أدب الطّف أو شعراء الحسين عليه السلام - ج ٣

جواد شبّر

أدب الطّف أو شعراء الحسين عليه السلام - ج ٣

المؤلف:

جواد شبّر


الموضوع : الشعر والأدب
الناشر: دار المرتضى
الطبعة: ١
الصفحات: ٣١٧

عبدالله البرقي

اذا جاء عاشورا تضاعف حسرتي

لآل رسول الله وانهلّ دمعتي

بيوم به اغبرت به الارض كلها

شجونا عليهم والسماء اقشعرت

مصائب ساءت كل من كان مسلما

ولكن عيون الفاجرين أقرت

اذا ذكرت نفسي مصيبة كربلا

وأشلاء سادات بها قد تفرّت

أضاقت فؤادي واستباحت تجلدي

وزادت على كربي ، وعيشي أمرت

بنفسي خدود في التراب تعفرت

بنفسي جسوم بالعراء تعرّت

بنفسي رؤس مشرقات على القنا

الى الشام تهدى بارقات الاسرة (١)

بنفسي شفاه ذابلات على الظما

ولم ترو من ماء الفرات بقطرة

بنفسي عيون غائرات شواخص

الى الماء منها نظرة بعد نظرة

* * *

كأني ببنت المصطفى قد تعلَّقت

يداها بساق العرش والدمع أذرت

__________________

١ ـ الاسرة : غصون الجبهة.

٢٨١

وفي حجرها ثوب الحسين مضرّجاً

وعنها جميع العالمين بحسرة

* * *

لأل رسول الله وديّ خالصاً

كما لمواليهم ولائي ونصرتي

وها أنا قد أدركتُ حدَّ بلاغتي

أصلي عليهم في عشيٍّ وبكرة

وقول النبي : المرء مع من أحبّه

يقويّ رجائي في إقالة عثرتي (١)

__________________

١ ـ عن مقتل الخوارزمي ج ٢ ص ١٣٧. والقصيدة طويلة انتخبنا منها هذه الابيات.

٢٨٢

ابو محمد عبدالله بن عمار البرقي :

قتل سنة ٢٤٥ هـ وذلك أنه وشي به الى المتوكل العباسي وقرأت له قصيدته النونية الشهيرة التي قالها في أهل البيت عليهم‌السلام والتي اولها :

ليس الوقوف على الاطلال من شاني.

الى ان يقول :

فهو الذي امتحن الله القلوب به

عما يجمجمن من كفر وإيمان

وهو الذي قد قضى الله العليُّ له

أن لا يكون له في فضله ثاني

وإن قوماً رجوا إبطال حقكم

أمسوا من الله في سخط وعصيان

لن يدفعوا حقكم إلا بدفعهم

ما أنزل الله من آي وقرآن

فقلدوها لاهل البيت إنهم

صنو النبي وانتم غير صنوان

فأمر المتوكل بقطع لسانه وإحراق ديوانه. ففعل به ذلك ، فمات بعد ايام.

ذكر الخوارزمي وابن شهراشوب وغيرهما ، وفي الطليعة : سماه في المعالم : علي بن محمد ، وكناه ابا عبدالله وليس به ، كما ذكره الخوارزمي في رسالته لاهل نيشابور والثعالبي والحموي كان شاعراً اديباً ظريفاً مدح بعض الامراء في زمن الرشيد الى أيام المتوكل ، وأكثر في مدح الائمة الاطهار حتى جمع له ديواناً أكثره فيهم وحرق.

حدث حماد بن اسحاق عن أبيه قال قلت في معنى عرض لي : ( وُصف الصدُّ لمن أهوى فصد ) ثم أجبلت فمكثت عدة أيام مفكراً في الاجازة فلم يتهياً لي شيء ، فدخل علي عبدالله بن عمار فاخبرته فقال مرتجلا ( وبدا يمزح في الهجر فجد ) انتهى عن الاعيان ج ٣٩ ص ٢٤.

٢٨٣

مرت في الجزء الثاني ترجمة السري الرفاء الموصلي مقتضبة مختصرة وإتماماً للفائدة نضيف اليها ما يلي :

قال الثعالبي في اليتيمة ج ٢ ص ١١٧ :

السريُّ وما ادراك من السري لله دره ما أعذب بحره وأصفى قطره وأعجب أمره وقد اخرجت من شعره ما يُكتب على جبهة الدهر فكتبت منه محاسن كأنها أطواق الحمام.

ولما جدّ السري في خدمة الادب وانتقل عن تطريز الثياب الى تطريز الكتاب ، شعر بجودة شعره ونابذ الخالديين الموصليين وناصبهما العداوة وادعى عليهما سرقة شعره وشعر غيره ، وجعل يورق وينسخ ديوان شعر أبي الفتح كشاجم ، وهو إذ ذاك ريحان أهل الأدب بتلك البلاد ، والسري في طريقة يذهب وعلى قالبه يضرب ، وكان يدس فيما يكتبه من شعره أحسن شعر الخالديين ليزيد في حجم ما ينسخه ، وينفق سوقه ، ويغلي سمره ، ويشنع بذلك على الخالديين ، ويغض منهما ، ويظهر مصداق قوله في سرقتهما ، فمن هذه الجهة وقعت في بعض النسخ من ديوان كشاجم زيادات ليست في الاصول المشهورة منها ، وقد وجدتها كلها للخالديين بخطّ أحدهما وهو أبو عثمان سعيد بن هاشم في مجلدة أتحف بها الوراق المعروف بالطرسوسي ببغداد أبا نصر سهل بن المرزبان وأنفذها إلى نيسابور في جملة ما حصل عليه من طرائف الكتب باسمه ، ومنها وجدت الضالة المنشودة من شعر الخالدي المذكور وأخيه أبي بكر محمد بن هاشم ، ورأيت فيها أبياتاً كتبها أبوعثمان لنفسه ، وأخرى كتبها لأخيه ، وهي بأعيانها

٢٨٤

للسري بخطه في المجلدة المذكورة لأبي نصر ، فمنها أبيات في وصف الثلج واستهداء النبيذ :

يا من أنامله كالعارض الساري

وفعله أبداً عار من العار

أما ترى الثلج قد خاطت أنامله

ثوباً يزر على الدنيا بأزرار

نار ولكنها ليست بمبدية

نوراً وماء ولكن ليس بالجاري

والراح قد أعوزتنا في صبيحتنا

بيعاً ولو وزن دينار بدينار

فامنن بما شئت من راح يكون لنا

ناراً فانا بلا راح ولا نار

ومن قوله أيضاً :

ألذّ العيش إتيان الصبيح

وعصيان النصيحة والنصيح

وإصغاء إلى وترٍ وناي

إذا ناحا على زق جريح

غداة دجنة وطفاء تبكي

إلى ضحك من الزهر المليح

وقد حديت قلائصها الحيارى

بحادٍ من رواعدها فصيح

وبرق مثل حاشيتي رداء

جديد مُذهبَ في يوم ريح

وقال من قصيدة هجا بها أبا العباس النامي ، ويحكى انه كان جزاراً بالمدينة :

أرى الجزَّار هيَّجني وولّى

فكاشفني وأسرع في انكشافي

ورقّع شعره بعيون شعري

فشاب الشهد بالسمِّ الذعاف

لقد شقيت بمديتك الأضاحي

كما شقيت بغارتك القوافي

توعّر نهجها بك وهو سهل

وكدَّر وردها بك وهو صافي

فتكت بها مثقفة النواحي

على فكر أشد من الثقاف

لها أرج السوالف حين تجلى

على الأسماع أو أرج السلاف

٢٨٥

جمعن الحسنيين فمن رياح

معنبرة وأروح خفاف

وما عدمت مغيراً منك يرمي

رقيق طباعها بطباع جافي

معانٍ تستعار من الدياجي

وألفاظ تقدُّ من الأثافي (١)

كأنك قاطف منها ثماراً

سبقت اليه إبّان القطاف

وشر الشعر ما أداه فكر

تعثّر بين كدّ واعتساف

سأشفي الشعر منك بنظم شعر

تبيت له على مثل الاشافي (٢)

وأبعد بالمودة عنك جهدي

فقف لي بالمودة خلف قاف

قال الثعالبي : وما أراني أروى أحسن ولا اشرف ولا أعذب ولا ألطف من قوله :

قسمت قلبي بين الهم والكمد

ومقلتي بين فيض الدمع والسهد

ورحت في الحسن أشكالا مقسمة

بين الهلال وبين الغصن والعقد

أريتني مطراً ينهل ساكبه

من الجفون وبرقاً لأح من برد

ووجنة لا يروي ماؤها ظميء

بخلاً وقد لذعت نيرانها كبدي

فكيف أبقي على ماء الشئون وما

أبقى الغرام على صبري ولا جلدي؟

وقال ولا توجد في الديوان المطبوع

لو أشرقت لك شمس ذاك الهودج

لأرتك سالفتي غزال أدعج

أرعى النجوم كأنها في افقها

زهر الاقاحي في رياض بنفسج

والمشتري وسط السماء تخاله

وسناء مثل الزيبق المترجرج

مسمار تبر أصفر ركبته

في فص خاتم فضة فيروزج

__________________

١ ـ الاثافي : حجارة توضع عليها القدور ، واحدها أثفية بضم الهمزة وياؤها مشددة ،

٢ ـ الاشافي : جمع إشفي ، وهو المثقب يخرز به النعال.

٢٨٦

وتمايل الجوزاء يحكي في الدجى

ميلان شارب قهوة لم تمزج

وتنقبت بخفيف غيم أبيض

هي فيه بين تخفّر وتبرّج

كتنفس الحسناء في المرآة اذ

كملت محاسنها ولم تتزوج

ومما يأخذ بمجامع القلوب قوله :

بلاني الحب منك بما بلاني

فشأني أن تفيض غروب شأني

أبيت الليل مرتفقاً أناجي

بصدق الوجه كاذبة الأماني

فتشهد لي على الأرق الثريا

ويعلم ما أجن الفرقدان

إذا دنت الخيام به فأهلاً

بذاك الخيم والخيم الدواني

فبين سجوفها أقمار تمٍ

وبين عمادها أغصان بان

ومذهبة الخدود بجلنار

مفضضة الثغور بأقحوان

سقانا الله من رياك رياً

وحيّانا بأوجهك الحسان

ستصرف طاعي عمن نهاني

دموع فيك تلحى من لحاني

ولم أجهل نصيحته ، ولكن

جنون الحب أحلى في جناني

فيا ولع العواذل خلِّ عني

ويا كف الغرام خذي عناني

وقال :

قامت وخوط البانة

الميَّاس في أثوابها

ويهزها سكران : سكـ

ـر شرابها وشبابها

تسعى بصهباوين من

الحاظها وشرابها

فكأن كأس مدامها

لما ارتدت بحبابها

توريد وجنتها إذا

ما لاح تحت نقابها

٢٨٧

وقوله في العتاب :

لسانك السيف لا يخفى له أثر

وأنت كالصلّ لا تبقي ولا تذر

سرّي لديك كأسرار الزجاجة لا

يخفى على العين منها الصفو والكدر

فاحذر من الشعر كسراً لا انجبار له

فللزجاجة كسر ليس ينجبر

وقال في مثل ذلك :

أروم منك ثماراً لست اجنيها

وأرتجي الحال قد حلت أواخيها

استودع الله خلاً منك أوسعه

وداً ويوسعني غشاً وتمويها

كأن سرَّي في أحشائه لهب

فما تطيق له طيّاً حواشيها

قد كان صدرك للأسرار جندلة

ضنينة بالذي تخفي نواحيها

فصار من بعد ما استودعت جوهرة

رقيقة تستشف العين ما فيها

وقال من قصيدة :

لا تأنفنّ من العتاب وقرصه

فالمسك يسحق كي يزيد فضائلا

ما أحرق العود الذي أشممته

خطأ ولا غمَّ البنفسج باطلاً

وقال يذكر ليلة بقُطربّل ويصف الشمع :

كستك الشبيبة ريعانها

وأهدت لك الراح ريحانها

فدم للنديم على عهده

وغاد المدام وندمانها

فقد خلع الأفق ثوب الدجى

كما نضت البيض أجفانها

وساقٍ يواجهني وجهه

فتجعله العين بستانها

يتوّجُ بالكأس كفَّ النديم

إذا نظم الماء تيجانها

فطوراً يوشح ياقوتها

وطوراً يرصّع عقيانها

٢٨٨

رميت بأفراسها حلبة

من اللهو ترهج ميدانها

وديراً شغفت بغزلانه

فكدتُ أقبِّل صلبانها

فلما دجى الليل فرّجته

بروح تحيِّف جثمانها

بشمع أعير قدود الرماح

وسرج ذراها وألوانها

غصون من التبر قد أزهرت

لهيباً يزيّن أفنانها

فيا حسن أرواحها في الدجى

وقد أكلت فيه أبدانها

سكرت بقُطربَّل ليلة

لهوت فغازلت غزلانها

وأي ليالي الهوى أحسنت

إليَّ فأنكرت إحسانها

وقال يصف طبيباً بارعاً :

برز ابراهيم في علمه

فراح يدعى وارث العلم

أوضح نهج الطب في معشر

ما زال فيهم دارس الرسم

كأنه من لطف أفكاره

يجول بين الدم واللحم

إن غضبت روحٌ على جسمها

أصلح بين الروح والجسم

وقال :

هل للعليل سوى ابن قرّة شافي

بعد الإله؟ وهل له من كافي؟

أحيا لنا رسم الفلاسفة الذي

أودى وأوضح رسم طب عافي

فكأنه عيسى بن مريم ناطقا

يهب الحياة بأيسر الأوصاف

مثلت له قارورتي فرأى بها

ما اكتنَّ بين جوانحي وشغافي

يبدو له الداء الخفي كما بدا

للعين رضراض الغدير الصافي

قال السيد الامين في الاعيان ج ٣٤ ص ٣٥.

العلم والادب يرفعان الوضيع في نفسه وصنعته ومكسبه ونسبه وفقره

٢٨٩

وخصاصته والجهل يضع الرفيع في نسبه وعشيرته ومنصبه وغناه وثروته عند أهل العقل وان رفعه ذلك عند اهل الجهل مثله ، فأبو تمام الذي كان اول أمره غلام حائك بدمشق ويسقي الماء من الجرة في جامع مصر رقى به علمه وأدبه الى معاشرة الملوك والامراء ومدحهم وأخذ جوائزهم الوفيرة حتى صار يستقل الف دينار يجيزه بها عبدالله بن طاهر فيفرقها على من ببابه ويحتمل له ابن طاهر ذلك ويجيزه بضعفها ويؤلف ديوان الحماسة فيعطي من الحظ ما لم يعطه كتاب ، والسري الرفا ينتقل من صنعة الرفو والتطريز عند أحد الرفائين باجر زهيدة وعيش ضنك الى مدح الملوك والوزراء والامراء فيأخذ جوائزهم النفيسة ويؤلف في الأدب كتاب المحب والمحبوب والمشموم والمشروب ولا شك ان للزمان والبيئة التأثير العظيم في ذلك فأبو تمام وجد في عصر راجت فيه بضاعة الشعر والادب أعظم رواج وكثر رائده وانتشر طالبوه وزهت رياضة وتفتحت اكمام زهره بما أغدقه عليها الملوك والأمراء من عطاياهم الفياضة ، والسري الرفا وجد في دولة بني حمدان وعلى رأسهم سيف الدولة الذي اجتمع ببابه من الشعراء والادباء ما لم يتفق لغيره ويتلوه امراء بني حمدان الكثيري العدد الذين مدحهم السري وأخذ جوائزهم النفيسة وفيهم يقول من قصيدة :

والحمد حلي بني حمدان نعرفه

والحق أبلج لا يلقى بانكار

قوم اذا نزل الزوار ساحتهم

تفيؤا ظلّ جنّات وأنهار

مؤمرون اذا ثارت قدومهم

أفضت الى الغاية القصوى من الثار

فكل أيامهم يوم الكلاب اذا

عُدّت وقائعهم أو يوم ذي قار

وقال في اعيان الشيعة ج ٣٤ ص ٩٨ عن ملحق فهرست ابن النديم ص ٦ كان السري الرفاء جاراً لابي الحسن علي بن عيسي الرماني بسوق العطش وكان كثيراً ما يجتاز بالرماني وهو جالس على باب داره فيستجلسه ويحادثه يستدعيه الى أن يقول بالاعتزال وكان السري يتشيع فلما طال ذلك عليه أنشد ( وليست في الديوان المطبوع ).

٢٩٠

أقارع أعداء النبي وآله

قراعاً يَفُلّ البيض عند قراعه

وأعلم كل العلم أن وليهم

سيجزى غداة البعث صاعاً بصاعه

فلا زال من والاهم في علوّه

ولا زال من عاداهم في اتضاعه

ومعتزليّ رام عزل ولايتي

عن الشرف العالي بهم وارتفاعه

فما طاوعتني النفس في أن أطيعه

ولا أذن القرآن لي في اتباعه

طبعت على حبّ الوصي ولم يكن

لينقل مطبوع الهوى عن طباعه

وقال من قصيدة في الغزل :

أجانبها حذاراً لا اجتنابا

واعتب كي تنازعني العتابا

وأبعد خيفة الواشين عنها

لكي ازداد في الحب اقترابا

وتأبى عبرتي الا انسكابا

وتأبى لوعتي إلا التهابا

مررنا بالعقيق فكم عقيق

ترقرق في محاجرنا فذابا

ومن مغنى جهنا الشوق فيه

سؤالا والدموع له جوابا

وفي الكلل التي غابت شموس

إذا شهدت ظلام الليل غابا

حملت لهنّ أعباء التصابي

ولم أحمل من السلوان عابا

ولو بعدت قبابك قاب قوس

من الواشين حيينا القبابا

نصدّ عن العذيب وقد رأينا

على ظمأ ثناياك العذابا

تثني البرق يذكرني الثنايا

على أثناء دجلة والشعابا

وأياماً عهدت بها التصابي

وأوطاناً صحبت بها الشبابا

قال السيد المدني في انوار الربيع ، ومن طريف ما قاله السري الرفاء

أسلاسل البرق الذي لحظ الثرى

وهنا فوشّح روضه بسلاسل

أذكرتنا النشوات في ظلّ الصبا

والعيش في سنة الزمان الغافل

أيام استر صبوتي من كاشح

عمداً وأسرق لذتي من عاذل

٢٩١

وقوله :

وصاحب يقدح لي

نار السرور بالقدح

في روضة قد لبست

من لؤلؤ الطل سبح

يألفني حمامها

مغتبقا ومصطبح

أوقظه بالعزف أو

يوقظني اذا صدح

والجو في ممسك

طرازه قوس قزح

يبكي بلا حزن كما

يضحك من غير فرح

وقوله :

يوم خلعت به عذاري

فعريت من حلل الوقار

وضحكت فيه الى الصبا

والشيب يضحك في عذاري

متلوِّن يبدي لنا

طرفاً باطراف النهار

فهواؤه سكب الرداء

وغيمه جافي الازار

يبكي فيجمد دمعه

والبرق يكحله بنار

٢٩٢

كانت ترجمة الخالديين في الجزء السابق غير وافية بحقهما ، ونستدرك هنا ما فات :

سعيد بن هاشم هو وأخوه شاعران لهما شهرتهما في عالم الادب ، كانا ينظمان الشعر مشتركين ومنفردين ، ومدحا الملوك والامراء والكبراء ، غير أن السري الرفاء الموصلي هجاهما بأهاج كثيرة وزعم انهما سرقا شعره. ويقول الثعالبي في اليتيمة ان السري كان يدعي عليهما سرقة شعره وشعر غيره ويدس من شعرهما في ديوان كشاجم ليثبت مدعاه. وقال صاحب اليتيمة : كانا يشتركان في قرض الشعر وينفردان ولا يكادان في الحضر والسفر يفترقان ، وكانا في التساوي والتشابك والتشاكل والتشارك كما قال البحتري :

كالفرقدين اذا تأمّل ناظر

لم يعل موضع فرقد عن فرقد

بل كما قال ابو اسحاق الصابي فيهما :

أرى الشاعرين الخالدين سيِّراً

قصائد يفنى الدهر وهي تخلَّد

جواهر من أبكار لفظ وعونه

يُقصّر عنها راجز ومقصد

تنازع قوم فيهما وتناقضوا

ومرَّ جدال بينهم يتردد

فطائفة قالت : سعيد مقدم

وطائفة قالت لهم : بل محمد

وصاروا الى حكمي فأصلح بينهم

وما قلت إلا بالتي هي أرشد

هما في اجتماع الفضل زوج مؤلف

ومعناهما من حيث يثبت مفرد

٢٩٣

كذا فرقدا الظلماء لما تشاكلا

علا أشكلا ، هل ذاك أم ذاك أمجد

فزوجهما ما مثله في اتفاقه

وفردهما بين الكواكب أوحد

فقاموا على صلح وقال جميعهم

رضينا وساوى فرقد الارض فرقد

وقال يصف غلامه ( رشا ) :

ما هو عبد لكنه ولد

خولنيه المهيمن الصمد

وشد أزري بحسن خدمته

فهو يدي والذراع والعضد

صغير سن كبير منفعة

نماذج الضعف فيه والجلد

في سن بدر الدجى وصورته

فمثله يصطفى ويعتمد

معشق الطرف كله كحل

مغزل الجيد حليه الجيد

وورد خديه والشقائق

والتفاح والجلنار منتضد

رياض حسن زواهر أبداً

فيهن ماء النعيم يطرد

وغصن بان اذا بدا واذا

شدا فقمري بانة غرد

أنسي ولهوي وكل مأدبتي

مجتمع فيه وهو منفرد

ظريف مزح مليح نادرة

جوهر حسن شرارة تقد

ومنفق اذا أنا أسرفـ

ـت وبذرت فهو مقتصد

مبارك الوجه مذحظيت به

حالي رخي وعيشتي رغد

مسامري ان دجا الظلام فلي

منه حديث كأنه الشهد

خازن ما في يدي وحافظه

فليس شيء لدي يفتقد

يصون كتبي فكلها حسن

يطوي ثيابي فكلها جدد

وأبصر الناس بالطبيخ فكالمسـ

ـك القلايا والعنبر الثرد

وهو يدير المدام ان جليت

عروس دني نقابها الزبد

٢٩٤

تمنح كأسي يدٌ أناملها

تنحلُّ من لينها وتنعقد

مثقف كيسٌ فلا عوج

في بعض أخلاقه ولا أود

وصير في القريض وزّانُ دينا

ر المعاني الجياد منتقد

ويعرف الشعر مثل معرفتي

وهو على أن يزيد مجتهد

وكاتب توجد البلاغة في

ألفاظه والصواب والرشد

وواجد بي من المحبة والرأ

فة أضعاف ما به أجد

اذا تبسمت فهو مبتهج

وإن تنمرت فهو مرتعد

ذا بعض أوصافه وقد بقيت

له صفات لم يحوها أحد

وقال ، وهو مما ينسب الى الوزير المهلبي ـ كما روى الثعالبي

فديتك ما شبت من كبرةٍ

وهذي سني وهذا الحساب

ولكن هجرت فحل المشيب

ولو قد وصلت لعاد الشباب

وقوله :

ظالم لي وليته الدهر يبقى ويظلم

وصله جنة ولكن جفاه جهنم

ومن شعره ـ كما في اليتيمة :

أما ترى الطل كيف يلمع في

عيون نور تدعو الى الطرب

في كل عين للطل لؤلؤة

كدمعة في جفون منتحب

والصبح قد جردت صوارمه

والليل قد همَّ منه بالهرب

والجو في حلّة ممسكة

قد كتبتها البروق بالذهب

٢٩٥

وقال :

يا حسن دير سعيد إذ حللتُ به

والارض والروض في وشي وديباج

فما ترى غصنا إلا وزهرته

تجلوه في جبّة منها ودوّاج

وللحمائم ألحان تذكرّنا

أحبابنا بين أرمال وأهزاج

وللنسيم على الغدران رفرفةُ

يزورها فتلقّاه بامواج

وكلنا من أكاليل البهار على

رؤوسنا كأنو في التاج

ونحن في فلك المحيط بنا

كأننا في سماء ذات أبراج

ولست أنسى ندامى وسط هيكله

حتى الصباح غزالا طرفه ساجي

أهزّ عطفي قضيب البان معتنقاً

منه والثم عيني لعبة العاج

وقولتي والتفاتي عند منصرفي

والشوق يزعج قلبي أي إزعاج

يا دير ياليت داري في فنائك أو

يا ليت لي في درب درَّاج

وقال :

بنفسي حبيب بان صبري لبينه

وأودعني الاشجان ساعة ودّعا

وانحلني بالهجر حتى لو أنني

قذى بين جفني أرمدٍ ما توجّعا

وقال :

وليلة ليلاء في

اللون كلون المفرق

كأنما نجومها

في مغرب ومشرق

دراهم منثورة

على بساط أزرق

٢٩٦

وقال :

صغير صرفت اليه الهوى

وهل خاتم في سوى خنصر

فإن شئت فاعذر ولا تلحني

وإن شئت فالح ولا تعذر

وقال :

ريقته خمرّ وأنفاسه

مسك وذاك الثغر كافور

أخرجه رضوان من داره

مخافة تفتتن الحور

يلومه الناس على تيهه

والبدر إن تاه فمعذور

وقال :

قل لمن يشتهي المديح ولكن

دون معروفه مطال ولُّي

سوف اهجرك بعد مد

ح وتحريك وعتب وآخر الداء كي

وقال :

شعر عبدالسلام فيه رديُ

ومحال وساقط وبديع

فهو مثل الزمان فيه مصيف

وخريف وشتوة وربيع

وقال كما في أعيان الشيعة :

قمر بدير الموصل الأعلى

أنا عبده وهواه لي مولى

لثم الصليب فقلت من حسد

قبل الحبيب فمي بها أولى

جد لي باحداهن تحيي بها

قلبي فحبَّته على المقلى

فاحمر من خجل وكم قطفت

عيني شقائق وجنة خجلي

وثكلت صبري عند فرقته

فعرفت كيف مصيبة الثكلى

٢٩٧

قال السيد الامين وفي معجم البلدان : دير الاعلى بالموصل يضرب به المثل في رقة الهواء وحسن المستشرف ، والى جانبه مشهد عمرو بن الحمق الخزاعي الصحابي ، أنتهى. اقول والحمق بالحاء المهملة المفتوحة والميم المكسورة والقاف : كان خفيف اللحية ، وبه سمي الرجل. وهو من حواري أمير المؤمنين عليّ وأصفيائه. ذكر المجلسي في البحار باسناده قال : قال عمرو بن الحمق لأمير المؤمنين : والله ما جئتك لمال من الدنيا تعطنيها ، ولا لالتماس سلطان يرفع به ذكري إلا لأنك ابن عم رسول الله وأولى الناس بالناس وزوج فاطمة عليها‌السلام سيدة نساء العالمين ، وابوالذرية التي هي بقية رسول الله ، وأعظم سهماً للاسلام من المهاجرين والانصار ، والله لو كلفتني نقل الجبال الرواسي ونزح البحور الطوامي (١) أبداً حتى يأتي علي يومي وفي يدي سيفي أهرُّ به عدوّك وأقوِّي به وليك ، ويعلي به الله كعبك ، ما ظننت اني أديت من حقك كل الحق الذي يجب لك عليَّ. فقال اميرالمؤمنين عليه‌السلام : اللهم نوِّر قلبه واهده الصراط المستقيم. ليت أن في شيعتي مائة مثلك.

وجاء في اسد الغابة ان عمرو بن الحمق الخزاعي سقى النبي (ع) فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : اللهم أمتعه بشبابه : فمرّت عليه ثمانون سنة لا ترى في لحيته شعرة بيضاء.

وقال عمرو بن الحمق يوم صفين :

تقول عرسي لما أن رأت أرقى

ماذا يهيجك من اصحاب صفينا

ألست في عصبة يهدي الآله بهم

أهل الكتاب ولا بغياً يريدونا

__________________

١ ـ هي الممتلئة ، يقال طمى البحر اذا امتلأ ماء.

٢٩٨

فقلت إني على ما كان من رشدٍ

أخشى عواقب أمر سوف يأتينا

إدالة القوم في أمر يراد بنا

فاقني حياءً وكُفّي ما يقولونا

ولما رفعت المصاحف يوم صفين قال عمرو بن الحمق : يا اميرالمؤمنين انا والله ما اخترناك ولا نصرناك عصبيّةً على الباطل ولا أحببنا إلا الله عزَّوجل ولا طلبنا إلا الحقَّ ولو دعانا غيرك الى ما دعوت إليه لكان فيه اللجاج وطالت فيه النجوى وقد بلغ الحق مقطعه وليس لنا معك رأي ( اهـ ) ولما قتل علي بن ابي طالب بعث معاوية في طلب أنصاره فكان فيمن طلب عمرو بن الحمق الخزاعي فراغ منه فارسل الى امرأته آمنة بنت الشريد فحبسها في سجن دمشق سنتين ثم أن عبدالرحمان بن الحكم ظفر بعمرو بن الحمق في بعض الجزيرة فقتله وبعث برأسه الى معاوية ، فكان اول رأس حمل في الاسلام واهدي من بلد الى بلد ، فلما أتى معاوية الرسول بالرأس بعث به الى آمنة في السجن وقال للحرسيَّ إحفظ ما تتكلم به حتى تؤديه الي واطرح الرأس في حجرها ، ففعل فارتاعت له ساعة ثم وضعت يدها على رأسها وقالت : نفيتموه عني طويلاً وأهديتموه اليّ قتيلا فاهلا وسهلا بمن كنت له غير قالية وانا له اليوم غير ناسية. الى آخر القصّة التي ذكرت مفصلا في ترجمة آمنة. وبعد قتل عمرو كتب الحسين بن علي الى معاوية : اولست القاتل عمرو بن الحمق صاحب رسول الله العبد الصالح بعد ما أمنته واعطيته من عهود الله ومواثيقه ما لو اعطيته طائراً نزل اليك من رأس جبل ثم قتلته جرأة على ربك واستخفافاً بذلك العهد.

قال ابن الاثير في اسد الغابة قبر عمرو بن الحمق الخزاعي مشهور بظاهر الموصل يزار وعليه مشهد كبير ، ابتدأ بعمارته أبوعبدالله سعيد بن حمدان وهو ابن عم سيف الدولة وناصر الدولة ابن حمدان في شعبان سنة ست وثلاثين وثملثمائة.

٢٩٩

وجاء في اليتيمة من شعر ابي بكر محمد بن هاشم الخالدي ، قال : وهو في نهاية الحسن.

لو أشرقت لك شمس ذاك الهودج

لأرتك سالفتي غزال أدعج

اقول وقد مرت عليك هذه القطعة في ترجمة السري الرفاء وعلمت ما كان بينهما من المنافسة والله اعلم انها لهذا او لذاك.

وقال :

قلت لما بدا الهلال لعين

منعتها من الكرى عينا كا

يا هلال السماء لولا هلال الا

رض ما بتُّّ ساهراً أرعا كا

وقال وقد أمر الامير بجمع المتكلمين ليتناظروا بحضرته في يوم دجن :

هو يوم كما ترا

ه مليح الشمائل

هاج نوح الحمام

فيه غناء البلابل

ولركب السحاب في

الجو حقٌ كباطل

مثلما فاه في الـ

ـمهند بعض الصياقل

جليت شمسه لـ

ـرقته في غلائل

وعمود الزمان

معتدل غير مائل

حين ساوى حر الهوا

جر برد الأصائل

وغدا الروض في قلا

ئده والخلاخل

٣٠٠