أدب الطّف أو شعراء الحسين عليه السلام - ج ٣

جواد شبّر

أدب الطّف أو شعراء الحسين عليه السلام - ج ٣

المؤلف:

جواد شبّر


الموضوع : الشعر والأدب
الناشر: دار المرتضى
الطبعة: ١
الصفحات: ٣١٧

من ذيول السحاب أطهر ذيلاً

وقميص النسيم اطيب ردنا

ما مشت في فؤاده قدم الغـ

ـش ولا أسكن لجوانح ضغنا

إن يكن للحياء ماءٌ فما كا

ن له غير ذلك الوجه مزنا

لهف نفسي على حسامٍ صقيل

كيف أضحت له الجنادل جفنا

وعتيقٍ أثار بالسبق نقعاً

فغدا فوقه يهالُ ويبنى (١)

ونفيسٍ من الذخائر لم يؤ

مَن عليه فأستودع الارض خزنا

أغمض العين بعده فغريب

أن ترى مثله وأين وأنى

فالقصور المشيدات تعزى

والقبور المبعثرات تهنى

ومن رائع نظمه قوله في الوزير فخر الدولة محمد بن محمد بن جهير الموصلي ، انفذها اليه من واسط عندما تقلد الوزارة :

لجاجة قلب ما يفيق غرورها

وحاجة نفس ليس يقضى يسيرها

وقفنا صفوفاً في الديار كأنها

صحائف ملقاة ونحن سطورها

يقول خليلي والظباء سوانح

أهذا الذي تهوى فقلت نظيرها

لئن شابهت أجيادها وعيونها

لقد خالفت أعجازها وصدورها

فيا عجباً منها يصيد أنيسها

ويدنو على ذعر الينا نفورها

وما ذاك إلا أن غزلان عامر

تيقن أن الزائرين صقورها

ألم يكفها ما قد جنته شموسها

على القلب حتى ساعدتها بدورها

نكصنا على الاعقاب خوف اناثها

فما بالها تدعو نزال ذكورها

ووالله ما أدري غداة نظرتها

أتلك سهام أم كؤوس تديرها

فإن كن من نبلٍ فأين حفيفها

وإن كنَّ من خمر فأين سرورها

أيا صاحبيَّ استأذنا لي خمارها

فقد أذنت لي في الوصول خدورها

__________________

١ ـ الفرس العتيق الرائع الذي يعجب الناس بحسنه.

جواهر الأدب جمع سليم صادر ، ج ٤ ص ١٧٤.

١٨١

هباها تجافت عن خليل يروعها

فهل أنا إلا كالخيال يزورها

وقد قلتما لي ليس في الارض جنة

أما هذه فوق الركائب حورهـ

فلا تحسبا قلبي طليقاً فإنما

لها الصدر سجن وهو فيه أسيرها

يعزُّ على الهيم الخوائض وردها

إذا كان ما بين الشفاه غديرها

أراك الحمى قل لي بأي وسيلة

توسَّلت حتى قبّلتك ثغورها

ومن مديحها :

أعدت الى جسم الوزارة روحها

وما كان يرجى بعثها ونشورها

أقامت زماناً عند غيرك طامثاً

وهذا زمان قرؤها وطهورها

من الحق أن تحيى بها مستحقها

ويسترعها مردودة مستعيرها

إذا ملك الحسناء من ليس كفؤها

أشار عليها بالطلاق مشيرها

١٨٢

وأنشده ايضاً لما عاد الى الوزارة في صفر سنة احدى وستين وأربعمائة بعد العزل ، وكان المقتدي بالله قد أعاده إلى الوزارة بعد العزل وقبل الخروج الى السلطان ملكشاه فعمل فيه صرُ درَّ هذه القصيدة :

قد رجع الحق إلى نصابه

وأنت من كل الورى أولى به

ما كنت إلا السيف سلَّته يدٌ

ثم أعادته الى قرابه

هزته حتى أبصرته صارماً

رونقه يغنيه عن ضرابه

أكرم بها وزارة ما سلمت

ما استودعت إلا إلى أصحابه

مشوقة اليك مذ فارقتها

شوق أخي الشيب الى شبابه

مثلك محسود ولكن معجز

أن يدرك البارق في سحابه

حاولها قوم ومن هذا الذي

يخرج ليثاً خادراً من غابه

يدمي أبو الأشبال من زاحمه

في جيشه بظفره ونابه

وهل رأيت او سمعت لابساً

ما خلع الأرقم من إهابه

تيقنوا لما رأوها ضيعة

أن ليس للجو سوى عقابه

إن الهلال يرتجى طلوعه

بعد السرار ليلة احتجابه

والشمس لا يؤنس من طلوعها

وان طواها الليل في جنابه

ما أطيب الاوطان الا أنها

للمرء أحلى أثر اغترابه

كم عودة دَلّت على مآبها

والخلد للانسان في مآبه

لو قرب الدرّ على جالبه

ما نجح الغائص في طلابه

ولو أقام لازماً أصدافه

لم تكن التيجان في حسابه

ما لؤلؤ البحر ولا من صانه

إلا وراء الهول من عبابه

وهي قصيدة طويلة وقد اقتصرنا منها على هذا القدر.

١٨٣

وله :

جلسة في الجحيم أحرى وأولى

من نعيم يفضي الى تدنيس

ففرارا من المذلة في آ

دم كان العصيان من إبليس

وله :

قد زان مخبره باجمل منظر

وأعن منظره بأحسن مخبر

ما من يتوج أو يمنطق عسجدا

كمطوق بالمكرمات مسور

لا تبعدن همم له لو أودعت

عند الكواكب لادعاها المشتري

وله :

لك المثل الأعلى بكل فضيلة

اذا ملأ الراوي بها الغور أتهما

لئالىء من بحر الفضائل إن بدت

لغائصها صلى عليها وسلما

وما المدح مستوف علاك وإنما

حقيق على المنطيق أن يتكلما

وله :

ما افتخار الفتى بثوب جديد

وهو من تحته بعرض لبيس

وله :

غدرانه بالفضل مملوءة

متى يردها هائم ينقع

يكشف منه الفرع عن قارح

قد أحرز السبق ولم يجذع

يشير إيماء اليه الورى

إن قيل من يعرف بالاروع

يريك ما ضمت جلابيبه

أحاسن للعلم في موضع

ليس جمال المرء في برده

جماله في الحسب الارفع

١٨٤

اخطب خوارزم

ألاهل من فتى كأبي تراب

إمام طاهر فوق التراب؟!

إذا ما مقلتي رمدت فكحلي

ترابٌ مسَّ نعل أبي تراب

محمدٌ النبيُّ كمصر علمٍ

أمير المؤمنين له كباب

هو البكاء في المحراب لكن

هو الضحاك في يوم الحراب

وعن حمراء بيت المال أمسى

وعتن صفرائه صفر الوطاب

شياطين الوغى دحروا دحوراً

به إذ سلَّ سيفاً كالشهاب

عليُّ بالهداية قد تجلى

ولمَّا يدرَّع برد الشباب

علي كاسر الأصنام لما

علا كتف النبيِّ بلا احتجاب

حديث براءة وغدير خم

وراية خيبر فصل الخطاب

هما مثلاً كهارون وموسى

بتمثيل النبي بلا ارتياب

بنى في المسجد المخصوص باباً

له إذ سدَّ أبواب الصحاب

كأنِّ الناس كلهم قشور

ومولانا عليُّ كاللباب

ولايته بلا ريب كطوق

على رغم المعاطس في الرقاب

إذا عمر تخبَّط في جواب

ينبهه عليُّ بالصواب

يقول بعدله : لولا عليُّ

هلكتُ هلكتُ في ذاك الجواب

١٨٥

ففاطمة ومولانا عليُّ

ونجلاه سروري في الكتاب

ومن يك دأبه تشييد بيت

فها أنا مدح أهل البيت دابي

وإن يك حبهم هيهات عاباً

فها أنا مذ عقلت قرين عاب

لقد قتلوا علياً مذ تجّلى

لأهل الحقِّ فحلاً في الضراب

لقد قتلوا الرضا الحسن المرجَّى

جواد العرب بالسمِّ المذاب

وقد منعوا الحسين الماء ظلماً

وجدل بالطعان وبالضّراب

وقد صلبوا إمام الحقِّ زيداً

فيا لله من ظلم عجاب

بنات محمد في الشمس عطشى

وآل يزيد في ظلِّ القباب

لآل يزيد من ادمٍ خيامٌ

واصحاب الكساء بلا ثياب

١٨٦

الحافظ ابو المؤيد موفق بن احمد بن ابي سعيد اسحاق بن المؤيد المكي الحنفي المعروف بأخطب خوارزم كان فقيهاً غزير العلم ، حافظاً طايل الشهرة خطيباً طاير الصيت ، خبيراً على السيرة والتاريخ ، أديباً شاعراً ، له خطب وشعر مدون وهو صاحب ( المقتل ) ذكره القمي في الكنى والالقاب وقال : له كتاب في مناقب أهل البيت عليهم‌السلام قال في آخره :

هل أبصرت عيناك في المحراب

كأبي تراب من فتى محراب

لله درّ أبي تراب إنه

أسد الحراب وزينة المحراب

هو ضاربٌ وسيوفه كثواقب

هو مطعم وجفانه كجواب

هو قاصم الاصلاب غير مدافع

يوم الهياج وقاسم الاسلاب

ان النبي مدينة لعلومه

وعلي الهادي لها كالباب

لولا علي ما اهتدى في مشكل

عمر الاصابة والهدى لصواب

كتب المرحوم الشيخ محمد السماوي له ترجمة في مقدمة كتابه ( مقتل الحسين ) جاء فيها قوله : وله من المصنفات كتاب الاربعين في أحوال سيد المرسلين وغيره من الكتب ثم ذكر نموذجاً من شعره ومنه قوله من قصيدة طويلة :

لقد تجمَّع في الهادي أبي حسن

ما قد تفرق في الاصحاب من حسن

ولم يكن في جميع الناس من حسن

ما كان في المرتضى الهادي ابي الحسن

هل سابق مثله في السابقين لقد

جلّى إماماً وما صلى إلى وثن

وذكر له الشيخ الأميني قدس‌سره ترجمة وافية وعدد فيها مشائخه ثم

١٨٧

الرواة عنه كما عدد مؤلفاته وقال : ان تضلع الرجل في الفقه والحديث والتأريخ والادب الى علوم متنوعة أخرى وكثرة شهرته في عصره ومكاتبته مع اساتذة الفنون تستدعي له تآليف كثيرة وأحسب أن الأمر كان كذلك لكن ما اشتهر منها إلا كتبه السبعة التي قضت على اكثرها الايام. اقول ثم ذكرها الشيخ ومنها :

١ ـ كتاب رد الشمس لاميرالمؤمنين علي عليه‌السلام ، ذكره له معاصره والراوي عنه ابو جعفر ابن شهراشوب في المناقب ج ١ ص ٤٨٤

٢ ـ كتاب الاربعين في مناقب النبي الامين ووصيه اميرالمؤمنين ، كما في مقتله يرويه عنه ابو جعفر بن شهراشوب وقال : كانبني به مؤلفه الخوارزمي.

٣ ـ كتاب قضايااميرالمؤمنين ذكره له ابن شهراشوب في مناقبه ج ١ ص ٤٨٤.

٤ ـ ديوان شعره ، قال الحلبي في كشف الظنون ج ١ ص ٥٢٤ : ديوانه جيد وكان في الشعر في طبقة معاصريه.

٥ ـ كتاب فضائل اميرالمؤمنين المعروف بالمناقب المطبوع سنة ١٢٢٤.

١٨٨

الفقيه عمارة اليماني

قال الفقيه عمارة اليماني يرثي اهل البيت ـ

شأن الغرام اجل ان يلحاني

فيه وان كنت الشفيق الحاني

انا ذلك الصبُّ الذي قطفت به

صلة الغرام مطامع السلوان

ملئت زجاجة صدره بضميره

فبدت خفية شأنه للشاني

غدرت بموثقها الدموع فغادرت

سري أسيراً في يد الأعلان

عنفتُ اجفاني فقام بعذرها

وجدٌ يبيح ودائع الأجفان

يا صاحبيَّ وفي بجانبة الهوى

رأي الرشاد فما الذي تريان

بي ما يذود عن التشبب اوله

ويزيل ايسره جنون جناني

قبضت على كف الصبابة سلوة

تنهى النهى عن طاعة العصيان

امسي وقلبي بين صبر خاذل

وتجلد قاص وهمٍّ دان

قد سهلت حزن الكلام لنادب

آل الرسول نواعب الأحزان

فابذل مشايعة اللسان ونصره

ان فات نصر مهند وسنان

واجعل حديث بني الوصي وظلمهم

تشبيب شكوى الدهر والخذلان

غصبت امية ارث آل محمد

سفهاً وشنت غارة الشنان

وغدت تخالف في الخلافة اهلها

وتقابل البرهان بالبهتان

لم تقتنع احلامها بركوبها

ظهر النفاق وغارب العدوان

١٨٩

وقعودهم في رتبة نبوية

لم يبنها لهم ابو سفيان

حتى أضافوا بعد ذلك انهم

اخذوا بثأر الكفر في الأيمان

( فاتى زيادٌ في القبيح زيادة

تركت يزيد يزيد في النقصان )

حرب بنو حرب اقاموا سوقها

وتشبهت بهم بنو مروان

لهفي على النفر الذين اكفهم

غيث الورى ومعونة اللهفان

اشلاؤهم مزق بكل ثنية

وجسومهم صرعى بكل مكان

مالت عليهم بالتمالىء امة

باعت جزيل الربح بالخسران

دفعوا عن الحق الذي شهدت لهم

بالنص فيه شواهد القرآن (١)

وله في ذكر الخمسة صلوات الله عليهم :

حاسب ضميرك لا تأمن بوائقه

وازجره من خطرات العين والأذن

وقم اذا رنقت في مقلة سنة

قيام منتبه من غفلة الوسن

مستشفعاً برسول الله وابنته

وبعلها والحسين الطهر والحسن

__________________

١ ـ وهي في الجزء الاول من ديوانه المطبوع في مدينة شالون على شهر سون بمطبعة ( مرسو ) سنة ١٨٩٧ م.

١٩٠

نجم الدين ابو محمد عمارة بن ابي الحسن علي بن زيدان بن احمد الحكمي اليمني ، من فقهاء الشيعة الإمامية ومدرسيهم ومؤلفيهم ومن شهداء أعلامهم على التشيُّع ، وقد زان علمه الكامل وفضله الباهر أدبه الناصع المتقارب من شعره المتألق ، وإنك لا تدري إذا نظم شعراً هل هو ينضد دراً ، أو يفرغ في بوتقة القريض تبراً ، فقد ضم شعره إلى الجزالة قوة ، وإلى السلوك رونقاً ، وفوق كل ذلك مودته المتواصلة لعترة الوحي وقوله بإمامتهم عليهم‌السلام ، حتى لفظ نفسه الأخير ضحية ذلك المذهب الفاضل ؛ وقد أبقت تآليفه القيمة وآثاره العلمية والأدبية له ذكراً خالداً مع الأبد ، منها : النكت العصرية في أخبار الوزراء المصرية. وتاريخ اليمن ، وكتاب في الفرايض. وديوان شعره. وقصيدة كتبها إلى صلاح الدين سماها : [ شكاية المتكلِّم ونكاية المتألم ] (١)

قال في النكت العصرية (٢) : خرجت الى مكة سنة تسع واربعين وخمسمائة وفي موسم هذه السنة مات أميرالحرمين هاشم بن فليته وولي الحرمين ولده قاسم بن هاشم فالزمني السفارة عنه والرسالة المصرية ، فقدمتها في شهر ربيع الأول سنة خمسين وخمسمائة والخليفة بها يومئذ الإمام الفائز بن الظافر ، والوزير له الملك الصالح طلايع بن رزيك ، فلما أحضرت للسلام عليهما في قاعة الذهب في قصر الخليفة أنشدتها قصيدة أولها :

الحمد للعيس بعد العزم والهمم

حمداً يقوم بما أولت من النعم

__________________

١ ـ كتاب « الغدير » للشيخ الأميني.

٢ ـ طبع مع مختار ديوانه بـ ٣٧٧ صفحة في شالون من نهر « سون ».

١٩١

لا أجحد الحق عندي للركاب يد

تمنّت اللجم فيها رتبة الخطم

قربن بعد مزار العزَّ من نظري

حتى رأيت إمام العصر من أمم

ورحن من كعبة البطحاء والحرم

وفداً الى كعبة المعروف والكرم

فهل درى البيت إني بعد فرقته

ما سرت من حرم إلا إلى حرم

حيث الخلافة مضروب سرادقها

بين النقيضين من عفو ومن نقم

وللإمامة أنوار مقدسة

تجلو البغيضين من ظلم ومن ظلم

وللنبِّوة أبيات ينص لنا

على الحفييين من حكم ومن حكم

وللمكارم أعلام تعلّمنا

مدح الجزيلين من بأس ومن كرم

وللعلى ألسن تثنى محامدها

على الحميدين من فعل ومن شيم

وراية الشرف البذاخ ترفعها

يد الرفيعين من مجد ومن همم

أقسمت بالفائز المعصوم معتقداً

فوز النجاة وأجر البرّ في القسم

لقد حمى الدين والدنيا وأهلهما

وزيره الصالح الفارج للغمم

أللابس الفخر لم تنسج غلائله

إلا يداً لصنيع السيف والقلم

وجوده أوجد الأيام ما اقترحت

وجوده أعدم الشاكين للعدم

قد ملكته العوالي رق مملكة

تعير أنف الثريا عزة الشمم

أرى مقاماً عظيم الشأن أو همني

في يقظتي انها من جملة الحلم

يوم من العمر لم يخطر على أملي

ولا ترقت إليه رغبة الهمم

ليت الكواكب تدنو لي فأنظمها

عقود مدح فما أرضى لكم كلمي

ترى الوزارة فيه وهي باذلة

عند الخلافة نصحاً غير متهم

عواطف علَّمتنا أن بينهما

قرابة من جميل الرأي لا الرحم

خليفة ووزير مدَّ عدلهما

ظلاً على مفرق الإسلام والامم

زيادة النيل نقص عند فيضهما

فما عسى يتعاطى مُنَّة الديم

١٩٢

وعهدي بالصالح وهو يستعيدها في حال النشيد مراراً والاستاذون وأعيان الامراء والكبراء يذهبون في الاستحسان كل مذهب ، ثم أفيضت عليَّ خلع من ثياب الخلافة المذهبة ودفع لي الصالح خمسمائة دينار وإذا بعض الاستاذين قد أخرج لي من عند السيدة الشريفة بنت الامام الحافظ خمسمائة دينار أخرى وحمل المال معي الى منزلي ، واطلقت لي من دار الضيافة رسوم لم تطلق لاحد من قبلي وتهادتني امراء الدولة الى منازلهم للولائم واستحضرني الصالح للمجالسة ونظمني في سلك أهل المؤانسة ، وانثالت عليَّ صلاته وغمرني بّره ووجدت بحضرته من أعيان أهل الأدب الشيخ الجليس أبا المعالي ابن الحبّاب والموفق ابن الخلال صاحب ديوان الانشاء وأباً الفتح محمود بن قادوس والمهذب أبا محمد الحسن بن الزبير ، وما من هذه الحلبة أحد إلا ويضرب في الفضائل النفسانية والرئاسة الانسانية بأوفر نصيب ويرمي شاكلة الأشكال فيصيب.

قال الشيخ الاميني : وله مواقف مشكورة تنم عن انه ذو حفاظ وذو محافظة ، حضر يوماً هو والرضي ابو سالم يحيى الاحدب بن ابي حصيبة الشاعر في قصر اللؤلؤ بعد موت الخليفة العاضد عند نجم الدين ايوب بن شادي فأنشد ابن أبي حصيبة نجم الدين فقال :

يا مالك الأرض لا أرضى له طرفا

منها وما كان منها لم يكن طرفا

قد عجل الله هذي الدار تسكنها

وقد أعدَّ لك الجنّات والغرفا

تشرفت بك عمن كان يسكنها

فالبس بها العز ولتلبس بك الشرفا

كانوا بها صدفاً والدار لؤلؤة

وأنت لؤلؤة صارت لها صدفا

فقال الفقيه عمارة يرد عليه :

أئمت يا من هجا السادات والخلفا

وقلت ما قلته في ثلبهم سخفا

جعلتهم صدفاً حلّوا بلؤلؤة

والعرف ما زال سكنى اللؤلؤ الصدفا

وانما هي دار حلَّ جوهرهم

فيها وشف فأسناها الذي وصفا

١٩٣

فقال : لؤلؤة عجباً ببهجتها

وكونها حوت الأشراف والشرفا

فهم بسكناهم الآيات اذ سكنوا

فيها ومن قبلها قد اسكنوا الصحفا

والجوهر الفرد نور ليس يعرفه

من البرية إلا كلّ من عرفا

لولا تجسمهم فيه لكان على

ضعف البصائر للابصار مختطفا

فالكلب ـ يا كلب ـ أسنى منك مكرمة

لأن فيه حفاظاً دائماً ووفا

كان للمترجم له مكانة عالية عند بني رزيك وله فيهم شعر كثير يوجد في ديوانه وكتابه [ النكت العصرية ] وفي الثاني : ان الملك الصالح طلايع بعث اليه بثلاثة آلاف دينار في ثلاثة أكياس وكتب فيها بخطه :

قل للفقيه عمارة : يا خير من

قد حاز فهماً ثاقباً وخطابا

اقبل نصيحة من دعاك إلى الهدى

قل : حطّة وادخل إلينا البابا

تجد الأئمَّة شافعين ولا تجد

إلا لدينا سنّة وكتابا

وعلي أن أعلي محلك في الورى

وإذا شفعت إلي كنت مجابا

وتعجل الآلاف وهي ثلاثة

ذهباً وقلَّ لك النضار مذابا

فراجعه عمارة بقوله :

حاشاك من هذا الخطاب خطابا

يا خير أملاك الزمان نصابا

لكن إذا ما أفسدت علماؤكم

معمور معتقدي وصار خرابا

ودعوتم فكري إلى أقوالكم

من بعد ذاك أطاعكم وأجابا

فاشدد يديك على صفاء محبتي

وامنن عليَّ وسدّ هذا البابا

وقال يمدح الخليفة الفائز بن الظافر :

ولاؤك مفروض على كل مسلم

وحبّك مفروط وأفضل مغنم

إذا المرء لم يكرم بحبك نفسه

غدا وهو عند الله غير مكرم

ورثت الهدى عن نص عيسى بن حيدر

وفاطمةٍ لا نصَّ عيسى بن مريم

١٩٤

وقال : أطيعوا لإبن عمي فإنَّه

أميني على سرّ الإله المكتم

كذلك وصيُّ المصطفى وابن عمه

إلى منجد يوم « الغدير » ومتهم

على مستوى فيه قديم وحادثٌ

وان كان فضل السبق للمتقدم

ملكت قلوب المسلمين ببيعة

أمدت بعقدٍ من ولائك مبرم

وأوتيت ميراث البسيطة عن اب

وجد مضى عنها ولم يتقسم

لك الحق فيها دون كل منازع

ولو انه نال السماك بسلَّم

ولو حفظوا فيك الوصية لم يكن

لغيرك في أقطارها دون درهم

وله قصائد يرثي الملوك الفاطميين بعد انقراض دولتهم منها قصيدته :

رميت يا دهر كف المجد بالشلل

وجيده بعد حسن الحلي بالعطل

سعيت في منهج الرأي العثور فإن

قدرت من عثرات الدهر فاستقل

جدعت مارنك الأقنى فأنفك لا

ينفك ما بين قرع السنّ والخجل

هدمت قاعدة المعروف عن عجلٍ

سعيت مهلاً أما تمشي على مهل؟!

لهفي ولهف بني الآمال قاطبة

على فجيعتها في أكرم الدّول

قدمت مصر فأولتني خلائفها

من المكارم ما أربى على الأمل

قوم عرفت بهم كسب الالوف ومن

كمالها أنها جاءت ولم أسل

وكنت من وزراء الدست حين سما

رأس الحصان يهاديه على الكفل

ونلت من عظماء الجيش مكرمة

وخلّة حرست من عارض الخلل

يا عاذلي في هوى أبناء فاطمةٍ

لك الملامة إن قصّرت في عذلي

بالله دُرْ ساحة القصرين وابك معي

عليهما لا على صفين والجمل

وقل لأهليهما والله ما التحمت

فيكم جراحي ولا قرحي بمندمل

ماذا عسى كانت الإفرنج فاعلة

في نسل آل أمير المؤمنين علي؟!

هل كان في الأمر شيء غير قسمة ما

ملكتم بين حكم السبي والنقل

وقد حصلتم عليها واسم جدكم

محمد وأبوكم غير منتقل

مررت بالقصر والأركان خالية

من الوفود وكانت قبلة القبل

١٩٥

فملت عنها بوجهي خوف منتقد

من الأعادي ووجه الودّ لم يمل

أسلت من أسفي دمعي غداة خلت

رحابكم وغدت مهجورة السبل

أبكي على ما تراءت من مكارمكم

حال الزمان عليها وهي لم تحلِ

دار الضيافة كانت أنس وافدكم

واليوم اوحش من رسم ومن طلل

وفطرة الصوم إذ أضحت مكارمكم

تشكو من الدهر حيفاً غير محتمل

وكسوة الناس في الفصلين قد درست

ورثَّ منها جديد عندهم وبلي

وموسم كان في يوم الخليج لكم

يأتي تجمِّلكم فيه على الجمل

وأول العام والعيدين كم لكم

فيهن من وبل جود ليس بالوشل

والارض تهتز في يوم «الغدير» كما

يهتزّ ما بين قصريكم من الأسل

والخيل تعرض في وشي وفي شية

مثل العرائس في حُلي وفي حُلل

ولا حملتم قرى الأضياف من سعة

الأطباق إلا على الأكتاف والعجل

وما خصصتم ببرٍّ أهل ملَّتكم

حتى عممتم به الأقصى من الملل

كانت رواتبكم للذمتين وللـ

ـضيف المقيم وللطاري من الرسل

ثم الطراز بتنَّيس الذي عظمت

منه الصلات لأهل الارض والدول

وللجوامع من إحسانكم نعم

لمن تصدَّر في علم وفي عمل

وربما عادت الدنيا فمعقلها

منكم واضحت بكم محلولة العقل

والله لا فاز يوم الحشر مبغضكم

ولا نجا من عذاب الله غير ولي

ولا سقى الماء من حرّ ومن ظمأ

من كف خير البرايا خاتم الرسل

ولا رأى جنة الله التي خلقت

من خان عهد الإمام العاضد بن علي

أئمتي وهداتي والذخيرة لي

إذا ارتهنت بما قدَّمت من عملي

فالله لم أوفهم في المدح حقهم

لأن فضلهم كالوابل الهطل

ولو تضاعفت الأقوال واتسعت

ما كنت فيهم بحمد الله بالخجل

باب النجاة هم دنيا وآخرة

وحبهم فهو أصل الدين والعمل

نور الهدى ومصابيح الدجى و

محلُّّ الغيث إن ربت الأنواء في المحل

أئمة خلقوا نوراً فنورهم

من محض خالص نور الله لم يفل

والله ما زلت عن حبي لهم أبداً

ما أخَّر الله لي في مدة الأجل

١٩٦

قتل المترجم بسبب هذه القصيدة مع جماعة نسب اليهم التدبير على صلاح الدين ومكاتبة الفرنج واستدعاؤهم اليه حتى يجلسوا ولداً للعاضد وكانوا ادخلوا معهم رجلاً من الأجناد ليس من اهل مصر ، فحضر عند صلاح الدين وأخبره بما جرى ، فأحضرهم فلم ينكروا الأمر ولم يروه منكراً ، فأمر بصلبهم ، وصلبوا يوم السبت في شهر رمضان سنة تسع وستين وخمسمائة بالقاهرة ، وقد قبض عليهم يوم الأحد الثالث والعشرين من شعبان ، وصلب مع الفقيه عمارة قاضي القضاة ابو القاسم هبة الله بن عبدالله بن الكامل : وابن عبد القوي داعي الدعاة كان يعلم بدفائن القصر فعوقب ليدلَّ عليها فأمتنع من ذلك فمات واندرست ، والعويرس ناظر الديوان ، وشبريا كاتب السر ، وعبدالصمد الكاتب احد أمراء مصر ، ونجاح الحمامي ، ومنجم نصراني كان بشرهم بأن هذا الامر يتم لهم.

قال الصفدي في ( الغيث المنسجم ) : انه لا يبعد ان يكون القاضي الفاضل سعى في هلاكه وحرض عليه لأن صلاح الدين لما استشاره في أمره قال : ينفى. قال : يرجى رجوعه. قال : يؤدب. قال : الكلب يسكت ثم ينبح. قال : يقتل. قال : الملوك إذا أرادوا فعلوا. وقام من فوره ، فأمر بصلبه مع القاضي العويرس ، وجماعة معه من شيعتهم. ولما أخذ ليشنق قال : مروا بي على باب القاضي الفاضل. لحسن ظنه فيه. فلما رآه قام واغلق بابه ، فقال عمارة :

عبد العزيز قد احتجب

إن الخلاص من العجب

١٩٧

محمد بن عبدالله قاضي القضاة

كمال الدين ابو الفضل محمد بن عبدالله ، قال يخاطب الحسين عليه‌السلام : ويعرض بنقيب العلويين رواها العماد في الخريدة :

يا راكبا يطوي الفلا

بشملة حرف وخود

عّرج بمشهد كربلا

وأنخ وعفر في الصعيد

واقر التحية وادع يا

ذا المجد والبيت المشيد

اولادك الانجاب في

أرض الجزيرة كالعبيد

أوقافهم وقفٌ على

دف ومزمار وعود

ومدامة خُضبت بها

أيدي السقاة الى الزنود

ودعيُّ بيتك لا يفـ

ـكر في الجحيم ولا الخلود

يحتثها ورديةّ

تصبي النفوس الى الخدود

هو وابن عصرون الطويل

ويوسف النذل اليهودي

إن كان هذا ينتمى

حقاً الى البيت المشيد

فالى يزيد الى يزيد

الى يزيد الى يزيد

١٩٨

قاضي القضاة بالشام كمال الدين ابو الفضل محمد بن عبدالله

قال العماد في الخريدة ـ قسم الشام ـ الجزء الثاني ص ٣٢٣

هو ابن القاسم الشهر زوري ، سبق ذكر والده وشعره ، وجلَّ امر هذا وكبر قدره ، وأقام في آخر عمره بدمشق قاضياً ووالياً ، ومتحكماً ومتصرفاً وهو ذو فضائل كثيرة ، وفواضل خطيرة وله نوادر مطبوعة ، ومآثر مجموعة ومفاخر مأثورة ، ومقامات مشكورة مشهورة ، وله نظم قليل على سبيل التظرف والتطرف فمها أنشدني لنفسه في المعلم الشاتاني وقد وصل الى دمشق في البرد :

ولما رأيت البرد ألقى جرانه

وخيّم في أرض الشآم وطنبا

تبينت منه قفلةً علميّة

تردّ شباب الدهر بالبرد أشيبا

وقوله :

وجاءوا عِشاءً يهرعون وقد بدا

بجسمي من داء الصبابة ألوان

فقالوا وكل معظم بعض ما أرى

أصابتك عين؟ قلت : عين واجفان

وقوله وانشدنيه لنفسه بدمشق في ربيع الآخر سنة إحدى وسبعين وخمسمائة :

قلت له إذ رآه حياً

ولامه واعتدى جدالا

١٩٩

خفي نحولاً عن المنايا

اعرض عن حجتي وقالا

الطيف كيف اهتدى اليه

قلت : خيال أتى خيالا

ولي في كمال الدين قصائد ، فانني لما وصلت الى دمشق في سنة اثنتين وستين سعى لي بكل نجح وفتح علي باب كل منح ، وهو ينشدني كثيراً من منظوماته ومقطوعاته فمما اثبتُّه من شعره قوله :

قد كنت عدتي التي أسطو بها

يوماً إذا ضاقت علي مذاهبي

والآن قد لوّيت عني معرضاً

هذا الصدود نقيض صد العاتب

وأرى الليالي قد عبثن بصعدتي

فحنينها وألنَّ مني جانبي

وتركت شلوي لليدين فريسة

لا يستطيع يردّ كفَّ الكاسب

وقوله :

ولي كتائب أنفاس أجهزها

الى جنابك الا انها كتب

ولي أحاديث من نفسي أسرُّ بها

إذا ذكرتك إلا أنها كذب

ولكمال الدين الشهر زوري أيضاً :

أنيخا جمالي بابوابها

وحُطّابها بين خطابها

وقولاً لخَّمارها لا تبع

سواي فاني أولى بها

وساوم وخذ فوق ما تشتهي

وبادر إليَّ بأكوابها

فإنا أناس نسوم المدا

م بأموالها وبألبابها

وقوله :

ولو سلمت ليلى غداة لقيتها

بسفح اللوى كادت لها النفس تخشع

ولكن حزمي ما علمت ولوثة

البداوة تأبى أن ألين وتمنع

٢٠٠