العقيدة الإسلاميّة على ضوء مدرسة أهل البيت عليهم السلام

الشيخ جعفر السبحاني

العقيدة الإسلاميّة على ضوء مدرسة أهل البيت عليهم السلام

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


المترجم: الشيخ جعفر الهادي
الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٥٨

والإلهامُ ليس مخصوصاً بالأَنبياء ، فقد كان في طول التاريخ من الشخصيات المقدَّسة مَن كان يحظى بهذا الإلهام ، مع أنّهم لم يَكونوا أنبياء ، وقد كانت تلقى إليهم بعضُ الأسرار من عالم الغيب ، وقد أشار القرآنُ الكريمُ إلى ذلك عند ما تَحدَّثَ عن مرافق النبيّ موسى (خضر) الّذي علّم موسى بعضَ الأشياء فقال :

(آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) (١).

كما وأنّه قال في شأن شخصٍ من حاشية النبيّ سليمان عليه‌السلام (وهو آصف بن برخيا) قال :

(قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ) (٢).

إنّ هؤلاء الأشخاص لم يَتَعلَّموا علومَهم ، ولم يَكتسبُوا مَعلوماتهم من طريق التعلّم ، بل هو كما يُعَبّرُ عنه القرآنُ عِلْمٌ لَدُنّيٌّ : (عَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً).

وعلى هذا الأساس لا يكونُ عدم كون الشخص نبيّاً ، مانِعاً من أن يحظى بالإِلهام الإلهيّ ، كما يحظى بعضُ الأشخاص من ذوي الدَرَجات المعنويّة الرفِيعَة بالإلْهامِ الإلهيّ.

وقد أُطلق على هذا النَّمَط من الأشخاص في أحاديث الفريقين وصف «المُحدَّث» يعني الّذين تَتَحَدّثُ معهم الملائكةُ من دون أن

__________________

(١). الكهف / ٦٥.

(٢). النمل / ٤٠.

٣٢١

يكونوا أنبياء.

فقد رَوى البخاريُّ في صحيحِهِ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «لَقَدْ كانَ فِيمَنْ كانَ قَبْلَكُمْ مِن بَني إِسْرائِيل يُكلَّمون مِن غَيرِ أنْ يَكُونُوا أنْبِياء». (١)

من هنا كان أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ـ لكونهم مراجعَ للأُمة في بيان المعارف الإلهيّة ، والأحكام الدينيّة ـ يجيبون على الأسئلة التي لا توجَد أجوبتها في أحادِيث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو في كتاب علي عليه‌السلام ، من طريق «الإلهام» والتعليم الغيبي ، والعِلمِ اللدُنِيّ. (٢)

الأصلُ الثامنُ والثلاثون بعد المائة : تدوين الحديث

إنّ الأحاديث النَّبَويّة تحظى باعتبارٍ خاصٍّ ، مثل القرآن الكريم ، فالكتاب والسُّنّة كانا ولا يزالان من مصادر المسلمين الاعتقادية والفقهيّة.

ولقد أحجَمَ فريقٌ من المسلمين بعد رحلة النبيّ الأكرمِ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتحت ضغطٍ من السُّلُطات الحكومية بعد النبيّ ، من كتابة وتدوين الحديث ، ولكنّ أتباع أهلِ البيت عليهم‌السلام لم يغفَلوا ـ ولحسن الحَظّ ـ ولا لحظة واحدة عن تدوين الحديث ، فدوَّنُوا ، وضَبَطوا الحديث بعد رحيل النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ولقد قُلنا ـ في الأصل السابق بأنّ قِسماً من أحاديث أئمة أهلِ البيت مأخوذٌ عن الرسول الأكرم نفسه.

__________________

(١). صحيح البخاري : ٢ / ١٤٩.

(٢). راجع حول المحدَّث وتعريفه كتاب إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري : ٦ / ٩٩ وغيره.

٣٢٢

ولقد قام علماءُ مدرسة أهل البيت وعلى طول التاريخ ، بتأليف مجاميع حديثيّة كبيرة ، ومدوَّنات تضمُّ الرّوايات والأخبار ، جاءَ ذكرها في كتب الرجال ، خاصّة في القرنِ الرابعِ والخامسِ الهجريّين ، مستفيدين ـ في هذا الصعيد ـ من الكتب التي تمَّ تأليفُها وتدوينُها في عصر الأئمة عليهم‌السلام ، وعلى أيدي أصحابهم وتلامذتهم العَدِيدين.

والكتب الحديثية الجامعة المدَوَّنة التي تعتَبَرُ اليومَ محوراً للعقائد والأحكام الشيعية هي عبارة عن :

١. «الكافي» تأليف محمّد بنِ يعقوب الكلينيّ (المتوفّى عام ٣٢٩ ه‍) في ثمانية أجزاء.

٢. «مَنْ لا يَحْضرُه الفقيهُ» ، تأليف محمد بن عليّ بن الحسين بن بابويه المعروف بالصدوق (٣٠٦ ـ ٣٨١ ه‍) في أربعة أجزاء.

٣. «التهذيب» تأليف محمد بن الحسن المعروف بالشيخ الطوسيّ (٣٨٥ ـ ٤٦٠ ه‍) في عشرة أجزاء.

٤. «الاستبصار» ، تأليف المؤلف السابق ، في أربعة أجزاء.

وهذه هي ثاني مجموعة من المجاميع الحديثيّة التي دوَّنها ونَظَّمها الشيعةُ ، طوال التاريخ ، بجهودِهِمُ الحثيثة حتى القرن الرابع والخامس الهجريّين ، وقد أُلّفَتْ ـ كما ذكرنا ـ في عصر الأئمة أي القرن الثاني والثالث جوامع حديثيّة تُسمّى بِالجَوامع الأوَّليّة ، بالإضافة إلى «الأُصول الأربعمائة» وقد انتقلت محتوياتها إلى الجوامع الثانويّة.

٣٢٣

وحيثُ إنّ عِلمَ الحديث كانَ دائماً موضعَ اهتمام الشيعة ، لذلك أُلّفَت في القرنِ الحادي عشر ، والثاني عشر مجاميعُ حديثية أُخرى نترك ذكر أسمائها لعلّة الاختصار.

إلّا أنّ أكثر هذه المجاميع شهرة هو «بحار الأنوار» للعلامة محمد باقر المجلسي ، ووسائل الشيعة لمحمد بن الحسن الحرّ العاملي.

هذا ومن البديهيّ أنّ الشيعة لا تعمل بكل حديث ، ولا تعمل بأخبار الآحاد ، في العقائد ، أو التي تخالف في مضمونها القرآنَ أو السّنة القطعيّة ، وليست بحجّة عندهم ، على أنّ مجرّد وجود الرواية في كتب الحديث عندهم لا يَدلُّ على اعتقاد المؤلّف بمفاده ، بل الأحاديث تتنوَّع عند هذه الطائفة إلى صحيح وحَسَن ، وموثَّق ، وضعيف ، ولكلِّ واحدٍ من هذه الأنواع أحكامٌ خاصّة ، ودرجةٌ خاصّة من الاعتبار ، وقد جاء بيان ذلك على وجه التفصيل في علم الدراية.

الأصلُ التاسع والثلاثون بعد المائة : الاجتهاد

أشرنا فيما سبق إلى مصادر الفقه الشيعيّ الإماميّ (وهي عبارة عن الأدِلّة الأربعة : الكتاب والسُّنة والعقل والإجماع) ، وتسمّى عمليّة استنباط الأحكام الشرعيّة من هذه الأدلّة بشروطٍ خاصّة مذكورة في عِلم الأُصولِ ب «الاجتهاد».

إنّ الشريعة الإسلاميّة حيث إنَّها شريعةٌ سماويّةٌ ، ولا شريعة بعدَها قَط ، وَجَبَ أن تلبّي كلَّ الحاجات البشرية في مختلف مجالات حياتها

٣٢٤

الفرديّة والاجتماعية.

ومن جانِبٍ آخَر حيث إنَّ الحوادث والوقائع لا تنحصر فيما كان في زمن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فالتَطوُّرات المتلاحقة في الحياة تطرح احتياجات وحالات جديدة ، تحتاج كل واحدة منها طبعاً إلى حكم شرعي خاصّ.

وبالنظر إلى هذين المطلبين يكون فتح باب الاجتهاد في وجه الفقهاء على طول التاريخ أمراً ضروريّاً ، إذ هل يمكن أن يكون الإسلام الذي هو شريعة إلهية كاملة ودين جامع أن يسكتَ في الحوادثِ الجَديدة الظهور ، وأن يترك البشرية حائرة في منعطفات التاريخ والحياة ، أمام سيل الحوادث الجديدة.

كُلُّنا نَعلم بأنّ علماءَ «الأُصول» قَسَّموا «الاجتهاد» إلى قسمين «الاجتهاد المطلَق» و «الاجتهاد في مَذهَبٍ خاصٍّ».

فإذا اجتهد شخصٌ في مسلك أبي حنيفة الفقهيّ ، وسعى إلى أن يحصل على رأيه في مسألة ما ، سُمِّيَ عَمَلُه ب «الاجتهاد في المذهب».

وأمّا إذا لم يقيّدِ المجتهدُ نَفسَه بمذهبٍ معيّن وخاصّ في المذهب وسعى إلى أن يَفهَمَ الحكمَ الإلهيَّ من الأدلّة الشرعيّة (سواءً وافق مذهباً ومَسلَكاً معيَّناً أو خالفه) دُعيَ ذلك بالاجتهادِ المطلق.

ولقد أُغلق بابُ الاجتهاد المطلق ـ وللأسف ـ في وجه علماء أهل السُّنّة (١) ، وانحصر اجتهادُهم في إطار المذاهب الأربعة خاصّة ، وهو لا شك

__________________

(١). المقريزي : الخطط : ٢ / ٣٤٤.

٣٢٥

نوعٌ من تقييد عمليّة الاجتهاد ، وتضييق لدائرته.

إنّ فقهاء الشيعة اجتهدوا على أساس الكتاب والسّنة والعقل والإجماع ، وسعَوا إلى أن لا يتقيّدوا لإدراك الحقائق والمعارف الدينية بشيء ، الّا اتّباع الأدلّة الشرعيّة.

ومن هنا انتج اجتهادُهم الحيّ المتحرّك فِقهاً جامعاً ، منسجماً مع الاحتياجات البشريّة المختلفة ، المتنوعة ، المتطوّرة باستمرار ، وخلّف كنزاً علمياً عظيماً.

إنّ ما ساعد على إثراء هذا الفقه العميق المتحرّك هو المنع من تقليد الميّت ، والحكم بتقليد المجتهد الحيّ ، الذي يعرف بالمجتمع وبالزمان واحتياجاتهما ، ومستجداتهما.

إنّ الفقه الشيعيّ يوافق في أكثر المسائل نظريات الفقهاء من المذاهب الأُخرى ، وإنّ مطالعة كتابِ «الخلاف» للشيخ الطوسيّ شاهدُ صدقٍ على ذلك ، فقلّما توجَد مسألةٌ فرعيّة في الفقه الشيعيّ لا توافِق رأيَ أحد مؤسسي المذاهِبِ الأربعة ، أو من سَبَقهم من الفقهاء ، ومع ذلك فثمّة مسائل للفقه الشيعي فيها رأيٌ خاصٌ ، نشير إلى بعضها ضِمن عدّة أُصول تالية ، وسنَذكرها مع أدلّتها ، لأنّه قد يُتَصَوَّر أنّ هذه الفروع الخاصّة لا يدل عليها شيءٌ أو هي تخالف الكتاب والسُّنّة ، والحال أنّ الأمر على عكس ذلك.

٣٢٦

بَعضُ الأحكام الفقهيّة المختلَف فيها

إنَّ الدينَ الإسلاميَّ تركيبة مزيجةٌ من العقيدة والشريعة (أي من الرؤية والنظرة إلى الوجود ، ومما يجب وما لا يجب) واللّذين يُعَبَّر عنهما بأُصول الدين وفُرُوعه أيضاً.

ولقد وقفنا في الأبحاث السابقة على أُصول عقائد الشيعة بصورة برهانيّة ، كما تمَّ بيان موقف الشيعة ونظريتهم حول اعتبار أحاديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل البيت عليهم‌السلام أيضاً.

والآن يجب أن نشير باختصار إلى الأُسلوب والمنهج الفقهيّ للشيعة وإلى بعض المسائل الفقهيّة التي للشيعة فيها آراءٌ خاصّة ، وموقف خاص.

٣٢٧

الأصلُ الأربعون بعد المائة : حجّية قول الصحابي وروايته

لقد رُويَت ونُقِلَت السنّة النبويّة إلى الأجيال اللاحقة عن طريق فريقٍ مِن صَحابته ، وما رُوي من قوله ، وفعله ، وتقريره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حجةٌ إلهيّةٌ يجب اتّباعُها ، والعمل بموجبها.

فإذا روى صحابي السُّنةَ النبويّةَ وحازت تلك الرواية على كل شرائط الحجية تلقّاها الجميعُ بالقبول ولزم العمل وفقها.

وهكذا إذا فَسَّرَ أحدُ الصَّحابة لغةً من لغات القرآن ولفظاً من ألفاظه ، أو روى شيئاً من الحوادث والوقائع المرتبطة بعصر الرسالة ، أو غيرها ، قبلت روايتهُ إذا توفرت فيها الشروط المذكورة.

ولكن إذا ذَكَرَ الصحابيُّ رأيَه أو استنباطَه من آية قرآنية ، أو حديث نبويّ ، أو نُقِلَ عنه قولٌ ، ولم يتبيّن أنّ ذلك المنقول هل هو من سنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو أنّه رأي ذلك الصحابي واجتهاده الخاص ، لم يكن في هذه الحالة حجةً ، لأنّ رأي المجتهد ليس حجة على غيره من المجتهدين.

ولهذا يجب التفريق في مجال العمل بقول الصحابيّ بين رأيه واجتهاده ، وبين ما ينقله للسنّة النبوية. والشيعة الإمامية إنّما تعمل بقول الصحابي إذا روى السُّنة النبويّة.

٣٢٨

الأصلُ الواحدُ والأربعون بعد المائة : التقليد

يجب على كل مسلم أن يحصِّلَ على اليقين في المسائل التي يجب ان يعتقدها ، ولا يجوز له اتّباعُ الآخرين في هذه المسائل من دون أن يحصل له اليقين.

وحيث إنّ أُمّهات الأُصول وكلّيات المسائل الاعتقادية محدودة ومعدودة ولكلّ منها أدلةٌ عقليةٌ واضحةٌ ، لهذا فإنّ تحصيلَ اليقين للأشخاص في أُصول الدين وأساسيات العقيدة ، قضيةٌ سهلة ، في حين أنّ نطاق الفروع والأحكام الفقهية لما كان واسعاً جداً ، والعلم بها يحتاج إلى مقدمات كثيرة ، لا يقدر أغلبُ الأفراد على تحصيلها ، لهذا فإنّ على أُولئك الأشخاص ـ بحكم الفطرة ، وتبعاً لسيرة العقلاء ـ أن يرجعوا في أحكام الشريعة إلى العلماء والمجتهدين ، ليقوموا في ضوء ذلك بواجباتهم الدينية ، ووظائفهم الشرعية.

إنّ الإنسان ـ في الأساس ـ فاعلٌ عِلْمِي أي إنّه يقومُ بأعماله على أساس العلم والمعرفة ، فإذا تيسَّر له ان حَصَل بنفسه على تلك المعلومات أخَذَ بها وعمل على ضوئِها ، وإلّا استعان بغيره.

وهنا لا بدّ من أن نعلم بأنّ التقليد للمجتهد الجامع للشرائط والرجوع إليه لمعرفة الوظيفة الشرعية ، هو نوعٌ من الرجوع إلى المتخصّصِين ، ولا علاقة له بالتقليد الأعمى الناشئ من العصبيّة القوميّة ، أو العرقية أو ما شاكل ذلك.

٣٢٩

الأصلُ الثاني والأربعون بعد المائة : الوضوء

اتّفق المسلمون على أنّ الإسلام عقيدة وشريعة.

أمّا الأُولى فقد تعرفت عليها في الفصول الماضية.

أمّا الشريعة فأُصولها أربعة :

١. العبادات.

٢. المعاملات.

٣. الإيقاعات.

٤. الأحكام.

وأُصول العبادات عبارة عن الأُمور التالية :

١. الصلاة ونوافلها.

٢. الصوم الواجب والمستحب.

٣. الزكاة.

٤. الخمس.

٥. الحج.

٦. الجهاد.

٧. الأمر بالمعروف.

٨. النهي عن المنكر.

٣٣٠

هذه أُمهات العبادات والامور القُربيّة عند الإمامية طبق الشريعة الإسلامية اكتفينا بالإشارة إليها ، وأمّا المعاملات والإيقاعات والأحكام فبيانها على عاتق الكتب الفقهية.

نعم هناك أحكام ربما لا تتفق الشيعة فيها مع الآخرين ونشير إلى مهماتها وهي في الوقت نفسه أُمور فقهية.

مسح الأرجل مكان غسلها

كلُّنا نَعلمُ بأنّ الوُضوء هو أحَدُ مقدمات الصلاة فإنّنا نقرأُ في سورة المائدة قوله تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) (١).

وللفظة «الأَيدي» وهي جمع «يد» التي جاءت في جملة (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) استعمالاتٌ مختلِفةٌ في اللُّغة العربيّة فربما تُطلق ويراد منها الأصابع إلى الرسغ ، وربما يُراد منها الأصابع إلى المرافق ، وربما تُطلَق ويراد منها من رءوس الأصابع إلى الكتف. هذا أوّلاً.

وثانياً : حيث إنّ المقدار الواجب غسلُه في الوضوء هو ما بين رءوس الأصابع والمرافق ، لذلك استعمل القرآن الكريم لفظة (إِلَى الْمَرافِقِ) ليعرف المقدارَ الواجبَ غسلُه من هذين العضوين في الوضوء.

__________________

(١). المائدة / ٦.

٣٣١

وعلى هذا الأساس فانّ كلمة «إلى» في قوله تعالى : (إِلَى الْمَرافِقِ) تبين مقدار «المغسول» من اليدين لا كيفيّة غسل اليدين (أي انّ الغَسل من الأعلى إلى الأسفل أو من الأسفل إلى الأعلى) بل كيفيّة الغَسل متروكةٌ للعُرف ولعادة الناس الذين يَغسلون الأعضاءَ والجوارح عادةً من الأعلى إلى الاسفل ، وهو أمر موافق للطبيعة كذلك.

وللمثال : إنّ الطبيب حينما يأمر بغَسل رجلي المريض الى الرُّكبة نجدهم يغسلونَهما من الأعلى إلى الأسفل.

ولهذا فإنَّ الشيعةَ الإمامية تعتقد بأنّ غَسل الوَجه واليدين في الوضوء يجب ان يكون من الأعلى إلى الأسفل ، ولا يصحّحون عكس ذلك.

وثمّتَ مطلبٌ آخر في الوضوء وهي مسألة مسح الأرجل فإنّ الفقه الشيعي يقول : يجب المسح لا الغَسل ، ويدلُّ على ذلك بإيجاز ، ظاهرُ الآية السادسة من سورة المائدة التي تبيّن أن هناك وظيفتين في الوضوء إحداهما «غَسلٌ» والأُخرى «مسحٌ». والغَسل للوجه واليدين ، والمسح للرأس وللرجلين.

١. (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ).

٢. (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ).

ولو أنّنا عرضنا هاتين الجملتين على أيّ عربي أصيل غير عارفٍ بمذهبٍ فقهي خاصٍ ، ولا مطّلع على موقف اجتهاديّ معيّن ، وطلبنا منه

٣٣٢

أن يبيّن المرادَ منها ، لقال من دون تردّد : إنّ وظيفتنا وفق هذه الآية عملان ، أحدهما : الغَسل وهو للوَجه واليدين ، والآخر : المَسح وهو للرأس والرجلين.

ومن حيث القواعد العربية فإنّ لفظة (أَرْجُلَكُمْ) يجب أن تُعطف على كلمة «رؤسكم» فتكون النتيجة هي مسح الأرجل ولا يجوز عطفها على الجملة الأسبق وهي («فَاغْسِلُوا ... وَأَيْدِيَكُمْ) التي تكون نتيجته غسل الأرجل لأنّ العطف على أيديكم يستلزم الفصل بين المعطوف وهو (أَرْجُلَكُمْ) والمعطوف عليه وهو (وَأَيْدِيَكُمْ) بجملة معترضة وهي (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) وهو غير صحيحٍ من حيثُ القواعِدِ النَّحوية العربيّة ، ويوجب الالتباس في المقصود.

كما أنّه لا فرق في هذه المسألة بين قراءة (أَرْجُلَكُمْ) بالجر أو النصب ، فعلى كلتا القراءتين يجب عطف (أَرْجُلَكُمْ) على «رؤسكم» مع فارقٍ واحد وهو أن في الأوّل يكون العطفُ على اللَّفظ والظاهر ، وفي الثاني يكون العطفُ على المحلّ.

وبعبارة أُخرى ؛ إذا عُطِفتِ أرجلكم على لفظ رءُوسِكم قُرئت بالجرّ ، واذا عُطِفَت على المحلّ (وهو المَفعولية) قرِئَت بالنصب.

والرّوايات المتواترة الواردة عن أهل البيت عليهم‌السلام تحكي عن أنّ «الوضوء» يتألّف من شيئين هما : «غسلتان» و «مسحتان» وقد روى الإمام الباقر عليه‌السلام في حديث بيّن فيه وضوءَ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ النبيَّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانَ يمسح على رِجليه.

٣٣٣

هذا والجديرُ بالذِّكر أنّه لم يكن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام هم وحدهم الذين يمسحون على الأرجل عند الوضوء ، بل كان فريق من الصحابة والتابعين يرَون هذا الرأي ويذهبون هذا المذهب أيضاً.

وليست أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام منفردين في هذا القول بل وافقهم فيه لفيف من الصحابة والتابعين.

أمّا الصحابة ، فمنهم :

١. الإمام علي بن أبي طالب عليه‌السلام.

٢. عثمان بن عفان.

٣. عبد الله بن عباس الصحابي.

٤. النزال بن سبرة الهلالي.

٥. رفاعة بن رافع بن مالك البدري.

٦. أنس بن مالك بن نضر خادم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٧. تميم بن زيد المازني الذي له صحبة.

٨. أبو مالك الأشعري : الصحابي.

وأمّا من التابعين ، فنذكر منهم :

٩. الإمام الباقر محمد بن علي بن الحسين عليه‌السلام.

١٠. بسر بن سعيد المدني.

١١. حمران بن أبان مولى عثمان بن عفان.

٣٣٤

١٢. عبد خير بن يزيد الكوفي التابعي.

١٣. عباد بن تميم الخزرجي.

١٤. أوس بن أبي أوس الثقفي.

١٥. عامر شراحيل بن عبد الشعبي.

١٦. عكرمة مولى ابن عباس.

١٧. عروة بن الزبير القرشي.

١٨. قتادة بن عزير البصري.

١٩. موسى بن أنس بن مالك قاضي البصرة.

٢٠. حصين بن جندب الكوفي التابعي.

٢١. جبير بن نفير بن مالك بن عامر الحضرمي.

٢٢. إسماعيل بن أبي خالد البجلي الأحمصي.

٢٣. عطاء القداحي.

إلى غير ذلك ممّن ذكرنا أسماءهم في رسالة مخصَّصة بحكم الأرجل في الوضوء. (١)

ولكن سنة مسح الأرجل هذه تبدَّلت إلى الغَسل فيما بعد لأسباب خاصّة جاء ذكرها في الكتب الفقهيّة.

وقد قال ابن عباس الوضوء غسلتان ومسحتان (٢).

__________________

(١). لاحظ رسالة حكم الأرجل في الوضوء ، ص ٦١ ـ ٦٨.

(٢). تفسير الطبري : الجزء ٦ / ٨٢.

٣٣٥

الأصلُ الثالث والأربعون بعد المائة : ما يصح السجود عليه

تعتقد الشيعة بأنّه يجب السجود في حال الصلاة على الأرض وما ينبت منها بشرط أن لا يكون مأكولاً ولا ملبوساً ، وأنّه لا يصحُّ السجود على غير ذلك في حال الاختيار.

فقد روي في حديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ونَقَلَهُ أهلُ السُّنة أنّه قال : «وجُعِلَتْ لِيَ الأرضُ مَسْجِداً وَطَهُوراً» (١).

وكلمة «الطهور» التي هي ناظرة إلى التيمّم تفيد أنّ المقصودَ من الأرض هو الأرض الطبيعيّة التي تتمثل في التراب والصخر والحصى وما شابهها.

ويقول الإمام الصادق عليه‌السلام أيضاً : «السجودُ لا يَجُوز إلّا عَلى الأَرض أو عَلى ما أنبَتت الأرضُ إلّا ما أُكِلَ أو لُبِس» (٢).

ولقَد كانت سِيرةُ المسلمين في عصر الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هي السجود على أرض المسجد التي كانت مفروشة بالحصى ، وعند ما كان الجوّ حارّاً جداً بحيث كان السجود على الحصى أمراً عسيراً ، كانَ يسمح لهم بأن يأخذوا الحصى في أكفهم لتبريدها ، حتى يمكنهم السجودُ عليها.

يقول «جابرُ بنُ عبد الله» الأنصاري : كنتُ أُصلّي مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١). صحيح البخاري : ١ / ٩١ ، كتاب التيمم ، الحديث ٢.

(٢). وسائل الشيعة ، ج ٣ ، الباب ١ من أبواب «ما يُسجَد عليه» الحديث الأوّل ، ص ٥٩١.

٣٣٦

الظُّهر فآخذ قبضةً من حصى في كفّي لِتبرُدَ حتى أسجدَ عليه من شِدّة الحر. (١)

وتجنَّبَ أحد الصَّحابة عن تتريب جبهته عند السجود ، فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ترّب وجهك» (٢).

كما انّه إذا كان أحدٌ من الصحابة يسجد على كور العمامة أزاح النبيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيده عمامته عن جبهته. (٣)

إنّ هذه الأحاديث كلَّها تشهَد بأنّ وظيفة المسلمين في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانت في البداية هي السجودُ على الترابِ والحصى ، ولم يسجدوا على الفراش أو اللباس أو على طرف العمامة ، ولكن النبيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أُبلغ عن طريق الوحي الإلهي فيما بعد أنّه يمكنه السجودُ على الحصير والخُمرة أيضاً وثمت رواياتٌ عديدةٌ وكثيرةٌ تحكي عن سجود النبيّ على الحصير والخُمرة. (٤)

إنّ الشيعة الإمامية كانوا لا يزالون مقيّدين بهذا الأصل ، فهم كانوا ولا يزالون يسجُدون فقط على الأَرض ، أو ما ينبتُ من الأرض من غير المأكول والملبوس كالحصير المصنوع من سَعْف النَّخْل ، أو القَصَب ، ويرجع إصرارهم على السجود على التراب أو الحصى والصخر أو

__________________

(١). مسند أحمد : ٣ / ٣٢٧ ، حديث جابر ، سنن البيهقي : ١ / ٤٣٩.

(٢). كنز العمّال : ٧ / ٤٦٥ ، رقم الحديث ١٩٨١٠.

(٣). راجع سنن البيهقي : ٢ / ١٠٥.

(٤). مسند أحمد : ٦ / ١٧٩ ، ٣٠٩ ، ٣٣١ ، ٣٧٧ ، و ٢ / ١٩٢ ـ ١٩٨.

٣٣٧

الحصير إلى هذه الأدلّة الساطعة.

ثمّ إنّ من الأفضل أن تكون المساجدُ في البلاد الإسلامية على نحو يمكن لأتباع جميع المذاهب المختلفة العمل بوظائفهم دون حرج.

وفي الخاتمة ؛ لا بد أن نُذكّر بهذه النقطة وهي أنّ التراب والحجر هو في الحقيقة «مسجودٌ عليه» وليس «مسجوداً له» فالشيعة يسجدون على التراب والحجر لا أنّهم يسجدون لهما.

وربما يُتصوّر أحد خطأً أنّ الشيعة يسجدون للتراب والحجر في حين انّهم إنّما يسجدون لله تعالى تماماً مثل جميع المسلمين ويضعون جباههم على التراب تذلّلاً لله تعالى ويقولون سبحانَ ربّي الاعلى وبحمده.

الأصل الرابع والأربعون بعد المائة : الجمع بين الصلاتين

يَجبُ على كلّ مسلم أن يصلّيَ لله كلّ يومٍ وليلةٍ خمسَ مرّات في الأوقات الشرعيّة التي بيّنها الله تعالى ورسولهُ الكريم في القرآن والسُّنة.

فوقت صلاة الظهر والعصر يَبدَأُ من الزَّوالِ إلى الغُروب ، ووقتُ صَلاةِ المغرب والعشاء يبدأ من المغرب إلى منتصف اللَّيْل ، ووقتُ صلاة الصُّبح يبدأ من طلوع الفجر إلى طلوع الشَّمس.

إنّ الشيعة تعتقد بأنّ الظُّهر إلى المغرب هو الوقت المشترك بين الصَّلاتين ، إلّا بمقدار أربع ركعات من أوّل الوقت ، فهو وقت مختص

٣٣٨

بصلاة الظهر ، وبمقدار أربعة ركعات من آخرِ الوقتِ فهو وقتٌ مختصٌ بصَلاةِ العَصر.

وعلى هذا الأَساس يجوزُ للإنسان الإتيانُ بكلتا الصَّلاتين : الظُّهرِ والعصرِ في الوقت المشتَرَك (أمّا في وقت الظهر ووقت العصر فلا يجوز إلّا الإتيان بالصلاة المختصّة به فيه) وإن كان الأفضل أن يفصلَ بين الظهرين والعشائين ، ويأتي بكلّ واحدةٍ منهما في وقتِ فضيلتها التي ستُذكر فيما بعد (١) ولكنه في نفس الوقت يجوز الجمعُ بينهما ، وترك وقت الفضيلة.

يقول الإمامُ الباقرُ عليه‌السلام : إذا زالتِ الشَّمسُ دَخَلَ الوقتان الظهرُ والعصرُ ، وإذا غابتِ الشمسُ دخلَ الوقتان المغربُ والعشاءُ الآخرة (٢).

وقال الإمامُ الصادق عليه‌السلام : «إذا زالَتِ الشَّمسُ فَقَدْ دَخَلَ وَقتُ الظُّهرِ والعَصرِ جميعاً ، إلّا أنَّ هذِهِ قبلَ هذهِ ، ثمّ إنّه في وقت منهما جميعاً حتى تغيبَ الشمسُ» (٣).

ويُخبرُ الإمامُ الباقر عليه‌السلام عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه كان يَجمعُ بين الظُّهر والعَصر مِن دون عذر أو علة. (٤)

__________________

(١). وقت فضيلة صلاة الظهر من أوّل زوال الشمس إلى الوقت الذي يصير فيه ظلّ الشاخص بمقدار نفسه ، ووقت فضيلة صلاة العصر كذلك عند ما يصير ظل الشاخص ضعفي مقداره.

(٢). وسائل الشيعة : ج ٣ ، أبواب المواقيت الباب ٤ ، الرواية ١.

(٣). وسائل الشيعة : ج ٣ ، أبواب المواقيت ، الباب ٤ ، الرواية ٤ و ٦.

(٤). نفس المصدر.

٣٣٩

إنّ جوازَ الجمع بين الصلاتين (الظّهرين ، والعِشائين) موضعُ اتّفاق بين جميع فقهاء الإسلام ، فجميع الفقهاء يجوّزُون الجمع بين الصلاتين : الظُّهر والعَصر في عرفة والمغرب والعشاء في المزدلفة.

كما أنّ فريقاً كبيراً من فُقَهاءِ أهل السُّنّة يجوّزُون الجمعَ بين الصَّلاتين في السَّفر.

وما يَختلفُ فيه الشيعةُ عن الآخرين هو أنّهم يتوسَّعُون في هذه المسألة استناداً إلى الأدِلّة السّابقة (مع القبول بأفضلية الإتيان بالصلوات الخمس في أوقات فضيلتها والقول به وترجيحِهِ) فيجوّزُونَ الجمعَ بين الصَّلاتين مطلقاً.

وحكمة هذا الأمر هي ـ كما جاء في الأحاديث ـ التوسعة على المسلمين والتخفيف عنهم ، وقد جَمَعَ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفسُه في مواضع كثيرة بين الصَّلاتين من دون عذر (كالسَّفر ، والمرض وغيرهما) ليخفّف بذلك عن المسلمين ، ويوسّعَ عليهم ، حتى يستطيع ان يجمع بينهما كلُّ من شاءَ أنْ يجمع ، ويُفرِّقَ بَينهما كلُّ من شاءَ أنْ يفرّق.

فقد رَوى مُسْلم في صحيحه الحديث الآتي : «صَلّى رسولُ الله الظُّهرَ والعَصرَ جميعاً ، والمغرب والعِشاء جميعاً في غير خوف ولا سَفَرٍ» (١).

وقد أُشير في بعض الرّوايات إلى حِكمة هذا العمل.

__________________

(١). صحيح مسلم : ٢ / ١٥١ ، باب الجمع بين الصلاتين في الحضر.

٣٤٠