العقيدة الإسلاميّة على ضوء مدرسة أهل البيت عليهم السلام

الشيخ جعفر السبحاني

العقيدة الإسلاميّة على ضوء مدرسة أهل البيت عليهم السلام

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


المترجم: الشيخ جعفر الهادي
الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٥٨

الشيء لا يكون مرئياً إلّا بعد تحقّق شروط ضرورية هي :

ألف : أن يكون في مكانٍ وجهةٍ خاصةٍ.

ب : أن لا يكون في ظلمة ، بل يشع عليه النور.

ج : أن يكون بينه وبين الرائي فاصلة معينة ومسافة مناسبة.

ومن الواضح أنّ هذه الشرائط من آثار الكائن الجسماني ومن خصائص الموجود المادّي لا الإله ذي الوجود الأسمى والأعلى من ذلك.

هذا مضافاً إلى أنّ كون الله مرئياً لا يخلو من حالتين :

إمّا أن يكونَ كلّ وجودِه مرئياً.

وإمّا أن يكونَ بعض وجودِه مرئياً.

وفي الصورة الأُولى يكون الله المحيط ؛ مُحاطاً ومحدوداً.

وفي الصورة الثانية يكونُ الحق تعالى ذا أجزاء وأبعاض.

وكلا الأمرين لا يليقان بالله سبحانه فهو تعالى محيطٌ غير محاط به ، مطلق غير مقيد ، منزّه عن التركب والتبعّض.

على أنَّ ما قلناه يرتبط بالرؤية الحسيّة والبصرية ، لا الرؤية القلبيّة ، والشهود الباطنيّ الّذي يتحقّق للمرء بفضل الإيمان الكامل ، واليقين الصادق فإنّ هذا القسمَ خارجٌ عن محطّ البحث ، وإطار النقاش. ولا ريب في إمكان وقوعه بل وقوعه لأولياءِ الله ، وعبادة الصالحين المقربين.

٨١

قال ذعلب اليمانيّ ـ وهو من أصحاب الامام علي عليه‌السلام قلت للإِمام عليه‌السلام هل رأيتَ ربَّك يا أميرَ المؤمنين؟

قالَ الإمامُ عليه‌السلام : «أفَأَعْبُدُ ما لا أرى».

فقال ذعلب : وكيف تراهُ؟

فقال عليه‌السلام : «لَا تراهُ العُيُونُ بمشاهدة العَيانِ وَلكِنْ تدرِكهُ القُلُوب بِحَقائِقِ الإِيمانِ» (١).

إنّ الرؤية بالبصر علاوةً على كونِها ممتنعةً عقلاً ، مرفوضةً من جانبِ القرآن الكريم ، فقد صرّحَ القرآن الكريم بنفي إمكان ذلك.

فعند ما طَلَب النبيّ موسى عليه‌السلام من الله (تحت إلحاحٍ وضغطٍ مِن قومه) أن يريه نفسَه ردّ عليه سبحانه بالنفي المؤكد

المؤبد كما يقول : قائلاً : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي) (٢).

ويمكن أن يَسأَل أحد : إذا كانت رؤيةُ الله بالبصر والعَين غير ممكنة فلما ذا قال القرآن الكريم : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ* إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) (٣).

والجواب على ذلك هو : أنّ المقصود من النظر في الآية الكريمة ، هو انتظار الرحمة الإلهية ، لأنّ في الآية شاهدين على ذلك :

١ ـ إن النظر في هذه الآية نُسِبَ إلى الوجوه وقال ما معناه : إنّ الوجوه المسرورة تنظرُ إليه. ولو كان المقصود هو رؤية الله بالبصر لنُسِبَ النظر

__________________

(١). نهج البلاغة : الخطبة ١٧٩.

(٢). الأعراف / ١٤٣.

(٣). القيامة / ٢٢ ـ ٢٣.

٨٢

إلى العيون لا إلى الوجوه.

٢ ـ إن الكلام في هذه السورة عن فريقين : فريق يتمتّع بوجوهٍ مسرورةٍ مشرقةٍ وقد بيّن ثوابَها بقوله : (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ).

وفريق يتسم بوجوه حَزينة مكفهرّة وقد بيّن جزاءها وعقابها بقوله : (تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ).

والمقصود من الفقرة الثانية واضح وهو أنّ هذا الفريق يعلم بأنّه سيصيبه عذابٌ يفقر الظهر ، ويكسره ولهذا فهو ينتظر مثل هذا العذاب الأليم.

وبقرينة المقابلة بين هذين الفريقين يمكن معرفة المقصود من الآية الأُولى وهو أنَّ أصحاب الوجوه المسرورة تنتظر رحمة الله ، فقوله تعالى : (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) كنايةٌ عن انتظار الرَّحمة الإلهية ، ولهذا النّوع من التكنية وذكر شيء وإرادة شيء آخر كنايةً نظائر في المحاورات العرفية فيقال فلانٌ عينه على يد فلان أي أنّه ينتظر إفضاله وإنعامه عليه.

وخلاصة القول ؛ أنّه كما ينتظر أصحابُ الوجوهِ الحزينةِ عذاباً إلهيّاً ، ينتظرُ أصحابُ الوجوهِ المسرورةِ رحمةً إلهيةً كُنّي بها بالنَظَر إليه جرياً على العادةِ المألوفةِ في المحاورات العرفيّة العربيّة ، وبقرينة المقابلة التي هي من قوانين البلاغة وقواعدها.

هذا مضافاً إلى أنّه يجب أن لا يُكتفى في تفسير الآيات القرآنية بآيةٍ واحدةٍ بل لا بدّ من استعراض ما يشابهُها من الآيات من حيثُ الموضوع ،

٨٣

والتوصل إلى المفهوم الحقيقي بعد ملاحظة مجموعة تلك الآيات.

وفي مسألة الرؤية لو لاحظنا كلّ الآيات المتعلّقة بها في القرآن الكريم ، بالإضافةِ إلى الأحاديثِ الشريفةِ في هذا المجال لاتّضحَ عدمُ إمكان رؤية الله تعالى في نظر الإسلام من دون غموضٍ.

وفي خاتمة المطاف تفسّر الرؤية الواردة في قصة موسى عليه‌السلام مع أصحابه ، انّ موسى عليه‌السلام اختار من قومه سبعين رجلاً لميقات ربه لكي يشاهدوا نزول التوراة ، فلمّا بلغوا الميقات اقترحوا عليه ان يريهم الله سبحانه ، يقول تعالى :

(وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) (١) ، وقال سبحانه : (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ) (٢) فلما أفاقوا بدعاء من نبيهم موسى عليه‌السلام اقترحوا عليه شيئاً آخر ، فقالوا : إنك تسمع كلام الله وتصفه لنا أدع ربك حتّى يريك نفسه فتنقله إلينا فأصرّوا وألَحّوا في ذلك ، فطلب موسى عليه‌السلام بضغط وإِلحاح من قومه ان يريه الله ذاته مع علمه بامتناع رؤيته ، وقال : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) فوافاه الجواب : (قالَ لَنْ تَرانِي) (٣).

فتبيَّن من ذلك انّ طلب موسى لم يكن من تلقاء نفسه بل كان إجابة لإِلحاح قومه المعروفين باللجاج والإصرار.

__________________

(١). البقرة / ٥٥.

(٢). النساء / ١٥٣.

(٣). الأعراف / ١٤٣.

٨٤

الصِّفات الخَبَريّة

الأصلُ الثالثُ والأربعون

كُلُّ ما ذكر إلى هُنا من الصّفاتِ الإلهيّة (ما عدا التكلّم) كانَ برمّته مِن نوع الصّفاتِ التي يقضي العقلُ بِإِثباتِها للهِ أو نَفْيِها عنهُ.

غَير أنَّ هناكَ مجموعةً من الصّفات وَرَدَت في آياتِ القرآنِ وفي السُّنة ولم يكن لها من مُسْتَنَدٍ ومَصْدرٍ سوى النقلِ مثل :

١ ـ يَدُ الله : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) (١).

٢ ـ وَجْهُ الله : (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ) (٢).

٣ ـ عَيْنُ اللهُ : (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا) (٣).

٤ ـ الاسْتواء عَلى العَرش : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) (٤).

والعلّة في تسمية هذا النوع من الصفات ، بالصفات الخبرية ، هو

__________________

(١). الفتح / ١٠.

(٢). البقرة / ١١٥.

(٣). هود / ٣٧.

(٤). طه / ٥.

٨٥

ثبوتها لله بإخبار الكتابِ والسنّة بِها فقط.

وللحصول على التفسير الواقعيّ لهذا النوع من الصفات يجب أيضاً ملاحظة كلّ الآيات المتعلّقة بهذا المجال.

كما أنّه يجب أن نعلم أنّ اللّغة العربية شأنها شأن غيرها من اللّغات الأُخرى زاخرة بالكنايات والاستعارات والمجازات ، وبما أنّ القرآن نزل بلغة القوم لذلك استخدم هذه الأساليب أيضاً.

وإليك الآن بيان هذه الصفات وتفسيرها في ضوءِ ما مرَّ.

ألف : في الآية الأُولى قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) لأنّ مبايعة الرسول بمنزلةِ مبايعةِ المرسِلِ.

ثمّ يَقُول بعد ذلك : (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) وهذا يعني أن قدرة الله أعلى وأقوى من قدرتهم وَلا يعني أنّ لله يَداً جسمانية حِسيّة تكون فوق أياديهم.

ويشهد بذلك أنّهُ قال في ختام الآية وعقيب ما مرّ : (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً).

فمن نكث بيعته فلا يضرّ الله شيئاً لأنّ قدرة الله فوق قدرتهم.

إنّ هذا النمط من الكلام والخطاب الذي يتضمن تهديدَ الناكثين لعهدهم ، والتنديد بهم ، وامتداح الموفين بعهدهم وتبشيرهم ، يدل على أنّ المقصود من «يَدِ الله» هو القدرةُ والحاكمية الإِلهية.

٨٦

على أنّ لفظة «اليَد» تُستخدَم أحياناً في جميع اللغات للكناية عن القُدرةِ والقُوةِ ، والسلطةِ والحاكميةِ ، ومن هذا الباب قولِهم : فَوْقَ كل يدٍ يدٌ ، أي فوقَ كُلّ قوةٍ قوةٌ أعلى ، وفوق كلّ قدرةٍ قدرةٌ أكبر.

ب : إنّ المقصودَ من الوَجه الذي نُسِبَ إلى الحقّ تعالى هنا هو ذاته سبحانه لا العضوُ الخاص الموجودُ في جسم الإنسان وما يشابِهُهُ.

فالقرآنُ عند ما يتحدّث عن هلاك ما سوى الله وفنائه يقول : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) (١).

ثمّ يخبر عقيبَ ذلك مباشرةً عن بقاء الذات الإِلهيّة ودوامِها وأنّه لا سبيل للفناء إليها فيقول : (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) (٢).

أي تَبقى ذاته المقدسة ، ولا تفنى أبداً.

من هذا البيان يتّضح بجلاءٍ معنى الآية المبحوثة هنا ويتبين أنّ المقصودَ هو أنّ الله ليس في جهةٍ أو نقطةٍ معيّنةٍ ، بل وجوده محيط بجميع الأشياء فأينما وَلَّيْنا وُجوهَنا ، فقد وَلَّيْنا وجوهَنا شطرهُ.

ثمّ إنّ القرآن أتى لإثبات هذه الحقيقة العظيمة بوصفين لله تعالى :

١ ـ واسعٌ : أيْ إِنّ وجود الله لا نهاية له ولا حدود.

٢ ـ عَلِيمٌ : أيْ إنّه عارفٌ بجميع الأشياء.

ج : في الآية الثالثة يذكر القرآنُ الكريم أنّ نوحاً عليه‌السلام كُلّف من جانب

__________________

(١). الرحمن / ٢٦.

(٢). الرحمن / ٢٧.

٨٧

اللهِ بصنع سفينة وإعدادها.

وحيث إنّ صنعَ تلك السفينة كان في مكان بعيدٍ عن البحر ، لذلك استهزأ قومُه به ، وسخر به الجهلة منهم ، وآذَوه.

ولذا في مثل هذه الظروف قال له الله تعالى : اصنع أنتَ السفينة ولا تُبالي ، فأنتَ تفعل ذلك تحت إشرافنا ، وهو أمرٌ قد أوحينا نحن به إليك.

فالمقصود من قوله (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا) هو ان نوحاً قامَ بما قام من صُنْع السفينة حسب أمر الله له ، ولهذا فانّ الله سيحفظه ويكلؤه برعايته ، ويحميه ، ولن يَصل إليه من المستهزئين شيءٌ إذ هو في رعاية الله ، ويعمل تحت عنايته.

د : إنّ العَرشَ في اللغة العربية بمعنى السرير ، ولفظ «الاستواء» إذا جاء مع لفظة «على» كان المعنى هو الاستقرار والاستيلاء.

وحيث إنّ الملوك والأُمراء بعد أن جلسوا على منصة العرش يعمدون إلى تدبير الأُمور ، وتسييرها في بلادهم ، لهذا كان هذا النوعُ من التعبير (أعني : الاستواء على العرش) كناية عن الاستيلاء ، والسيادة ، والقدرة على تدبير الأُمور ، خاصة إذا نُسِبَ ذلك إلى الله سبحانه.

هذا مضافاً إلى أنّ الأدِلّة العَقلية والنقلية أثبتت تنزّه الحق تعالى عن المكان.

وممّا يشهد بأنّ الهدف من هذا النمط من التعابير ، ليس هو الجلوسُ على السّرير الماديّ ، بل هو كناية عن تدبير أُمور العالم أمران :

٨٨

١ ـ إنّ هذه العبارة جاءت في كثير من آيات الكتاب العزيز مسبوقةً بالحديث عن خلق السماوات والأرض ، للإشارة إلى أنّ هذا الصرح العظيم قائم من غير أعمدة مرئيّة.

٢ ـ إن هذه العبارة جاءت في آيات كثيرة من الكتاب العزيز ملحوقةً بالكلام عن تدبير العالم.

إنّ مجيء هذا التعبير في القرآن الكريم مسبوقاً تارةً بالحديث عن الخلق ، وملحوقاً تارة أُخرى بالحديث عن التدبير يمكن أن يساعِدَنا على فهم المقصود من الاستواء على العرش ، وأنّ القرآن يُريدُ بهذه العبارة أن يُفَهّمَ البشريةَ أنَّ خلق الوجود على سعته ، وعظمتهِ ، لم يوجب خروج هذا الكون العظيم عن نطاق تدبيره ومشيئته ، بل الله تعالى مضافاً إلى كونه خالقَ الكون ، وموجده ، فهو مدبّرُه ، ومصرّفُ شئونه.

وها نحن نختارُ من بين الآيات العديدة في هذا الصعيد آيةً جامعةً للحالتَين (المذكورتين سابقاً) تفيد ما ذكرناه :

(إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ..) (١). (٢)

__________________

(١). يونس / ٣.

(٢). يراجع في هذا الصدد الآيات : ٢ / الرعد ، ٤ / السجدة ، ٥٤ / الأعراف.

٨٩
٩٠

كليات في العقيدة

٣

الفصل الرابع

العدل الإلهي

٩١
٩٢

الأصلُ الرابعُ والأربعُون : العدل من الصفات الجمالية

يعتقدُ المسلمون جميعاً بعدل الله تعالى والعَدلُ من الصفات الإلهيّة الجماليّة.

وَيَنطلقُ هذا الاعتقادُ مِن نفي القرآن لأيّ نوعٍ من أنواعِ الظُّلْم عَنِ اللهِ تعالى ، ووَصفِه بكونهِ «قائماً بالقِسط» كما يقول : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) (١).

ويقول أيضاً : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً) (٢).

ويقولُ كذلك : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ) (٣).

إنّ العقل ـ مضافاً إلى الآيات المذكورة ـ يحكم بوضوح بالعَدلِ الإلهيّ لأنَّ العَدْلَ صفةُ كمالٍ ، والظلمُ صفةُ نقصٍ ، والعقلُ يحكمُ بأنّ الله تعالى مُستجمعٌ لجميع صفاتِ الكمالِ ، منزَّهٌ عن كلّ عيبٍ ونقصٍ في مقام

__________________

(١). النساء / ٤٠.

(٢). يونس / ٤٤.

(٣). آل عمران / ١٨.

٩٣

الذات والفعل.

والظلمُ أساساً نابعٌ من أَحَدِ عواملَ ثلاثة :

١ ـ جَهل الفاعلِ بقبح الظُّلم.

٢ ـ احتياج الفاعلِ للظّلم إلى الظلم مع عِلمه بقبحه ، أو عجزه عن القيام بالعدل.

٣ ـ كون فاعلِ الظُّلم سفيهاً غيرَ حكيم ، فهو لا يبالي بإتيان الأفعالِ الظالِمة رغم علمه بقبحها ، ورغمَ قدرتهِ على القيامِ بالعدل.

ومِن البديهي أنّه لا سبيل لأيّ واحدٍ من هذه العَوامل إلى الذات الإلهيّة المقدّسة ، فهو تعالى منزّهٌ عن الجَهل ، والعَجز ، وعن الاحتياج والسفه ، ولهذا فإنّ جميع أفعالهِ تتسم بالعَدل والحكمة.

ولقد أشار الشيخ الصدوق إلى هذا إذ قال : «والدليل على أنّه لا يقع منه عزوجل الظلم ولا يفعلهُ أنّه قد ثبت أنّه تبارك وتعالى قديم غنيٌ عالم لا يجهل ، والظلم لا يقع إلّا من جاهل بقبحه أو محتاج إلى فعله منتفع به». (١)

كما أشار إليه المحقّق نصير الدين الطوسي بقوله :

«واستغناؤه وعلمه يدلّان على انتفاء القبح عن أفْعالِهِ تعالى» (٢).

ونظراً إلى هذه الآيات اتّفقَ المسلمون على ثبوت العدل لله تعالى

__________________

(١). التوحيد للصدوق ص ٣٩٦ ـ ٣٩٧.

(٢). كشف المراد ص ٣٠٥.

٩٤

والاعتقاد بكونه عادلاً.

إلّا أنّهم اختلفوا في تفسير العدل الإلهي واختارَ كلّ فريقٍ إحدى النظريّتين التاليتين :

ألف : إنّ العقلَ البشريّ السليمَ يدرك بنفسه حسنَ الأفعال وقبحها ، ويعتبر الفعلَ الحَسَن علامةً لكمال فاعله ، والفعلَ القبيحَ علامةً لنقصان فاعله.

وحيث إنّ الله مستجمعٌ بذاته لجميع صفات الكمال ، لهذا فَإنّ فعلَه كاملٌ ومحمودٌ ، وذاته المقدّسة منزّهةٌ عن كل فعلٍ قبيحٍ.

هذا ويجدُر التذكيرُ بنقطة هامّةٍ هنا ، وهي أنّ العقلَ لا يحكم على الله بشيءٍ ، ولا يقول : يجب على الله أن يكون عادلاً ، بل كلّ ما يفعلهُ العقلُ هنا هو أن يكتشفَ واقعيّةَ الفعلِ الإلهيّ ، يعني أنّه بالنَظَرِ إلى كمالِ اللهِ المطلَقِ ، وتنزُّهِهِ سبحانه عن كلّ نقصٍ وعيبٍ ، يكتشف أنّ فِعلَه كذلك في غاية الكمال ، وأنّه منزَّه أيضاً عن النقص ، فهو بالتالي سيعامل عباده بالعدل ، ولا يظلم أحداً منهم أبداً.

وما ذكَرَتهُ الآياتُ القرآنيّة في هذا المجال إنّما هو في الحقيقة تأكيدٌ وتأييدٌ لما أدركه الإنسان من طريق العقل.

وهذا هو ما اصَطُلِحَ عليه في علم الكلام الإِسلاميّ بمسألة الحُسن والقُبح العقليّين ، ويُسمّى القائلون بهذه النظرية بالعَدليّة ، ويقف في طليعتهم الشيعةُ الإماميّةُ الاثنا عشرية.

٩٥

ب ـ وتقابل تلك النظرية ، نظريةٌ اخرى وهي أنّ العقلَ البشريّ عاجز عن إدراك الحُسن والقُبح في الأفعال حتى في صورتها الكليّة ، وتحصر الطريق لمعرفة الحسن والقبح في الوحي الإِلهيّ ، فما أمرَ به اللهُ فهو حَسَنٌ وما نهى عنه فهو قبيحٌ.

وعلى هذا الأَساس فلو أمَرَ اللهُ بإلقاءِ إنسان بَريء في النار ، أو إدخال عاصٍ في الجنة كان ذلك عينَ الحسن والعدل.

وقول هذا الفريق هو : إنّ وصف الله بالعدل ليس إلّا لكون هذا الوصف جاء في القرآن الكريم ليس إلّا.

الأصلُ الخامسُ والأربعون : إدراك العقل للحسن والقبح

حيث إنّ مسألة الحُسن والقُبح العقليّين تُمَثّلُ الأساسَ والقاعدة للكثير من عقائد الشيعة الإمامية ، لذلك نشير فيما يأتي إلى دليلَين من أدلّتها العديدة :

ألف : إنّ كلَّ إنسان ـ مهما كان دينه ومسلكه ، وأينما حلّ من بقاع الأرض ـ يدرك بنفسه حُسنَ العدل ، وقبح الظلم ، وكذلك يدرك حُسنَ الوفاءِ بالعهد ، وقبحَ نقضه ، وحسنَ مقابلة «الإحسان بالإحسان» وقبح مقابلةِ «الإحسان بالإساءة».

ودراسةُ التاريخ البشريّ تشهدُ بهذه الحقيقة وتؤكّدُها ، ولم يُرَ حتى اليوم إنسانٌ عاقلٌ ينكرها قط.

٩٦

ب : لو فَرَضْنا أنّ العقل عجز تماماً عن إدراك حسنِ الأفعال وقبحها ، واحتاج الناس في معرفة حسن جميع الأفعال وقبحها إلى الشرع ، لزم من ذلك عدم إمكانِ إثبات الحسن والقبح الشرعيّين أيضاً ذلك لأنّنا لو فَرضنا أن الشارع أخبَرَ عن حُسن فعل أو قبح آخر لا يمكننا أنْ نتوصَّل إلى معرفة حُسن ذلك الفعلِ أو قبحِه ، بواسطة هذا الإخبار ، ما دمنا نحتمل الكذب في إخبار الشارع ، وكلامِهِ إلّا إذا ثبت قَبْل ذلك قبحُ المين والكذب وتنزّهِ الشارع عن هذه الصفةِ القبيحةِ ، ولا يمكن إثبات ذلك إلّا من طريق العقل. (١)

هذا مضافاً إلى أنّه يُستفاد من الآيات القرآنية أنّ العقل البشريّ قادرٌ على إدراك حسنِ بعض الأفعال أو قبحها ، ولهذا احتكم القرآنُ إلى العقل واللبّ ، ودعا إلى تحكيمه أكثر من مرة إذ قال : (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ* ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (٢).

وقال أيضاً : (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ) (٣).

وهنا يُطرح سؤال لا بدّ من الإجابة عليه وهو أن الله تعالى قال : (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) (٤).

والسؤال الآن هو : إذَنْ لا يمكن أن يُسأَل اللهُ عن أيّ فعل قامَ به

__________________

(١). وعبارة المحقّق الطوسي في تجريد الاعتقاد تشير إلى هذا البرهان حيث قال : «ولانتفائهما مطلقاً (أي عقلاً وشرعاً) لو ثبتا شرعاً» أي لو انحصر إثبات الحسن والقبح في إخبار الشرع لانتفى حسنُ الأفعال وقبحُها بالكلية ، ولم يثبُتا لا شرعاً ولا عقلاً.

(٢). القلم / ٣٥ ـ ٣٦.

(٣). الرحمن / ٦٠.

(٤). الأنبياء / ٢٣.

٩٧

والحال أنّه بناءً على كونِ الحُسن والقبح عَقْليَّيْن إذا فَعَلَ اللهُ قبيحاً ـ افتراضَاً ـ يُسأَل ويُقال : لما ذا فَعَلَ هذا الفِعْل؟

والجواب هو : إنّما لا يُسأَل الله عن فعله لأنّه حكيمٌ ، والحكيم لا يصدر منه القبيحُ قط ، ففعلهُ ملازمٌ للحكمة أبداً ، ولهذا لا يَبقى هناك ما يَستدعي المساءلة والاستفسار.

الأصلُ السادسُ والأربعون : تجلّيات العدل الإلهي في مجالي التكوين والتقنين

إنّ للعَدل الإلهي في مجالات التكوين والتشريع والجزاء ، مظاهر مختلفة نبيّنها واحداً بعد آخر :

ألف : العَدلُ التكوينيّ : لقد أعطى الله تعالى لكلّ مخلوقٍ خَلَقَه ، ما هو لائقٌ به ، ولازمٌ له ، ولم تَغبْ عنه القابليّاتُ عند الإفاضة والإيجاد أبداً.

يقول القرآنُ الكريمُ في هذا الصدد : (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) (١).

ب : العدلُ التشريعيّ : لقد هدى اللهُ الإنسانَ الّذي يمتلكُ قابليّة الرّشد والتكامل ، واكتساب الكمالات المعنويّة ، بإرسال الأنبياء ، وتشريع القوانين الدينيّة له. كما أنّه لم يُكلّف الإنسان بما هوَ فوق طاقته ، ووُسعه ، كما يقول : («إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ

__________________

(١). طه / ٥٠.

٩٨

الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (١).

وحيث إنّ العَدل والإِحسان وإيتاء ذي القربى توجب كمال الإِنسان وتوجب الأفعالُ الثلاثة الأُخرى (الفحشاء والمُنكر والبغي) سقوطَه ، أمرَ سبحانه بالأعمال الثلاثة الأُولى ، ونهى عن الأَفعال الأخيرة.

ويقول عن ملائمة التكاليف الإلهيّة لاستطاعة الإنسان وقدرته وعدم كونها خارجة عن حدود هذه الاستطاعة أيضاً : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) (٢).

ج : العدل في الجزاء : إنّ الله لا ينظر إلى المؤمن والكافر ، والمحسن والمسيء من حيث الجزاء نظرةً سواء قط ، بل يجازي كُلًّا طبقاً لاستحقاقه ووفقاً لِعَمله فيثيبُ المحسن ، ويعاقبُ المسيء.

وعلى هذا الأساس لا يعاقبُ مَن لَمْ تبلُغْهُ تكاليفهُ عن طريق الأَنبياء والرسل ، ولم تتم عليه الحجةُ كما يقول : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (٣).

ويقول أيضاً : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً) (٤).

__________________

(١). النحل / ٩٠.

(٢). البقرة / ٢٨٦.

(٣). الإسراء / ١٥.

(٤). الأنبياء / ٤٧.

٩٩

الأصلُ السابعُ والأربعون : الهدفيّة في خلق الإنسان

إنّ الله خلق الإنسان ، وكان لخلقه وإيجاده هدفٌ خاصٌ ، وهو وُصول الإنسان إلى الكمالِ الإنسانِي المطلوبِ الذي يتحقّق في ظلّ عِبادةِ اللهِ ، وطاعتهِ.

ولو كان وصولُ الإنسان إلى الهدف متوقِّفاً على مقدّمات ، هَيَّأ سبحانه تلكَ المقدّمات ، وسهّل لَه طريق الوُصول إلى الهدف ، وإلّا كان خلقُ الإنسان عبثاً خالياً عَنِ الهَدَف.

مِن هنا بعث اللهُ أنبياءَه ورسُله وزوّدهم بالبيّنات والمعاجز ، كما أنّه ترغيباً لعبادِهِ في الطاعة ، وتحذيراً لَهُمْ عن المعصيَةِ ضمَّنَ تلكَ الرسالات وَعْدَه ووعيده ، فبشّروا وأنذروا.

وهذا الّذي قُلناه هو خلاصة ما يسمّى في كلام «العدلية» ب «قاعدةِ اللُّطف» وهي من فُروع قاعدة الحُسنِ والقبحِ العقليّين ، كما أَنّها هي الأساس والمنطلَق للكثيرِ من قضايا العقيدة ومسائلها.

١٠٠