العقيدة الإسلاميّة على ضوء مدرسة أهل البيت عليهم السلام

الشيخ جعفر السبحاني

العقيدة الإسلاميّة على ضوء مدرسة أهل البيت عليهم السلام

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


المترجم: الشيخ جعفر الهادي
الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٥٨

كليات في العقيدة

١

الفصل الثاني

التوحيد ومراتبه وأبعاده

٤١
٤٢

الأصلُ السابعُ والعشرون : وجود الله تعالى

إنّ الاعتقاد بوُجود الله أصلٌ مشترك بين جميع الشرائع السماويّة ، وأساساً يكمنُ الفارقُ الجوهريُّ والأساسيُّ بين الإنسانِ الإلهيّ المتدينِ (مهما كانت الشريعة التي ينهجها) والفردِ الماديّ ، في هذه المسألة.

إنّ القرآنَ الكريمَ يعتبر وجودَ الله أمراً واضحاً وغنيّاً عن البرهنة ، ويرى أنّ الشك والتردّد في هذه الحقيقة أمر غير مبرَّر ، بل ومرفوضاً كما قال : (أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (١).

إلّا أنّه رغم وضوحِ وجودِ الله وبداهته قد وضع القرآنُ الكريمُ أمام من يريدُ معرفة الله عن طريق التفكّر والبرهنة ، وإزالة جميعَ الشكوك والاحتمالات المضادّة عن ذهنه ، طرقاً تؤدي هذه المهمة وأبرزها هو :

١ ـ إحساس الإنسان بالحاجة إلى كائنٍ أعلى ، هذا الإحساس الذي يتجلّى في ظروف وحالاتٍ خاصّة ، وهذا هو نداء الفطرة الإنسانية التي تدعوه إلى مبدأ الخلق يقول القرآن الكريم في هذا الصدد : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ

__________________

(١). إبراهيم / ١٠.

٤٣

لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) (١).

ويقول أيضاً : (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ) (٢).

٢ ـ الدعوة إلى مطالَعة العالَم الطبيعيّ والتأمّل في عجائب المخلوقات التي هي آياتٌ واضحةٌ ، ودلائلٌ قويةٌ على وجود الله. إنّها آيات تدلّ على تأثير ودور العلم والقدرة ، والتدبير الحكيم في عالم الوجود : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ) (٣).

إنّ الآيات في هذا المجال كثيرة وما ذكرناه ليس سوى نماذج من ذلك.

ومن البديهيّ أن ما ذكرناه لا يعني بالمرّة أن الطريق إلى معرفة وجودِ الله وإثباته يختص في هذين الطريقين ، بل هناك طرق عديدة أُخرى لإثبات وجودِ الله أتى بها علماء العقيدة ، والمتكلمون المسلمون في مؤلفاتهم المختصة بهذه المواضيع.

__________________

(١). الروم / ٣٠.

(٢). العنكبوت / ٦٥.

(٣). آل عمران / ١٩٠.

٤٤

التوحيد هو الأصل الموحّد بين الشرائع

تقوم جميعُ الشرائع والمناهجِ السماوية على أساس التوحيد كما وأنّ الاعتقاد بالتوحيد هو أبرز أصلٍ مشتركٍ بين تلك الشرائع ، وإن كان هناك شيء من الانحراف لدى أتباع بعض تلك الشرائع في هذه العقيدة المشتركة. وفيما يأتي مراتب التوحيد وأبعاده في ضوء القرآن الكريم والأحاديث الشريفة ، والبراهين العقلية :

الأصلُ الثامنُ والعشرون : التوحيد الذاتي ومعانيه

إنّ أول مرتبة من مراتب التوحيد هو التوحيد الذاتي ، وللتوحيد الذاتي معنيان :

ألف : إنّ الله واحدٌ ، لا مثيل له ولا نظير ولا شبيهَ ولا عديل.

ب : إن الذات الإلهيّة المقدّسة ذاتٌ بسيطةٌ لا كثرة فيها ، ولا تركّب.

يقول الإمام علي بن أبي طالب عليه‌السلام حول كلا المعنيَين :

١ ـ «هُو وَاحدٌ لَيسَ له في الأشْياء شَبَهٌ».

٢ ـ «وإنّه عزوجل أَحديّ المعنى لا ينقسم في وجودٍ ولا وَهمٍ ولا عقلٍ» (١).

__________________

(١). التوحيد ، للصدوق ص ٨٤ ، الباب ٣ ، الحديث ٣.

٤٥

وسورة «الإخلاص» التي تعكس عقيدة المسلمين في مجال التوحيد تشير إلى كلا القسمين :

فقوله تعالى : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) إشارةٌ إلى القسم الأوّل.

وقوله تعالى : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) إشارةٌ إلى القسم الثاني.

وعلى هذا الأساس يكون «التثليث» باطلاً من وجهة نظر الإسلام ، وقد صرّح القرآنُ الكريمُ في آيات عَديدة بعدم صحة ذلك.

كما أنّ هذه المسألة تَناولَتْها الكتبُ الكلاميّة (العقيديّة) بالبحث المُفَصَّل وفَنَّدَتْ التثليثَ بطرق مختلفة ، ونحن نكتفي هنا بذكر طريق واحد :

إنّ التثليث بمعنى كون الإله ثلاثاً لا يخلو عن أحد حالين :

إمّا ان يكون لكلِّ واحدٍ من هذه الثلاثة وجودٌ مستقلٌّ ، وشخصية مستقلّة ، أي أنْ يكون كلُّ واحدٍ منها واجداً لكلّ حقيقةِ الالوهية ، وفي هذه الصورة يتنافى هذا مع التوحيد الذاتي بمعناه الأوّل (أي كون الله لا نظير له).

وإمّا أن تكون هذه الآلهة الثلاثة ذات شخصيّة واحدة ، لا متعدّدة ويكون كلّ إلهٍ جزءاً من تلك الحقيقة الواحدةِ ، وفي هذه الصورة يكون التثليث كذلك مستلزماً للتركب ، ويخالف المعنى الثانيَ للتوحيد الإلهيّ (أي بساطة الذاتِ الإلهيّة).

٤٦

الأصلُ التاسعُ والعشرون : التوحيد في الصفات

المرتبة الثانية من مراتب التوحيد هو : التوحيد في صفات الذات الإلهيّة.

نحن نعتقد أنّ الله تعالى موصوف بكلّ الصفات الكمالية ، وأنّ العقلَ والوحيَ معاً يَدُلّان على وجودِ هذه الكمالات في الذات الإلهيّة المقدسة.

وعلى هذا الأساس فإنّ الله عالمٌ ، قادرٌ ، حيٌ ، سميعٌ ، بصيرٌ و.. و.

وهذه الصفات تتفاوت فيما بينها من حيث المفهوم ، فما نفهمه من لفظة «عالِم» غير ما نفهمه من لفظة : «قادر».

ولكن النقطة الجديرة بالبحث هو أن هذه الصفات كما هي متغايرة من حيث المفهوم هل هي في الواقع الخارجيّ متغايرة أم متحدة؟

يجب القول في معرض الإجابة على هذا السؤال : حيث إنّ تغايرَها في الوجود ، والواقع الخارجي ، يستلزم الكثرةَ والتركّب في الذات الإلهيّة المقدسة ، لذلك يجب القولُ حتماً بأنّ هذه الصفات مع كونها مختلفةً ومتغايرةً من حيث المعنى والمفهوم إلّا أنّها في مرحلة العينيةِ الخارجيةِ ، والواقع الخارجِي متحدةٌ.

وبتعبير آخر : إن الذات الإلهيّة في عين بساطتها ، واجدةٌ لجميع هذه الكمالات ، لا أنّ بعض الذات الإلهيّة «عِلم» وبعضها الآخر «قُدرة» والقسم الثالث هو «الحياة» بل هو سبحانه ـ كما يقول المحقّقون : ـ علمٌ

٤٧

كلُّه وقدرةٌ كلّهُ وحياةٌ كلهُ ...

وعلى هذا الأساس فإنّ الصفاتِ الذاتية للهِ تعالى ، مع كونها قديمةً وأزليةً فهي في نفس الوقت عين ذاته سبحانه لا غيرها.

وأمّا ما يقولهُ فريقٌ من أنّ الصفات الإلهية قديمةٌ وأزليةٌ ولكنها زائدةٌ على الذات غير صحيح ، لأنّ هذه النظرة تنبع ـ في الحقيقة ـ من تشبيه صفات الله بصفات الإنسان وحيث إنّ صفاتِ الإنسان زائدةٌ على ذاته فقَد تصوَّروا أنّها بالنسبة إلى الله كذلك.

يقول الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام : «لم يَزلِ اللهُ ـ جلّ وعزّ ـ ربُّنا والعلمُ ذاتُه ولا معلومَ ، والسمعُ ذاتُه ولا مسموعَ ، والبَصَرُ ذاتُه ولا مُبْصَرَ ، والقدرةُ ذاتُه ولا مقدورَ» (١).

ويقول الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام : «وكمالُ الإخلاصِ له نفي الصفاتِ عنه ، لشهادة كلِّ صفَةٍ أنها غيرُ الموصوف ، وشهادةِ كلّ موصوفٍ أنّه غير الصفة» (٢). (٣)

__________________

(١). التوحيد ، للصدوق ، ص ١٣٩ الباب ٢١١ ، الحديث ١.

(٢). نهج البلاغة ، الخطبة ١.

(٣). سمّى بعض من لا إلمامَ له بالمسائل الكلاميّة هذه النظرية بالتعطيل والمعتقدينَ بها بالمعطلة ، في حين أنّ المعطّلة إنما يُطلَقُ على من لا يُثبت الصفات الجمالية للذات الإلهيّة ، ويستلزم موقفُهم هذا خلوَّ الذات الإلهيّة من الكمالات الوجودية ، وهذه العقيدة الخاطئة لا علاقة لها مطلقاً بنظرية (عينيّة الصفات للذات الإلهيّة ووحدتهما خارجاً) بل نظريةُ العينيّة هذه في عين كونها تُثبت الصفاتِ الجماليّة والكماليّة لله ، مُنزَّهَة من الإِشكالات والاعتراضات الواردةِ على نظريّة زيادةِ الصفاتِ على الذات.

٤٨

الأصلُ الثلاثون : التوحيد في الخالقية

المرتبة الثالثة من مراتب التوحيد هي التوحيد في الخالقية ، بمعنى انّه لا خالق إلَّا الله ، وأنّ الوجود برمته مخلوقُه ، وقد أكّد القرآن الكريم على هذه الحقيقة إذ قال :

(قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) (١).

(ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) (٢).

وليس الوحي وحده يثبت ذلك بل يقول به العقل ويؤكّده ، لأنّ كل ما سوى الله ممكنٌ محتاجٌ ، وترتفع حاجته ويتحقّق وجوده من جانب الله.

إنّ التوحيد في الخالقية لا يعني نفي أصل السببيّة والعليّة في عالم الوجود ، لأنّ تأثيرَ كلِّ ظاهرة مادّية في مثلها منوطٌ بإذن الله ، ووجودُ السبب وسَبَبيّتُه كلاهُما من مظاهر المشيئة الإلهية ، فالله سبحانه هو الذي أعطى النور ، والضوء للشمس والقمر ، وإذا أراد سَلْبَه عنهما فعل ذلك دون مانع ومنازع ، ولهذا كان الخالق الوحيد بلا ثان.

وقد أيّد القرآن الكريم ـ كما أسلفنا في الأصل الثامن ـ قانون العليّة ونظام السببية في الكون كما قال الله : (يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ) (٣).

__________________

(١). الرعد / ١٦.

(٢). غافر / ٦٢.

(٣). الروم / ٤٨.

٤٩

فقد صَرَّحَتِ الآيةُ المذكورة بتأثير الرياح في تحريك السحابِ وسَوْقها.

إنّ تعمِيم خالقيّة الله على جميع الظواهر الطبيعيّة لا يستلزم أبداً أن ننسب أفعال البشر القبيحة إلى الله تعالى ، لأنّ كل ظاهرة من الظواهر الكونية لكونها كائناً إمكانياً وإن كان مستحيلاً أن ترتدي ثوب الوجود من دون الاستناد إلى القدرة ، والإرادة الإلهيّة الكلية.

ولكن في مجال الإنسان يجب أن نضيف إلى ذلك ، أنّ الإنسان لكونهِ كائناً مختاراً ، وموجوداً ذا إرادة ، فهو يفعلُ أو يترك بإرادته واختيارِهِ بحكم التقدير الإلهيّ أي إنّ الله قدّر وشاء أن يفعلَ الإنسانُ ما يريد فعلهُ بإرادته ، ويترك ما يريد تركه بإرادته ، لهذا فإنّ اصطباغ الفعل البشري من حيث كونه طاعة أو معصية لله تعالى ناشئ مِن نوعيّة إرادته واختيار الإنسان نفسهِ.

وبعبارة أُخرى : إنّ الله واهبُ الوجود ، والوجود مطلقاً مستند إليه ، ولا قبح في الأمر من هذه الناحية كما قال : (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) (١).

ولكنّ جَعْلَ وجود هذا الفعل مطابقاً أو غير مطابق لمعايير العقل والشرع ، نابعٌ في الحقيقة من كيفية اختيار الإنسان وإرادته ، وعزمه.

ولإيضاح المقصود نأتي بمثال :

إنّ الأكل والشرب من أفعال الإنسان بلا ريب فيقال أكل فلان

__________________

(١). السجدة / ٧.

٥٠

وشرب ، ولكنّ كلاً من الفعلين يشتملان على جهتين :

الأُولى : الوجود ، وهو الأصل المشترك بينه وبين سائر الموجودات.

الثانية : تحديد الوجود وصبّه في قالب خاص وانصباغه بعنواني الأكل والشرب ، فالفعل من الجهة الأُولى منسوب إلى الله سبحانه ، فلا وجود في الكون إلّا وهو مفاض منه تعالى ، ولكنّه من الجهة الثانية منسوب إلى العبد إذ هو الذي باختياره وقدرته صَبَغ الوجود بصبغة خاصة وأضفى عليه عنواني الأكل والشرب ، فهو بفمه يمضغ الغذاء ويبلع الماء.

وبعبارة أُخرى : إنّ الله سبحانه هو الذي أقدر العبد على إيجاد الفعل ، وفي الوقت نفسه أعطى له الحرية لصرف القدرة في أيّ نحو شاء ، وهو صرفها في مورد الأكل والشرب.

الأصلُ الواحدُ والثلاثون : التوحيد في الربوبية

المرتبة الرابعة من مراتب التوحيد هو : التوحيد في الربوبية وتدبير الكون والإنسان.

والتوحيد الربوبي يكون في مجالين :

١ ـ التدبير التكوينيّ.

٢ ـ التدبير التشريعيّ.

وسنتحدّث عن التدبير التشريعيّ في أصل مستقل ، فيما بعد ،

٥١

ونركّز في هذا الأصل على التدبير في المجال التكويني.

إنّ تاريخ الأنبياء يشهد بأن مسألة التوحيد في الخالقية لم تكن قط موضع نقاش في أُممهم وأقوامهم ، وانما كان الشرك ـ لو كان ـ في تدبير الكون وإدارة العالم الطبيعي الذي كان يتبعه الشرك في العبادة.

فمشركو عصر النبي إبراهيم الخليل عليه‌السلام كانوا يعتقدون بوحدة خالق الكون ، إلّا أنّهم كانوا يعتقدون خطأً بأنّ النجوم والكواكب هي الأرباب والمدبّرات لهذا الكون ، وقد تركّزت مناظرة إبراهيم لهم على هذه المسألة كما يتضح ذلك من بيان القرآن الكريم (١).

وكذا في عهد النبي يوسف عليه‌السلام الذي كان يعيش بعد النبي إبراهيم الخليل عليه‌السلام فإنّ الشرك كان في مسألة الربوبية ، وكأنَّ الله بعد أن خلقَ الكون ، فوّض أمر تدبيره وإدارته إلى الآخرين.

ويتّضح هذا جلياً من الحوار الذي دار بين يوسف الصدِّيق عليه‌السلام وأصحابه في السجن إذ يقول : (أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) (٢).

كما ويُستفاد من آيات القرآن الكريم أن مشركي عصر الرسالة كانوا يعتقدون بأنّ بعض مصيرهم إنّما هو بأيدي معبوداتهم إذ يقول : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا) (٣).

ويقول أيضاً : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ* لا

__________________

(١). راجع الأنعام / ٧٦ ـ ٧٨.

(٢). يوسف / ٣٩.

(٣). مريم / ٨١.

٥٢

يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ) (١).

إنّ القرآنَ الكريم يحذّر المشركين في آياتٍ عديدة بأنّ ما يعبدونه من الأَرباب المختلفَة غير قادرةٍ على جلب نفعٍ إلى عابِدِيها ولا دفعِ ضررٍ عنهم أبداً.

إنّ هذه الآيات تكشف عن أنّ مشركي عصر الرسالة المحمدية كانوا يعتقدون بأنّ تلكَ المعبودات تضرّ أو تنفع عُبّادها. (٢) وهذا هو كان الدافع لهم إلى عِبادتها.

إنّ هذه الآيات ونظائرَها ممّا يعكس ويصوّر عقائد المشركين في عصر الرسالة ، تحكي عن أنّه رغم أنّهم كانوا يعتقدون بالتوحيد في الخالقية ، إلّا أنّهم كانوا مشركين في بعض الأُمور المتعلّقة بربوبيّة الحق تعالى ، إذ كانوا يعتقدون بأنّ معبوداتهم مؤثرة ـ على نحو الاستقلال ـ في الأُمور والأشياء ، أي إنَّها فاعِلة في صفحة الكون من دون إذنِ الله ومشيئته بل بصورة مستقلّةٍ وحسب مشيئتها وإرادتها لا غير ، وهي من صفات الربِّ الحقيقي.

ولقد عَمَدَ القرآنُ الكريمُ ـ بهدف منع أُولئك المشركين عن عبادة الأصنام بصورة جذرية ـ إلى إبطال هذا الاعتقاد الفاسد وهذا التصوّر الخاطئ ، وقال بأنّ هذه الأصنام لا تضرّ ولا تنفع ولا مثقال ذرة ، فليس لهم أيّ تدبير وربوبيّة.

__________________

(١). يس / ٧٤ ـ ٧٥.

(٢). راجع : يونس / ١٨ ، والفرقان / ٥٥.

٥٣

ففي بعض الآيات يندّد القرآنُ بالمشركين لكونهم يتّخذون لله تعالى نظيراً وندّاً ، وشبيهاً ومثيلاً ، إذ يقول : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ) (١).

وقد ورد تقبيح اتّخاذ الندّ للهِ في آيات قرآنية أُخرى أيضا (٢). ويتضح من الآيات المذكورة أنّ المشركين كانوا يعتقدون بأنّ لتلك الأصنام شئوناً مثل شئون اللهِ سبحانه ، ثمّ انطلاقاً من هذا التصوّر كانوا يحبّون تلك الأصنام ويودّونها بل ويعبدونها!!

وبعبارة أُخرى : لقد كان المشركون يعبدون تلك الأوثان والأصنام لكونها ـ حسب تصوّرهم وزعمهم ـ «أنداداً» و «نظراء» لله سبحانَه في التدبير.

إنّ القرآن الكريم ينقل عن المشركين يومَ القيامة بأنّهم يقولون تنديداً بأَنفسهم وبأَصنامهم : (تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ* إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) (٣)

أجل إنّ دائرةَ ربوبية الله واسعة ، ومن أجل هذا كان مشركو عصر الرسالة موحّدين في أُمور هامّة. كالرزق والإحياء والإماتة والتدبير الكلي للكون كما يقول القرآن الكريم : (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ).(٤)

__________________

(١). البقرة / ١٦٥.

(٢). راجع : البقرة / ٢١ ، إبراهيم / ٣٠ ، سبأ / ٣٣ ، الزمر / ٨ ، فصلت / ٩.

(٣). الشعراء ٩٧ ـ ٩٨.

(٤). يونس / ٣١.

(٥). المؤمنون / ٨٤ ـ ٨٧.

٥٤

(قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ* سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ* قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ* سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ) (١).

وَلكنَّ هؤلاء الأفراد أنفسَهم ـ كما مرّ في آيات سورة مريم وسورة يس ينسبون بعض الأُمور والشئون مثل النَّصر في القتال والحفْظ في السَفَر ، وَما شابهَ ذلك ، إلى مَعْبُوداتهم وأصنامِهمْ ويَعْتَقدون بتأثيرها الذاتيّ والمُستقلِّ في مصائرهم.

وأبْرزُ من كل ذلك ؛ الشفاعةُ التي كانوا يرون أنّها حقّ طلْقٌ لتلك الأصنام وكانوا يَعتقدون بأنّها تشفع من غير إذن الله ، وأنّ شفاعَتها مفيدةٌ لا مَحالة ومؤثّرة قطعاً وجزماً.

وعلى هذا فلا منافاة بين أن يكون بعض الأفراد يعتقدون بتدبير اللهِ لبعض الأُمور دون سواه فيكونون موحّدين في هذا المجال ، بينما يعتقدون بتدبير الأصنام والأوثان لأُمور وجوانب أُخرى من مصائرهم وشئونهم كالشفاعة والإضرار والإنفاع والإعزاز والمغفرة ، فيكونون مشركين في هذه المجالات.

وَلكنّ «التوحيد في الربوبية» يفنّد كلَّ لونٍ من ألوان تصوّر الاستقلال ، والتأثير المستقل عن الإذن الإلهيّ كليّاً كان ، أو جزئياً.

فهو يُبطل أي إسنادٍ ، لتأثير غير الله في مصير الإنسان والكون ، وتدبير شئونها بمعزلٍ عن الإذن الإلهيّ وبهذا يُبطل ويرفُضُ عبادةَ غير اللهِ تعالى.

__________________

(١). المؤمنون / ٨٤ ـ ٨٧.

٥٥

إنَّ الدليل على التوحيد الربوبيّ واضحٌ تمامَ الوضوح ، لأنّ تدبيرَ عالمِ الخلق ، في مجال الإنسان والكون ، لا ينفصل عن مسألة الخَلْقِ ، وليس شيئاً غير عمليّة الخَلق.

فإذا كانَ خالقُ الكونِ والإنسان واحداً ، كان مدبّرهما بالطبع والبداهة واحداً كذلك ، لوضوح العلاقة الكاملة بين عمليّة التدبير وعملية الخَلْق للعالم.

ولهذا فإنّ الله تعالى عند ما يصف نفسَه بكونه خالِقَ الأشياء يصف نفسَه في ذاتِ الوَقتِ بأنّه مدبّرُها (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ...) (١).

وفي آية أُخرى يعتبر التناسق والانسجام السائد والحاكم على الكون دليلاً على وحدة مدبر العالم إذ يقول : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) (٢).

إنَّ التوحيد في التدبير لا ينافي وجودَ مدبّراتٍ أُخرى تقومُ بوظائفها بإذن الله في صفحة الكون ، فهي بالحقيقةِ مظاهِر لِربوبية الحق تعالى.

ولهذا فإنَّ القرآن الكريم مع تأكيده الشديد على التوحيد في الرّبوبيّة والتدبير يصرّح بوجود مدبّراتٍ أُخرى في صفحة الكون إذ يقول : (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) (٣).

__________________

(١). الرعد / ٢.

(٢). الأنبياء / ٢٢.

(٣). النازعات / ٥.

٥٦

الأصل الثاني والثلاثون : التوحيد في الحاكمية والتقنين

بعد أن ثبت ـ في الأصل السابق ـ أنّ للكون مدبّراً حقيقياً واحداً هو الله تعالى وأنّ تدبير العالم وحياة الإنسان بيده دون سواه ، كان تدبير أمر الإنسان في صعيد الشريعة ـ سواء في مجال الحكومة أو التقنين أو الطاعة أو الشفاعة أو المغفرة ـ برمّته بيده تعالى ، ومن شئونه الخاصة به ، فلا يحق لأحد أن يتصرّف في هذه المجالات والأصعدة من دون إذن الله تعالى ، ولهذا يُعتبر التوحيدُ في الحاكمية ، والتوحيد في التشريع ، والتوحيد في الطاعة ، والتوحيد في الشفاعة والمغفرة .. من فروع التوحيد في التدبير وشقوقه ولوازمه.

فإذا كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حاكماً على المسلمين فإنّ هذا نابعٌ من اختيار الله تعالى إيّاه لهذا المنصب.

وانطلاقاً من هذه العلّة ذاتها تجب إطاعتهُ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بل إنّ إطاعته نفس إطاعة الله ، قال تعالى :

(مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) (١).

وقال أيضاً : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ) (٢).

فلو لم يكن الإذنُ الإلهيّ ما كانَ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حاكماً ولا مُطاعاً.

__________________

(١). النساء / ٨٠.

(٢). النساء / ٦٤.

٥٧

فحكومتهُ وطاعتهُ مظهرٌ لحاكمية الله وطاعته.

كما أنّ تحديدَ الوظيفَة وتشخيص التكليف بما أنّه من شُئون الربوبية ، لم يَحِقّ ولا يحقّ لأحدٍ أن يحكم بغير ما أمر اللهُ به ، وأن يقضيَ بغير ما أنزل : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) (١).

وهكذا تكون الشفاعة ومغفرة الذنوب من حقوق الله الخاصة به فلا يقدر أَحَدٌ أنْ يَشْفَعَ لأَحدٍ من دُون إذنهِ تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) (٢).

وَعَلى هذا الأَساس يكونُ شراء صُكوك الغفران وبَيعُها ، تصوّراً بأنّ لأحدٍ غير المقام الربوبي أن يَهبَ الجنّة لأحَدٍ ، أو يخلّصَ أحداً من العذاب الأُخروي كما هو رائجٌ في المسيحيّة ، أمراً باطلاً لا أساس له من الصحَّة في نظر الإسلام كما جاء في القرآن الكريم :

(فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ) (٣).

فالموَحدُ ـ في ضوء ما قلناه ـ يجب أن يعتقِدَ ـ في مجال الشريعة ـ بأنّ الله وحده لا سواه هو الحاكم والمرجع ، إلّا أنْ يعيّن الله شخصاً للقيادة ، وبيانِ الوظائف الدينية.

__________________

(١). المائدة / ٤٤.

(٢). البقرة / ٢٥٥.

(٣). آل عمران / ١٣٥.

٥٨

الأصلُ الثالِثُ والثلاثون : التوحيد في العبادة

إنّ التوحيدَ في العبادة هو الأصل المشترك والقاعدة المتفق عليها بين جميع الشرائع السماوية.

وبكلمة واحدة : إنّ الهدف الأسمى من بَعث الأنبياء والرسُل الإلهيّين هو التذكير بهذا الأصل كما يقول : (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) (١).

إِنّ جميع المسلمين يعترفون في صلواتهم اليومية بهذا الأصل ويقولون : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) (٢).

وعلى هذا الأساس فإنّ وجوبَ عبادة الله وحده ، والاجتناب عن عبادة غيره أَمرٌ مسلَّمٌ لا كلام فيه ، ولا يخالف أحد في هذه القاعدة الكلية أبداً ، وإنّما الكلام هو في أنّ بعض الأعمال والممارَسات هل هي مصداق لعبادة غير الله أم لا؟ وللوصُول إلى القولِ الفصلِ في هذا المجال يجب تحديد مفهوم العبادة تحديداً دقيقاً ، وتعريفها تعريفاً منطقياً ، بغية تمييز ما يدخل تحت هذا العنوان ويكون عبادة ، ممّا لا يكون كذلك ، بل يُؤتى به من باب التعظيم والتكريم.

لا شك ولا ريبَ في أنّ عِبادةَ الوالدين والأنبياء والأولياء حرامٌ وشركٌ ، ولكن مع ذلك يكون احترامهم واجباً وعينَ التوحيد : (وَقَضى رَبُّكَ

__________________

(١). النحل / ٣٦.

(٢). الفاتحة / ٥.

٥٩

أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) (١).

والآن يجب أن نرى ما هو العنصر الذي يميّز «العبادةَ» عن «التكريم»؟ وكيف يكون العملُ الواحدُ في بعض الموارد (مثل سجود الملائكة لآدم ، وَسُجود يعقوب وأولاده ليوسف) عينَ التوحيد ، ولكن نفسَ العمل يكونُ في مواردَ أُخرى عينَ الشرك والوثنية.

إنّ الجوابَ على هذا السؤال يتّضح من البحث السابق الذي كانَ حول التوحيد في التدبير.

إنّ العبادَة (التي نُفيت عَنْ غير الله ونُهي عنها) عبارة عن خضوع إنسانٍ أمام شيء أو شخصٍ باعتقاد أنّ بيده مصير العالم كلّهِ أو بعضه ، أو بيده اختيار الإنسان ومصيره ، وانّه مالك أمره ، وبتعبير آخر : ربّه.

أمّا إذا كان الخضوع أمام كائن ما لا بهذا الاعتقاد ، إنّما من جهة كونه عَبداً صالحاً لله ، وصاحبَ فضيلةٍ وكرامة ، أو لكونه منشأَ إحسان ، وصاحب يدٍ على الإنسان ، فإنّ مثل هذا العمل يكون مجردَ تكريم وتعظيم لا عبادةً له.

ولهذا السبب بالذات لا يوصف سجود الملائكة لآدم ، أو سجود يعقوب وأَبنائه ليوسف بصفة الشرك والعبادة فهذا السجود كان ينبع من الاعتقاد بعبوديّة آدم ويوسف إلى جانب كرامتهما ومنزلتهما عند الله ، وليس نابعاً من الاعتقاد بربوبيّتهما أو أُلوهيّتهما.

__________________

(١). الإسراء / ٢٣.

٦٠