي هي مظنّة المصلحة ، قضت الحكمة والعدالة أن تُساويها في الحكم ، تحقيقاً للمصلحة التي هي مقصود الشارع من التشريع ، ولا يتّفق وعدل الله وحكمته أن يحرّم الخمر لإسكارها محافظة على عقول عباده ، ويبيح نبيذاً آخر فيه خاصيّة الخمر ، وهي الإسكار ، لأنّ مآل هذا ، المحافظةُ على العقول من مسكر ، وتركها عرضة للذهاب بمسكر آخر. (١)

يلاحظ عليه : أنّ الكبرى مسلّمة ، وهي أنّ أحكام الشرع تابعة للمصالح والمفاسد ، إنّما الكلام في إمكان وقوف الإنسان على مناطات الأحكام وعللها على وجه لا يخالف الواقع قيد شعرة ، وأمّا قياس النبيذ على الخمر فهو خارج عن محلّ الكلام ، لأنّا نعلم علماً قطعياً بأنّ مناط حرمة الخمر هو الإسكار ، ولذلك روي عن

__________________

(١) مصادر التشريع الإسلامي : ٣٤ ٣٥.

١٤٤

أئمّة أهل البيت (عليهم‌السلام) أنّه سبحانه حرّم الخمر وحرّم النبيّ كلَّ مسكر. (١) ولو كانت جميع الموارد من هذا القبيل لما اختلف في حجّية القياس اثنان.

ولأجل إيضاح الحال ، وأنّ المكلّف ربّما لا يصل إلى مناطات الأحكام ، نقول :

إذا نصّ الشارع على حكم ولم ينصّ على علّته ومناطه ، فهل للمجتهد التوصّل إلى معرفة ذلك الحكم عن طريق السبر والتقسيم بأن يُحصر الأوصاف الّتي توجد في واقعة الحكم ، وتصلح لأنّ تكون العلّة ، واحدة منها ، ويختبرها وصفاً وصفاً ، وبواسطة هذا الاختبار تُستبعد الأوصاف الّتي لا يصحّ أن تكون علّة ، ويستبقي ما يصحّ أن يكون علّة ، وبهذا الاستبعاد وهذا الاستبقاء يتوصّل إلى الحكم بأنّ هذا الوصف هو العلّة؟

ولكن في هذا النوع من تحليل المناط إشكالات واضحة مع غضّ النظر عن النهي الوارد في العمل بالقياس :

أوّلاً : نحتمل أن تكون العلّة عند الله غير ما ظنّه بالقياس ، فمن أين نعلم بأنّ العلّة عندنا وعنده واحدة؟

ثانياً : لو افترضنا أنّ المقيس أصاب في أصل التعليل ، ولكن من أين نعلم أنّها تمام العلّة ، لعلّها جزء العلّة وهناك جزء آخر منضمّ إليه في الواقع ولم يصل المُقيس إليه؟

ثالثاً : نحتمل أن تكون خصوصية المورد دخيلة في ثبوت الحكم ، مثلاً لو علمنا بأنّ الجهل بالثمن علّة موجبة شرعاً في فساد البيع ، ولكن نحتمل أن يكون الجهل بالثمن في خصوص البيع علّة ، فلا يصحّ لنا قياس النكاح عليه ، إذا كان

__________________

(١) الكافي : ٢٦٦ / ١.

١٤٥

المهر فيه مجهولاً ، فالعلّة هي الجهل بالثمن ، لا مطلق الجهل بالعوض حتّى يشمل المهر ، ومع هذه الاحتمالات لا يمكن القطع بالمناط.

وقد ورد على لسان أئمّة أهل البيت (عليهم‌السلام) النهي عن الخوض في تنقيح المناط.

والّذي يكشف عن هذا المطلب ، هو أنّ الجارية تحت العبد إذا أُعتقت فلها الخيار إن شاءت مكثت مع زوجها ، وإن شاءت فارقته ، أخذاً بالسنّة حيث إنّ «بريدة» كانت تحت عبد ، فلمّا أُعتقت ، قال لها رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : «اختاري فإن شئت أن تمكثي تحت هذا العبد ، وإن شئت أن تفارقيه». (١)

ثمّ إنّ الحنفية قالت بأنّ الجارية تحت الحرّ إذا أُعتقت لها الخيار كالمعتقة تحت العبد ، لاشتراكهما في كونهما جاريتين اعتقتا ، ولكن من أين نعلم بأنّ الانعتاق تمام المناط للحكم؟ ولعلّ كونها تحت العبد وافتقاد المماثلة جزء العلّة؟ فما لم نقطع بالمناط لا يمكن إسراء الحكم ، وهذا هو الّذي دعا الشيعة إلى منع العمل بالقياس وطرح تخريج المناط الظني الّذي لا يغني من الحقّ شيئاً.

الثاني : النصوص متناهية والوقائع غير محدودة

إنّ نصوص القرآن والسنّة محدودة ومتناهية ، ووقائع الناس وأقضيتهم غير محدودة ولا متناهية ، فلا يمكن أن تكون النصوص المتناهية وحدها مصادر تشريعية لما لا يتناهى.

وبعبارة أُخرى : القياس هو المصدر التشريعي الذي يساير الوقائع المتجدّدة ، ويكشف حكم الشريعة فيما يقع من الحوادث ، ويوفّق بين التشريع والمصالح. (٢)

__________________

(١) (الكافي : ٢٦٦ / ١ برقم ٤.)

(٢) مصادر التشريع الإسلامي : ٣٥ ، انظر المنخول : ٣٢٧ و ٣٥٩.

١٤٦

يلاحظ عليه :

أوّلاً : أنّ عدم إيفاء النصوص عند أهل السنّة بالإجابة عن جميع الأسئلة المتكثّرة ، لا يكون دليلاً على حجّية القياس ، فربّما تكون الحجّة غيره ، إذ غاية ما في الباب أنّ عدم الوفاء يكون دليلاً على أنّ الشارع قد حلّ العقدة بطريق ما ، وأمّا أنّ هذا الطريق هو القياس ، فلا يكون دليلاً عليه.

إنّ فقهاء السنّة لو رجعوا إلى الطرق والأمارات والأُصول العملية الأربعة (١) التي مضى الإيعاز إليها في الباب الأوّل لاستغنوا عن اعتبار القياس ، وهذه الضوابط والأمارات واردة في حديث أئمّة أهل البيت عن جدّهم ، والقوم لما أعرضوا عن أحد الثقلين أعني : العترة الطاهرة في حديث الرسول وقعوا في هذا المأزق وزعموا انّ النصوص غير وافية ببيان الأحكام غير المتناهية ، وقد غفلوا انّ غير المتناهي هي الجزئيات والمصاديق ، وهو لا يوجد مشكلة إذا كانت الضوابط العامة قادرة على إعطاء حكمها.

وثانياً : أنّ المستدلّ اتّخذ المدّعى دليلاً وقال : «والقياس هو المصدر التشريعي الذي يساير الوقائع المتجدّدة» ، مع أنّ الكلام في أنّ القياس هل هو مصدر تشريعيّ حتّى نأخذ به في مسايرته مع الوقائع المتجدّدة أو لا؟ ومجرّد كونه يساير الحوادث لا يكون دليلاً على كونه حجّة ، فانّ القوانين الوضعيّة في الغرب أيضاً تساير الوقائع ، فهل يصحّ لنا أخذها بذلك الملاك؟!

إنّ العمل بالقياس ما لم يدعمه دليل قطعي تشريع وبدعة وإدخال في الدين ما لم يعلم كونه منه ، فهل يكون مثله يبيح البدعة مع إمكان الخروج من المأزق بروايات أئمّة أهل البيت الذين هم أعدال الكتاب وقرناؤه في حديث

__________________

(١) البراءة ، الاحتياط ، التخيير ، الاستصحاب.

١٤٧

الثقلين؟ فهل رواياتهم وأحاديثهم (عليهم‌السلام) كابر عن كابر موصول إلى رسول الله ، أقلّ منزلة من القياس الظنّي؟!

الثالث : في العمل بالقياس دفع للضرر المظنون

القياس يفيد الظنّ بالحكم وهو يلازم الظنّ بالضرر فيجب دفعه.

قال الرازي : إنّ من ظنّ أنّ الحكم في الأصل معلّل بكذا وعلم أو ظنّ حصول ذلك الوصف في الفرع ، وجب أن يحصل له الظنّ بأنّ حكم الفرع مثل حكم الأصل. ومعه علم يقيني بأنّ مخالفة حكم الله تعالى سبب العقاب ، فتولّد من ذلك الظن ، وهذا العلم ، ترك العمل به سبب للعقاب ، فثبت أنّ القياس يفيد ظن الضرر. (١)

وقال الأرموي : العمل بالقياس دفع ضرر مظنون ، وأنّه واجب. فيكون العمل بالقياس واجباً.

أمّا الأوّل : فلأنّه إذا ظن تعليل الحكم في الأصل بوصف ، وظن أنّ ذلك الوصف موجود في الفرع ، فحينئذ يظن أنّ ذلك الحكم ثابت في الفرع. وعنده عُلم «أنّ مخالفة حكم الله سبب للعقاب». فيتولد من هذا «العلم» وذلك «الظن» ظن أنّ خلاف القياس ضرر ، والعمل يدفع ذلك.

وأمّا الثاني : أي أنّ دفع الضرر واجب فواضح عند العقل. (٢)

يلاحظ عليه : أنّ الرازي والأرموي خلطا بين موردي القاعدتين العقليتين المحكَمتين :

__________________

(١) (المحصول : ٢٨٨ / ٢.)

(٢) الحاصل من المحصول : ١١٩ / ٣. لاحظ ذيل كلامه في أنّ دفع الضرر واجب ، فقد أطال الكلام بما لا حاجة إليه.

١٤٨

١. قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

٢. وجوب دفع الضرر المظنون بل المحتمل.

فإنّ القاعدتين لا غبار عليهما لكن لم يعرفا موردهما.

أمّا القاعدة الأُولى ، فهي قاعدة محكمة دلّ العقل والنقل على صحّتها. أمّا العقل فواضح فإنّ استقلال العقل بقبح العقاب بلا بيان شيء لا ينكر ، وأمّا النقل فيكفي قوله سبحانه : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً). (١) وبعث الرسول كناية عن إتمام الحجّة وبيان التكليف.

فإذا لم يرد في واقعة دليل شرعي على الحرمة أو الوجوب يستقل العقل بقبح عقاب المكلّف إذا ارتكب ، حتى ولو ظن بأحد الحكمين ، وذلك إمّا لا يكون هناك ظنّ بالضرر الأُخروي أو يكون ظنّ به (الدنيوي) لكن لا يكون مثله واجب الاجتناب.

وذلك لأنّه لو أُريد بالضرر ، الضرر الأُخروي فهو مقطوع الانتفاء بحكم تقبيح العقل مثل ذلك العقاب وتأييد الشرع له ، ففي مثل ذلك المورد لا يكون الظن بالحرمة أو الوجوب ، ملازماً للظن بالضرر أبداً ، لعدم تمامية الحجّة على المكلّف.

ولو أُريد بالضرر ، الضرر الدنيوي ، فهو وإن كان ملازماً للظنّ بالحكم غالباً ، نظراً إلى تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد ، لكنّه ليس بواجب الدفع إلّا إذا كان ضرراً عظيماً لا يتحمل ، ففي مثله يستقل العقل بدفعه.

وحصيلة الكلام : أنّ القياس لما لم تثبت حجّيته فالظن بالحكم لأجله ، لا يلازم الظن بالضرر الأُخرويّ أبداً ، وأمّا الضرر الدنيوي فهو وإن كان ربّما يلازمه

__________________

(١) الإسراء : ١٥.

١٤٩

لكنّه غير واجب الدفع غالباً إلّا ما ذكرناه.

فخرجنا بتلك النتيجة : انّ الظنّ الحاصل بالحكم لأجل القياس الذي لم تثبت حجّيته لا يكون ملازماً للظن بالعقوبة ولا يكون داخلاً في قاعدة «لزوم دفع الضرر المظنون».

وأمّا القاعدة الثانية التي زعم الرازي أنّ المقام من مصاديقها وجزئياتها ، فموردها ما إذا قام الدليل على الحكم الكلي ، وعلى وجود الموضوع له ، فعندئذ يجب دفع الضرر بصوره الثلاث :

ألف. تارة يكون الضرر (العقاب) مقطوعاً ، كما إذا علم بأنّ الخمر حرام وانّ هذا المانع خمر.

ب. وأُخرى يكون الضرر مظنوناً ، كما إذا علم بأنّ الخمر حرام ، وعلم أنّ أحد الإناءين خمر ، فشرب أحدهما لا كليهما مظنة للضرر الأُخروي.

ج. وثالثة يكون الضرر (العقاب) مشكوكاً ، كما إذا تردّد الخمر بين أوان عشر ، فشرب أحدها ، يكون محتملاً للضرر.

فالضرر بتمام صوره واجب الدفع للعلم بالكبرى ، أعني : الحكم الكلّي ، والعلم بالموضوع معيناً أو مردّداً بين إناءين أو أوان كثيرة.

فاللازم على الفقيه تنقيح مصاديق القاعدتين حتّى لا يخلط مواردهما ، كما خلط الرازي ومن لفّ لفّه.

١٥٠

الاستدلال على القياس بالإجماع

استدلّ القائلون بحجّية القياس ، بإجماع الصحابة على العمل به ، كما عمل به من جاء بعدهم من التابعين والفقهاء.

قال الغزالي : والّذي ذهب إليه الصحابة (رضي الله عنهم) بأجمعهم وجماهير الفقهاء والمتكلّمين بعدهم رحمهمُ الله ، وقوع التعبّد به شرعاً. (١)

وقال الأرموي : العمل بالقياس مجمع عليه والإجماع حجّة.

ثمّ قال : وإنّما قلت : «إنّه مجمع عليه» لوجوه :

أحدها : قول عمر : «اعرف الأشياء والنظائر ، وقس الأُمور برأيك» من غير إنكار أحد من الصحابة عليه.

وثانيها : إنكار ابن عباس على زيد بن ثابت في عدم حجبه الأخ بالجد وقياس ابن عباس الجد على ابن الابن من غير إنكار من الصحابة.

وثالثها : اتّفاقهم على القول بالرأي ، مع أنّ «الرأي» هو : القياس.

أمّا «اتّفاقهم على القول بالرأي» فقول أبي بكر في الكلالة : «أقول فيها برأيي».

وعن عمر في الجد : «أقضي برأيي» وعن علي (عليه‌السلام) : «اجتمع رأيي ورأي

__________________

(١) المستصفى : ٢٣٤ / ٢.

١٥١

عمر في أُمّ الولد : أن لا تباع ، وقد رأيت الآن بيعهن».

وأمّا «أنّ الرأي هو : القياس» : فلأنّهم يجعلونه قسيماً للنص و «قسيم النص» هو : القياس.

فثبت إجماع الصحابة على القول بالقياس.

وأمّا «إنّ الإجماع حجّة» : فلما مرّ. (١)

أقول : سيوافيك أنّ العمل بالقياس كان مورد خلاف بعد رحيل الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بين الصحابة والتابعين ومن جاء بعدهم من الفقهاء ، وستوافيك نصوص الخلاف.

وأمّا ما احتجّ به من الوجوه على الإجماع فالجميع مخدوش.

أمّا الأوّل : أعني قول عمر : «اعرف الأشياء والنظائر وقس الأُمور برأيك» فقد قاله لأبي موسى الأشعري حين ولّاه على البصرة. (٢)

فلعلّ المراد هو معرفة مصاديق الشيء الكلّي الّذي ورد النص على حكمه ، إذ ربّما يغفل الإنسان عن حكم مصداق لضابطة كلية ، فالمراد استخراج حكم مصاديق الضابطة الّتي ورد على وفقها النص كما هو الحال في الدين ، ففي قوله سبحانه : (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ). (٣) ضابطة كلية تدفع الفقيه إلى الحكم بقضاء مطلق الدين من غير فرق بين ديون الناس وديونه سبحانه.

ومنه يظهر معنى قوله : «وقس الأُمور برأيك».

وأمّا إنكار ابن عباس على زيد بن ثابت في عدم حجبه الأخ بالجد ، فإنّما

__________________

(١) (الحاصل من المحصول : ١١٠ / ٣ ١١١.)

(٢) (المستصفى : ٢٤٤ / ٢.)

(٣) النساء : ١٢.

١٥٢

هو لأجل أنّ ابن الابن ابنٌ ، وأب الأب أب ، فالأوّل يدخل في قوله سبحانه : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ). (١)

والثاني يدخل في قوله تعالى : (وَوَرِثَهُ أَبَواهُ) (٢). فيكون الجدّ حاجباً للأخ لكونه مصداقاً ادّعائياً للأب.

وأمّا الثالث : أعني اتّفاقهم على الرأي فلم يعلم أنّ المراد على الرأي هو القياس ولم يثبت أنّ الرّأي مساوق للعمل بالقياس. بل لعلّهم اعتمدوا فيها على ضرب من الاستدلال والتأمّل.

يقول الشيخ المظفر : ويجب الاعتراف بأنّ بعض الصحابة استعملوا الاجتهاد بالرأي وأكثروا ، بل حتّى فيما خالف النص تصرّفاً في الشريعة باجتهاداتهم ، والإنصاف أنّ ذلك لا ينبغي أن ينكر من طريقتهم ، ولكن لم تكن الاجتهادات واضحة المعالم عندهم من كونها على نحو القياس ، أو الاستحسان ، أو المصالح المرسلة ، ولم يعرف عنهم ، على أيّ كانت اجتهاداتهم ، أكانت تأويلاً للنصوص ، أم جهلاً بها ، أم استهانة بها؟ ربّما كان بعض هذا ، أو كلّه من بعضهم ، وفي الحقيقة إنّما تطوّر البحث عن الاجتهاد بالرأي في تنويعه وخصائصه في القرن الثاني والثالث. (٣)

ولو ثبت عمل لفيف من الصحابة ، فليس عملهم حجّة ما لم يبلغ حدّ الإجماع.

__________________

(١) (النساء : ١١.)

(٢) (النساء : ١١.)

(٣) أُصول الفقه : ١٧٢ / ٢.

١٥٣

الاستدلال بالإجماع ببيان آخر

ثمّ إنّ الرازي استدلّ بإجماع يعتمد على مقدّمات ثلاث :

المقدّمة الأُولى : إنّ بعض الصحابة ذهب إلى العمل بالقياس والقول به.

المقدّمة الثانية : إنّه لم يوجد من أحدهم إنكار أصل القياس ، فلأنّ القياس أصل عظيم في الشرع نفياً أو إثباتاً ، فلو أنكر بعضهم لكان ذلك الإنكار أولى بالنقل من اختلافهم ، ولو نقل لاشتهر ، ولوصل إلينا ، فلمّا لم يصل إلينا علمنا أنّه لم يوجد.

المقدّمة الثالثة : إنّه لمّا قال بالقياس بعضهم ولم ينكره أحد منهم فقد انعقد الإجماع على صحّته. (١)

يلاحظ عليه : أنّ كلاً من المقدمات الثلاث قابل للنقاش والرد.

أمّا الأُولى : فلنفترض أنّ بعض الصحابة عمل بالقياس على وجه الإجمال ولكن لم يُشخّص تفاصيله ، وانّهم هل عملوا بمنصوص العلّة أو بمستنبطها؟ وعلى فرض العمل بالثاني فلم يعلم ما هو مسلكهم في تعيين علّة الحكم ومناطه ، فهل كان بالسبر والتقسيم أو من طريق آخر؟ ومع هذا الإجمال كيف يمكن أن يتّخذ عمل الصحابة دليلاً على حجّية القياس في عامة الموارد وعامة المسالك إلى تعيين علّة الحكم ومناطه.

وأمّا الثانية : فلأنّ تسمية عمل البعض مع سكوت الآخرين إجماعاً غير صحيح جدّاً ، لأنّ الإجماع عند الأُصوليين عبارة عن اتّفاق علماء عصر واحد على حكم شرعي. (٢)

__________________

(١) (المحصول : ٢٦٢ / ٢ ٢٦٩. وقد صرح في ص ٢٩٢ : أنّ مذهب أهل البيت إنكار القياس.)

(٢) المستصفى : ١١٠ / ١.

١٥٤

ومن المعلوم أنّ عمل البعض لا يعدّ دليلاً على الإجماع وإن سكت الآخرون ، وذلك لأنّ الصحابة لم يكونوا مجتمعين في المدينة المنورة ، بل ميادين الجهاد والبلدان المفتوحة والثغور وغيرها أخذت كثيراً من الصحابة ولاة وعمّالاً وجنداً وقادة ، فكيف عرف اتّفاقهم على هذين المقامين حتّى يتحقّق الإجماع؟!

وأمّا الثالثة : وهو عدم إنكار أحد منهم فهو أيضاً محجوج بالروايات القطعية عن بعض الصحابة والتابعين في استنكار القياس. وسيوافيك بيانها.

استنكارات الصحابة للعمل بالقياس

رويت كلمات عن بعض الصحابة (تحذر) بالعمل بالقياس ، وها نحن نذكر بعض هذه الكلمات :

١. عن عمر بن الخطاب : إيّاكم وأصحاب الرأي ، فإنّهم أعداء السنن ، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها فقالوا بالرأي ، فضلّوا وأضلّوا. (١) وقد شاع عند القائل بالقياس أنّ الرأي هو القياس أو أعمّ منه ومن غيره.

وعلى كلّ تقدير يعمّ القياس.

٢. وعن علي (عليه‌السلام) قال : «لو كان الدين يؤخذ قياساً لكان باطن الخف أولى بالمسح من ظاهره».

٣. وعن (٢) ابن عباس : يذهب قرّاؤكم وصلحاؤكم ، ويتّخذ الناس علماءً

__________________

(١) (الإحكام لابن حزم : ٧٧٩ / ٦ ٧٨٠ ، تحقيق أحمد شاكر ؛ الفقه والمتفقّه للخطيب البغدادي : ١٨١ / ٥.)

(٢) الإحكام للآمدي : ٤٤ / ٤.

١٥٥

جهّالاً : يقيسون الأُمور ب آرائهم. (١)

وقال : إذا قلتم في دينكم بالقياس : أحللتم كثيراً ممّا حرم الله ، وحرّمتم كثيراً ممّا أحلّ الله.

٤. عن الشعبي ، عن مسروق ، عن عبد الله بن مسعود أنّه قال : ليس عام إلّا والذي بعده شر منه ، لا أقول عام أمطر من عام ، ولا عام أخصب من عام ، ولا أمير خير من أمير ، ولكن ذهب خياركم وعلماؤكم ، ثمّ يحدث قوم يقيسون الأُمور برأيهم فينهدم الإسلام وينثلم.

٥. عن جابر بن زيد ، قال : لقيني ابن عمر قال : يا جابر إنّك من فقهاء البصرة وستُستفتى ، فلا تُفتينّ إلّا بكتاب ناطق أو سنّة ماضية.

٦. عن زيد بن عميرة ، عن معاذ بن جبل ، قال : تكون فتن يكثر فيها الملل ويفتح فيها القرآن حتى يقرؤه الرجل والمرأة ، والصغير والكبير ، والمؤمن والمنافق ، فيقرؤه الرجل فلا يتبع ، فيقول : والله لأقرأنّه علانية ، فيقرؤه علانية فلا يتبع ، فيتخذ مسجداً ويبتدع كلاماً ليس من كتاب الله ولا من سنّة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فإيّاكم وإيّاه ، فإنّها بدعة ضلالة. قالها ثلاث مرات.

هذا وقد ذكر ابن حزم أحاديث أُخرى على لسان الصحابة في ذم القياس أعرضنا عنها خوفاً من الإطالة ، ونقتصر على سرد أسمائهم :

أبو هريرة ، سمرة بن جندب ، عبد الله بن أبي أوفى ، ومعاوية. (٢)

هذا بعض ما نقل عنهم حول إنكار العمل بالقياس.

__________________

(١) (المستصفى : ٢٤٧ / ٢ باختلاف يسير في المتن.)

(٢) انظر الإحكام في أُصول الأحكام : ٥٠٨ / ٦ ٥١١ ؛ إعلام الموقعين عن ربّ العالمين : ٢٤٠ / ١ ٢٤٢ ، طبعة دار الكتاب العربي.

١٥٦

وأمّا العترة الطاهرة فحدّث عنهم ولا حرج فقد تواترت كلماتهم على إنكار القياس.

وقد اعترف الرازي بإنكار العترة العمل بالقياس.

وقال : إنّ مذهب أهل البيت (عليهم‌السلام) إنكار القياس. (١)

وها نحن نذكر كلماتهم (عليهم‌السلام) :

القياس في كلمات العترة الطاهرة (عليهم‌السلام)

١. عن جعفر بن محمد (عليهما‌السلام) ، عن أبيه (عليه‌السلام) أنّ علياً (عليه‌السلام) قال : «من نصب نفسه للقياس لم يزل دهره في التباس ، ومن دان الله بالرأي لم يزل دهره في ارتماس».

٢. كتب الإمام الصادق (عليه‌السلام) في رسالة إلى أصحابه أمرهم بالنظر فيها وتعاهدها والعمل بها ، وقد جاء فيها : «لم يكن لأحد بعد محمّد (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) أن يأخذ بهواه ولا رأيه ولا مقاييسه ثمّ قال : واتّبعوا آثار رسول الله وسنّته فخذوا بها ولا تتبعوا أهواءكم ورأيكم فتضلّوا».

٣. روى سماعة بن مهران ، عن أبي الحسن موسى الكاظم (عليه‌السلام) : «ما لكم وللقياس ، إنّما هلك من هلك من قبلكم بالقياس».

٤. عن أبان بن تغلب ، عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «إنّ السنّة لا تقاس ، ألا ترى أنّ المرأة تقضي صومها ولا تقضي صلاتها ، يا أبان إنّ السنّة إذا قيست محق الدين».

٥. عن عثمان بن عيسى قال : سألت أبا الحسن موسى عن القياس؟

__________________

(١) المحصول : ٢٩٢ / ٢.

١٥٧

فقال : «وما لكم وللقياس ، إنّ الله لا يسأل كيف أحلّ وكيف حرّم».

٦. عن أبي شيبة الخراساني ، قال : سمعت أبا عبد الله (عليه‌السلام) يقول : «إنّ أصحاب المقاييس طلبوا العلم بالمقاييس فلم تزدهم المقاييس من الحقّ إلّا بعداً ، وإنّ دين الله لا يصاب بالمقاييس».

٧. عن محمد بن مسلم قال : كنت عند أبي عبد الله (عليه‌السلام) بمنى إذ أقبل أبو حنيفة على حمار له ، فلمّا جلس قال : إنّي أُريد أن أُقايسك ، فقال أبو عبد الله (عليه‌السلام) : «ليس في دين الله قياس».

٨. عن زرارة بن أعين قال : قال لي أبو جعفر محمد بن علي (عليه‌السلام) : «يا زرارة إيّاك وأصحاب القياس في الدين ، فانّهم تركوا علم ما وُكّلوا وتُكلِّفوا ما قد كفوه ، يتأوّلون الأخبار ، ويكذبون على الله عزوجل ، وكأنّي بالرجل منهم ينادى من بين يديه فيجيب من خلفه ، وينادى من خلفه فيجيب من بين يديه ، قد تاهوا وتحيّروا في الأرض والدين». (١)

القياس في كلمات الصحابة والتابعين

إنّ لفيفاً من التابعين ممّن يؤخذ عنهم العلم قد خالفوا القياس بحماس وندّدوا به ، وإليك نزراً من كلماتهم ليعلم أنّ القياس لم يكن أمراً متفقاً عليه بين أوساط التابعين كما لم يكن كذلك بين الصحابة :

١. عن داود بن أبي هند قال : سمعت محمد بن سيرين ، يقول : القياس شؤم ، وأوّل من قاس إبليس فهلك ، وإنّما عُبدت الشمسُ والقمرُ بالمقاييس.

٢. قال ابن وهب : أخبرني مسلم بن علي أنّ شريحاً القاضي قال : إنّ

__________________

(١) راجع الوسائل : ١٨ ، الباب ٦ من أبواب صفات القاضي.

١٥٨

السنّة سبقت قياسَك.

٣. عن المغيرة بن مقسم ، عن الشعبي ، قال : السنّة لم توضع بالقياس.

٤. وعن عامر الشعبي أيضاً : إنّما هلكتم حيث تركتم الآثار وأخذتم بالمقاييس.

٥. عن جابر ، عن الشعبي ، عن مسروق قال : لا أقيس شيئاً بشيء ، قيل : لمَ؟ قال : أخشى أن تزل رجلي.

وكان يقول : إيّاكم والقياس والرأي ، فإنّ الرأي قد يزل.

إلى غير ذلك من الروايات التي يطول بذكرها الكلام ، ونكتفي هنا بسرد أسماء التابعين الذين نالوا من القياس :

إياس بن معاوية ، مالك بن أنس ، وكيع بن الجراح ، حماد بن أبي حنيفة ، ابن شبرمة ، مطر الوراق ، عطاء بن أبي رباح ، أبو سلمة بن عبد الرحمن. (١)

أفبعد هذه الاستنكارات المتضافرة عن العترة ولفيف من الصحابة والتابعين يصحّ ادّعاء الإجماع على صحّة القياس ولم يخالفه أحد ، لو لم نقل انّ الإجماع قام على نفي القياس؟!

وهذا يدلّ على أنّ هذا العنصر قد دخل حيّز التشريع الإسلامي بموافقة بعض ومخالفة البعض الآخر له ، وانّ ادّعاء الإجماع في مثل هذه المسألة أمر لا يليق بمن تتبّع كلمات الفقهاء في هذا الصدد ، وقد نقل ابن قيم الجوزيّة كلمات الموافقين كما نقل كلمات المخالفين للقياس ، وإن كان في كثير من المباحث عيالاً على كتاب «الإحكام» لابن حزم الأندلسيّ.

__________________

(١) انظر : الاحكام في أُصول الاحكام لابن حزم : ٥١١ / ٦ ٥١٤ ؛ اعلام الموقعين : ٢٤٣ / ١ ٢٤٦ ؛ عدّة الأُصول : ٦٨٨ / ٢ ٦٩٠.

١٥٩

الآن حصحص الحقّ

لقد أثبتت البحوث السابقة حول ما أُقيم من الأدلّة على حجّية القياس انّه ليس هناك دليل صالح قاطع للنزاع ، مفيد للعلم بأنّ الشارع جعل القياس حجّة فيما لا نصّ فيه ، وهناك نكتة جديرة بالتأمّل فيها ، وهي انّه إذا كان للقياس في الشريعة المقدّسة هذه المنزلة في التشريع الإسلامي ، فلما ذا لم يقع في إطار البيان الصريح من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، كما وقع قول الثقة أو حجّية البيّنة في إطاره؟

وقد عرفت أنّ ما استدلّوا من كلام الشارع في ذلك المجال كلّها انتزاعات شخصية فرضت عليه ، وانّ عقيدة المستدلّ جرّته إلى أن يبحث عن الدليل حول عقيدته ، فلذلك جمع أشياء من هنا وهناك ليثبت بها مدّعاه ، والجميع بريء ممّا يرتئيه.

١٦٠