أصول الفقه المقارن فيما لا نصّ فيه

الشيخ جعفر السبحاني

أصول الفقه المقارن فيما لا نصّ فيه

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-155-6
الصفحات: ٣٩٤

الفصل الثاني

أدلّة مثبتي القياس

استدلّ القائلون بالقياس بوجوه من الأدلّة من الكتاب والسنّة والعقل. فلنقدّم البحث فيما استدلّوا به من الآيات.

الآية الأُولى : آية الرد إلى الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً). (١)

لم تزل الآية يستدلّ بها كابر بعد كابر على حجّية القياس ، ولبّ الدليل هو : «أنّ العمل بالقياس رد إلى الله سبحانه ورسوله» وإليك التفصيل :

إنّه سبحانه أمر المؤمنين إن تنازعوا واختلفوا في شيء ، ليس لله ولا لرسوله ولا لولي الأمر منهم فيه حكم ، أن يردّوه إلى الله والرسول ، وردّه وإرجاعه إلى الله وإلى الرسول يشمل كلّ ما يصدق عليه أنّه ردّ إليهما ، ولا شكّ أنّ إلحاق ما لا نصّ فيه بما فيه نصّ لتساويهما في علّة حكم النص ؛ من رد ما لا نصّ فيه إلى الله

__________________

(١) النساء : ٥٩.

١٢١

والرسول ، لأنّ فيه متابعة لله ولرسوله في حكمه. (١)

وقال أبو زهرة : وليس الرد إلى الله وإلى الرسول إلّا بالتعرّف على الأمارات الدالّة منهما على ما يرميان إليه ، وذلك بتعليل أحكامهما والبناء عليها ، وذلك هو القياس. (٢)

وقال الشلبي : وفي هذه الآية يأمر الله المؤمنين عند الاختلاف والتنازع في شيء ليس لله ولا لرسوله حكم صريح فيه أن يردّوه إلى الله ورسوله ، ومعنى الردّ إلى الله والرسول إرجاع المختلف فيه إلى كتاب الله وسنّة رسوله ، فيلحق النظير بنظيره ، وما تنازعته الأشباه يلحق بأقربها شبهاً ، ولا يتحقّق ذلك إلّا في الاشتراك بالعلّة فيؤول الأمر إلى الأمر بالقياس. (٣)

ولا يخفى أنّ القوم كلّهم قد ضربوا بسهم واحد بمعنى انّهم عبّروا عن حقيقة واحدة بألفاظ متقاربة.

والّذي يجب علينا هو تحديد معنى «الرد إلى الله ورسوله» ، ليتبين أنّ العمل بالقياس ردٌّ إلى الله ورسوله ، أو هو عمل بالظن بأنّه حكم الله.

أقول : إنّ الرد إلى الله سبحانه ورسوله يتحقّق إمّا بالرجوع إليهم وسؤالهم عن حكم الواقعة قال سبحانه : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ). (٤)

أو إرجاعها إلى الضابطة الكلّية الّتي ذكرها الرسول ، فمثلاً إذا شككنا في لزوم شرط ذكره المتعاقدون في العقد وعدمه ، فنرجع إلى الضابطة الّتي ذكرها الرسول في باب الشروط وقال : «إنّ المسلمين عند شروطهم ، إلّا شرطاً حرّم حلالاً

__________________

(١) (علم أُصول الفقه : ٦١.)

(٢) (أُصول الفقه : ٢٠٧.)

(٣) (أُصول الفقه الإسلامي : ٢٠٠ ؛ ولاحظ أُصول السرخسي : ١٢٩ / ٢ وغيره.)

(٤) الأنبياء : ٧.

١٢٢

أو أحلّ حراماً».

قال القرطبي في تفسير قوله : (فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) أي ردّوا ذلك الحكم إلى كتاب الله ، أو إلى رسوله بالسؤال في حياته ، أو بالنظر إلى سنّته بعد وفاته. وهذا قول مجاهد والأعمش وقتادة وهو الصحيح إلى أن قال : وقد استنبط عليّ (عليه‌السلام) مدّة أقلّ الحمل وهو ستّة أشهر من قوله تعالى : (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) (١) وقوله تعالى : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) ، فإذا فصلنا (٢) الحولين من ثلاثين شهراً بقيت ستة أشهر.

وأين هذا (أي الرد إلى كتاب الله وسنّة رسوله) ، من الرجوع إلى القياس ، لأنّ قياس ما لا نصّ فيه على ما نصّ فيه لأجل تساوي الواقعتين في شيء أو في أشياء نحتمل أو نظنّ أن تكون جهة المشاركة هي العلّة لبناء الحكم ، ليس ردّاً إلى الله ورسوله ، لأنّ العلّة ، ليست منصوصة في كلامه أو كلام نبيّه ، بل مستنبطة بطريق من الطرق الّتي لا نذعن بإصابتها بل عملاً بالظن بأنّه حكم الله.

وبذلك يظهر ضعف ما مرّ من الشيخ أبي زهرة ، وذلك لأنّ الاهتداء بتعليل الأحكام إلى نفسها إنّما يصحّ إذا كانت العلّة مذكورة في كلامه سبحانه أو كلام رسوله ، لا ما إذا قام العقل الظنّي باستخراج العلّة بالسبر والتقسيم أو بغيرهما من الطرق.

وحصيلة الكلام : أنّه لا مشاحة في الكبرى وهي :

وجوب الرد إلى الله ورسوله ، وإنّما النزاع في الصغرى وهي : هل العمل بالقياس ردّ إلى الله ورسوله ، أو عمل بالظن بأنّه حكم الله؟ وذلك لأنّ العلّة لو

__________________

(١) (الأحقاف : ٥.)

(٢) البقرة : ٢٣٣.

١٢٣

كانت منصوصة في كلامه سبحانه أو في كلام نبيّه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) أو ما حصل اليقين بكونه العلّة ، يصحّ أنّه ردّ إلى الله ، لأنّه عمل بالتعليل الشامل على الأصل والفرع.

وأمّا إذا كانت العلّة مظنونة ، أي نحتمل انّها العلّة أو أنّ العلّة غيرها كما نحتمل أنّه علّة تامّة أو جزء علّة ، ومع هذا الاحتمال كيف يصدق عليه أنّه ردّ إلى الله ورسوله؟!

وثانياً : انّ الآية نزلت في مورد التخاصم والتحاكم ، كما يدلّ عليه قوله سبحانه في نفس الآية : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) ، وقوله سبحانه بعد هذه الآية : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ) (١). ومن المعلوم أنّ الرجوع إلى القياس الظني لا يفضّ نزاعاً ولا يقطع اختلافاً ، وإنّما يقطع النزاع الرجوعُ إلى كتاب الله وسنّة رسوله اللّذين لا يختلف فيهما اثنان ، ولذلك تختلف فتاوى العلماء القائلين بحجيّة القياس في موارد كثيرة حيث إنّ البعض يرى توفر شروط العمل به دون البعض الآخر ، ومثله لا يقطع الخصومة.

وثالثاً : انّ مصب الآية هو التنازع فلو دلّت الآية على حجّية القياس في باب التحاكم لاختصت دلالتها به ، وتعميمها إلى باب الإفتاء ، يحتاج إلى الدليل والتمسّك بالقياس في هذا المورد ، يستلزم الدور ، لأنّ حجّية الآية في مورد الإفتاء تتوقّف على حجّية القياس ، والمفروض ، انّ حجيته موقوف على دلالة الآية.

الآية الثانية : آية الاعتبار

قال سبحانه : (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ

__________________

(١) النساء : ٦٠.

١٢٤

لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ). (١)

والحشر هو الاجتماع ، قال سبحانه : (وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى) (٢) ، وهو كناية عن اللقاء بين اليهود (بني النضير المقيمين في المدينة) والمسلمين.

كيفية الاستدلال

إنّه سبحانه ذكر ما حلّ بهم ونبّه على علّته وسببه ثمّ أمر بالاعتبار وذلك تحذير من مشاركتهم في السبب ، فلو لم تكن المشاركة في السبب تقتضي المشاركة في الحكم ، ما كان لهذا القول معنىً. (٣)

يقول الأُستاذ شلبي : وهو تحذير لهم وبيان أنّ سنّة الله في خلقه أنّ ما جرى على الشيء يجري على نظيره وأنّ المسببات مرتبطة بأسبابها ، فإذا وجد السبب وجد المسبب ، وما القياس إلّا إلحاق النظير بنظيره في إعطائه حكمَه وربط للحكم بعلته يوجد معهما حينما وجدت ، فتكون الآية أمراً بأمر عام يشمل القياس وغيره ، والأمر يفيد المشروعية بصرف النظر عن كونه للوجوب أو الندب. (٤)

وقال عبد الوهاب خلّاف : وهذا يدلّ على أنّ سنّة الله في كونه ، أنّ نعمه ونقمه وجميع أحكامه هي نتائج لمقدّمات أنتجتها ، ومسببات لأسباب ترتّبت عليها ، وأنّه حيث وجدت المقدّمات نتجت عنها نتائجها ، وحيث وجدت

__________________

(١) (الحشر : ٢.)

(٢) (طه : ٥٩.)

(٣) (عدة الأُصول : ٦٧٣ / ٢.)

(٤) أُصول الفقه الإسلامي : ١٩٩.

١٢٥

الأسباب ترتّبت عليها مسبباتها ، وما القياس إلّا سيرٌ على هذا السنن الإلهي وترتيب المسبب على سببه في أيّ محل وجد فيه. (١)

يلاحظ عليه أوّلاً : إنّ المثبت والنافي ركّزوا على تفسير قوله سبحانه : (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) فالمثبت يقول : إنّ لفظ الاعتبار من العبرة ، وهو العبور من شيء إلى شيء ، فيدلّ على أنّ من وظائف الإنسان هو العبور من شيء إلى مشابهه. فالقياس من تلك المقولة ، أي عبور من الأصل إلى الفرع.

ولكن نفاة القياس يركّزون على أنّ المراد هو الاتّعاظ ، أي فاتّعظوا بقصة بني النضير ، وأين هو من القياس؟!

أقول : سواء أفسِّر الاعتبار بالاتّعاظ أم بالعبور من شيء إلى شيء ، فإنّ المرمى في كليهما واحد ، لأنّ الاتّعاظ أيضاً لا يخلو من العبور ، أي العبور ممّا شاهد إلى ما لم يشاهد.

وبذلك يظهر أنّ النزاع في قوله : (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) نزاع لا طائل تحته. إنّما الكلام في كون الاعتبار بالمسائل الكونية الّتي هي سنن الله سبحانه ، هل هي من مقولة القياس أو لا صلة لها به؟

والتحقيق هو الثاني ، وذلك لأنّ من شرائط العمل بالقياس هو أن لا يكون الدليل الدالّ الّذي دلّ على العلّة ، متناولاً حكم الفرع لا بعمومه ولا بخصوصه ، فإذا كان الدليل الدالّ على العلّة شاملاً على الفرع والأصل في درجة واحدة غير أنّ أحد المصداقين كان ملموساً والآخر غير ملموس ، فهذا خارج عن كونه قياساً. والمقام من تلك المقولة.

توضيحه : انّ الآية بصدد بيان سنّة الله في الظالمين من غير فرق بين بني

__________________

(١) علم أُصول الفقه : ٦٢.

١٢٦

النضير وغيرهم ، وأنّ إجلاء بني النضير من قلاعهم وتخريبهم بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين كان جزاء لأعمالهم الإجرامية ومن مصاديق تلك الضابطة الكلّية حيث إنّه سبحانه وتعالى يعذب الكافر والمنافق والظالم بألوان العذاب ولا يتركه ، فليس هناك أصل متيقّن ولا فرع مشكوك حتّى نستبين حكم الثاني من الأوّل بواسطة المشابهة ، بل كلّ ذلك فرض على مدلول الآية.

وكم لها من نظائر في القرآن الكريم ، قال سبحانه : (فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ* هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ). (١)

وقال سبحانه : (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ* مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ). (٢)

وأدلّ دليل على أنّ الآية ليست بصدد بيان حجّية القياس ، هو أنّك لو وضعت كلمة أهل القياس مكان قوله : (أُولِي الْأَبْصارِ) فقلت : فاعتبروا يا أهل القياس ، لعاد الكلام هزلاً غير منسجم.

وثانياً : نفترض أنّ الآية بصدد بيان أنّ حكم النظير ، يستكشف من حكم النظير ، ولكن مصبّها هو الأُمور الكونيّة لا الأُمور التشريعية والأحكام الاعتبارية ، فتعميم مدلول الآية من الأُولى إلى الثانية يحتاج إلى الدليل ، وإثبات التعميم بالتمسّك بالقياس مستلزم للدور.

وثالثاً : نفترض أنّها بصدد إضفاء الحجّية على القياس في التشريع أيضاً ، وأنّ حكم الفرع يعلم من الحكم الأصل فيما إذا توفّرت علّة الحكم بينهما بحيث

__________________

(١) (آل عمران : ١٣٧ ١٣٨.)

(٢) هود : ٨٢ ٨٣.

١٢٧

يجعلهما كصنوان على أساس واحد ، ولكن ما هو المسلك الكاشف عن توفّر العلّة ، فالآية ساكتة عنه ، فهل المسلك الكاشف هو :

١. تنصيص الشارع عليها في كلامه؟

٢. أو الإجماع على وحدة العلّة؟

٣. أو تنقيح المناط حسب فهم العرف من الكلام؟

٤. أو تخريج المناط بالسبر والتقسيم؟

وبما أنّ الآية ساكتة عن هذه الجهة فلا يصحّ الاستدلال بها على حجّية القياس على وجه الإطلاق.

الآية الثالثة : آية النشأة الأُولى

قال سبحانه : (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ* قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ). (١)

وجه الاستدلال : أنّ الآية الثانية جواب لما ورد في الآية الأُولى ، أعني : قوله : (مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) فأُجيب بقياس إعادة المخلوقات بعد نشأتها ، على بدء خلقها وإنشائها أوّل مرة ليقنع الجاهلين بأنّ من يقدر على خلق الشيء ، وإنشائه أوّل مرّة ، قادر على أن يعيده مرة ثانية.

وهذا الاستدلال بالقياس ، إقرار بحجّيته وصحّة الاستدلال به. (٢)

يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ الله سبحانه لم يدخل من باب القياس ، وهو أجلّ من أن يُقيس شيئاً على شيء ، وإنّما دخل من باب البرهان ، فأشار إلى سعة قدرته

__________________

(١) (يس : ٧٨ ٧٩.)

(٢) علم أُصول الفقه : ٦٢.

١٢٨

ووجود الملازمة بين القدرة على إنشاء العظام وإيجادها أوّل مرّة بلا سابق وجود ، وبين القدرة على إحيائها من جديد ، بل القدرة على الثاني أولى ، فإذا ثبتت الملازمة بين القدرتين والمفروض أنّ الملزوم وهي القدرة على إنشائها أوّل مرّة موجودة ، فلا بدّ أن يثبت اللازم ، وهي القدرة على إحيائها وهي رميم ، فأين هو من القياس؟!

ولو صحّت تسمية الاستدلال قياساً ، فهو من باب القياس الأولوي الذي فرغنا عن كونه خارجاً عن مورد النزاع.

ويدلّ على ذلك أنّه سبحانه لم يقتصر بهذا البرهان ، بل أشار إلى سعة قدرته ب آية أُخرى بعدها وقال : (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ). (١)

والآيات كسبيكة واحدة ، والهدف من ورائها تنبيه المخاطب على أنّ استبعاد إحياء العظام الرميمة في غير محلّه ، إذ لو كانت قدرته سبحانه محدودة لكان له وجه ، وأمّا إذا وسعت قدرته كلّ شيء بشهادة أنّه خلق الإنسان ولم يكن شيئاً مذكوراً ، وخلق السماوات والأرض وخلقها أعظم من الإنسان ، لكان أقدر على معاد الإنسان وإحياء عظامه الرميمة.

وليس كلّ استدلال عقلي ، قياساً.

وثانياً : سلّمنا دلالة الآية على حجّية القياس ، لكن مصبّها هو قياس الأُمور الكونيّة بعضها ببعض فيما إذا كانت الجهة المشتركة بين المقيس والمقيس عليه أمراً واضحاً ، كالشمس في رائعة النهار ، وأين هذا من القياس في الأُمور التشريعية الاعتبارية في الموارد التي يصل المجتهد فيها إلى الجهة المشتركة بالسبر والتقسيم

__________________

(١) يس : ٨١.

١٢٩

وربّما يظن بالعلة المشتركة ، فتعميم مفاد الآية ، إلى التشريع لا يصحّ إلّا بضرب من القياس ، والاستدلال عليه بالآية عندئذ يستلزم الدور ، كما مرّ نظيره.

الآية الرابعة : آية جزاء الصيد

قال سبحانه : (لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ). (١)

قال الشافعي : فأمرهم بالمثل ، وجعل المثل إلى عدلين يحكمان فيه ، فلمّا حُرِّم مأكولُ الصيد عامّاً ، كانت لدوابّ الصيد أمثال على الأبدان. فحكم مَن حكم من أصحاب رسول الله على ذلك ، فقضى في الضَّبع بكبش ، وفي الغزال بعنز ، وفي الأرنب بعناق ، وفي اليربوع بجفرة. (٢)

والعلم يحيط أنّهم أرادوا في هذا ، المِثْلَ بالبدن لا بالقِيَم ، ولو حكموا على القيم اختلفت أحكامهم ، لاختلاف أثمان الصيد في البلدان ، وفي الأزمان وأحكامهم فيها واحدة.

والعلم يحيط أنّ اليربوع ليس مثل الجفرة في البدن ، ولكنّها كانت أقرب الأشياء منه شَبهاً ، فجعلت مثله ، وهذا من القياس ، يتقارب تقارب العنز والظبي ، ويبعد قليلاً بُعْدَ الجفرة من اليربوع. (٣)

يلاحظ عليه أوّلاً : بأنّه تدلّ الآية على أنّه يشترط في الكفّارة أن تكون مماثلة لما قتله من النعم إمّا مماثلة في الخلقة كما هو المشهور أو المماثلة في القيمة كما هو

__________________

(١) (المائدة : ٩٥.)

(٢) (العَناق ، هي الأُنثى من أولاد المعز ، ما لم يتمّ له سنة ، والجفرة ما لم يبلغ أربعة أشهر ، وفصل عن أُمّها وأخذ في الرعي.)

(٣) الرسالة : ٤٩١٤٩٠.

١٣٠

المنقول عن إبراهيم النخعي ، وعلى أيّ تقدير فلا صلة له بحجّية القياس في استنباط الأحكام الشرعية وكونه من مصادرها ، لأنّ أقصى ما يستفاد من الآية أنّ المُحْرِم إذا قتل الصيد متعمّداً فجزاؤه هو ذبح ما يُشبه الصيد في الخلقة كالبدنة في قتل النعامة ، والبقرة في قتل الحمار الوحشي وهكذا ، وهل اعتبار التشابه في مورد يكون دليلاً على أنّ الشارع أخذ به في جميع الموارد ، أو يقتصر بمورده ولا يصحّ التجاوز عن المورد إلّا بالقول بالقياس غير الثابت إلّا بهذه الآية ، وهل هذا إلّا دور واضح؟

إنّ وزان التمسّك بالآية في حجّية القياس نظير الاستدلال عليها بقول الفقهاء في ضمان المثلي بالمثلي والقيمي بالقيمي ، حيث اقتصر في براءة الذمّة ، بالمماثلة ، في العين أو قيمتها.

وثانياً : أنّ محطّ البحث هو كون القياس من مصادر التشريع للأحكام الشرعية الكلّية ، وأين هذا من كون التشابه معياراً في تشخيص مصداق الواجب على الصائد؟

وربّما يستدلّ بالآية بوجه آخر ، وهو انّه سبحانه أوجب المثل وجعل طريق تشخيص المماثلة هو الظن.

يلاحظ عليه : أنّ حجّية الظنّ في مورد لا يكون دليلاً على اعتباره في سائر الموارد كما سيوافيك.

وقد استدلّ الشوكاني بوجه ثالث قريب من الوجه الثاني هو انّه سبحانه أوجب المثل ولم يقل أيّ مثل فوكّل ذلك إلى اجتهادنا ورأينا ، نظيره أنّه أمر بالتوجّه إلى القبلة بالاستدلال وقال : (حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ). (١)

__________________

(١) البقرة : ٢٣٦.

١٣١

يلاحظ عليه : أنّ الشارع وإن ترك لنا تشخيص الموضوعات ، إلّا أنّه جعل لها طرقاً كالبيّنة ، وقال «يحكم به ذوا عدل» مضافاً إلى الطرق العلمية في مورد القبلة.

ثمّ إنّ القوم استدلّوا ب آيات أُخرى تفقد الدلالة جدّاً فالأولى صرف عنان الكلام إلى الاستدلال بالسنّة.

١٣٢

الاستدلال بالسنّة

استدلّ مثبتو القياس بروايات متعدّدة ، نذكر منها ما يصلح للدراسة في بدء النظر ونضرب صفحاً عمّا لا يصلح لها.

١. حديث معاذ بن جبل

احتجّ غير واحد من مثبتي القياس بحديث معاذ. فقد روي أنّ رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لمّا بعثَ معاذاً إلى اليمن قال له : بم تحكم؟ قال : بكتاب الله ، قال : فإن لم تجد؟ قال : بسنّة رسول الله ، قال : فإن لم تجد؟ قال : أجتهد رأيي ولا آلو ، قال : الحمد لله الّذي وفّق رسول رسول الله لما يرضي الله ورسوله.

يقول الشلبي : هذا الحديث أقرّ مبدأ الاجتهاد بالرأي ، حيث لا يوجد نصّ من القرآن والسنّة ، والاجتهاد بالرأي عام شامل للقياس وغيره ، فيكون القياس مشروعاً بإذن رسول الله. (١)

هذا ويظهر من الإمام الشافعي أنّ الاجتهاد يساوي القياس وليس أعمّ منه. قال : فما القياس؟ أهو الاجتهاد أم هما مفترقان؟ ثمّ أجاب : أنّهما اسمان لمعنى واحد.

وقال في موضع آخر : أمّا الكتاب والسنّة فيدلّان على ذلك ، لأنّه إذا أمر

__________________

(١) أُصول الفقه الإسلامي : ٢٠٠.

١٣٣

النبيّ بالاجتهاد ، فالاجتهاد أبداً لا يكون إلّا على طلب شيء ، وطلب الشيء لا يكون إلّا بدلائل ، والدلائل هي القياس. (١)

وقال أبو الحسين البصري : وجه الاستدلال به أنّ النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) صوّبه في قوله : أجتهد رأيي عند الانتقال من الكتاب والسنّة ، فعلمنا أنّ قوله : أجتهد رأيي ، لم ينصرف إلى الحكم بالكتاب والسنّة. (٢)

يلاحظ عليه : أمّا أوّلاً : فإنّ الاستدلال بحديث معاذ فرع صحّة السند وإتقان الدلالة.

ومن سوء الحظ أنّ السند مخدوش والدلالة مثله.

أمّا السند فإنّ جميع أسانيده تنتهي إلى الحرث بن عمر بن أخي المغيرة بن شعبة ، عن ناس من أصحاب معاذ من أهل حمص. (٣)

نعم ربّما يحاول تصحيح الحديث بما ذكره الغزالي بقوله : «إنّ الأُمّة تلقّته بالقبول». ولكن خفي عليه بأنّ الاستدلال على القياس به جعله مشهوراً ، وتُصوّر أنّ الأُمّة تلقّته بالقبول ، حتّى أنّ الجوزقاني قد أورده في «الموضوعات» وقال : هذا حديث باطل ، رواه جماعة عن شعبة ، وقد تصفّحت هذا الحديث في أسانيد الكبار والصغار ، وسألت من لقيته من أهل العلم بالنقل عنه ، فلم أجد له طريقاً غير هذا ... إلى أن قال : فإن قيل : إنّ الفقهاء قاطبة أوردوه واعتمدوا عليه. قيل : هذا طريقه والخلف قلّد السلف. (٤)

__________________

(١) (الرسالة : ٤٧٧ و ٥٠٥.)

(٢) (المعتمد : ٢٢٢ / ٢.)

(٣) (مسند أحمد : ٢٣٠ / ٥ ؛ سنن الدارمي : ١٧٠ ؛ سنن أبي داود : ٣٠٣ / ٣ برقم ٣٥٩٣ ؛ سنن الترمذي : ٦١٦ / ٣ برقم ١٣٢٨.)

(٤) عون المعبود شرح سنن أبي داود : ٥١٠ / ٩.

١٣٤

وأمّا الدلالة فيلاحظ عليها أنّها مبنيّة على مساواة الاجتهاد بالقياس أو شموله له ، وكلا الأمرين ممنوعان ، بل الظاهر أنّ المراد من الاجتهاد هو الاجتهاد في كتاب الله وسنّة رسوله حتّى يتوصّل إلى حكم الله عن طريقهما.

فإن قلت : لا يصحّ تفسير الاجتهاد في الحديث ، بالاجتهاد في كتاب الله وسنّة رسوله ، لأنّ المفروض أنّه إنّما ينتهي إلى الاجتهاد بعد ما لم يجد حكم الموضوع في كتاب الله وسنّة رسوله ، وعندئذ لا معنى أن يفسّر قوله : «اجتهد رأيي» أي اجتهد في كتاب الله وسنّة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم).

قلت : الأحكام الواردة في القرآن والسنّة على قسمين :

قسم موجود في ظواهر الكتاب والسنّة ولا يحتاج في الوقوف عليه إلى بذل الجهد ، بل يعرفه كلّ من يعرف اللغة.

وقسم منه غير موجود في ظواهر الكتاب والسنّة لكن يمكن التوصّل إليها عن طريقهما بالتدبّر فيهما ، وهذا هو الاجتهاد الدارج بين العلماء. فأين هذا من القياس الّذي ورد فيه النصّ على حكم الأصل دون الفرع؟!

قال المرتضى : لا ينكر أن يكون معنى قوله : «أجتهد رأيي» أي أجتهد حتّى أجد حكم الله تعالى في الحادثة ، من الكتاب والسنّة ، إذ كان في أحكام الله فيهما ما لا يتوصّل إليه إلّا بالاجتهاد ، ولا يوجد في ظواهر النصوص فادّعاؤهم أنّ إلحاق الفروع بالأُصول في الحكم لعلّة يستخرجها القياس ، هو الاجتهاد الّذي عناه في الخبر ، ممّا لا دليل عليه ولا سبيل إلى تصحيحه. (١)

والحاصل : أنّ الاستدلال بالحديث مبني على اختصاص الاجتهاد بالقياس

__________________

(١) الذريعة : ٧٧٦ / ٢.

١٣٥

أو شموله له وهو موضع شكّ ، بل القدر المتيقّن من الحديث هو الاجتهاد المألوف في عصر النبي ، وهو بذل الجهد في فهم الكتاب والسنّة وما عليه المسلمون.

وثانياً : كان مصب القضاء غالباً هو الشبهات الموضوعية دون الحكمية ، ويمكن فصل الخصومة فيها بقاعدة العدل والإنصاف ، أو بما هو المعروف بين العرف والعقلاء ، ممّا يرضى به المتخاصمان ، وأين هو من القياس في الأحكام الشرعية؟!

وثالثاً : أنّ تجويز القياس في القضاء لا يكون دليلاً على تجويزه في الإفتاء ، لأنّ القضاء أمر لا يمكن تأخيره ، بخلاف الإفتاء ، فالاستدلال بجواز القياس في القضاء على جوازه في الإفتاء ، مبنيّ على صحّة القياس ، وهو دور واضح.

ورابعاً : أنّ القضاء منصب خطر ، إذ به تصان الدماء والأعراض والأموال ، كما به تباح النواميس والشئون الخطيرة ، فهل يمكن أن يبعث النبي رجلاً ويخوّل له النبي التصرف في مهام الأُمور ، بإعمال الرأي من دون أن يحدّده على وجه يصونه عن الخطأ ومجانبة الواقع والقائلون بحجّية القياس ذكروا لإعمالها شروطاً وموانع لم يكن معاذ يعرف معشارها ، ومعه كيف بعثه وقرر عمله بالقياس وهو غير عارف بالشروط والموانع؟! وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّ المراد من الاجتهاد هو استخراج حكم الواقعة من المصدرين الكتاب والسنّة بالتأمّل فيهما ، لا إعمال الرّأي بأقسامه المختلفة الّتي ربّما لا تمس الواقع غالباً.

وهذا يكشف عن وجود خصوصية في معاذ تصدّه عن استعمال الرأي الخارج عن حدود الكتاب والسنّة ، وإلّا لما خوّله أمر القضاء من دون تحديده.

ويشهد على ما ذكرنا ما حكي من سيرة معاذ حيث إنّه لم يكن يجتهد برأيه في الأحكام وإنّما كان يتوقّف حتّى يسأل النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم).

١٣٦

روى يحيى بن الحكم أنّ معاذاً قال : بعثني رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) أُصدِّق أهل اليمن ، وأمرني أن آخذ من البقر من كلّ ثلاثين تبيعاً ، ومن كلّ أربعين مُسِنَّةً قال : فعرضوا عليّ أن آخذ من الأربعين فأبيت ذاك ، وقلت لهم : حتّى أسأل رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عن ذلك.

فقدمتُ ، فأخبرت النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، فأمرني أن آخذ من كلّ ثلاثين تبيعاً ، ومن كلّ أربعين مُسِنَّة. (١)

فإذا كانت هذه سيرته فكيف يقضي بالظنون والاعتبارات؟!

٢. حديث الخثعمي

أخرج النسائي عن عبد الله بن الزبير قال جاء رجل من خثعم إلى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فقال : إنّ أبي شيخ كبير لا يستطيع الركوب وأدركته فريضة الله في الحجّ فهل يجزئ أن أحجّ عنه؟ قال : أنت أكبر ولده ، قال : نعم ، قال : أرأيت لو كان عليه دينٌ أكنت تقضيه؟ قال : نعم ، قال : فحجّ عنه. (٢)

وأخرج النسائي عن ابن عباس قال : قال رجل : يا رسول الله إنّ أبي مات ولم يحجّ أفأحج عنه؟ قال : أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضية؟ قال : نعم ، قال : فدين الله أحقّ. (٣)

وأخرج النسائي عن عبد الله بن عباس : أنّ رجلاً سأل النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) أنّ أبي أدركه الحجّ وهو شيخٌ كبيرٌ لا يثبت على راحلته فإن شددته خشيت أن يموت ، أفأحجّ عنه؟ قال : أرأيت لو كان عليه دينٌ فقضيته أكان مجزئاً؟ قال : نعم. قال :

__________________

(١) (مسند أحمد : ٢٤٠ / ٥ ؛ المسند الجامع : ٢٣٠ / ١٥.)

(٢) (سنن النسائي : ١١٧ / ٥ ، باب تشبيه قضاء الحج بقضاء الدين.)

(٣) المصدر نفسه.

١٣٧

فحجّ عن أبيك. (١)

وقد استدلّ بهذا الحديث بصوره المختلفة الّتي رواها النسائي وغيره ، على حجّية القياس.

يقول السرخسي : هذا تعليم المقايسة وبيان لطريق إعمال الرأي. (٢)

وقال الآمدي : إنّه ألحق دَيْن الله بدَيْن الآدمي في وجوب القضاء ونفعه ، وهو عين القياس. (٣)

يلاحظ على الاستدلال بهذا الحديث بصوره المختلفة بوجهين :

الأوّل : أنّ القياس الوارد في كلام النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) من باب القياس الأولوي ، وذلك لأنّه إذا وجب الوفاء بحقوق الناس حسب النص فحقوق الله أولى بالقضاء والوفاء كما نصّ به النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في الحديث وأين هذا من مورد النزاع؟! وقد تقدّم أنّ القياس الأولويّ عمل بالنصّ ، لأنّه مدلول عرفي وليس عملاً بالقياس.

الثاني : أنّ القياس من أقسام الاستنباط وهو استخراج حكم الفرع من الأصل بالدقّة وإعمال النظر وبعد التأنّي والتفكير ، وذلك لأنّ الحكم يكون في الأصل منصوصاً ، وفي الفرع غير منصوص ، فيُستنبط حكم الفرع من دليل الأصل بفضل القياس.

ولكن المقام يفقد هذا الشرط ، فإنّ الأصل والفرع على صعيد واحد داخلان تحت ضابطة واحدة ، وهي وجوب قضاء الدين.

فإنّ اسم الدين يقع على الحجّ كوقوعه على المال ، فإذا كان كذلك دخل في

__________________

(١) (المصدر نفسه.)

(٢) (أُصول الفقه : ١٣٠ / ٢.)

(٣) الإحكام : ٧٨ / ٣.

١٣٨

قوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ) (١). ومع التنبيه على العلّة قد أثبت الحكم في الفرع والأصل معاً ، وما هذا حاله لا يدخل في القياس. (٢)

وإن شئت قلت : إنّ المخاطب كان يحضره حكم أحد الموردين دون الآخر ، فأرشده النبي إلى ما كان يحضره من قضاء دين الناس ، حتّى ينتقل إلى حكم ما لا يحضره ، بحجة أنّ الموردين من أقسام الضابطة الكلية ، أعني : وجوب أداء الحق ممّن عليه ، إلى من له ، من غير فرق بين كونه من حقوق الله أو حقوق الناس.

إنّ ما ورد في هذه الأحاديث ليس من القياس في شيء ، بل من قبيل تطبيق الكبرى على الصغرى. فالكبرى وهي مطوية «كلّ دين يقضى» هي في واقعها أعمّ من ديون الله وديون الآدميين ، وقد طبقها رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) على دين الله لأبيه ، فحكم بلزوم القضاء ، وأين هذا من القياس المصطلح؟ (٣)

إنّ المقام أشبه بما يقال : إنّ من شرائط الاستدلال بالقياس أن لا يتناول دليل الأصل ، إثبات الحكم في الفرع ، وإلّا لغى التمسّك بالعلّة المشتركة ، كما إذا قيل : النبيذ حرام بجامع الإسكار الموجود في الخمر ، فإنّ دليل الأصل كاف في إثبات الحكم له من دون حاجة إلى التعليل ، وهو قوله : «كلّ مسكر خمر وكلّ مسكر حرام». (٤)

وجه الشبه : انّ الكبرى الشرعية : «يجب قضاء الدين» يتناول حكم الفرع

__________________

(١) (النساء : ١١.)

(٢) (عدّة الأُصول : ٧١٨ / ٢.)

(٣) (الأُصول العامّة للفقه المقارن : ٣٢٩.)

(٤) مباحث العلّة في القياس : ٢٢٥.

١٣٩

كما يتناول حكم الأصل ، غير أنّ المخاطب كان غافلاً عن أحد الفردين ، نبّه النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بأنّه مثل حق الناس يجب قضاؤه.

٣. حديث عمر

عن جابر بن عبد الله ، عن عمر بن الخطاب ، قال : هششت فقبَّلتُ وأنا صائم ، فقلت : يا رسول الله أتيت أمراً عظيماً قبّلتُ وأنا صائم ، فقال : أرأيت لو تمضمضت من الماء وأنت صائم؟ «فقلت : لا بأس بذلك ، فقال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : «ففيم». (١)

قال السرخسي : هذا تعليم المقايسة ، فإنّ بالقبلة يُفتتح طريق اقتضاء الشهوة ولا يحصل بعينه اقتضاء الشهوة ، كما أنّ بإدخال الماء في الفم يفتح طريق الشرب ولا يحصل به الشرب. (٢)

وقال ابن قيم الجوزية : ولو لا أنّ حكم المثل حكم مثله ، وأنّ المعاني والعلل مؤثرة في الأحكام نفياً وإثباتاً ، لم يكن لذكر هذا التشبيه معنى ، فذَكر ليُدلّ به على أنّ حكم النظير حكم مثله ، وأنّ نسبة القبلة الّتي هي وسيلة للوطء كنسبة وضع الماء في الفم الّذي هو وسيلة إلى شربه ، فكما أنّ هذا الأمر لا يضرّ ، فكذلك الآخر. (٣)

يلاحظ عليه :

أوّلاً : أنّ الحديث دليل على بطلان القياس ، لأنّ عمر ظنّ أنّ القُبلة تبطل الصوم قياساً على الجماع ، لاشتراكهما في كونهما من أسباب الالتذاذ الجنسي ، فرد

__________________

(١) (سنن أبي داود : ٣١١ / ٢ ، كتاب الصوم رقم ٢٣٨٥ ؛ مسند أحمد : ٢١ / ١.)

(٢) (أُصول الفقه : ١٣٠ / ٢.)

(٣) إعلام الموقعين : ١٩٩ / ١.

١٤٠