العقيدة الإسلاميّة على ضوء مدرسة أهل البيت عليهم السلام

الشيخ جعفر السبحاني

العقيدة الإسلاميّة على ضوء مدرسة أهل البيت عليهم السلام

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


المترجم: الشيخ جعفر الهادي
الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٥٨

بالنظر إلى هذه الضابطة يمكن الحكم في ما يقوم به المسلمون في المشاهد المشرَّفة من احترام وتكريم لأولياء الله المقرَّبين ، فإنَّ من الواضح أنّ تقبيل الضرائح المقدسة ، أو إظهار الفَرَح والسرور يوم ميلادِ النبي وبعثته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا ينطوي إلّا على تكريم النبي الكريم ولا يُقصَد منه إلّا إِظهار مودّته ومحبته ولا تكون ناشئةً من أُمورٍ مثل الاعتقاد بربوبيته قَط.

وهكذا الحال في الممارسات الأُخرى مثل إنشاء القصائد والأشعار في مدح أولياء الله أو مراثيهم ، وكذا حفظ آثار الرسالة ، وإقامة البناء على قبور عظماء الدين ، فانها ليست بشركٍ ولا بدعة.

وأَمّا كونها ليست بشركٍ فلأنّها تنبع من مودَّة أَولياء الله (لا الاعتقاد بربوبيتهم).

وأمّا كونها ليست ببدعَة أيضاً فلأَنّ جميع هذه الأعمال تقومُ على أساسٍ قرآنيّ ورِوائيٍ ، وينطلق من أصل وجوب محبة النبي وآله.

فأَعمال التكريم هذه مَظْهَرٌ من مظاهِر إبراز هذه المودة والمحبة التي حثّ عليها الكتاب والسنّة (وسيأتي توضيح هذا الموضوع في الفصل المتعلّق بالبدعة مستقبلاً).

وفي المقابل يكون سجودُ المشركين لأصنامهم مرفوضاً ومردوداً لكونه نابعاً من الاعتقاد بربوبيتها ومدبريَّتها وأنّ بيدها قسماً من شئون الناس ... أو على الأقل لأنّ المشركين كانوا يعتقدون بأنّ العزة والذّلّة ، والمغفرة والشفاعة بأَيدي تلك الأَصنام!!

٦١
٦٢

كليات في العقيدة

٢

الفصل الثالث

في صفات الله سبحانه

٦٣
٦٤

الأصلُ الرابع والثلاثون : الصفات الجمالية والجلالية لله سبحانه

حيث إنّ الذاتَ الإلهيّة لا مثيلَ لها ولا نظير ، ولا يُتصوّر لله عديل ولا شبيه ، فهو سبحانه أعلى من أن يعرفه الإنسان بالكُنْه ، أي ليس للإنسان سبيلٌ إلى معرفةِ حقيقة الذات الإلهية ، على حين يمكن معرفته تعالى عن طريق صفاته الجمالية والجلالية.

والمقصود من الصفات الجمالية هي الصفات التي تدلّ على كمالِ الله في وجوده وذلك كالعلم والقدرة ، والحياة ، والإرادة والاختيار وما شابه ذلك. وتُسمّى بالصفات الثبوتية أيضاً.

والمقصود من الصفات الجلالية هي الصفات التي يجلّ الله تعالى عن وصفه بها ، لأنّ هذه الصفات تدلّ على نقص الموصوف بها وعجزه ، والله تعالى غنيٌ غِنىً مطلقاً ، ومنزّه عن كلِّ نقص وعيب.

والجسمانية ، والاحتياج إلى المكان والزمان ، والتركيب وأمثاله من جملة هذه الصفات ، وتسمّى هذه الصفات أيضاً بالصفات السلبية في مقابل الصفات الثبوتية (التي مرَّ ذكرها أوّلاً) والمقصود في كلتا التسميتين واحد.

٦٥

الأصلُ الخامسُ والثلاثون : طرق معرفة صفاته سبحانه

لقد أسلفنا في بحث المعرفة أنّ أبرز طرق المعرفة بالحقائق تتمثّل في : الحسّ ، والعقل ، والوحي.

ويمكن لمعرفة الصفات الإلهيّة الجمالية والجلاليّة الاستفادة من الطريقين التاليين :

١ ـ طريق العقل : فإنّ التأمّل في عالم الخَلق ، ودراسة الأسرار الكامنة فيه والتي تدل برمّتها على أنّها مخلوقة لله ، تقودنا إلى كمالات الله الوجودية ، فهل يمكن أن يتصوّر أحدٌ أنّ بناء الكَون الشاهق قد تمّ من دون عِلمٍ وقدرةٍ واختيارٍ.

إنّ القرآن الكريم يدعو ـ تأْييداً لحكم العقل في هذا المجال ـ بالتدبّر في الآيات التكوينية في صعيد الآفاق والأنفس إذ يقول : (قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (١).

أي انظُروا نظرة تدبّر وتأمل لتكتشفوا الحقائق العظيمة.

على أَنّ من البديهيّ أنّ العقلَ يسلك هذا الطريق بمعونة الحسّ ، أي أنّ الحس يبدأ أوّلاً باكتشاف وإدراك الموضوع بصورةٍ عجيبةٍ ، ثمّ يعتبر العقل عظمة الموضوع ، وتكوينه العجيب ، دليلاً على عظمة الخالق وجماله.

٢ ـ طريق الوحي : فبعد أن أثبتت الأدلةُ القاطعةُ النبوّةَ والوحيَ ،

__________________

(١). يونس / ١٠١.

٦٦

واتّضح أنّ الكتاب الذي أتى به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكذا قوله كان برمّته من جانب الله ، كان من الطبيعيّ أن يكون في مقدور الكتاب والسُّنّة أن يساعدا البشريةَ في معرفة صفات الله ، فقد ذُكِرت صفات الله الجماليّة والجلاليّة في هذين المصدرين بأفضل نحو.

ويكفي أن نعرف أنّه جاء بيان قرابة ١٤٠ صفة لله تعالى في القرآن الكريم ، ونكتفي هنا بذكر آية واحدة تذكر بعض تلك الصفات : (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ* هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (١).

هذا والجدير بالذكر أنّ هناك من احتج بعجز البشر عن معرفة الموجودِ الأعلى فترك البحثَ عن صفات الله ، ونهى عن ذلك ، وهؤلاء في الحقيقة هم «المعطلة» لأنَّهم حَرَموا الإنسان من المعارف السامية التي أرشد إليها العقلُ والوحيُ معاً.

ولو كانَ البحثُ والنّقاش حولَ هذه المعارف مَمنُوعاً حقاً لكان ذِكرُ كل هذه الصفات في القرآن الكريم ، والأمرُ بالتدَبر فيها غيرَ ضروريّ بل لغواً.

ويجب أن نقول ـ مع بالغ الأسف ـ إنّ هذا الفريق حيث إنّه أوصد على نفسه بابَ المعرفة ، وقع نتيجةً لتعطيل البحث العلمي في ورطة «تجسيم الله وتشبيهه وإثبات الجهة له سبحانه».

__________________

(١). الحشر / ٢٣ ـ ٢٤.

٦٧

الأصلُ السادسُ والثلاثون : صفات الذات وصفات الفعل

تنقسمُ الصفات الإلهيّة من جهة أُخرى إلى قسمين :

ألف : صِفات الذات.

ب : صِفات الفِعل.

والمقصودُ من (صفات الذات) هي الصفات الّتي يلازم تصوُّرها تصوّرَ الذات الإلهية ، كالعلم والقدرة والحياة ، وإن لم يصدر منه سبحانه فعلٌ من الأفعال.

والمقصود من (صفات الفِعل) هي الصفات التي تُوصف الذات الإلهيّة بها بملاحظة صدور فعل ما منه تعالى ، كالخالقية ، والرازقية وما شابَهَ ذلك من الصفات التي تنتزَعُ من مقام الفعل ، ويوصَف بها اللهُ تعالى بعد ملاحظة ما صدر منه من الأفعال.

وبعبارةٍ أُخرى ما لم يصدر من الله فعل كالخالقية والرازقيّة والغفارية والراحمية لا يمكن وصفه فعلاً بالخالق والرازق وبالغفّار والرحيم ، وإن كان قادراً ذاتاً على الخلق والإرزاق والمغفرة والرحمة.

ونذكّر في الخاتمة بأنّ كلَّ صفات الفعل التي يوصف بها اللهُ تعالى نابعةٌ من كماله الذاتي ، وأن الكمال الذاتي المطلق له تعالى هو مبدأ جميع هذه الكمالات الفعلية ومنشؤها.

٦٨

صفات الله الثبوتيّة

بعد ما تبيّن انقسامُ الصفات الإلهيّة إلى صفاتٍ ثبوتيّة وسلبيّة ، وذاتيّة فعليّة ينبغي أن نطرح على بساط البحث أهمّ المسائل والقضايا المتعلّقة بها.

الأصلُ السابعُ والثلاثون : صفاته الذاتية

ألف : العلمُ الأَزَليّ

عِلمُ الله ـ لكونه عينَ ذاته ـ أزليٌّ ، كما انّه مثل ذاته مطلقٌ ، ولا نهاية له.

إنّ الله تعالى ـ مضافا إلى علمه بذاته ـ يعلم بكل شيء ممّا سوى ذاته ، كليّاً كان أم جزئياً ، قبل وقوعه وتحقّقه ، وبَعد وقوعه وتحقّقه.

ولقد أكّد القرآنُ الكريمُ على ذلك تأكيداً كبيراً إذ قال : (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (١).

__________________

(١). العنكبوت / ٦٢.

٦٩

وقال أيضاً : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (١).

ولقد وَرَدَ مثل هذا التأكيد المكرّر والقويِّ على أزليّة العلمِ الإلهيّ ، وسعته وإطلاقه في الأحاديث المرويّة عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام مثل قول الإمامِ جَعْفَرِ الصادق عليه‌السلام :

«لَم يَزَل عالِماً بالمَكانِ قَبْلَ تَكوينه كَعِلْمِهِ به بَعْدَ ما كوَّنَهُ وَكَذلِكَ عِلمُهُ بِجَمِيعِ الأَشياءِ» (٢).

ب : القُدرةُ الواسِعَةُ

إنّ قدرةَ الله مثلُ عِلمه أَزَليّةٌ ، وَلكونها عينَ ذاته فهي مثلُ عِلمِهِ تعالى ، مطلقةٌ وغير محدودة.

إنّ القرآن الكريم يؤكّد على سِعةِ قدرة الله ويقول : (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً) (٣).

ويقول : (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً) (٤).

وقالَ الإمامُ جعفرُ الصّادق عليه‌السلام :

«الأشياءُ لَهُ سَواءٌ عِلماً وقُدْرةً وَسُلْطاناً ، ومُلْكاً وإحاطةً» (٥).

__________________

(١). الملك / ١٤.

(٢). التوحيد للصدوق ص ١٣٧ ، الباب ١٠ ، الحديث ٩.

(٣). الأحزاب / ٢٧.

(٤). الكهف / ٤٥.

(٥). التوحيد للصدوق الباب ٩ الحديث ١٥.

٧٠

وأمّا إذا كان إيجاد الأشياء المستحيلة والممتنِعة ذاتاً خارجة عن إطار القُدرة الإلهية ، فليس ذلك لأجْل نقصٍ في القدرة الإلهيّة ، بَلْ لأجل عدم قابليّة الشيء الممتنع ، للتحقّق والوجُود (فهو نَقْصٌ في جانب القابل لا في جانب الفاعل).

يقول الإمامُ عليٌّ عليه‌السلام في الردّ على من سَألَ حول إيجاد الممتنعات : «إنّ الله تباركَ وتعالى لا يُنسَبُ إلى العَجز ، والّذي سَألْتنِي لا يَكُونُ» (١).

ج : الحياة

إنّ اللهَ العالِمَ القادرَ حيٌّ كذلك قطعاً ، لأنّ الصفتين السابقتين من خصوصيات الموجود الحي وتوابعه ، ومن هذا تتضح دلائل الحياة الإِلهيّة أَيضاً.

على أنّ صِفة الحياة التي يُوصف بها الحقّ تعالى هي مثل سائر الصفات الإلهيّة منزَّهةٌ عن كلّ نقص ، ومن كل خصوصيّات هذه الصّفة في الإنسان وما شابهه (كعروض الموت) ، وحيث إنّ اللهَ حيٌ بالذات لهذا لا سبيلَ للموت إلى ذاته المقدّسة كما يقول :

(وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ) (٢).

__________________

(١). التوحيد للصدوق : ص ١٣٠ ، باب القدرة.

(٢). الفرقان / ٥٨.

٧١

د : الإرادةُ والاختيار

إنَّ الفاعلَ الواعي لفعله أكملُ من الفاعِلِ غير الواعي لفعله ، كما أنّ الفاعلَ المريدَ لفعلِهِ المختار فيه (وهو الّذي إذا أراد أن يفعلَ فَعَل ، وإذا لم يُردْ أن يفعَلَ لم يفعل) أكمل من الفاعل المضطرّ المجبور ، أي الذي ليس أمامَه إلّا أحد أمرين : إمّا الفعل وإمّا الترك.

وبالنظر إلى ما قلناه ، وكذلك نظراً إلى أنّ الله أكملُ الفاعلين في صفحة الوُجود ، فإنَّ من البديهي أن نقول إنَّ اللهَ فاعلٌ مختارٌ ، وليس تعالى بمجبورٍ من جانب غيرهِ ، ولا بمضطرٍ من ناحية ذاته.

والمقصود من قولنا : إن اللهَ مريدٌ ، هو أنّه تعالى مختارٌ وليس بمجبورٍ ولا مضطَرّ.

إنّ الإرادة ـ بمعناها المعروف في الإنسان والذي هو أمر تدريجي وحادث ـ لا مكان لها في الذات الإِلهيّة المقدسة.

من أجل هذا وُصِفت الإرادة الإلهيّة في أحاديث أهل البيت عليهم‌السلام بأنّها نفسُ إيجاد الفعل وعينُ تحقّقه ، مَنعاً من وقوع الأَشخاص في الانحراف والخطأ في تفسير هذه الصفة الإلهيّة وتوضيحها.

قال الإمام موسى بن جعفر عليه‌السلام : «الإرادة من الخَلق : الضميرُ وما يَبْدُو لهم بعدَ ذلك من الفِعْل. وأمّا مِنَ الله تعالى فإرادتُهُ : إحداثُه لا غير ، ذلك لأنَّه لا يُرَوّي ولا يَهِمُّ ولا يَتَفَكَّرُ ، وهذهِ الصّفاتُ مَنْفيّةٌ عَنْهُ وَهيَ صِفاتُ الخَلْقِ.

٧٢

فإرادَةُ اللهِ ، الفِعْلَ ؛ لا غير ذلكَ يَقولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ بلا لَفْظٍ ولا نُطْقٍ بلسان ولا همّة ولا تفكّر ولا كيف لِذلِكَ ، كما أنَّه لا كيفَ له» (١).

فظهر ممّا ذكرناه : انّ وصفه سبحانه في مقام الذات بأنّه مريد ، بمعنى انّه مختار ووصفه به في مقام الفعل بمعنى انّه موجد ومحدث.

__________________

(١). أُصول الكافي ج ١ ، ص ١٠٩ باب الإرادة انّها من صفات الفعل وسائر صفات الفعل ، الرواية ٣.

٧٣

الله وصفاتُ الفِعل

والآن بعد أن اطَّلعنا على أُمهات المطالب المتعلّقة بصفات الذات ينبغي التعرّف على بعض صفات الفعل.

وندرس هنا ثلاث صفات فقط من صفات الفِعل :

١. التكلّم.

٢. الصدق.

٣. الحِكمة.

الأصلُ الثامن والثلاثون : كون الله متكلّماً

إنّ القرآن الكريم يصفُ الله تعالى بصفة التكلّم إذ يقول : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) (١).

وقال أيضاً : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً) (٢).

__________________

(١). النِّسَاء / ١٦٤.

(٢). الشورى / ٥١.

٧٤

وعَلى هذا الأساس لا شكّ في كون التكلّم إحدى الصّفات الإلهيّة.

إنّما الكلام هو في حقيقة التكلّم وأنّ هذه الصفة هل هي من صِفات الذات أم من صفات الفعل؟ إذْ مِنَ الواضح أنّ التكلّم بالشَّكل الموجود عند الإنسان لا يجوزُ تصوّرُهُ في الحقّ تعالى.

وحيث إنّ صفَةَ التكلم ممّا نطق بها القرآن الكريم ، وَوَصَف بها الله ، لذلك يجب الرّجوع إلى القرآنِ نفسه لِفَهم حقيقته كذلك.

إنّ القرآن يقسّم تكلّم اللهِ مع عباده ـ كما عرفنا ـ إلى ثلاثةِ أنواع ، إذ يقول : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ) (١).

إذَن فلا يمكن للبشر أن يكلّمهُ الله إلّا من ثلاث طرق :

١ ـ (وَحْياً) الإلهام القلبي.

٢ ـ (أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) كأن يكلّم اللهُ البشرَ من دون أن يراه كتكلّم اللهِ مع موسى عليه‌السلام.

٣ ـ (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً ...) أي مَلَكاً يوحي إلى النبيّ بِإذنِ الله تعالى.

ففي هذه الآية بَيَّنَ القرآنُ تكلُّمَ اللهِ بأنّه تعالى يوجدُ الكَلامَ تارةً من دون واسطةٍ ، وَأحْياناً مع الواسطةِ ، عَبر مَلك من الملائكة.

كما أنّ القِسمَ الأوّل تارةً يكون عن طريقِ الإلقاء والإلهام إلى قلب النبي مباشرةً ، وتارةً بالإلقاء إلى سَمْعِهِ ومنه يصلُ الكَلامُ إلى قلبه.

__________________

(١). الشورى / ٥١.

٧٥

وعلى كلّ حال يكونُ التكلّم بِصُوره الثلاث بمعنى إيجاد الكلام وَهو من صِفات الفعل.

إنّ هذا التفْسير والتحليل لصفة التكلّم الإِلهيّ هو أحدُ التفاسير التي يمكن استفادتها بمعونةِ القرآنِ وإرشاده وهدايته.

وهناكَ تفسيرٌ آخرٌ لهذه الصفة وهو : أنَّ اللهَ اعتبر مخلوقاتهِ من كلماتِه فقال : (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً) (١).

فالمقصودُ من «الكلمات» في هذه الآية هو مخلوقات الله الّتي لا يقدرُ شيءٌ غيرُ ذاته سبحانه على إحصائها وعدّها ، ويدعم هذا التفسيرَ للكلمة وصفُ القرآن الكريم المسيحَ ابنَ مريم عليه‌السلام بأنّه «كلمة الله» إذ قال : (وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ) (٢).

إنّ الإمام أميرَ المُؤْمنين عليه‌السلام فسّر تَكَلّم الله تعالى في إحدى خُطَبِه وأحاديثه بأنّه إيجادٌ وفِعلٌ ، فقال : «يَقُولُ لِمَنْ أرادَ كَوْنَهُ «كُنْ» ، لا بصَوتٍ يَقرَعُ ، ولا بنداءٍ يُسْمَعُ وَإنّما كَلامُهُ سُبحانَه فِعلٌ منه ، أنشَأهُ وَمَثَّله» (٣).

فإذا كان الكلام اللفظيّ معرباً عمّا في ضمير المتكلّم ، فما في الكون من عظائم المخلوقات إلى صغارها يعرب عن علم الله تعالى وقدرته وحكمته.

__________________

(١). الكهف / ١٠٩.

(٢). النساء / ١٧١.

(٣). نهج البلاغة ، الخطبة ١٨٦.

٧٦

الأصل التاسعُ والثلاثون : هل القرآن مخلوق أم قديم؟

اتّضح مِنَ البَحْث المتَقَدّم الذي تضمّن تفسيراً لِحقيقة كلامِ الله ، بنحوين ، أنَّ التفسيرَ الثاني لا يخالف التفسير الأوّل ، وانّه سبحانه متكلم بكلا الوجهين.

كما ثَبَتَ أنَّ كلام اللهِ حادثٌ وليس بقديمٍ ، لأنّ كلامَهُ هو فِعْلُه ، ومن الواضح أنّ الفِعلَ حادثٌ ، فَيُنتَجُ من ذلك أنّ «التكلّم» أمرٌ حادِثٌ أيضاً.

ومع أنّ كلام الله حادثٌ قطعاً فإنّنا رعايةً للأدب ، وكذا دَرءاً لسوءِ الفهم لا نقول : إنّ كلام الله (القرآن) مخلوق إذ يمكن أن يصفه أحدٌ في ضوء ذلك بالمجعول والمختلق وإلّا فإنّ ما سوى اللهِ مخلوقٌ قطعاً.

يقول سليمان بن جعفر الجعفري : سألت الإمامَ عليَّ بن موسى بن جعفر عليه‌السلام : يا ابن رسول الله أخبِرني عن القرآن أخالقٌ أو مخلوقٌ؟ فأجاب عليه‌السلام قائلاً : «ليس بخالقٍ ولا مخلوقٍ ، ولكنّه كلامُ الله عزوجل» (١).

وهنا لا بدّ من التذكير بنقطةٍ تاريخيةٍ في هذا المجال وهي أنّه طُرحت في أوائل القرن الثالث الهجري ، في عام ٢١٢ ه‍ في أوساط المسلمين مسألة ترتبط بالقرآن الكريم ، وهي : هل القرآنُ حادثٌ أو قديمٌ؟

وقد صارت هذه المسألة سبباً للفرقة والاختلاف الشديدين ، على

__________________

(١). التوحيد للصدوق : ص ٢٢٣ باب القرآن ما هو ، الحديث ٢.

٧٧

حين لم يمتلك القائلون بِقدَم القرآن أيَّ تبرير صحيح لمزعمتهم ، لأنّ هناك احتمالات يكون القرآنُ حسب بعضها حادثاً ، وحسب بعضها الآخر قديماً.

فإذا كان المقصود من القرآن هو كلماته التي تُتلى وتُقرَأ ، أو الكلمات التي تلقّاها الأمينُ جبرائيل ، وأنزلها على قلب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنّ كل ذلك حادثٌ قطعاً ويقيناً.

وإذا كان المقصود هو مفاهيم الآيات القرآنية ومعانيها ، والتي يرتبط قسمٌ منها بقصص الأنبياء ، وغزوات الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهي أيضاً لا يمكن أن تكون قديماً.

وإذا كان المقصودُ هو علم الله بالقرآن لفظاً ومعنى فإنّ من القطعيّ والمسلَّم به هو أنّ علم الله قديمٌ ، وهو من صفات الذات ، ولكن العلمَ غيرُ الكلام كما هو واضحٌ.

الأصلُ الأربعون : كون الله صادقاً

ومن صفاته سبحانه «الصدقُ» وهو القول المطابق للواقع في مقابل الكذب الذي هو القول المخالف للواقع.

فاللهُ تعالى صادقٌ لا سبيل للكذب إلى قوله ، ودليلُ ذلك واضحٌ تمام الوضوح ، لأنّ الكذبَ شيمةُ الجَهَلة ، والعَجَزة والجُبَناء. والله منزهٌ عن ذلك كُلّه.

وبعبارة أُخرى ؛ إنَّ الكذبَ قبيحٌ والله منزهٌ عن القبيح.

٧٨

الأصلُ الواحدُ والأربعون : كون الله حكيماً

ومِنَ الصّفات الكماليّة الإلهيّة «الحكمةُ» كما يوحي بذلك تسميتهُ تعالى بالحكيم.

والمقصود من كون الله حكيماً :

أوّلاً : أنّ أفعال الله تعالى تتسم بمنتهى الإتقان والكمال.

ثانياً : أنَّ الله تعالى منزّهٌ عن الأفعال الظالمة ، والعابثة.

ويدل نظامُ الخلق الرائع العجيب على المعنى الأوّل حيث أُقيم صرحُ الكَون العظيم على أتم نظامٍ وأحسن صورةٍ ، إذ يقول :

(صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) (١).

ويشهد بالمعنى الثاني قولُه تعالى :

(وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً) (٢).

وهو أمرٌ يَدْعَمُه العلمُ والعقْلُ كلَّما تقدَّم بهما الزمنُ ، وَوَقفنا على أَسرارِ الكونِ وقوانينه.

__________________

(١). النمل / ٨٨.

(٢). ص / ٢٧.

٧٩

صفاتُ الله السلبيّةُ

الأصلُ الثاني والأربعون : إنّ الله لا يرى بالعين مطلقاً

ذكَرْنا عند تصنيف صفات الله تعالى أنَّ الصفات الإِلهيّة على نَوعين : صفات الجمال ، وصفات الجلال ، وأنّ ما هو من سِنخ الكمال ومقولته يُسمّى «الصفات الجماليّة» أو «الثبوتية» ، وما هو من مقولة النقص وسنخه يسمّى «الصفات الجلالية» أو «السلبية».

والهَدَف من الصّفات السّلبيّة هو تنزيه ذات الله سبحانه من النقص ، والحاجة والفقر.

إنّ الله تعالى ـ لكونه غنيّاً موصوفاً بالكمال المطلق ـ منزَّهٌ عن كُلّ وصفٍ يحكي النقص ، والحاجة والفقر ، ولهذا قال علماء العقيدة المسلمون (علماء الكلام) إنّ الله ليس بجسمٍ ولا جسماني ، ولا محلاً لِشيءٍ ، ولا حالًّا في شيء ، ذلك لأنّ كل هذه الخصوصيات ملازمة للنقص والاحتياج ومستتبعة للفقر والإمكان ، وهي تعارضُ كونه غنياً غنىً مطلقاً ، وتنافي كونه واجبَ الوجود قطعاً ويقيناً.

هذا ومن الصفات التي تحكي النقص كون الشيء مرئياً ، ذلك لأن

٨٠