أصول الفقه المقارن فيما لا نصّ فيه

الشيخ جعفر السبحاني

أصول الفقه المقارن فيما لا نصّ فيه

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-155-6
الصفحات: ٣٩٤

توصّل المجتهد بجهده وكدّه إلى العلة ومع ذلك لا يعلم أنّها علّة الحكم أو حكمته ، وعلى فرض أنّها علّة هل هي علة تامة أو علة ناقصة؟ فلو أراد هذا فنفاة القياس ما تركوا النص في مورده ، وإنّما تركوه فيما ليس مورداً له.

وأمّا ما ذكره من أنّ نفاة القياس قرّروا أحكاماً تنفيها بداهة العقول كطهارة بول الخنزير والكلب ، فلا أظن أنّ لهؤلاء نصيباً من الفقه ، ولو أنّهم رجعوا إلى أئمّة أهل البيت لوقفوا على أنّ الجميع نجس دون أن يكون هناك حاجة إلى القياس.

فهذا هو الإمام الصادق يقول (عليه‌السلام) : «اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه». (١)

٨. تقسيم العلّة باعتبار المناسبة إلى أقسام :

ثمّ إنّهم قسّموا العلل باعتبار المناسبة إلى أقسام أربعة :

١. المناسب المؤثر.

٢. المناسب الملائم.

٣. المناسب الملغى.

٤. المناسب المرسل.

وفسّروا الأوّل بما اعتبره الشارع علّة بأتمّ وجوه الاعتبار ، ودلّ صراحة وإشارة على ذلك.

يقول عبد الوهاب خلّاف : ما دام الشارع دلّ على أنّ هذا المناسب هو علّة الحكم ، فكأنّه دلّ على أنّ الحكم نشأ عنه وأنّه أثر من آثاره ، ولهذا سمّاه الأُصوليون «المناسب المؤثر» ، وهو العلّة المنصوص عليها ، ولا خلاف بين العلماء في بناء

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٢ ، الباب ٨ من أبواب النجاسات ، الحديث ٢. ولاحظ بقية أحاديث الباب.

١٠١

القياس على المناسب المؤثر ، ويسمّون القياس بناءً عليه قياساً في معنى الأصل. (١)

أقول : لو كان محط النزاع هو هذا القسم فهو ليس من القياس بشيء ، فإنّه إذا نصّ الشارع بأنّ الحكم نابع عن هذا الأصل ، فلا يبقى هناك شكّ في أنّ الحكم يدور مداره من غير فرق بين الأصل والفرع بل لا أصل ولا فرع.

وفسّروا الثاني أي المناسب الملائم بأنّه هو الّذي لم يعتبره الشارع بعينه علّة لحكمه في المقيس عليه وإن كان قد اعتبره علّة لحكم من جنس هذا الحكم في نص آخر ، ومثّلوا له بالحديث القائل : «لا يُزوِّجُ البكرَ الصغيرة إلّا وليّها» ففي رأي أصحاب القياس أنّ الحديث اشتمل على وصفين كلّ منها صالح للتعليل وهو الصغر والبكارة ، وبما أنّه علّل ولاية الولي على الصغيرة في المال في آية : (وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) (٢) ، وما دام الشارع قد اعتبر الصغر علّة للولاية على المال ، والولاية على المال والولاية على التزويج نوعان من جنس واحد هو الولاية ، فيكون الشارع قد اعتبر الصغر علّة للولاية على التزويج بوجه من وجوه الاعتبار ، وبهذا يقاس على البكر الصغيرة من في حكمها من جهة نقص العقل وهي المجنونة أو المعتوهة ، وتقاس عليها أيضاً الثيّب الصغيرة.

أقول : وبذلك أسقطوا دلالة لفظ البكارة من الحديث مع إمكان ، أن تكون جزءاً من التعليل ، كما هو مقتضى جمعها مع الصغر لو أمكن استفادة التعليل من أمثال هذه التعابير. (٣)

وفسّروا الثالث بما ألغى الشارع اعتباره مع أنّه مظنّة تحقيق المصلحة ، أي

__________________

(١) (مصادر التشريع الإسلامي فيما لا نصّ فيه : ٤٥.)

(٢) (النساء : ٦.)

(٣) الأُصول العامة للفقه المقارن : ٢٩٨.

١٠٢

بناء الحكم عليه من شأنه أن يحقّق مصلحة ، ولكن دلّ دليل شرعي على إلغاء اعتبار هذا المناسب ومنع بناء الحكم الشرعي عليه.

ومثّلوا له بفتوى من أفتى أحد الملوك بأنّ كفّارته في إفطار شهر رمضان هو خصوص صيام شهرين متتابعين ، لأنّه وجد أنّ المناسب مع تشريع الكفّارات ردع أصحابها عن التهاون في الإفطار العمدي ، ومثل هذا الملك لاتّهمه بقية خصال الكفّارة لتوفّر عناصرها لديه ، فإلزامه بالصيام أكثر مناسبة لتحقيق مظنّة الحكمة من التشريع. (١)

يلاحظ عليه : بأنّ التعيين يخالف حكم الشارع بأنّ وجوب الخصال الثلاث من باب التخيير مطلقاً ملكاً كان أو رعية ؛ فمثل هذا يعدّ نوع تقدّم على الله سبحانه قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ). (٢)

أضف إلى ذلك أنّه من قبيل القياس المهجور ، أي التماس العلل وعرض النصوص عليها والتصرف فيها حسب ما يناسب العلل المستنبطة ، وهذا المستنبط تخيّل أنّ الغاية الوحيدة من إيجاب الخصال هو تعذيب المفطر لكي لا يعود إلى الإفطار وهو لا يحصل إلّا بإيجاب صيام شهرين متتابعين. فنفى التخيير وأوجب عليه التعيين ، لكنّه تصرّف خاطئ ، إذ ليس للعقول التماس العلل والكشف عن واقعها ثمّ تطبيق النصوص عليها ، فكأنّ العقل ، مشرّع له ان يقيّد إطلاق النص ، دون أن يكون هناك اضطرار أو حرج أو ضرر ، بل أقصى ما هناك مصلحة متخيّلة يمكن أن تكون الغاية أحد الأمرين :

١. ردع المتهاون في الإفطار العمدي.

__________________

(١) (مصادر التشريع الإسلامي لخلاف : ٤٦.)

(٢) الحجرات : ١.

١٠٣

٢. إطعام الفقراء وإشباع بطونهم أو كسوتهم.

وفسّر الرابع بأنّه هو الّذي يظهر للمجتهد أنّ بناء الحكم عليه لا بدّ أن يحقّق مصلحة ما مع أنّ الشارع لم يقم على اعتباره أو إلغائه أي دليل.

أقول : إنّ هذا داخل في البحث عن المصالح المرسلة ولا يمتّ إلى القياس بشيء.

فاتّضح من ذلك أنّ القسم الأوّل خارج عن محط النزاع ، وهو عمل بالنص في كلا الموردين.

كما أنّ القسم الثاني مخدوش بعدم العلم بكون الصغر علّة تامة في كلا الموردين ، بل يحتمل أن يكون للبكارة في النكاح مدخلية وإن لم يكن كذلك في مورد المال.

وأمّا القسم الثالث فهو من قبيل التماس العلل لصرف النصوص عليها ، وهو محظور عقلاً وشرعاً.

وأمّا الرابع فهو الوصف الذي لم يرتّب الشارع حكماً على وفقه ولم يدلّ دليل شرعي على اعتباره ولا على إلغاء اعتباره فهو مناسب أي يحقّق مصلحة ، ولكنّه مرسل أي مطلق عن دليل اعتبار ودليل إلغاء ، وهذا هو المسمّى بالمصالح المرسلة (١) الّتي سيوافيك بيانها.

٩. قياس الأولوية

إنّ للأُصوليّين مصطلحات ثلاثة متقاربة ، وهي :

أ. لحن الخطاب.

__________________

(١) علم أُصول الفقه : ٨٢.

١٠٤

ب. فحوى الخطاب.

ج. دليل الخطاب.

أمّا الأوّل فهو ما حذف من الكلام شيء ولا يستقل المعنى إلّا به ، كقوله سبحانه : (فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ). (١)

أي ضرب فانفلق.

وأمّا الثاني فهو ما يسمّى أيضاً بتنبيه الخطاب ومفهوم الموافقة ، وهو إثبات حكم المنطوق به للمسكوت عنه بطريق الأولى ، وهو نوعان :

١. تنبيه بالأقل على الأكثر كقوله سبحانه : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ). (٢)

فإذا حرم التأفيف ، حرم الشتم والضرب بطريق أولى.

ومثله قوله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ). (٣)

فإذا كان الرجل غير مأمون بدينار ، فأولى أن يكون كذلك بالنسبة إلى ألف دينار.

٢. وتنبيه بالأكثر على الأقل ، كقوله تعالى : (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ). (٤)

فمن كان يؤتمن على القنطار ، فأولى أن يكون كذلك في الأقلّ منه.

وأمّا الثالث أعني : دليل الخطاب فهو مفهوم المخالفة الّذي يبحث عنه في باب المفاهيم.

والّذي يهمّنا في المقام أنّ فهم الخطاب أو مفهوم الموافقة أو قياس الأولوية

__________________

(١) (الشعراء : ٦٣.)

(٢) (الإسراء : ٢٣.)

(٣) (آل عمران : ٧٥.)

(٤) آل عمران : ٧٥.

١٠٥

ليس عملاً بالقياس بل عمل بالحجة ، لأنّ المفهوم الموافق مدلول عرفي يقف عليه كلّ مَن تدبّر في الموضوع.

وبذلك يعلم أنّ بعض ما استدلّ به على حجّية القياس من مقولة القياس الأولوي ، كقوله (عليه‌السلام) : «فدين الله أحقّ بالقضاء» ، كما سيوافيك.

١٠. تنقيح المناط

إذا اقترن الموضوع في لسان الدليل بأوصاف وخصوصيات لا يراها العرف دخيلة في الموضوع ويتلقّاها من قبيل المثال ، كما إذا ورد في السؤال : رجل شكّ في المسجد بين الثلاث والأربع فأجيب بأنّه يبني على كذا ، فإنّ السائل وإن سأل عن الرجل الّذي شكّ في المسجد ، لكنّه يتلقّى العرف تلك القيود ، مثالاً ، لا قيداً للحكم ، أي بأنّه يبني على كذا ، فيعمّ الرجل والأُنثى ، ومَن شكّ في المسجد والبيت.

إنّ تنقيح المناط على حدّ يساعده ، الفهم العرفي ممّا لا إشكال فيه ، ولا صلة له بالقياس ، إذ لا أصل ولا فرع ، بل الحكم يعمّ الرّجل والأُنثى ، والشاك في المسجد والبيت ، بنفس الدليل مرة واحدة.

ولعلّ من هذا القبيل قصة الأعرابي حيث قال : هلكت يا رسول الله ، فقال له : «ما صنعت؟» قال : واقعت أهلي في نهار رمضان ، قال : «اعتق». (١)

والعرف يساعد على إلغاء القيدين وعدم مدخليتهما في الحكم.

١. كونه أعرابياً.

٢. الوقوع على الأهل.

__________________

(١) صحيح مسلم ، كتاب الصيام ، الحديث ١٨٧. وقد روي بطرق مختلفة وباختلاف يسير في المتن.

١٠٦

فيعمّ البدوي والقروي والوقوع على الأهل وغيره فيكون الموضوع من أفطر بالوقاع في صوم رمضان.

إنّ تنقيح المناط من المزالق للفقيه ، وربّما يُلغي بعض القيود باستحسان ، أو غيره مع عدم مساعدة العرف عليه ، فعليه الاحتياط التام في تنقيح موضوع الحكم والاقتصار بما يساعد عليه فهم العرف على إلغاء القيد ، وإن شك في مساعدة العرف على الإلغاء وعدمها ، فليس له تعميم الحكم.

وعلى كلّ حال ، فهذه التعميمات ، لا صلة لها بالقياس ، وإنّما هي استظهار مفاد الدليل واستنطاقه حسب الفهم العرفي.

وهذا ما يعبر عنه في الفقه الإمامي ، بإلغاء الخصوصية ، أو مناسبة الحكم والموضوع ، مضافاً إلى التعبير عنه ب «تنقيح المناط».

وليعلم أنّ قسماً من الأحكام المستنبطة باسم القياس عند أهل السنّة داخل في هذا العنوان ، أي إلغاء الخصوصية حسب فهم العرف دون أن يكون هناك أصل وفرع ، وقد مرّ أنّ مثل هذا من مقولة المداليل العرفية وإن لم تكن مصرحاً بها ، وإليك بعض الأمثلة :

١. دلّ قوله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ) (١) ، على ترك البيع وقت النداء. ومن المعلوم أنّ ذكر البيع من باب المثال الشائع والعلّة هو كونه شاغلاً عن الصلاة ، فعندئذ فلا فرق بين البيع والإجارة والرهن أو أي معاملة من المعاملات وقت النداء. بل كلّ فعل يُشغل الإنسان عن الصلاة وإن كان مذاكرة علمية ، وليس هذا من مقولة القياس كما توهّمه الأُستاذ عبد الوهاب خلاف. (٢)

__________________

(١) (الجمعة : ٩.)

(٢) علم أُصول الفقه : ٦٠.

١٠٧

٢. قد ثبت بالنص أنّ قتل الوارث مورّثه لغاية الحصول على الإرث عاجلاً يحرمه من الإرث. فلو فرضنا وجود نفس تلك الغاية في قتل الموصى له للموصي يكون محروماً من مال الوصية ، لأنّ قتله فيه كان لأجل استعجال الشيء قبل أوانه ، فيرد عليه قصده ويعاقب بحرمانه. هذا إذا ثبت أنّ القتل كان لتلك الغاية.

٣. لو ورد في النصّ أنّ الورقة الموقع عليها بالإمضاء حجّة على الموقّع فيلحق بها الورقة المبصومة بالإصبع ، وذلك لأنّ الميزان في الحجية هو العلم بشخصية الممضي وهو تارة يحصل بإمضائه وأُخرى ببصمة إصبعه.

فعلى القائلين بالقياس استخراج هذه الأمثلة الّتي تساعد العرف على إلغاء الخصوصية عن مقولة القياس.

١١. التشابه غير التماثل

من الأُمور الّتي يجب أن يركّز عليها هو الفرق بين تشابه الأمرين وتماثلهما. فالتماثل عبارة عن دخول شيئين تحت نوع واحد وطبيعة واحدة ، فالتجربة في عدة من مصاديق طبيعية واحدة يفيد العلم بأنّ النتيجة لطبيعة الشيء لا لأفراد خاصة ، ولذلك يقولون : إنّ التجربة تفيد العلم ، وذلك بالبيان التالي :

مثلاً : إذا أجرينا تجربة على جزئيات من طبيعة واحدة ، كالحديد ، تحت ظروف معينة من الضغط الجوي ، والجاذبية ، والارتفاع عن سطح البحر ، وغيرها مع اتّحادها جميعاً في التركيب ، فوجدنا أنّها تتمدد مقداراً معيناً ، ولنسمّه (س) ، عند درجة خاصة من الحرارة ولنسمّها (ح). ثمّ كررنا هذه التجربة على هذه الجزئيات ، في مراحل مختلفة ، في أمكنة متعددة ، وتحت ظروف متغايرة ، ووجدنا النتيجة صادقة تماماً : تمدد بمقدار (س) عند درجة (ح). فهنا نستكشف أنّ التمدد بهذا المقدار المعين ، معلول لتلك الدرجة الخاصة ، فقط ، دون غيرها من

١٠٨

العوامل ، وإلّا لزم أن تكون ظاهرة التمدد بمقدار (س) معلولة بلا علّة ، وحادثة بلا جهة ، لصدق النتيجة في جميع الظروف ، والأمكنة ، وهو أمر محال ، لأنّ المفروض وحدة الأفراد في جميع الخصوصيات ، إلّا الزمان ، والمفروض عدم تأثيره في الحكم. وعلى هذا يحكم العقل بأنّ الحديد ، بجميع جزئياته وتراكيبه ، يتمدد بمقدار (س) عند درجة (ح).

وأمّا التشابه فهي عبارة عن وقوع فردين مختلفي الطبيعة تحت صفة واحدة توجب التشابه بينهما ، وهذا كالخمر والفقاع فإنّهما نوعان وبينهما تشابه وهو الإسكار.

وأوضح من ذلك مسألة الاستقراء ، فإنّ ما نشاهده من الحيوانات البرية والبحرية ، أنواع مختلفة. فلو رأينا هذا الحيوان البري وذلك الحيوان البحري كلّ يحرك فكّه الأسفل عند المضغ نحكم بذلك على سائر الحيوانات من دون أن تكون بينها وحدة نوعية أو تماثل في الحقيقة ، والدافع إلى ذلك التعدّي في الحكم هو التشابه والاشتراك الموجود بين أنواع الجنس الواحد رغم اختلافها في الفصول والأشكال ، ومن هنا لا يمكن الجزم بالحكم والنتيجة على وجهها الكلي لإمكان اختلاف أفراد نوعين مختلفين في الحكم.

وبذلك يعلم أنّ القياس عبارة عن إسراء حكم مشابه إلى مشابه لا حكم مماثل إلى مماثل ، ومن المعلوم أنّ إسراء الحكم من طبيعة إلى طبيعة أمر مشكل لا يصار إليه إلّا إذا كان هناك مساعدة من جانب العرف لإلغاء الخصوصية ، وإلّا يكون الإسراء فعلاً بلا دليل ، مثلاً دلّ الكتاب العزيز على أنّ السارق والسارقة تقطع أيديهما ، والحكم على عنوان السارق ، فهل يلحق به النبّاش الّذي ينبش القبر لأخذ الأكفان؟

١٠٩

فإنّ التسوية بين العنوانين أمر مشكل ، يقول السرخسي :

لا يجوز استعمال القياس في إلحاق النبّاش بالسارق في حكم القطع ، لأنّ القطع بالنصّ واجب على السارق ، فالكلام في إثبات السرقة حقيقة ، وقد قدّمنا البيان في نفس التسوية بين النبّاش والسارق في فعل السرقة. (١)

والحاصل : أنّ هناك فرقاً واضحاً بين فردين من طبيعة واحدة ، فيصحّ إسراء حكم الفرد إلى الفرد الآخر لغاية اشتراكهما في الإنسانية ، وأنّ حكم الأمثال في ما يجوز وما لا يجوز واحد ، لكن بشرط أن يثبت أنّ الحكم من لوازم الطبيعة لا الخصوصيات الفردية.

وأمّا المتشابهان فهما فردان من طبيعتين كالإنسان والفرس يجمعهما التشابه والتضاهي في شيء من الأشياء ، فهل يصحّ إسراء حكم نوع إلى نوع آخر؟ كلّا ، ولا ، إلّا إذا دلّ الدّليل على أنّ الوحدة الجنسية سبب الحكم ومناطه وملاكه التام.

١٢. تخريج المناط

إذا قضى الشارع على حكم في محل من دون أن ينصّ بمناطه ، مثلاً : إذا حرّم المعاوضة في البُرّ إلّا مثلاً بمثل ، فهل يصحّ تعميم الحكم إلى الشعير وسائر الحبوب بمناط أنّ الجميع مكيل أو موزون أو لا؟ وهذا هو بيت القصيد في القياس ، فلو أمكن للمستنبط استخراج العلّة التامة للحكم فله أن يقيس ، لأنّ المعلوم أي الحكم لا يتخلّف عن علّته. إنّما الكلام في كون المجتهد متمكّناً من استخراج مناط الحكم من الدليل استخراجاً قطعياً لا ظنياً ، إذ لا عبرة بالظن ما

__________________

(١) أُصول السرخسي : ١٥٧ / ٢.

١١٠

لم تثبت حجّيته ، وقد ذكروا لاستخراج المناط طرقاً مختلفة. وأشهرها هو استخراجها بالسبر والتقسيم.

قال الأُستاذ عبد الوهاب خلّاف : السبر معناه الاختبار ، ومنه المسبار. والتقسيم هو حصر الأوصاف الصالحة لأن تكون علّة في الأصل ، وترديد العلّة بينها بأن يقال : العلّة إمّا هذا الوصف أو هذا الوصف ، فإذا ورد نصّ بحكم شرعي في واقعة ولم يدلّ نص ولا إجماع على علّة هذا الحكم ، سلك المجتهد للتوصل إلى معرفة علّة هذا الحكم مسلك السبر والتقسيم : بأن يُحصر الأوصاف الّتي توجد في واقعة الحكم ، وتصلح لأن تكون العلّة وصفاً منها ، ويختبرها وصفاً وصفاً على ضوء الشروط الواجب توافرها في العلّة ، وأنواع الاعتبار الّذي تعتبر به ، بواسطة هذا الاختبار يستبعد الأوصاف الّتي لا تصلح أن تكون علّة ، ويستبقي ما يصلح أن يكون علّة ، وبهذا الاستبعاد وهذا الاستبقاء يتوصل إلى الحكم بأنّ هذا الوصف علّة. (١)

وما ذكره الأُستاذ خلّاف سهل في مقام البيان ، ولكنّه شاق في مقام التطبيق ، وذلك للبيان التالي :

أوّلاً : نحتمل أن يكون الحكم في الأصل معللاً عند الله بعلّة أُخرى غير ما ظنّه القائس ، أعني كونه صغيراً أو قاصر العقل ، في قوله : «لا يزوّج البكر الصغيرة إلّا وليّها» حيث ألحق بها أصحاب القياس الثيب الصغيرة ، بل المجنونة والمعتوهة ، وذلك بتخريج المناط وانّه هو قصور العقل وليس للبكارة مدخلية في الحكم ، فهل يمكن ادّعاء القطع بذلك ، وقد قال سبحانه : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً)؟ (٢)

__________________

(١) علم أُصول الفقه : ٨٤.

(٢) الإسراء : ٨٥.

١١١

إذ الإنسان لم يزل في عالم الحسّ تنكشف له أخطاؤه ، فإذا كان هذا حال عالم المادة الملموسة ، فكيف بملاكات الأحكام ومناطاتها المستورة على العقل إلّا في موارد جزئية كالإسكار في الخمر ، أو إيقاع العداء والبغضاء في الميسر ، أو إيراث المرض في النهي عن النجاسات؟ وأمّا ما يرجع إلى العبادات والمعاملات خصوصاً فيما يرجع إلى أبواب الحدود والديات فالعقل قاصر عن إدراك مناطاتها الحقيقية وإن كان يظن شيئاً.

قال ابن حزم : وإن كانت العلّة غير منصوص عليها ، فمن أيّ طريق تعرف ولم يوجد من الشارع نصّ يبين طريق تعرفها؟ وترك هذا من غير دليل يعرف العلّة ينتهي إلى أحد أمرين : إمّا أنّ القياس ليس أصلاً معتبراً ، وإمّا أنّه أصل عند الله معتبر ولكن أصل لا بيان له وذلك يؤدي إلى التلبيس ، وتعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً ، فلم يبق إلّا نفي القياس.

ثانياً : لو افترضنا أنّ المقيس أصاب في أصل التعليل ، ولكن من أين يعلم أنّها تمام العلّة ، ولعلّها جزء العلّة وهناك جزء آخر منضم إليه في الواقع ولم يصل القائس إليه؟

ثالثاً : احتمال أن يكون القائس قد أضاف شيئاً أجنبياً إلى العلّة الحقيقية لم يكن له دخل في المقيس عليه.

رابعاً : احتمال أن يكون في الأصل خصوصية في ثبوت الحكم وقد غفل عنها القائس ، ويعلم ذلك بالتدبّر في الأمثلة التالية :

١. قياس الولاية في النكاح بالميراث

يقدّم الأخ من الأب والأُمّ على الأخ للأب في الميراث

المقيس عليه.

فيقدّم الأخ من الأب والأُمّ على الأخ للأب في ولاية النكاح

المقيس.

١١٢

فإنّ علّة التقديم في الميراث امتزاج الإخوة

وهو الجامع

٢. قياس الجهل في المهر بالبيع

إنّ الجهل بالعوض يفسد البيع بالاتّفاق

المقيس عليه

فالجهل بالمهر يفسد النكاح

المقيس

لوجود المعاوضة والجهل فيها

الجامع

٣. قياس ضمان السارق بالغاصب

إنّ الغاصب يضمن إذا تلف المال تحت يده

المقيس عليه

والسارق أيضاً يضمن وإن قطعت يده

المقيس

تلف المال تحت اليد العادية

الجامع

فإنّ تخريج المناط في هذه الموارد وعشرات من أمثالها تخريجات ظنية وهي بحاجة إلى قيام الدليل ، وإلّا فيمكن أن يكون للميراث خصوصية غير موجودة في النكاح أو يكون الجهل بالعوض مفسداً في البيع دون النكاح ، لأنّ البيع مبادلة بين المالين بخلاف النكاح فإنّه علاقة تجمع بين شخصين ، فالعلّة هو الجهل بالعوض لا الجهل بالمهر ، والمهر ليس عوضاً.

ولأجل أنّ سلوك هذا الطريق مخطور جداً وأين للعقل الفردي الإحاطة بأسرار التشريع ومناطاته حتّى يقف عن طريق السبر والتقسيم على ما هو المناط ، نرى أنّ الإمام الشافعي يشدّد الأمر في المقام ويقول : ليس للحاكم أن يقبل ، ولا للوالي أن يدع أحداً ، ولا ينبغي للمفتي أن يفتي أحداً إلّا متى ما يجتمع له أن يكون عالماً علم الكتاب ... وعالماً بلسان العرب عاقلاً يميز بين المشتبه ، ويعقل

١١٣

القياس ، فإن عدم بعضاً من هذه الخصال لم يحل له أن يكون قياساً.

ثمّ إنّ أبا زهرة بعد أن نقل هذا الكلام من الشافعي يقول : وفي الحقّ أن تعرف العلل واستخراجها من النصوص والأحكام هو عمل الفقيه الحاذق الّذي عالج النصوص وتحرى فهمها فهماً عميقاً ، وتعرف مقاصد الشريعة في عمومها وفي خصوصها. (١)

والّذي يغرّ القائلين بالقياس في إمكان استخراج المناط هو الاستشهاد بأمثلة يكون المناط فيها واضحاً ، مثلاً يقول الغزالي مثاله : أن يضيف الشارع الحكم إلى سبب ينوطه به وتقترن به أوصاف لا مدخل لها في الإضافة فيجب حذفها عن درجة الاعتبار حتّى يتسع الحكم : مثاله إيجاب العتق على الأعرابي حيث أفطر في رمضان بالوقاع مع أهله فإنّا نلحق به أعرابياً آخر بقوله (عليه‌السلام) : حكمي على الواحد حكمي على الجماعة ، أو بالإجماع على أنّ التكليف يعمّ الأشخاص ولكنّا نلحق التركي والعجمي به ، لأنّا نعلم أنّ مناط الحكم وقاع مكلّف لا وقاع أعرابي ونلحق به من أفطر في رمضان آخر ، لأنّا نعلم أنّ المناط هتك حرمة رمضان لا حرمة ذلك الرمضان ، بل نلحق به يوماً آخر من ذلك الرمضان ؛ ولو وطأ أمته أوجبنا عليه الكفّارة ، لأنّا نعلم أنّ كون الموطوءة منكوحة لا مدخل له في هذا الحكم ، بل يلحق به الزنا ، لأنّه أشدّ في هتك الحرمة ، إلّا أنّ هذه إلحاقات معلومة تنبئ على تنقيح مناط الحكم بحذف ما علم بعادة الشرع في موارده ومصادره في أحكامه أنّه لا مدخل له في التأثير. (٢)

أقول : ما ذكره من المثال خارج عن محط النزاع لما عرفت من أنّ حذف

__________________

(١) (أُصول الفقه : ٢٣٠.)

(٢) المستصفى : ٢٣٢ / ٢ ، ط مصر.

١١٤

الخصوصية في حديث الأعرابي انّما هو من المداليل العرفية.

إنّما الكلام في الموارد الصعبة الّتي يتحير العقل في أنّ ما استخرجه هو المناط أو المناط غيره.

وعلى فرض كونه مناطاً فهل هو مناط تام ، أو جزء المناط؟ وبذلك يعلم أنّ أكثر من يستدلّ على حجّية القياس بإمكان استخراج مناطه يمثل بالخمر والنبيذ.

قال الأُستاذ خلّاف : وكذا ورد النصّ بتحريم شرب الخمر ولم يدلّ نص على علّة الحكم ، فالمجتهد يردّد العلية بين كونه من العنب أو كونه سائلاً أو كونه مسكراً ، ويستبعد الوصف الأوّل لأنّه قاصر ، والثاني لأنّه طردي غير مناسب ، ويستبقي الثالث فيحكم بأنّه علّة. (١)

خاتمة المطاف في مرتبته في الحجّية

إنّما يحتج بالقياس على القول بحجّيته ، إذا لم يكن دليل نقلي كالكتاب والسنّة ، أو إجماع من الفقهاء على حكم الموضوع ، لأنّ حجّية القياس محدّدة ب «ما لا نصّ فيه» ، ولو افترضنا وجود النص ، ينتفي القياس بانتفاء موضوعه.

قال عبد الوهاب خلاف : مذهب جمهور علماء المسلمين أنّ القياس حجّة شرعية على الأحكام العلمية ، وأنّه في المرتبة الرابعة من الحجج الشرعية ، بحيث إذا لم يوجد في الواقعة حكم بنص أو إجماع ، وثبت أنّها تساوي واقعة نُصَّ على حكمها ، في علّة هذا الحكم ، فإنّها تقاس بها ويحكم فيها بحكمها ، ويكون هذا حكمها شرعاً ، ويسع المكلّف اتّباعه والعمل به ، وهؤلاء يطلق عليهم : مثبتو القياس. (٢)

__________________

(١) علم أُصول الفقه : ٨٥.

(٢) علم أُصول الفقه : ٦١.

١١٥

وقال الأُستاذ محمد مصطفى شلبي : كان على المجتهد الباحث عن أحكام الله إذا لم يجد الحكم في كتاب الله أو في سنّة رسول الله أو فيما أجمع عليه في عصر سابق ، أن يبحث في الوقائع الّتي ثبت لها حكم بواحد من الأدلّة الثلاثة السابقة ، عن واقعة تشبه الّتي يبحث عن حكمها ، فإذا وجدها بحث عن المعنى الّذي من أجله شُرّع حكمها وهو المسمّى في الاصطلاح بعلّة الحكم ، فإذا عرفه ووجد أنّه موجود في الواقعة الجديدة غلب على ظنّه أنّهما متساويان في الحكم بناء على تساويهما في العلّة فيلحقها بها ويثبت لها حكمها.

وهذه العملية هي الّتي تسمّى القياس. وهو دليل نصبه الشارع لمعرفة الأحكام ، لكنّه لا يلجأ إليه إلّا إذا لم يجد ما هو أقوى منه ، ولذلك كان في المرتبة الرابعة في قائمة الأدلّة. (١)

هناك عدّة ملاحظات :

الأُولى : إذا كان القياس دليلاً في ما لم يكن هناك دليل شرعي من الكتاب والسنّة والإجماع ، فكيف يخصّص به عموم الكتاب وإطلاقه حيث ذهب الأئمّة الأربعة والإمام الأشعري وجماعة من المعتزلة كأبي هاشم وأبي الحسين البصري إلى جوازه (٢) ، مع أنّ موضوعه ما لا نصّ فيه والإطلاق والعموم دليل في المسألة.

وتوهّم أنّ القياس خاص ، والخاص يقدّم على العام ، غير تام ، وذلك لأنّ الخاص إنّما يقدّم على العام في ما إذا ثبتت حجّيته في مقابل الكتاب ، كالخبر المتواتر أو المستفيض أو خبر الواحد على قول لا ما إذا حدّدت حجّيته بقيد «ما لا نصّ فيه» والمراد من النصّ مطلق الدليل والإطلاق والعام دليلان ومع

__________________

(١) أُصول الفقه الإسلامي : ١٨٩.

(٢) لاحظ الإحكام للآمدي : ٢١٣ / ٢ ؛ تيسير التحرير : ٣٢١ / ١.

١١٦

وجودهما لا موضوع للقياس حتّى يكون حجّة فيقدم عليه.

الثانية : إذا كانت أحاديث أهل البيت (عليهم‌السلام) حجّة بنصّ حديث الثقلين وثبت عند الفقيه السنّي صحّة الحديث المروي عن أئمّة أهل البيت (عليهم‌السلام) كان عليهم الأخذ بالحديث مكان الأخذ بالقياس لعدم الموضوع للقياس بعد صحّة الخبر.

ولا عذر لهم في ترك التحرّي والتحقيق في الأحاديث المروية عن علي وأولاده (عليهم‌السلام).

الثالثة : انّ الأُستاذ مصطفى شلبي صرّح بأنّ الموجود في ذهن المجتهد هو غلبة الظن بأنّهما متساويان في الحكم ، والتساوي فيه فرع الظن بالتساوي في العلّة ، وإلّا فلو كان هناك علم بالتساوي في العلّة التامة ، لحصل العلم بالتساوي في الحكم ، كما هو الحال في الحكم بحرمة النبيذ للعلم بتساويه مع الخمر في العلّة ، وعندئذ يسأل ما هو الدليل على حجّية هذا الظن الّذي يبني عليه الفقه الإسلامي في مختلف الأبواب وسيوافيك دراسة أدلّته.

هذه هي الأُمور الّتي ذكرناها تسلّط الضوء على المقصود ، فها نحن نذكر أدلّة نفاة القياس.

ثمّ نذكر أدلّة مثبتيه أيضاً ، وذلك في فصلين :

١١٧

الفصل الأوّل

أدلّة نفاة القياس

قد نسب إلى نفاة حجّية القياس أدلّة غير تامّة غالباً ، فنحن نعرض عنها ونأتي بما هو الصحيح المتقن عندنا في عدم حجّيته :

وقد نقل الشيخ الطوسي أدلّة نفاة القياس وقال : «على جميعها اعتراض» ، ثمّ ذكر الاعتراضات ، ومن حاول التفصيل فليرجع إلى عدة الأُصول : ٦٦٧ / ٢ ٦٦٨.

الشكّ في الحجّية يساوق القطع بعدمها

إنّ الأثر تارة يترتّب على الوجود الواقعي للشيء كتحريم الخمر المترتّب على الخمر الواقعي ، وأُخرى يترتّب على واقعه ومشكوكه معاً ، كالطهارة حيث إنّ الطاهر الواقعي ومشكوك الطهارة كلاهما محكومان بالطهارة واقعاً أو ظاهراً.

وثالثة أُخرى يترتّب على الوجود العلمي للشيء بأن يكون معلوماً للمكلّف.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ المراد من الحجّة في المقام هو ما يحتجّ به المولى على العبد ، والعبد على المولى.

والغاية من جعل شيء كالظن حجّة هو كونه منجزاً للواقع إذا كان

١١٨

مصيباً ، وموافقاً للواقع ، ومعذّراً للمكلّف إذا كان مخالفاً له ، وهذا ما يعبّر عنه في علم الأُصول بأنّ الغاية من الحجية ، هو المنجّزية والمعذّرية.

هذا من جانب ومن جانب آخر ، انّ المنجزية المعذرية ليستا من آثار الحجّة الواقعية وإن لم يقف عليها المكلّف ، إذ في ظرف عدم الوقوف عليها ، تكون البراءة الشرعية والعقلية محكّمة لقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : «رفع عن أُمّتي ما لا يعلمون» ، وحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان.

فعلى ضوء هذين الأمرين ففي ظرف الشكّ في حجّية ظن من الظنون كخبر الواحد أو القياس يكون الشاك قاطعاً بعدم الحجّية ، وينتج الشك في الحجّية ، القطع بعدمها ، لما عرفت من أنّ الغاية منها هو المنجزية والمعذرية ، وهما من آثار معلوم الحجّية لا مشكوكها.

وهنا بيان آخر ربّما يكون أوضح من السابق وهو :

إنّ البدعة أمر محرم إجماعاً من غير خلاف ؛ وهي عبارة عن إدخال ما يعلم أنّه ليس من الدين أو يشكّ انّه منه ، في الدين ؛ والاعتماد على الظن الذي لم يقم دليل على جواز العمل والإفتاء على وفقه ، التزام بكون مؤدّاه حكم الله في حقّه وحقّ غيره ، وهذا هو نفس البدعة ، لأنّه يُدخل في الدين ما يشكّ انّه من الدين.

وبعبارة أُخرى : انّ العمل بالظن عبارة عن صحّة إسناد مؤدّاه إلى الشارع في مقام العمل ، ومن المعلوم أنّ إسناد المؤدّى إلى الشارع والعمل به إنّما يصحّ في حالة الإذعان بأنّ الشارع جعله حجّة ، وإلّا يكون الإسناد تشريعاً قولياً وعملياً دلّت على حرمته الأدلّة الأربعة ، وليس التشريع إلّا إسناد ما لم يعلم أنّه من الدين إلى الدين.

قال سبحانه : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً

١١٩

وَحَلالاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ). (١)

فالآية تدلّ على أنّ الإسناد إلى الله يجب أن يكون مقروناً بالإذن منه سبحانه ، وفي غير هذه الصورة يعدّ افتراءً ، سواء كان الإذن مشكوك الوجود كما في المقام أو مقطوع العدم ، والآية تعمّ كلا القسمين ، والمفروض أنّ العامل بالظن شاك في إذنه سبحانه ومع ذلك ينسبه إليه.

وقال سبحانه : (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ). (٢)

تجد انّه سبحانه يذم التقوّل بما لا يُعلم حدوده من الله ، سواء أكان مخالفاً للواقع أم لا ، والعامل بالظن يتقوّل بلا علم.

فخرجنا بالنتيجة التالية :

إنّ الضابطة الكلية في العمل بالظن هي المنع ، لكونه تشريعاً قولياً وعملياً محرّماً وتقوّلاً على الله بغير علم ، فالأصل في جميع الظنون أي في باب الحجج هو عدم الحجّية ، إلّا إذا قام الدليل القطعي على حجّيته.

وعلى ضوء ذلك فنفاة القياس في فسحة من إقامة الدليل على عدم حجّيته ، لأنّ الأصل عدم حجّية الظن إلّا ما قام على حجّيته الدليل ، وإنّما يلزم على مثبتي القياس إقامة الدليل القطعي على أنّ الشارع سوّغ العمل بهذا النوع من الظن كما سوغ العمل بخبر الثقة. ولو قام الدليل القطعي على حجّيته ، لخرج عن البدعة وصار ممّا أذن الله به وأن يعبد وهذا ما ندرسه في الفصل الثاني. فإن ثبت الدليل القاطع على حجّية هذا الظن نخرج من الأصل بالدليل ، وإلّا كان الأصل هو المرجع.

__________________

(١) (يونس : ٥٩.)

(٢) الأعراف : ٢٨.

١٢٠