العقيدة الإسلاميّة على ضوء مدرسة أهل البيت عليهم السلام

الشيخ جعفر السبحاني

العقيدة الإسلاميّة على ضوء مدرسة أهل البيت عليهم السلام

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


المترجم: الشيخ جعفر الهادي
الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٥٨

١. قالَ رسولُ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يُؤمِنُ عَبْدٌ حَتّى أكونَ أحبَّ إليه من نَفْسِهِ وَتكونُ عِترتي أحبَّ إليه من عِترَتِهِ ويكون أهلي أحبَّ إليه من أَهْلِهِ» (١).

٢. وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حديثٍ آخر : «مَنْ أحبَّهُمْ أحَبَّهُ الله ، ومَنْ أبْغَضَهُمْ أبغضَهُ اللهُ» (٢).

إلى هنا تَعَرّفنا على أَدلّة هذا الأصل (وهو لزوم محبّة النبيّ وعترتِهِ ومودّتهم) والآن ينطرح السؤالان التالِيان :

١. ما هي الثمرة الّتي تجنيها الأُمّةُ من مودَّة النبيّ وعترته؟

٢. ما هي كيفيَّة مَودّةِ النبيّ وعترتهِ؟

لا بدّ في هذا المجال أن نذكرَ أنّ محبّة الإنسانِ الفاضِل الكامِل ومودَّته توجب بنفسها صعودَ الإنسان في مدارج الكمال ، فإنَّ الإنسان إذا أحبّ شخصاً من صميم قلبه سعى إلى التشبّه به في حركاته وسكناته ، وتحصيل ما يُسرّ ذلك الشخص في نفسه وذاته ، وترك ما يؤذيه ويزعجه.

ومن الواضح أنَّ وجودَ مثلَ هذه الروحيّة في الإنسان توجب التحوّل فيه ، وتبعَثُه على سلوكِ طريقِ الطاعة واجتنابِ طريقِ المعصيَة دائماً.

إنّ الّذي يُظهرُ التعلُّقَ بأحدٍ ويتظاهر بمودته بينما يخالِفه في مقام العمل يفتقد المحبَّةَ الحقيقيّة.

__________________

(١). مناقب الإمام أمير المؤمنين تأليف الحافظ محمد بن سليمان الكوفي ج ٢ ح ٦١٩ و ٧٠٠ ؛ وبحار الأنوار ج ١٧ ص ١٣ ؛ وعلل الشرائع الباب ١١٧ ح ٣.

(٢). مناقب الإمام أمير المؤمنين تأليف الحافظ محمد بن سليمان الكوفي ج ٢ ح ٦١٩ و ٧٠٠ ؛ وبحار الأنوار ج ١٧ ص ١٣ ؛ وعلل الشرائع الباب ١١٧ ح ٣.

٣٠١

وقد نُسِب بيتان من الشعر إلى الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام جاءت الإشارة فيهما إلى هذه النقطة ، إذ يقول :

تعصي الإله وأنتَ تُظْهِرُ حُبَّهُ

هذا لَعمري في الفعالِ بَديعُ

لَو كانَ حُبُّكَ صادِقاً لأَطعتهُ

إنّ المحبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيْعُ (١)

والآن ـ وبعد أن تَبَيَّن بعضُ ثمرات مودّةِ النبيّ وعترتِه ـ يجب أن نشيرَ إلى أُسلوب إظهار تلك المودة.

لا شك أنّ المقصودَ من «الحبّ» ليس هو الحبُّ الباطنيّ العاريّ عن أيّ عمل يناسبُه ، بل المقصودُ هو المودّة التي تَظهَر آثارُها المناسبة على قول الإنسان وفعله.

ومن أحد الآثار البارزة لمحبّة النبيّ وآله الطاهرين هو اتّباعه العمليّ كما مرّت الإشارة إلى ذلك ، ولكن الحديث هنا هو عن الآثار الأُخرى لهذه الحالة الباطنية ، وتتمثل في كلّ ما يعدّه الناس من الأقوالِ والأفعال ، علامةً للحبّ والمودّة تحتَ هذه القاعدة ، شريطة أن يكون تكريم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعملٍ مشروعٍ لا بعملٍ حرامٍ.

وعلى هذا فإنّ تكريمَ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته عليهم‌السلام في كلّ زمانٍ ، وبخاصة في مواليدهم أو وَفياتهم ، يتحقّق بإظهار المودة لهم وإبراز التكريم لشَخصيّاتِهم.

فالاحتفال بمواليدهم وإشعال المصابيح ونصب الأَعلام والرّايات

__________________

(١). سفينة البحار : ١ / ١٩٩.

٣٠٢

الملونة ، ونشر معالم الزينة ، وإقامة مجالس تُعرَضُ فيها فضائلُ النبيّ أو أهل بيته يُعدّ آيةَ المودة وعلامة المحبّة لهم ، وعلى هذا الأَساس كان تكريمُ النبي في يوم مولِدهِ سنّةً مستمرةً بين المسلمين.

يقول القسطلاني في كتابه «المواهب اللدنيّة» : ولا يزال أهل الإسلامِ يَحتَفلون بشهر مولده عليه‌السلام ، ويعملون الولائم ، ويتصدّقون في لياليه بأنواع الصدقات ، ويظهرون السرور ، ويزيدون في المبرّات ، ويعتنون بقراءة مولده الكريم ، ويظهر عليهم من بركاتِه كل فضلٍ عميم. (١)

الأصلُ الثاني والثلاثون بعد المائة : إقامة مجالس العزاء

من البيان السابق اتّضَحَت فلسفةُ وحكمةُ إقامة مجالس العزاء ، والمآتم لأئمةِ الدّين ، لأنّ إقامةَ مثل هذه المجالس من أجل ذكر مصائبهم وبيان ما جرى عليهم من المحَن في سبيل الدين ، هو نوعٌ من أَنواع إظهار المودَّة والمحبَّة لهم. فإذا ما بكى يعقوبُ لِفِراق وَلَدِهِ العزيز «يوسف» سنيناً عديدة ، وذرف دموعاً كثيرة (٢) فإنّ ذلك نابعٌ مِن محبته وعلاقتِهِ القَلبيّة بابنِهِ.

وإذا ما بكى محبُّو أهلِ البيت في مُصابهم بسبب علاقتهم القلبيّة بهم ، وحبّهم العميق لهم ، فإنّهم يتّبعون في هذا العمل النبيّ يعقوبَ عليه‌السلام.

إنّ إقامة مجلس في مصاب الأحبّة والبكاء لفقدانهم هي في الأساس

__________________

(١). المواهب اللدُنيّة ، ج ١ ص ٢٧ ؛ وفي تاريخ الخميس ج ١ ص ٢٢٣ مثله.

(٢). لاحظ يوسف / ١٨٤.

٣٠٣

عملٌ أسَّسَهُ رسولُ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وذلك عند ما سمع نساء الانصار يبكين قتلاهن في معركة «أحُد» ، فقال وهو يَذكر عمّه «حمزة» سيد الشهداء : «وَلكِنَّ حمزة لا بواكي له» (١).

وعند ما عرف أصحابُ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم برغبته في إقامة مجلس العزاء لعمّه «حمزة» أمروا أزواجهم بأن يبكين على قتلاهم الشهداء وعلى «حمزة» ويقمن مجلس العزاء له ، فأُقيم مجلسٌ لذلك الغرض فلمّا بلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما فعلَهُ الأنصارُ وأزواجهم شكَرَهُم على ذلك ، ودعا في حقّهم قائلاً : «رَحم اللهُ الأنصار» ، ثمّ طلب من أصحابه من الأنصار بأن يأمُروا أزواجهنّ بأن يَعدن إلى منازِلِهنّ (٢).

وثمة روايات عديدة تكاد تبلغ حدّ التواتر تعرب عن أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكى على الحسين سبطه الأصغر لما يلمَّ به وبأهله وأنصاره على أيدي الفئة الباغية ، في وقعة كربلاء ، كما يلاحظ ذلك من يراجع كتاب «الصواعق المحرقة» لابن حجر و «نور الأبصار» للشبلنجي الشافعي ، و «المستدرك على الصحيحين» للحاكم النيسابوري ٣ : ١٧٦.

كما رثاه وبكاه طائفة من علماء الإسلام من سنة وشيعة وانشأوا في مصابه القصائد المطوّلة.

فهذا الإمام الشافعي يقول :

__________________

(١). سيرة ابن هشام : ١ / ٩٩.

(٢). المصدر السابق ؛ وإمتاع الاسماع : ١١ / ١٦٤.

٣٠٤

تأوّب قلبي فالفؤاد كئيب

وأرّق نومي فالسهاد غريب

إلى أن يقول :

فمن مُبلغٌ عَنّي الحسينَ رسالةً

وإن كَرِهَتْها أنفسٌ وقلوبُ

ذَبيحٌ بلا جُرمٍ كأنَّ قميصَه

صَبِيغ بماءِ الأُرجوان خضيبُ (١)

هذا مضافاً إلى أنّ لإقامة المآتم ومجالس العزاء للشهداء في سبيل الحق فلسفة هامّة أُخرى وهي أنّ إحياء ذكراهم يوجب الحفاظ على عقيدتهم التي قُتلوا من أجلها ... تلك العقيدة التي يتكوّن جوهرُها من التفاني في سبيل الدين وعدم الخضوع للذُلّ ، والهوان وهم يردّدون شعار «الموت في عزّ خيرٌ من الحَياة في الذلّ» ويجدّدون في كلّ يوم عاشوراء هذا المنطق العظيم ويتعلم الشعوب والأُمم دروساً حيويّة من نهضتهم وثورتهم الكبرى.

الأصل الثالث والثلاثون بعد المائة : صيانة الآثار الإسلامية

يسعى كلُّ العقلاء في العالَم في حفظ آثار عظمائهم ، وأسلافِهمْ ، ويحمونها من الاندثار والزوال بحجة كونها «تراثاً فكرياً» وآثاراً حضاريّة ، وتجتهدُ الأُممُ المتحضّرة والراقية في حفظ الآثار الوطنيّة القديمة وما خلّفه أسلافُها من مفاخر جديرة بالاعتزاز ، لأنّ آثار الأسلاف هي في

__________________

(١). ديوان الإمام الشافعي قافية الباء. وراجع للوقوف على المزيد في هذا المجال : سيرتنا وسنتنا للعلّامة الأميني.

٣٠٥

الحقيقة حلقة الوصل بين القديم والجديد ، والماضي والحاضر ، وهي ترسم حركة الشّعوب والأُمم في مسار التقدّم والرقيّ ، وتضيء لها الطريق ، والسبيل.

ثمّ إنّ الآثارَ القديمةَ إذا كانت ترتبط بالرسلِ والأنبياء فانّ الحفاظَ عليها وحراستَها ـ مضافاً إلى ما ذُكِرَ من الفائدة ـ تساعد بصورةٍ قويةٍ في المحافظة على اعتقاد الناس وإيمانهم بأُولئك الرسُل والأنبياء ، ويكون لها أبلغ الأثر في تقوية دعائِمها ، وتجذيرها وتأصيلها ، بينما يؤدّي زوالُها ، واندثارها بعد مدّة إلى انقداح روح الشك ، والريب في نفوس أتباعهم ، ويعرض أصلَ الموضوع لخطر الغموض ، والإبهام ، والنسيان والضياع.

وللمثال نشير إلى المجتمع الغربي ، فإنّ الناس في هذا المجتمع وإن اصطبغت حياتهم بالصبغة الغربية ، وأخذوا بآدابها وأخلاقها تماماً ، ولكنهم في مجال العقيدة مدّوا أيديهم نحو الشرق ، واعتنقوا الدين المسيحي وخضعوا لسلطانه ردحاً من الزمن بيد أنّهم مع تغيّر الأوضاع ، وتنامي روح البحث والتحقيق لدى الشباب الغربيّ بدأ الشك والترديد يدَبُّ في نفوسهم ، وباتوا يشكّون في أصل وجود السيد «المسيح» إلى درجة أنّهم على أثر عدم وجود آثار ملمُوسة من السيّد «المسيح» عادوا يعتبرونه أُسطورةً تاريخيّةً.

في حين أنّ المسلمين ظلّوا في منأى عن مثل هذه الحالة ، فقد حافظوا على طول التاريخ وبكلّ فخر واعتزاز على الآثار المتبقّية من

٣٠٦

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبنائه من خطر الاندثار ، والزوال بسبب الحوادث.

فالمسلمون يَدّعُون أن شخصيّة نبيلة طاهرةً اختيرت قبل أربعة عشر قرناً للنبوة وللرسالة ، وقام ذلك النبي بمعونة برنامجه الراقي جداً بإصلاح المجتمع ، وأوجد في ذلك المجتمع تحوّلاً عظيماً ، وانقلاباً عميقاً ، وأسّس حضارة كبرى لا يزال المجتمع يستفيد من معطياتها ، وثمارها ، ولا سبيل للشك قط في وجود مثل هذه الشخصيّة المُصلِحة ، ولا في الحضارة التي أسّسها وأرسى قواعدها ، لبقاء آثاره إلى هذا اليوم ، فمحل ولادته ، ومكان عبادته ومناجاته ، والنقطةُ التي بُعثَ فيها ، والنقاط الأُخرى التي ألقى فيها خُطَبَه ، والأماكن التي دافع فيها عن عقيدته ورسالته ، والرسائل التي تبودلت بينه وبين ملوك العالم وحكام الدُّول في عصره ، والعشرات بل المئات من آثاره ، والعلائم الدالة عليه ، باقية من دون أنْ تمسّها يدُ التغيير ، ومن دون أن تطالها معاول الزوال ، فهي محسوسةٌ ومشهودة للجميع.

وهذا البيان يمكن أن يوضّح أَهميّة حفظ الآثار من جهة التفكير الاجتماعي ودورها في هدايته وقيادته.

وهو أمر أيّدته النصوص القرآنية وسيرة المسلمين ، فقد قال تعالى في القرآن الكريم :

(فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ* رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ

٣٠٧

الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ) (١).

وليس المراد من لفظِ «البيوت» الواردِ في هذه الآية «المساجد» لأنّ البيوت جاءَ في القرآن الكريم في مقابل المساجد ، لأنّ «المسجد الحرام» غير «بيت الله الحرام» فالبيوتُ في هذه الآية يراد منها بيوتُ الأنبياء ، وخاصة بيت الرسولِ الأكرم محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وذرّيته الطاهرة.

فقد روى السيوطي في تفسيره «الدر المنثور» : عن أنس بن مالك ، وبرَيدة ، قالَ : قرَأَ رسولُ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذه الآية ، فقام إليه رجلٌ فقال : أيُّ بُيوتٍ هذِهِ يا رسُول اللهِ؟ قال : «بيوت الأنبياء».

فقام إليه أبو بكر فقال : يا رسول الله هذا البيت منها؟ مشيراً إلى بيت علي وفاطمة ، قال : «نعم من أفاضلها» (٢).

والآن ـ بعد أنْ اتّضح المرادُ من «البيوت» ـ لا بد من توضيح المراد من «ترفيع البيوت».

إنّ هناك احتمالين في هذا المجال :

١. الترفيع : بمعنى بناءِ البيوت وتشييدها ، كما جاء بهذا المعنى في قوله تعالى :

(وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ) (٣).

__________________

(١). النور / ٣٦ ـ ٣٧.

(٢). تفسير الدر المنثور ج ٥ ، ص ٥٠.

(٣). البقرة / ١٢٧.

٣٠٨

٢. الترفيع : بمعنى احترام تلك البيوت وحراستها ، والمحافظة عليها.

فعلى المعنى الأوّل ، حيث إنّ بيوت الأنبياء قد بُنِيَت قبلَ ذلك ، لهذا لا يمكن أن يكون المراد من الترفيع في الآية الحاضرة هو إيجاد البيوت ، بل المراد هو حفظها من الانهدام والزوال.

وبناءً على المعنى الثاني ، يكون المراد من حفظ تلك البيوت هو ـ مضافاً إلى صيانتها من الخراب والانهدام ـ حفظها من أيّ نوع من أنواع التلوث المنافي لقداستها وحرمتها.

وعلى هذا الأساس يجب على المسلمين السعيُ في تكريم ، وحراسة البيوت المرتبطة بالرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعليهم أنْ يعتبروا هذا العمل أمراً قربيّاً ، أي مقرّباً إلى الله سبحانه.

ثمّ إنّه يُستفاد من الآية التي تدورُ حول أصحاب الكهف أنّه عند ما اكتُشفَ موضعُ اختفائهم ، اختلف الناس في كيفية تكريمهم فصاروا فريقين :

فريق قالوا : يجب البناء على قبرهم بغية تكريمهم.

وفريق آخر قالوا : يجب بناء مسجد على مرقدهم ، وقد أخبر القرآنُ الكريم بكلا الاقتراحين ، وكلا الرأيين ، ولو كان هذا العمل ، أو ذلك مخالفاً لأُصول الإسلام لأخبر بهما بنحوٍ آخرٍ ، ولتناوَلهما بالنقد. ولكنه رواهما من دون نقدٍ ، إذ قال :

٣٠٩

(إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً) (١).

إنّ هاتين الآيتين (مع ملاحظة سيرة المسلمين المستمرة من عصر رسول الإسلام إلى هذا اليوم والمستقرة على حفظ هذه الآثار ، والمحافظة على البيوت المرتبطة برسول الله وأهل بيته المطهرين وحراستها) دليل واضحٌ وبرهان قاطع على كون هذا الموقف موقفاً إسلامياً ، وأصلاً شرعياً.

ولهذا تقوم مسألة تعمير مراقد الأنبياء ـ وبصورة خاصّة مراقد رسولِ الله وعترتهِ الطاهِرة صلوات الله عليهم ـ وبناءِ المساجد عليها ، أو إلى جانبها ، على أساس هذا الأصل الإسلامي.

الأصلُ الرابع والثلاثون بعد المائة : زيارة قبور المؤمنين

تُعتبر زيارةُ قبور المؤمنين ، وبخاصّة قبور الأقرباء والأبناء منهم ، من الأُصول الإسلامية التي تنطوي على آثار تربويّة في نفس زائريها ، وذلك لأنّ مشاهدة تلك الديار الصامتة التي يرقد فيها أُناس كانوا قبل ذلك يعيشون في الدنيا ، ويقومون بمختلف النشاطات ، ولكنّهم أصبحوا بعد حين أجداثاً خامدة ، وجثثاً هامدة ، جديرة بأن تهزَّ الضمير ، وتوقظ القلوب ، وتنبّه الغافلين ، وتكون درس عبرة لا ينسى.

__________________

(١). الكهف / ٢١.

٣١٠

فإنّ من يشاهد هذا المنظر سيحدّث نفسه قائلاً : وما قيمة هذه الحياة الدنيا التي سرعان ما تنتهي ، وتكون مآلُها موت الإنسان ورقوده تحت التراب.

هل يستحق العيش في مثل هذه الدنيا الفانية أن يقوم فيها الإنسانُ من أجله بأعمالٍ ظالمة ، وممارسات فاسدةٍ؟

إنّ هذا التساؤل الذي يواجهه ضميرُ الإنسان المفكّر في مصير البشر ، سيدفع به إلى إعادة النظر في سلوكه وممارساته ، وسيؤدِّي ذلك إلى حصول تحوّلٍ كبيرٍ في روحه ونفسه.

وقد أشارَ رسولُ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى هذا الأثر الهامّ ، إذ قال في حديث شريف : «زُورُوا القبورَ فإنّها تذَكِّرُكُم بِالآخِرَةِ» (١).

ثمّ إنّه مُضافاً إلى هذا تُعتبر زيارةُ مراقد أئمة الدين وقادته نوعاً من الترويج للقيم الدينيّة ، والمعنويّة ، كما أنّ اعتناءَ الناس بمراقد أُولئك الشخصيّات سيُقوّي لديهم الفكرة التالية ، وهي أنّ الحالة المعنوية التي كانت تلك الشخصيات تتمتّع بها هي التي جذبت قلوب الناس إليهم ، وهي التي رفعتهم إلى تلك المنزلة العظيمة التي حازوا بها احترام الناس وتكريمهم لهم ، إذ رُبّ رجال من أصحاب السلطان والقوّة يرقدون تحت التراب دون أن يحظوا بمثل هذه العناية والاحترام من قِبَل الناس.

ولقد كانَ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يذهبُ في أُخريات حياته إلى البقيع ،

__________________

(١). سنن ابن ماجة ج ١ ، باب ما جاء في زيارة القبور ، ص ١١٣.

٣١١

ويستَغْفر لأصحاب القبور ، ويقول : «أَمَرَني رَبّي أنْ آتي البَقيعَ وأستَغْفِرَ لَهمْ» ثمّ قالَ : إذا زُرْتُمُوهُمْ فقولوا :

«السلامُ على أهْلِ الدّيارِ مِنِ المُؤمِنِين والمُسْلِمين يَرحَمُ اللهُ المُسْتقدِمِينَ مِنّا والمُسْتَأخِرِين ، وإنّا إنْ شاءَ الله بكم لاحِقُون» (١).

وقد اعتُبرت زيارَةُ قُبور أولياء الله وأئمّة الدين ـ في كُتبِ الحديث ـ من الأعمال المستحبَّة المؤكدة ، وكان أئمة أهلِ البيت يَذهَبُون دائماً لزيارة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وغيرهم من الأئمة المتقدمين عليهم ، وكانوا يحثُّون أتْباعَهم على هذا العمل.

الاصلُ الخامسُ والثلاثون بعد المائة : المنع عن الغلو

«الغُلُوّ» في اللُّغة هو التجاوز عن الحدّ ، وقد خاطب القرآنُ الكريمُ أهلَ الكتاب قائلاً :

(يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ) (٢).

ولقد خاطَبهم القرآنُ بهذا الخطاب لأنّهم كانُوا يغالُون في حق السيّد «المسيح» ويتجاوزون الحدّ ، إذ يقولون إنّه إلهٌ ، أو ابنُ الله ، أو ربّ.

وقد ظَهَرتْ بعد وفاةِ رسولِ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فرقٌ وطوائفُ غالَت فيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو في الأئمة المعْصُومين ، من بعده وتجاوزت الحدَّ ، ووصفوهم بمقامات

__________________

(١). صحيح مسلم ، ج ٢ ، باب ما يقال عند دخول القبور ، ص ٦٤.

(٢). النساء / ١٧١.

٣١٢

مختصَّة بالله وحده ، ومن هنا سُمّي هؤلاء بالغُلاة ، لتجاوزِهم حدود الحق.

يقولُ الشيخُ المفيد رحمه‌الله : «الغُلاة من المتظاهرين بالإسلام همُ الذين نَسَبوا أمير المؤمنين إلى الالُوهية والنبوَّة ، ووصفوهم من الفضلِ في الدين والدنيا ، إلى ما تجاوزوا فيه الحدَّ ، وخَرَجُوا عن القصد» (١).

ويقول العلّامةُ المجلسيّ : إنّ الغُلُوّ في النبيّ والأئمّة عليهم‌السلام إنّما يكون بالقول بأُلُوهيتهم ، أو بكونهم شركاء لله تعالى في المعبوديّة ، أو في الخلق ، والرزق ، أو أنّ الله تعالى حلَّ فيهم ، أو اتّحدَ بهم ، أو أنّهم يعلمون الغيب بغير وحيٍ أو إلهامٍ من الله تعالى ، أو بالقولِ في الأئمّة أنّهم كانوا أنبياء ، أو القول بأنّ معرفتهم تُغني عن جميع الطاعات ، ولا تكليف معها بترك المعاصي (٢).

ولقد تبرَّأَ الإمامُ عليٌّ وأبناؤُهُ الطاهرون صلوات الله عليهم من الغلاة ، وكانوا يلعنونهم على الدّوام ، ونحن هنا نكتفي بإدراج حديثٍ واحدٍ في هذا المجال.

يقول الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام : «احذَرُوا على شَبابِكُمُ الغُلاةَ لا يُفْسدُوهُمْ ، فإنَّ الغلاةَ شرُّ خلقِ اللهِ ، يُصغِّرونَ عظمةَ اللهِ ويَدَّعُون الرّبوبيَّة لِعبادِ اللهِ» (٣).

__________________

(١). تصحيح الاعتقاد ص ١٣١.

(٢). بحار الأنوار ج ٢٥ ، ص ٣٦٤.

(٣). المصدر السابق ، ص ٣٦٥.

٣١٣

ولهذا لا قيمة لتظاهر الغُلاة بالإسلام ، فهم عند أئمةِ الدين كفارٌ ضُلَّالٌ.

هذا ومن الجدير بالذِّكر هنا أنْ يقال : كما يجب الاجتنابُ حتماً عن الغلوّ ، يجب أن لا نعتبر كلَّ تصوّرٍ واعتقادٍ في حقّ الأنبياء ، وأولياء الله غُلوّاً ، ويجب الاحتياط في هذا المجال كبقيّة المجالات الأُخرى ، وتقييم العقائد بشكل صحيح.

٣١٤

أمور في الفروع

الفصل العاشر

الحديث والاجتهاد والفقه

٣١٥
٣١٦

الأصل السادسُ والثلاثون بعد المائة : مصادر التشريع والحديث

يَعملُ الشيعة الإمامية في العَقائد والأُصول بأحاديث مرويّةٍ عن رسولِ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن طريق ثقات يُعتَمَد عليهم ، سواء أكانت هذه الروايات والأحاديث. في كتب الشيعة أم في كتب أهل السُّنّة.

من هنا ربّما استَنَد الشيعة في كتبهم الفقهيّة إلى رواياتٍ منقولة عن طريق رواة من أهل السّنة أيضاً ، ويُسمّى هذا النوع من الحديث الذي تُصَنَّف أقسامه على أربعة أقسام ، بالموثّق.

وعلى هذا فإنّ ما يرمي به البعض من المغرضين «الشيعةَ الإماميةَ» في هذا المجال لا أساس له من الصحّة مطلقاً.

إنّ الفقه الشيعيَّ الإماميَّ يقوم ـ أساساً ـ على الكتاب والسُّنّة ، والعقل ، والإجماع.

والسُّنَّة عبارة عن قول المعصومين وفعلهم وتقريرهم وعلى رأسهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وعلى هذا إذا روى شخصٌ ثقة حديثاً عن رَسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واشتمل ذلك الحديثُ على قولِ النبي ، أو فعله ، أو تقريره ، كانَ معتبراً في نظر

٣١٧

الشيعة الإمامية وتلقّوه بالقبول وعملوا وفقه.

وما نجده في مؤلّفات الشيعة ومصنّفاتهم شاهدُ صدق على هذا القول ، ويجبُ أن نقول : إنَّه ليس هناك أيُّ فرقٍ بين كتب الشيعة في الحديث ، وكتب أهل السنّة في الحديث ، في هذا المجال ، إنّما الكلام هو في تشخيص من هو الثقة ، وفي درجة اعتبار الراوي.

الأصلُ السابعُ والثلاثون بعد المائة : حجيّة الأحاديث المروية عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام

إنّ الأحاديث والرّوايات التي تُنْقَل عن أئمة أهل البيت المعصومين بأسنادٍ صحيحة ، حجّةٌ شرعيّة ، ويجب العمل بمضمونها ، والإفتاء وفقها.

إنّ أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ليسوا بمجتهِدين أو «مفتين» ـ بالمعنى الاصطلاحيّ الرائج للَّفظَتين ـ بل كلُّ ما يُنقَلُ عنهم حقائق حَصَلوا عليها من الطُّرُقِ التالية :

ألف ـ النَّقْل عن رَسُول اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

إنّ الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام أخَذُوا أحاديثهم من جَدّهمْ رسولِ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (خَلفاً عن سَلَف وكابِراً عن كابر) ثمّ رووها للنّاس.

وإنّ هذا النَّوع من الأحاديث والرِّوايات التي رَواها كلُّ إمام لاحق عن الإمام السابِق إلى أن يصل السّند إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كثيرة في أحاديث الشيعة الإمامية.

ولو أنّ هذه الأحاديث التي وردت عن أهل البيت واتصل سَنَدها

٣١٨

برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جُمِعَت في مكانٍ واحدٍ لحصل مِنها مُسْنَدٌ كبيرٌ يُمثل كَنزاً عظيماً للمحدّثين ، والفُقَهاء المسلمين ، لأنّ مثل هذه الأحاديث والروايات بهذه الأسانيد المُحكَمة القَوِيّة لا نَظير لها في عالم الحَديث ، ونشير إلى نموذج واحدٍ من هذه الأحاديث ، ويسمّى بحديث «سلسلة الذهب» ويُقال انّ السامانيّين كانوا يحتفظون بنسخةٍ منه في خزانتهم حبّاً منهم للأدب والعلم.

روى الشيخُ الصَّدوقُ ، عن أبي سعيد محمد بن الفَضل النيسابوري ، عن أبي علي الحسن بن علي الخزرجي الأنصاري السعديّ ، عن أبي الصَّلت الهَرَويّ ، قال : كنتُ مع علي بن موسى الرّضا عليه‌السلام حين رَحَلَ من «نيسابور» وهو راكبٌ بغلةً شهباء ، فاذا محمدُ بن رافع ، وأحمد بن حرب ، ويحيى بن يحيى ، وإسحاق بن راهويه ، وعدّةٌ من أهل العلم ، قد تَعَلَّقوا بلجام بغلته في المربعة فقالوا : بحقّ آبائِك المطهَّرين ، حدثنا بحديثٍ قد سَمِعته من أبيك ، فأَخرَجَ رأسَه من العَمارية ، وعَليه مِطرف خزٍ ذو وجهين ، وقال : «حَدَّثَني أبي العبدُ الصالح موسى بنُ جعفرٍ قال : حَدَّثني أبي الصادقُ جعفرُ بنُ محمدٍ قالَ : حَدَّثني أبي أبو جَعفر محمدُ بنُ عليّ باقر عِلمِ الأَنبياء قالَ : حَدَّثَني أبي عليُّ بن الحسين زينُ العابِدين قالَ : حَدَّثني أبي سيدُ شبابِ أهلِ الجَنَّةِ الحسينُ قالَ : حَدَّثني أبي عليُّ بنُ أبي طالب قالَ : سَمعْتُ النَّبيَّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : قالَ الله جَلَّ جَلالُه : لا إلهَ إِلّا اللهُ حِصْنِي فَمَنْ دَخَلَ حِصْنِي أمنَ مِن عَذابي».

فلَما مَرَّتِ الراحِلةُ ، نادانا : «بِشُروطِها ، وأنا مِن شُروطِها». (١)

__________________

(١). التوحيد للشيخ الصدوق : الباب ١ ، الأحاديث ٢١ ، ٢٢ ، ٢٣.

٣١٩

ب : الرواية من كتابِ عليٍّ عليه‌السلام

لقد صاحَبَ عليٌ عليه‌السلام رسولَ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في فترةِ بعثته كلّها ، ولهذا استطاع أن يحفظ ويدوّن قدراً عظيما من أحاديث رسولِ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كتاب (وفي الحقيقة كان ذلك الكتابُ من إملاءِ رسولِ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكتابة علي عليه‌السلام).

ولقد ذُكِرَت خُصوصيّات هذا الكتاب الذي صار بعد استشهاد الإمام علي عليه‌السلام إلى أهل بيته في أحاديث أهل البيت عليهم‌السلام.

يقول الإمام الصّادق عن هذا الكتاب : «طولُه سَبْعون ذراعاً ، إملاء رسولِ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قاله من فَلقِ فِيه ، وخطّ علي بن أبي طالب عليه‌السلام بيده ، فيه والله جميع ما تحتاج إليه الناس إلى يوم القيامة» (١).

ومِنَ الجدير بالذِّكر أنّ هذا الكتاب بقيَ عند أهل البيت يتوارثه إمامٌ من إمامٍ ، وقد نقل الإمامُ الباقر والإمام الصّادق عليهما‌السلام رواياتٍ عديدةٍ منه وربّما اطلَعُوا بعضَ شيعتهم عليه.

ويوجَدُ قسمٌ كبير من أحاديثه الآن في المجاميع الحديثية الشيعية وبالأخص كتاب «وسائل الشيعة».

ج : الإِلْهاماتُ الإِلهِيّة

إنّ لِعلومِ أهلِ البيت عليهم‌السلام مَنبعاً آخر يمكن أن نسَمّيه بالإلهام.

__________________

(١). بحار الأنوار ج : ٢٦ / ١٨ ـ ٦٦.

٣٢٠