العقيدة الإسلاميّة على ضوء مدرسة أهل البيت عليهم السلام

الشيخ جعفر السبحاني

العقيدة الإسلاميّة على ضوء مدرسة أهل البيت عليهم السلام

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


المترجم: الشيخ جعفر الهادي
الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٥٨

العلمَ لَمْ يَصِل في هذا الموضوعِ إلى المرحلة القطعيَّة.

إنّ التعارضَ ينشأُ غالباً من الشِّقِ الثاني أَيْ عند ما تُتلقّى بعض الفرضيّات العلميّة على أنّها حقائق قطعيّة ، وعند ذلك يحدث التصوّر بأنَّ هناك تعارضاً بين العلم والدّين.

الأصلُ الخامس : حقيقة العالم مقولة غير خاضعة لتفكيرنا

في مجال الأُمور التكوينيّة ذات الواقع المستقلّ عنِ الفكر والتَّصوُّر ، تكون الحقيقة مقولةً ذات صفة أبَديّة وخالدة. بمعنى أنّ الإنسان لو توصّل عن طريق إحدى الأدَوات الحسّيّة إلى معرفة أَمرٍ واقعيٍّ كحقيقةٍ من الحقائق فإنّ ما اكتشفه يكون حقاً ثابتاً ، دائماً وأبداً.

وَامّا إذا اكتشف أَمراً بعضُه معلوم ومطابق للحقيقة ، وبعضُه الآخر خَطَأٌ كان ذلك القسمُ الّذي يتَّسمُ بسمةِ الحقيقة ، حقيقة إلى الأَبَد ، بمعنى أنّه لا ولن يتغير أبداً بتغيّرِ الظروفِ وانقلابها.

وبعبارةٍ أُخرى ؛ إنَّ النِّسبيَّة في الحقائق ، بمعنى كون حصيلة معرفة في زمانٍ عينَ الحقيقة ، وفي زمان آخر عين الخطأ ، لا تُتصوّر في مجال المعرفة التي ترتبط بالتكوينيّات.

فإِذا كان حاصلُ ضرب ٢ * ٢ يساوي ٤ مثلاً أمراً ثابتاً ، فإنَّ هذا يكون ثابتاً مطلقاً ، وإِذا لم يكن هكذا فهو ليس هكذا مطلقاً.

فلا يمكن أنْ تكون حصيلةُ معرفة من المعارف في مرحلة خاصّة

٢١

عينَ الحقيقة وفي مرحلة أُخرى ترتدي رداءَ الخطأ.

إنَّ النسبيَّة في المعارف والمُدركات إِنَّما تُتصوَّر فيِ الأُمورِ الَّتي ليس لها واقعية سوى فكر الإنسان وتصديقه وتكون من مواضعاته فمثلاً ، المجتمع الغربي مختار وحر في انتخاب نظام حكومته. فإِذا اتفقوا ذاتَ يوم على صيغة معيّنة للحكم اتّسمت تلك الصّيغَة بسمة الحقيقة ما داموا متفقين عليها.

وَأَمّا إذا اتَّفقوا ـ ذات يومٍ ـ على عكسها ، كانت الصّيغة الثانيةُ هي الحقيقة ، وفي نفس الوقت يكون كل من المعرفتين في ظرفها الخاصّ عين الحقيقة.

ولكنَّ الأُمورَ الَّتي لها بذاتها محلّ مشخّص ومحدود خارج الذّهن ، إذا وقعتْ في إطار الإدراكِ بصورةٍ صحيحة وثابتةٍ تكون صحيحة للأبد ، وكان خلافها كذلك باطلاً دائما وأبداً.

وبتعبير آخر ؛ إنّ كل شيء له واقعية خارجية وراء ذهن الإنسان فالمعرفة الواقعة عليه يدور أمرها بين الصحة والخطأ ، وأمّا الأُمور الاعتبارية التي يصنعها الذهن لأجل أغراض اجتماعية ، كصيغة الحكومة ، والرئاسة والملكيّة فهي تتسم بالنسبيّة وتوصف بها. وتكون حقيقة في ظرف دون آخر.

٢٢

الكون في نظر الإسلام

الأصلُ السادس : الكون مخلوق لله

الكون ـ أَيْ كل ما سِوَى الله ـ مخلوقٌ لله تعالى ، وليس واقعُ الكونِ هذا سِوَى التعلّق ، والرَّبط بالله تعالى ، وليست الكائنات في غنىً عن الحقّ تعالى ولا لحظةً واحدة ، ومعنى قولنا : إِنَّ الكون مخلوق لله ، هو أَنَّ الكون خُلِقَ بإِرادة الله ومشيئته ، وأنّ نسبته إلى الله ليس مِنْ نمطِ نسبة الوَلد إلى الوالد ، فليست العَلاقة بين الكون وبين الله علاقة توْليد ، وَولادةٍ ، يقول سبحانه : (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ) (١).

الأصلُ السابع : نظام الكون الحالي ليس أبديّاً

النّظام الحالي للكون ليس خالداً ولا أبديّاً ، بل سينهدمُ ويندثر بعد زمانٍ يعلمه الله وحده على وجه التحديد ، ويقوم مكانه نظامٌ آخر هو العالم الأُخروي وما يسمّى بالمعاد ، كما يقول تعالى : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) (٢).

وفي قوله سبحانه : (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) (٣) إِشارَة إلى هذه الحقيقة.

__________________

(١). الإخلاص / ٣.

(٢). إبراهيم / ٤٨.

(٣). البقرة / ١٥٦.

٢٣

الأصلُ الثامن : العلّة والمعلول

النظامُ الكوني الرّاهنُ قائمٌ على أَساس العلَّة والمعلول ، وتقومُ بين ظواهرِهِ وأجزائه رابطةُ العليّة والمعلوليّة.

وتأثيرُ كلّ ظاهرة في ظاهرة أُخرى متوقّف على الإذن الإِلهي وَالمشيئة الإلَهيَّة ، وقد تَعلَّقت المشيئة الإلَهيَّة الحكيمة بتحقيق فيّاضيّته غالباً عن طريق النّظام السببيّ ، وعَبْرَ الأَسباب والمسبّبات.

ومن الواضح أَنَّ الاعتقاد بتأثير الظّواهر بعضُها في بعض ، لا يعني الاعتقاد بخالقيّتها قَطُّ ، بل المقصود هو أنّ تلك الأَسبابَ والعلل توفِّر ـ بإِذن الله ومشيئته ـ أرضيّة تحقّق ظواهر أُخرى ، وأَن أيّ نوع من أَنواع التأثير والتأثر مظهرٌ من مشيئة الله وإِرادته الكلّيّة.

وقد أشار القرآنُ الكريمُ إلى كلا المطلبين المذكورَين ونعني خضوع الظواهر الطّبيعية لقانون العليّة وكذا توقُّفَ تأثير كلّ علّةٍ وسبب في الكون على الإذن الإلهي الكلّي.

ففي المجال الأَوّل نكتفي بذكر الآية التالية :

(وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ) (١).

وفي المَجالِ الثّاني نكتفي بالآيةِ التّالِيَة أَيْضاً :

(وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ) (٢). (٣)

__________________

(١). البقرة / ٢٢.

(٢). الأعراف / ٥٨.

(٣). للتَّوسُّع ومَزيد الاطِّلاعِ في هذا المجال تُراجَع كتب التّفسير والكلام (العقائد) منها : تفسير الميزان : ١ / ٧٤ طبعة بيروت ، والإلهيّات : ٢ / ٥١ ـ ٥٤.

٢٤

الأصلُ التاسع : الوجود ليس مساوقاً للطبيعة المادية

الوجودُ ليس مساوِقاً للطبيعة المادّيّة ، فهو لا ينحصرُ في المادّة وحدها بل هو أوسع من المادة ومن ما وراءَها الَّذي أَطلقَ عليه القرآنُ اسْمَ عالمِ الغيبِ في مقابل عالمِ الشَّهادةِ.

وكما انّ الظواهر المادية يؤثر بعضُها في بعضٍ بإذن الله تعالى كذلك تؤثّر الموجوداتُ الغيبية في عالَم الطبيعة بالإذن الإلهيّ.

وبعبارة أُخرى : هي وسائط للفيض الإلهي.

ويتحدث القرآنُ الكريمُ عن تأثير مَلائكةِ الله وتسَبّبِها لحوادثِ العالَمِ الطبيعيّ إذ يقول :

(فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) (١).

(وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً) (٢).

نَستَنتجُ من الآيات الصَّريحة السابقة :

أنّ عالَمَ الخلق بقسمَيْه : الطبيعة وما وراء الطبيعة مع ما يسوده من النظام السببي قائمٌ برمَّته بمشيئة الله سبحانه ومرتبط به ، بلا استثناءٍ.

__________________

(١). النازعات / ٥.

(٢). الأنعام / ٦١.

٢٥

الأصلُ العاشر : خضوع الكون لهداية خاصة

إنَّ الكونَ حقيقةٌ تخضع لهدايةٍ خاصّةٍ ، وانّ جميع ذرات العالم ـ كلٌّ في مرتبته ـ تتمتع بحسب ما هي عليها بنورِ الهداية.

كما وإنّ مراتب هذه الهداية العامّة والشاملة تتكون من الهداية الطبيعية ، والغريزية والتكوينية.

وَلقد ذكَّر القرآنُ الكريمُ في آيات عديدةٍ بهذه الهداية التكوينيّة والعامّة نأتي فيما يلي بواحدةٍ منها :

(رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) (١).

الأصلُ الحادي عشر : الكون نظام كامل

إنَّ نظامَ الخليقة الحاضر هو النظامُ الأكملُ والأحسنُ ، وإنّ جهاز الوجود قد صُوِّر على أفضل صورة ، فلا يمكن تصوّر ما هو أكمل وأفضل مما عليه الآن.

يقول القرآن الكريم : (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) (٢).

والدليلُ العقليُّ يدعمه ، وذلك لأَنّ فعلَ أيّ فاعل يتناسب ـ من حيث الكمال والنقص ـ مع ما عليه الفاعلُ من حيث الصفات والكمالات ،

__________________

(١). طه / ٥٠.

(٢). السجدة / ٧.

٢٦

فإذا كان الفاعلُ منزَّهاً عن أيّ نقص من حيث الصفات الوجوديّة ، كان فعلهُ كذلك عارياً عن أيّ نوع من أنواع النقص والعيب.

وحيث إنّ الله تعالى يُوصف بكلّ الكمالات الوجوديّة على وجهها الأتمّ الأكمل يكون فعله أيضاً ـ وبطبيعة الحال ـ أكملَ فعلٍ وأفضلَه.

هذا مضافاً إلى أنّ كونَ اللهِ حكيماً يقتضي ما دام خلقُ العالمِ الأحسنِ ممكناً ، أن لا يوجِدَ غيره.

والجدير بالذِكرِ أنّ ما في العالَم الطبيعيّ مما يسمّى بالشُّرور لا ينافي النظامَ الأحسنَ للوجود ، وتوضيحُ هذه النقطة سيأتي في أبحاث «التوحيدِ في الخالقيّة».

الأصلُ الثاني عشر : الحكمة في خلق الكون

حيث إنَّ العالَمَ مَخلوقٌ لله الّذي هو الحقُّ المطلَق وفعلهُ ، فإنَّ مصنوعَه كذلك حقّ ويتَّسم بالحِكمة ، فلا مجالَ للعبثيّة واللاهدفيّة فيه.

وقد أشار القرآنُ الكريمُ إلى هذا الموضوع في آياتٍ عديدةٍ نذكر واحدةً منها هنا :

(ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ) (١).

على أنّ غايةَ هذا العالم والإنسان إنما تَتَحقّق عند ما تقومُ القيامة ، كما قال الإمام أمير المؤمنين علي عليه‌السلام : «فإنّ الغاية القِيامة». (٢)

__________________

(١). الأحقاف / ٣.

(٢). نهج البلاغة ، الخطبة ١٩٠.

٢٧

الإنسانُ في نَظَر الإسلام

الأصلُ الثالثُ عشر : الإنسان

الإنسان كائنٌ مركّبٌ من الروح والجَسَد ، وجَسَده يتلاشى بعد الموت وتتفرق أَجزاؤه ، إلّا أنَّ روحه تواصل حياتها ، وموت الإنسان لا يعني فناءه ، ولهذا فانّه سيمرّ بحياةٍ برزخيةٍ حتى تقومَ القيامة ، ولقد أشار القرآن الكريم عند بيان مراتب خَلْق الانسانِ وتكوّنه ، إلى آخر مرحلةٍ من تلك المراحل ، وهي التي تتحقّق بنفخ الروح في جثمانه إذ يقول :

(ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) (١).

كما أنّ القرآن أشار إلى حياة الإنسان البرزخية في عدة آيات أيضاً ، ومن تلك الآيات قوله :

(وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (٢).

__________________

(١). المؤمنون / ١٤.

(٢). المؤمنون / ١٠٠.

٢٨

الأصلُ الرابعُ عشر : خلق الإنسان بفطرة سليمة

يولَد كلّ إنسان بفطرةٍ نقيّةٍ توحيديّةٍ بحيث إذا بقي بعيداً عن تأثير العوامل الخارجية (كالتربية والصداقةِ والإعلام) التي تُسبِّب انحرافَ عقيدتهِ ، سَلَكَ طريقَ الحق.

فليس ثمة شرّيرٌ بالولادة والخلقة بل الشرور والقبائح أُمور ذات صفة عارضة وطارئة تنشأ بسبب العوامل الباطنية والاختيارية.

ولهذا فانَّ فكرةَ المعصية الذاتية في بني آدم ، المطروحة من قِبل المسيحيّة المعاصرة ، لا أساس لها من الصحّة قط.

يقول القرآنُ الكريمُ في هذا الصدد : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) (١).

الأصل الخامسُ عشر : الإنسان كائن حرّ الإرادة

الإنسان كائنٌ حرُّ الإرادة ، مخيّرٌ ، يعني انّه بَعد أن يدرسَ النواحي المختلفة لموضوعٍ ما في ضوء العقل ، يختار فعلَهُ أو تركَه ، دون إجبار.

يقول القرآن الكريم : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) (٢).

ويقول أيضاً : (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) (٣).

__________________

(١). الروم / ٣٠.

(٢). الإنسان / ٣.

(٣). الكهف / ٢٩.

٢٩

الأصلُ السادسُ عشر : الإنسان مخلوق قابل للتربية والتأديب

حيث إنّ الإنسان يتمتع بفطرةٍ سليمةٍ وقوة تُمكِّنه من معرفة الخير والشرّ ، كما انّه كائن مخيّر غير مجبور ، لذلك كلهِ فهو موجودٌ قابل للتربية والتأْديب ، قادرٌ على سلوك طريق الرشد والتكامل ، وباب العودة إلى الله مفتوحٌ عليه ، اللهم إلّا أن يتوبَ إلى الله لحظة المعاينة ، ومشاهدة الموت التي لا تُقبل فيها التوبة ، ولا تنفع فيها العودة إلى الله.

ومن أَجل هذا تكون دعوةُ الأنبياء موجَّهة إلى جميع البشر حتى نظير فرعون كما يقول تعالى :

(فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى* وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى) (١).

وعلى هذا الأَساس يجب أن لا ييأس الإنسانُ من الرحمةِ والمغفرةِ الإلهيّتين كما يقول تعالى :

(لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) (٢).

الأصلُ السابعُ عشر : الإنسان كائن مسئول

حيث إنّ الإنسان يتمتع بنورِ العقل وموهبة الاختيار لذلك فإنّه كائنٌ مسئولٌ ، مسئولٌ أمام الله ، وأمام الانبياء ، والقادة الإلهيين ، وأمام غيره من

__________________

(١). النازعات / ١٨ ـ ١٩.

(٢). الزمر / ٥٣.

٣٠

أبناء البشر الآخرين ، وأمام العالَم.

وقد صَرّحَ القرآن الكريم بهذه المسئولية الّتي تَقَعُ على الإنسان في آيات عديدة يقول : (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً) (١).

ويقول كذلك : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً) (٢).

ويقول الرسولُ الأكرم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «كُلُّكُمْ راعٍ وَكُلُّكُمْ مَسئُولٌ عَنْ رَعِيّتهِ» (٣).

الأصلُ الثامنُ عشر : ملاك التفاضل بين الناس

لا فَضْلَ لإنسانٍ على إنسان آخر إلّا بما يكسبه ، ويحصل عليه من الكمالات المعنوية ، وأفضل هذه الكمالات التي هي ملاكُ التفوّق والأفضليّة هو التقوى كما يقول تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) (٤).

وعلى هذا الأساس لا تكون الخصائصُ العرقية والجغرافية وغيرها من وجهة نظر الإسلام سبباً للتمييز ، ومبرِّراً للتفاخر والتكبّر ، والاستعلاء على الآخرين.

__________________

(١). الإسراء / ٣٤.

(٢). القيامة / ٣٦.

(٣). مسند أحمد : ٢ / ٥٤ ؛ وصحيح البخاري : ٣ / ٢٨٤ (كتاب الجمعة ، الباب ١١ ، الحديث ٢).

(٤). الحجرات / ١٣.

٣١

الأصلُ التاسعُ عشر : ثبات الأُسس الأخلاقية

الأُسُسُ الأخلاقية التي تُمثّل ـ في الحقيقة ـ أُسُسَ الهويّة الإنسانية ، ولها جذورٌ فطريّةٌ ، أُسسٌ ثابتةٌ وخالدةٌ ، وهي لا تتغيّر بسبب مُضِيّ الزمان وطروءِ التحوّلات والتطوّرات الاجتماعية.

فمثلاً ؛ حسنُ الوفاء بالعهد والعقد ، أو حسن مقابلة الإحسان بالإحسان ، قضيّةٌ خالدةٌ ، وحقيقةٌ ثابتةٌ مطلقاً ، وهذا القانون الأخلاقي لا يتغير أبداً.

وهكذا الحكمُ بقبح الخيانة وخُلف الوعد.

وعلى هذا الأساس فإنّ في الحياة البشرية الاجتماعية طائفةً من الأُصول والأُسُس التي امتزجت بالفطرة ، والطبيعة البشرية وتكون ثابتةً وخالدةً.

وقد أشارَ القرآنُ الكريمُ إلى بعض هذه الأُصول والأُسُس العقليّة الأخلاقية الثابتة إذ قال :

(هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ) (١).

(ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) (٢).

(فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (٣).

(إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ) (٤).

__________________

(١). الرحمن / ٦٠.

(٢). التوبة / ٩١.

(٣). يوسف / ٩٠.

(٤). النحل / ٩٠.

٣٢

الأصلُ العشرون : العلاقة بين عمل الإنسان والظواهر الكونية

إنّ أعمال الإنسان وتصرّفاته مضافاً إلى أنّها تستتبع أجراً ، أو عقاباً مناسباً لها في اليوم الآخر (القيامة) ، لا تخلو من نتائج حَسَنة أو سَيّئة في هذه الدنيا ، لأنّ ثمت قوى شاعرةً ومدركةً وُصِفت في القرآن الكريم بالمدبّرات (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) (١) تدبّر أُمورَ الكون بإذن الله ، ولن تقفَ من أعمال الإنسان حَسَنة كانت أو سيّئة موقفَ المتفرج ، وفي الواقع إنّ عملَ الإنسان فعلٌ ، وبعضُ حوادث العالَم المنتهية إلى تلك المدبرات ردةُ فعل على عمله. وهذه حقيقةٌ كَشَفَ الوحيُ القناع عنها ، وتوصّل إليها الإنسانُ بعلمه إلى درجة ما أيضاً.

وللقرآن الكريم في هذا المجال آياتٌ عديدةٌ نذكر منها على سبيل المثال ما يلي : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) (٢).

الأصلُ الواحدُ والعشرون : العلاقة بين تقدّم الأُمم أو تخلّفها وبين عقائدها وأخلاقها

إنّ تقدّمَ الأُمم أو تخلّفها نابعٌ من عِلَل وعواملَ داخليّة تعود في الأغلب إلى عقائدها وأخلاقها ، وبالتالي إلى سلوكها أَنفسها ، مضافاً إلى بعض العوامل الخارجية.

__________________

(١). النازعات / ٥.

(٢). الأعراف / ٩٦.

٣٣

على أنّ هذا الأصل لا يتنافى مَعَ مبدأ القضاء والقدر الإلهيّين ، لأن هذا الأصل (أي تأثير سلوك الأُمم في مصيرها) هو نفسُه من مظاهر التقدير الإلهي الكلّي.

يعني أنّ المَشيئة الإلهيّة الكُليّة تعلّقت بأن تَصنع الأُممُ هي مصائِرَها كأن يحظى المجتمعُ الذي يقيمُ علاقاته الاجتماعية على أساس العَدالة ، بحياة طيبة ، ومستقرة ، ويكون وضع الأُمة التي تقيم علاقاتها الاجتماعية على خلاف ذلك سَيّئاً ، وحالتها متدهورةً.

إنّ هذا الأصلَ هو ما يسمّى حسب مصطلح القرآن الكريم بالسنن الإلهيّة حيث قال : (فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً* اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً) (١).

وقال : (.. وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ... وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ ..) (٢).

الأصلُ الثاني والعشرون : وضوح المستقبل البشري

إنّ مستقبلَ البشريّة واضحٌ لا إبهام فيه ، صحيح أنّ حياة البشرية اقترنت في الأغلب مع أَلوان مختلفة من التمييز ، والفوضى ، إلّا أنّ هذا الوضع لن يستمرَّ إلى الأبد ، بل يَتحرَّك التاريخ البشري باتجاه مستقبلٍ

__________________

(١). فاطر / ٤٢ ـ ٤٣.

(٢). آل عمران / ١٣٩ ـ ١٤٠.

٣٤

مشرقٍ يسودُ فيه العدلُ ، ويخيِّم عليه القسطُ الشاملُ ، وتكونُ الحاكميةُ في الأرض لمِن أسماهم القرآن الكريم بالصالحين إذ قال تعالى :

(وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) (١).

ويقول أيضاً :

(وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) (٢).

وعلى هذا الأساس فإنّ النصر النهائي في مستقبل التاريخ ، وفي خاتمة المطاف في حَلَبة الصراع المستمر بين الحق والباطل إنّما هو للحقّ دون سواه ، وإن تأخر ذلك بعض الشيء وطال الأمَد ، كما يقولُ القرآن الكريم :

(بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ) (٣).

الأصلُ الثالثُ والعشرون : كرامة الإنسان وحرّيته

يحظى الإنسانُ ـ حسب رؤية القرآن الكريم ـ بكرامةٍ خاصّة إلى دَرَجةٍ أنّه أصبحَ مَسجوداً للملائكة كما قال تعالى : (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً) (٤).

__________________

(١). الأنبياء / ١٠٥.

(٢). النور / ٥٥.

(٣). الأنبياء / ١٨.

(٤). الإسراء / ٧٠.

٣٥

وحيث إنّ جوهر الحياة الإنسانية يكمنُ في حفظ الكرامة والعزّة ، لهذا منَعَ الإسلامُ من أيّ عمل يضرَّ بهذه الموهبة ، وبعبارة أكثر وضوحاً ؛ إن أيّ نوع من التسلّط على الآخرين وكذا قبول السلطة من الآخرين ممنوعٌ من وجهة نظر الإسلام منعاً باتاً ، فلا بدّ أن يعيش المرء حُرّاً كريماً بعيداً عن أي شكلٍ من أشكال الصغار والذل.

قال الإمامُ أميرُ المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام : «ولا تكُنْ عَبْدَ غيرِك وقدْ جَعَلك الله حُرّاً» (١).

كما قال أيضاً : «إنّ الله تبارَك وتعالى فَوَّض إلى المؤمن كلَّ شيء إلّا إِذلالَ نفسهِ» (٢).

ومن الواضح جداً انّ الحكومات الإلهيّة المشروعة لا تنافي هذا الأصل كما سيأتي توضيحه مستقبلاً.

الأصلُ الرابعُ والعشرون : رؤية الإسلام للعقل الإنساني

إنّ للعقل الإنساني مكانةً خاصةً في رؤية الإسلام ونظره ، وذلك لأنّ ما يميّز الإنسان عن سائر الأحياء بل ويجعله مفضّلاً عليها هو عقله ومدى قوته التفكيرية.

من هنا دُعِيَ البشر ـ في آيات عديدة من القرآن الكريم ـ إلى التفكّر

__________________

(١). نهج البلاغة ، قسم الكتب ، الكتاب رقم ٣٨.

(٢). وسائل الشيعة : ١١ / ٤٢٤ (كتاب الأمر بالمعروف الباب ١٢ ، الحديث ٤).

٣٦

والتأمّل ، والتدبّر والتعقّل ، إلى درجة ، عُدَّت تنمية القوة العقليّة ، والتفكّر في مظاهر الخلق ، من علائم العقلاء وذوي الأَلباب قال تعالى في القرآن الكريم : (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً) (١).

هذا وإنّ الآيات التي ترتبط بضرورة التفكّر والتأمّل في مظاهر الخلقة أكثر بكثير من أن يمكن سردها في هذا البيان المقتضب.

وعلى أساس هذه الرؤية نجد القرآن الكريمَ ينهى الناس عن التقليد الأعمى ، وعن الاتّباع غير المدروس للآباء والأجداد.

الأصلُ الخامسُ والعشرون : الانسجام بين الحرية الفردية ومبدأ التكامل المعنوي

إنّ الحريات الفرديّة (الشخصيّة) في المجالات الاقتصادية السياسيّة مقيّدة في الإسلام بأنْ لا تُنافي مبدأَ التكامل المعنوي للإنسان كما هي مقيّدة بأن لا تضرّ بالمصالح العامة.

وفي الحقيقة إن حكمة التكليف بالوظائف والواجبات الدينية في الإسلام تكمن في أنّ الإسلام يريد بهذه الوظائف التي يُكلّف بها الإنسان أن يحافظ على كرامته الذاتيَّة ، وفي الوقت نفسه يضمن سلامة واستمرار المصالح الاجتماعية.

إنّ مَنع الإسلام من الوثنيّة ، ونهيه المؤكد عن تعاطي ومعاقرة الخمر

__________________

(١). آل عمران / ١٩١.

٣٧

وما شابه ذلك إنّما هو للحفاظ على الكرامة الإنسانية (فرداً وجماعة). وبهذا تتضح حكمة التشريعات الجزائية في الإسلام أيضاً.

فالقرآن الكريم يعتبر القصاص ضماناً للحياة الإنسانية إذ يقول :

(وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ) (١).

يقول النبي الأكرم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ المعصيةَ إذا عَمِلَ بها العبدُ لم تَضرّ إلّا عامِلَها ، فإذا عَمِل بها علانيةً ، ولم يُغَيّر أضرّت بالعامة».

ويضيف الإمام جعفر الصادق بعد نقل هذا الحديث قائلاً : «ذلك أنّهُ يُذلّ بعَملِه دينَ الله ، وَيَقْتدي به أهلُ عَداوةِ اللهِ» (٢).

الأصلُ السادسُ والعشرون : لا إكراه في الدين

إنّ من مظاهر الحرية الفردية في الإسلام هو أن لا يُجبرَ الشخصُ على قبول الدين واعتناقه كما قال تعالى :

(لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) (٣).

وذلك لأن الدين المطلوب في الإسلام هو الاعتقاد والإيمان القلبيّان وهما لا يتحقّقان في قلب الإنسان بالعُنف والقهر ، والقسر والإجبار ، بل ينشئان بعد حصول مقدمات أهمها اتضاح الحق والباطل

__________________

(١). البقرة / ١٧٩.

(٢). وسائل الشيعة : ١١ / ٤٠٧ ، (كتاب الأمر بالمعروف).

(٣). البقرة / ٢٥٦.

٣٨

وتميّز أحدهما عن الآخر.

فإذا حَصَلت مثل هذه المعرفة اختار الإنسانُ الحقَّ في ظروف طبيعية قطعاً.

صحيح أن «الجهاد» هو أحد الفرائض والواجبات الإسلامية المهمّة جداً ، ولكن لا يعني الجهادُ قط إجبارَ الآخرين على اعتناق الإسلام ، بل المقصود منه إزالة الموانع والعراقيل عن طريق الدعوة الإسلامية وإبلاغ الرسالة الإلهيّة إلى مسامع الناس في العالم كَي ما يتبيّن الرشد من الغيّ.

ومن الطبيعيّ إذا مَنَعَ أرباب الثروة والسلطة انطلاقاً من الدوافع المادية والشيطانية من إبلاغ الرسالة الإلهيّة الهادية إلى مسامع الناس وأفئدتهم ، اقتضت فلسفة النبوة (وهي هداية البشرية وإرشادهم) أن يقوم المجاهدون بإزالة هذه الموانع ، والعراقيل ، لتتوفّر الشروط والظروف اللازمة لإبلاغ دعوة الحق إلى أبناء البشرية.

اتّضح ممّا سبق من الأبحاث ـ رؤية الإسلام حول الكون والإنسان والحياة ـ على أنّ هناك نقاطاً وأصولاً أُخرى أيضاً سنأتي بها في مكانها المناسب.

وها نحن نشرع في استعراض مواقف الإسلام ورؤاه في صعيد المعتقدات والأحكام.

٣٩
٤٠