العقيدة الإسلاميّة على ضوء مدرسة أهل البيت عليهم السلام

الشيخ جعفر السبحاني

العقيدة الإسلاميّة على ضوء مدرسة أهل البيت عليهم السلام

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


المترجم: الشيخ جعفر الهادي
الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٥٨

هذا ويجب الانتباهُ إلى أنّ «الوسيلة» لا تعني (التقرُّب) بل تعني الشيء الذي يوجب التقرّبَ إلى الله ، وأحَد هذه الطرق هو الجهادُ في سبيل الله الذي ذُكِرَ في الآية الحاضِرة كما يمكن أن تكون أشياء أُخرى وسيلة للتقرّب أيضاً. (١)

الأصلُ السابعُ والعِشرون بعد المائة : التوسُّل بأسماء الله الحسنى ودعاء الصالحين

ثَبَت في الأصلِ السابقِ أنّ التوسّلَ بالأسباب الطبيعيّة ، وغير الطبيعيّة (بشرط أن لا تُصبَغ بصبغة الأصالة ولا يعتقد فيها بالاستقلال في التأثير) عينُ التوحيد ، ولا شك في أنّ القيام بالواجباتِ والمستحبّاتِ ، كالصَّلاة والصَّوم والزَّكاة والجِهاد في سبيل الله وغير ذلك وسائل معنويّة تُوصِل الإنسان إلى المقصد الأسمى ، ألا وهو التقرّبُ إلى الله تعالى.

فالإنسان في ظلّ هذه الأعمال يجد حقيقة العبوديَّة ، ويتقرّب في المآل إلى الله تعالى.

ولكن يجب الانتباهُ إلى أنّ الوسائل غير الطبيعيّة لا تنحصر في الإتيان بالأعمالِ العبادِيّةِ ، بل هناك سلسلة من الوسائل ذكرَت في الكتابِ والسُّنةِ يستعقبُ التوَسلُ بها استجابةَ الدعاءِ ، نذكر بعضَها فيما يأتي :

١. التوسُّل بالأسماء والصّفات الإلهيَّة الحُسنى التي ورَدَت في

__________________

(١). قال الراغبُ الأصفهاني في مفرداته (في مادة وسل) : الوَسيلة التوصّلُ إلى الشيء برغبة ، وحقيقةُ الوسيلة إلى الله سبيلُه بالعلمِ والعِبادة وتحرّي مكارم الشريعة.

٢٨١

الكتاب العزيز ، والسُّنة الشريفة ، إذ يقول سبحانه :

(وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها) (١).

ولقد وَرَدَ التوسُّل بالأسماء والصفات الإلهيّة في الأدعية الإسلامية كثيراً.

٢. إن التوسُّل بأدعية الصالحين ، والذين يكون أفضلُ أنواعه : التوسّلُ بالأنبياء والأولياء المقرّبين إلى الله ، لِيَدعو للإنسان في محضر ذي الجلال.

إنّ القرآنَ الكريمَ يحثُّ الذين ظَلَموا أنْفُسَهم (أي العُصاة) إلى أن يذهَبوا إلى رسولِ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويطلبوا منه أن يَستغفِرَ لهم ، إلى جانب استغفارِهم هم بأنفسِهم ، ويبشِّرُهم بأنّهم سيجدون الله توّاباً رحيماً :

(وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً) (٢).

ويَذمُّ في آية أُخرى المنافقين ، بأنّهم كلّما دُعوا إلى الذهاب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لِيَستغفر لهم أعرَضوا عن ذلك إذ يقول :

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) (٣).

__________________

(١). الأعراف / ١٨٠.

(٢). النساء / ٦٤.

(٣). المنافقون / ٥.

٢٨٢

ويُستفاد من بعض الآيات أنّه كان مثل هذا العَمَل جارياً ورائجاً في الأُمم السابقة.

وللمثال : طلبَ أبناءُ يعقوب من أبيهم أن يستغفرَ لهم ، واستجاب لهم أبوهم يعقوبُ عليه‌السلام ووعدهم بذلك :

(يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ* قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (١).

ومن الممكن أنْ يُقال أنّ التوسُّل بدعاء الصالحين يكون في صورةٍ خاصّة عين التوحيد (أو على الأقلّ مفيداً ومؤثراً) وهي إذا كان من نتوسّلُ به على قيد الحياة.

أمّا إذا ماتَ الأنبياء والأولياء فكيفَ يكونُ التوسُّل بهم مُفيداً وعين التوحيد؟

في الجواب على هذا الإشكال لا بدّ من التذكير بنقطتين :

ألف : إذا افترَضْنا أنّ التوسُّل بالنَّبي أو الوليّ مشروطٌ بكونهم على قيد الحياة ، ففي هذه الصورة يكون التوسُّل بالأنبياء والأولياء الإلهيّين بعد الموت مجرّد عملٍ غيرِ مفيد ، لا أنّه يكون موجباً للشرك.

وقد غُفِلَ عن هذه النقطة الهامّة في الغالب ، وتَصوّر البعض أنّ الموتَ والحياةَ رمزُ التوحيد والشرك! مع أنّ هذا الشرط (أي حياة النبيّ

__________________

(١). يوسف / ٩٧ ـ ٩٨.

٢٨٣

أو الولي عند توسُّلِ الآخرين به) ملاكٌ لكون التوسّل مفيداً أو غير مفيدٍ ، لا أنّه «ملاكٌ» لكون التوسُّلِ عَمَلاً توحِيديّاً أو شِركيّاً.

ب : إنّ تأثيرَ التوسّل وكونَه مفيداً يُشترط فيه أمران :

١. أن يكونَ الفردُ المتوسَّلُ به مُتصِفاً بالعلم والشعور والقدرة.

٢. أن يكونَ بين المتوسّلِ ، والمتوسَّل به ارتباط واتصال وكلا هذين الشرطين (الإدراك والشعور ووجود الارتباط بينهم وبين المتوسَّل بهم) موجودان في التوسّلِ بالأنبياء ، وإن فارقت أرواحهم أجسادَهم وذلك ثابت بالأدلة العقلية والنقلية الواضحة.

إنَّ وجودَ الحياة البرزَخيّة من المسائل القرآنيّةِ والحديثيّةِ المسلّمة الضَّرُوريّة ، وقد مرّت أدلّتها في الأصل ١٠٧.

فإذا كانَ الشهداء الّذين قُتلُوا في سبيلِ الحقِّ أحياءً حسب تصريح القرآن الكريم ، فأولى أن يكون أنبياء الشهداء والأولياء المقرّبون أحياءً عند ربّهم ـ خاصة وانّ أكثرهم قد استشهد في سبيل الله ـ أيضاً بحياة أعلى وأفضل.

ثمّ إنّ هناكَ أدلةً كثيرةً على وجود الارتباط بيننا وبين الأولياء الإلهيين نذكر بعضَها :

١. إنّ جميع المسلمين يقولون في نهاية الصَّلاة مخاطِبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «السَّلامُ عَليكَ أيُّها النبيُّ ورحمةُ اللهِ وَبَرَكاتهُ».

فهل هم يقولون ما يقولونه لغواً وعبثاً؟ وهل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يسمع كلّ

٢٨٤

هذه التحيات وكل هذا السلام ولا يردّ عليها؟!!

٢. إنّ النبيّ الأكرم أَمَر ـ في معركة بدر ـ بأن تلقى أجسادُ المشركين في بئر (قليب) ثمّ وَقَفَ يُخاطبهم قائلاً : لَقَد وَجَدْنا ما وَعَدنا ربُّنا حقاً ، فهل وَجَدتُم ما وَعَدَكم ربُّكم حَقاً؟

فقال أحدُ أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا رسولَ الله أتكلم الموتى؟!

فقالَ النبيُ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما أنْتُمْ بأَسمعَ مِنْهُمْ» (١).

٣. لقد ذَهَبَ رسولُ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى البقيع مراراً وقال مخاطباً أَرواح الراقدين في القبور والأجداث : «السّلامُ على أهلِ الدّيار مِن المؤمِنين والمؤمِنات».

وفي رواية كان يقولُ : «السلامُ عليكمْ دارَ قومٍ مؤمِنين» (٢).

٤. روى البخاريُ في صحيحهِ أنّه لما تُوفّي النبيُ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دخل أبو بكر حجرة عائشة ثمّ ذهبَ إلى حيث سُجِّيَ رسولُ اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكَشَفَ عن وجهِ رسولِ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقَبَّلهُ ثمّ قال وهو يَبكي : بأَبي أنتَ يا نبيَّ الله ؛ لا يجمعُ اللهُ عليكَ موتَتَين أمّا الموتة الأُولى التي كُتِبَتْ عَلَيْكَ فقد متّها (٣).

وإذا لم يكن لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حياةٌ برزخيّةٌ ، ولم يكن بينه وبيننا أيُّ ارتباط فكيف خاطَبَه أبو بكر قائِلاً : يا نبيّ الله؟!

__________________

(١). صحيح البخاري ، ج ٥ ، باب قتل أبي جهل ؛ والسيرة النبويّة لابن هشام : ٢ / ٢٩٢ وغيره.

(٢). صحيح مسلم ، ج ٢ ، باب ما يقال عند دخول القبر.

(٣). صحيح البخاري ج ٢ كتاب الجنائز ص ١٢ ؛ والسيرة النبويّة لابن هشام ٤ / ٣٠٥ ـ ٣٠٦.

٢٨٥

٥. عند ما كان الإمامُ عليٌ عليه‌السلام يغسّل رسولَ اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويجهّزه قال : انقطَعَ بموتِكَ ما لمْ يَنْقَطِعْ بموتِ غَيْرِك مِن النُّبوَّة والإنْباءِ ، وأخبارِ السماء بأبي أنت وأُمّي اذكُرْنا عند ربِّكَ واجْعَلْنا مِن بالِكَ (١).

وفي الختام نُذَكّرُ بأنّ للتَوَسُّلِ بالأنبياء والأولياء صُوَراً مختلِفةً جاء شرحُها في كُتُبِ العَقائد.

الأصلُ الثامن والعشرون بعد المائة : البَداء

إنّ لله تعالى في شأنِ الإنسان نوعين من التقدير :

١. تقدير محتومٌ وقطعيٌّ لا يقبل التغييرَ والتبديلَ مطلقاً.

٢. تقديرٌ معلَّقٌ ومشروطٌ وهو يتغيَّر ويَتَبَدّلُ مع فقدان بعضِ الشرائطِ ، ويحلُّ محلَّه تقديرٌ آخرٌ.

وبالنَّظَر إلى هذا الأصْلِ نُذَكّرُ بأن الاعتقاد بالبَداء هو أحَدُ الأُصول الاعتقاديّة الإسلاميّة الأصِيْلَة التي اتَّفَقَتْ جميعُ الفِرَقِ الإسلاميّة على الاعتقادِ بها إجمالاً ، وإنْ أحجَمَ البعضُ عن استخدام لَفظة «البَداءِ» وهذا الاستيحاش من استعمال لفظة «البَداء» لا يَضُرُّ بالقَضِيّة أيضاً ، إذ أنّ المقصود هو بَيان محتوى «البَداء» ومعناه ، لا لفظه واسمه.

إنّ حقيقةَ «البَداء» تقومُ في الحقيقة على أصلين :

__________________

(١). نهج البلاغة قسم الخطب ، الرقم ٢٣٥.

٢٨٦

ألف : انّ لله تعالى قدرةً وسلطةً مُطلقةً ، فهو قادرٌ على تغيير أيّ تقديرٍ ، وإحلالِ تقديرٍ آخر محلَّه متى شاءَ ، في حين يعلم سلفاً بكلا التقديرين ، ولا سبيل لأيّ تغيير إلى عِلمه قط أيضاً ، لأنّ التقديرَ الأوّل لم يكن بحيث يحدُّ من قدرةِ الله أو يَسلُبَ منه القدرةَ ، فإنّ قدرة الله تعالى على خلاف ما تعتقِدُهُ اليهود من كَونها محدودةً لقولهم : (يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) ، قدرةٌ مطلقةٌ ، أو كما قال القرآن :

(بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) (١).

وبعبارةٍ أُخرى : إنّ خلّاقية الله وإعمال السُّلطة والقُدرة من جانبهِ تعالى مستمرٌ ، وبحكم قوله تعالى : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) (٢) فالله تعالى لم يفرغ سبحانه عن أمر الخلقِ ، بل عمليّة الخَلق لا تزال متواصِلة ومستمرة.

روى الصدوق باسناده عن الإمام الصادق عليه‌السلام : أنّه قال في قول الله عزوجل : (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) لم يعنوا أنّه هكذا ، ولكنّهم قالوا قد فرَغَ من الأمر فلا يزيدُ ولا ينقص (أي في العمر والرّزق وغيرهما) ، فقال الله جلّ جلالُه تَكذيباً لقولهم : (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ). أَلم تسمَع الله عزَّ وجَلّ يقول : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) (٣). (٤)

__________________

(١). المائدة / ٦٤.

(٢). الرحمن / ٢٩.

(٣). الرعد / ٣٩.

(٤). التوحيد للصدوق ، ص ١٦٧ ، الباب ٢٥ ، ح ١.

٢٨٧

فالعقيدة الإسلاميّة تقومُ على أساس الاعتراف بقدرة الله المطلقة وسلطتهِ التي لا تُحدُّ ، وبدوام خلّاقيته واستمرارها ، وبأنّ الله تعالى قادر كلّما شاءَ ومتى شاء أن يُغيّر المقدَّرات المرتبطة بالإنسان في مجال العُمرِ والرزقِ وغيرهما ، ويُحلَّ مَحَلَّ ذلك مقدراتٍ أُخرى ، وكلا التقديرين موجودان في «أُمّ الكتاب». وفي علم الله سبحانه.

ب : إنّ إعمالَ القُدرةِ والسُّلطَة من جانبِ الله تعالى ، وإقدامَه على إحلال تقديرٍ مكان تقديرٍ آخر لا يتمُّ من دون حكمةٍ ومصلَحةٍ ، وان قسماً من هذا التغيير يرتبط في الحقيقة بِعَمل الإنسان وسلوكه ، وانتخابه ، واختياره ، وبنمط حياته الصالح أو السّيء ، فهو بهذه الأُمور يهيِّئ أرضيّة التغيير في مصيره.

وَلْنفترض أنَّ إنساناً لم يراع ـ لا سمح اللهُ ـ حقوقَ والدَيه ، فإن من الطبيعيّ أنّ هذا العَمل غير الصالح سيكونُ له تأثيرٌ غير مرغوب في مصيره.

فإذا غيَّر من سُلُوكِهِ هذا في النصفِ الآخر من حياتهِ ، واهتمَّ بِرعاية حقوقِ والدَيْهِ فانَّه في هذه الحالة يكون قد هَيَّأ الأرْضيّة لتغيير مصيرِهِ ، وصار مشمولاً لقولِهِ تعالى :

(يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ).

وينعكس هذا الّذي ذكرناه إذا انعكسَ الأمر.

إنَّ الآيات والرّوايات في هذا المجال كثيرةٌ نذكرُ بعضها هنا :

٢٨٨

١. (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) (١).

٢. (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (٢).

٣. يروي السيوطي في تفسيره «الدرّ المنثور» أنَّ الإمام أمير المؤمنين علياً عليه‌السلام سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن قوله : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ).

فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لأُقِرّنَّ عَيْنَك بِتفسيرها ولأُقِرَّنَّ عَين أُمّتي بَعدي بتفسيرها : الصّدَقةُ على وَجهها ، وبِرُّ الوالِدَين وَاصطِناعُ المعروف يُحوّلُ الشقاءَ سعادةً ويزيدُ في العُمُر ويقي مصارع السُّوء». (٣)

وقالَ الإمامُ الباقر عليه‌السلام : صِلةُ الأرحام تُزَكّي الأعْمالَ ، وتُنمّي الأموالَ ، وَتَدْفَعُ البَلوى ، وتُيَسِّرُ الحِساب ، وتُنْسِئُ في الأَجَل. (٤)

وبالنظر إلى هذين الأَصلين يتَّضح أن الاعتقاد بالبداء عقيدة إسلاميّة قطعيّة ، وأنّ جميع الفرق الإسلامية تعتقد به بغضِّ النظر عن التعبير والتسمِية ، واستخدام لفظ «البَداء».

وفي الختام نُذَكّرُ بُنقطتين لنعرف لما ذا أُطلقت لفظة «البدَاء» على هذه المسألة في الرّوايات فجاء التعبير عن هذه العقيدة الإسلامية بقولهم :

__________________

(١). الرعد / ١١.

(٢). الأعراف / ٩٦.

(٣). الدر المنثور ٤ / ٦٦.

(٤). الكافي ، ٢ / ٤٧٠ ، الحديث ١٣.

٢٨٩

«بَدا لله».

ألف : إنّ استخدامَ هذه اللَّفظة في هذه المسألة جاء تبعاً للنّبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقد روى البخاريُ في صحيحه أنّ النبيّ قال في شأن ثلاثة أشخاص : أبرص وأقرع وأعمى : «بدا لله عزوجل أن يَبْتَلِيهُمْ ...».

ثمّ ذكر بعد ذلك قصّتهم بصورةٍ مفصَّلةٍ وبيَّن كيف أن اثنين منهم سُلبَت منهما سلامتُهما بسبب كفران النعمة ، وأصابَهما ما أصيب به أسلافُهم من الأمراض (١).

ب : إنّ هذا النّوع من الاستعمال من باب المشاكلة ، والتحدّث بلسان القوم حتى يفقهوا ، ويفهموا الموضوع.

فقد تعارَفَ في العرف الاجتماعي أنَّه إذا غيَّرَ أحد قراراً قد اتخذه أن يقول بدا لي.

وقد تَحدَّث أئمةُ الدين بلسان القوم ليمكنهم تفهيم مخاطبِيهم ، وقد استعملوا مثلَ هذه اللفظة في حق الله تعالى.

والجدير بالذِّكر أنّ القرآنَ الكريمَ استخدمَ في شأن الله تعالى ألفاظاً وصفات مثل المكر والكيد ، والخُداع والنسيان ، في حين أنّنا نعلم أنّ الله تعالى منزَّهٌ عن مثل هذه الأُمور (بِمعانيها ومفاهيمها الرائجة بين البشر) قطعاً ويقيناً ، ومع ذلك كرّرَ القرآنُ الكريمُ هذه الصفات واستعمل الألفاظ في حق الله سبحانه.

__________________

(١). صحيح البخاري : ٤ / ١٧٢.

٢٩٠

١. (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً* وَأَكِيدُ كَيْداً) (١).

٢. (وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً) (٢).

٣. (إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ) (٣).

٤. (نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ) (٤).

وعَلى كلّ حالٍ فإنّ لمحقّقي الشيعة حول استعمال لفظ البداء ، بالنظر إلى امتناع حصول التغيّر ، والتبدّل في علم الله تعالى دراساتٍ وتحقيقاتٍ قَويّةً وشيِّقةً لا مجال لذكرها هنا ، ونحن نحيل من يحب الاطّلاعَ عليها إلى الكتب والمؤلّفات التي تتضمن هذه الأبحاث (٥).

الأصلُ التاسعُ والعشرون بعد المائة : الرجعة

«الرجعَة» في اللغة تعني العَودة ، والمقصود منها في الثقافة الشيعيّة هو عودة جماعةٍ من الأُمّة الاسلاميّة إلى الحياة بعد ظهور الإمام المهديّ عجّل اللهُ فرجَه الشريف ، وقبل قيام القيامة.

ويَشهَد القرآنُ الكريمُ قبل أيّ شيءٍ بوجود مسألة الرَّجعة في الثقافة الإسلاميّة.

__________________

(١). الطارق / ١٥ ـ ١٦.

(٢). النمل / ٥٠.

(٣). النساء / ١٤٣.

(٤). التوبة / ٦٧.

(٥). كتاب التوحيد للصدوق ، ص ٣٣١ ـ ٣٣٦ ؛ تصحيح الاعتقاد للشيخ المفيد ٢٤ ؛ عدة الأُصول ٢ / ٢٩ ؛ كتاب الغيبة ، ص ٢٦٢ ـ ٢٦٤ طبعة النجف.

٢٩١

فقد قال سبحانه وتعالى في سورة النَّمل الآية ٨٣ :

(وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ).

وفي الآية ٨٧ من سورة النمل يقول :

(وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ).

أي بعد النفخ يفزع كل الناس جميعاً ومن دون استثناء.

إنّ الآية الأُولى تتحدّث عن إحياء فريقٍ خاصٍّ في اليوم الأوّل بينما تتحدث الآيةُ الثانيةُ عن إحياء جميع الناس ممّا يكشف عن أنّ اليوم الأوّل هو غير يوم القيامة وإنّهما يختلفان.

فالقرآنُ يتحدَّث كما نرى بوضوحٍ عن يومين ، وقد عطف اليوم الثاني على اليوم الأوّل ، ممّا يكشف عن أن هناك حَشرين وإعادتين إلى الحياة بعد الموت.

ونُذكِّر ثانيةً بأنّ الآية الأُولى تتحدّث عن إحياء طائفة من الناس ومن الطبيعي أن مثل هذا اليوم لا يمكن أن يكون يوم القيامة ، لأنّ الناس في ذلك اليوم يُحشرون بأجمعهم ، كما قال أيضاً في الآيات ٩٣ ـ ٩٥ من سورة مريم :

(إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً* لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا* وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً).

٢٩٢

وكما يقول تعالى في آية أُخرى في وصف يوم القيامة :

(وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً) (١).

فيُستنتج من المقارنة بين الآية ٨٣ من سورة النمل وبين الآيات ٩٣ إلى ٩٥ من سورة مريم و ٤٧ من سورة الكهف الاختلاف بينها في المضمون : أنّ العالم البشري ينتظر يومين يُحشَر في أحدهما بعضُ الناس ، ويُحشَر في الآخر جميعهم بلا استثناء.

وروايات الشيعة التي ترتبط بالرجعة ، تتعلق بما يقع بعد ظهور الإمام المهدي عليه‌السلام ، وقبل يوم القيامة.

إنّ عودة جماعة من الصالحين ، والظالمين قبل يوم القيامة ليس بالأمر العجيبِ أبداً لأنّه قد وَقَع مثلُ ذلك في الأُمم السالفة حيث عاد بعضُ الناس إلى الحياة مرةً أُخرى ثمّ ماتوا بعد ذلك ثانية. (٢)

إنّ عودةَ البعض إلى الحياة في هذا العالَم (الدنيويّ) بعدَ الموت لا هو مخالف لحكم العقل ، ولا هو معارضٌ للنقل ، لأنّه كما أسلفنا ممّا صرّح القرآنُ الكريمُ بوقوع نظيره في الأُمم السالِفة ، وهذا هو خير دليلٍ على إمكان وقوعه.

__________________

(١). الكهف / ٤٧.

(٢). مِثل إحياء فريق من بني إِسرائيل ، كما في سورة البقرة الآيات ٥٥ ـ ٥٦ ، وإحياء المقتول من بني إسرائيل بواسطة بقرة بني إسرائيل ، كما في سورة البقرة الآيات ٧٢ و ٧٣ ، وموت جماعة من الناس وإحيائهم كما في سورة البقرة الآية ٢٤٣ ، وإِحياء عزير بعد مائة عام ، كما في سورة البقرة الآية ٢٥٩ ، وإحياء الموتى بإعجازٍ من السيد المسيح كما في سورة آل عمران الآية ٤٩.

٢٩٣

على أنّ «الرَّجعةَ» تختلف عن «التَّناسخ» ، وتشبيه الأَوّل بالثاني تشبيهٌ خاطئٌ جِدّاً ، وذلك لأنّ «التناسخ» يعني عودة الرُّوح والنفس إلى الحياة بعد الموت مرّةً أُخرى ابتداءً من مرحلة النطفة ، أو تعلّقها بِبَدنٍ آخر ، والحال أنّه لا يَحدُث مثلُ هذين الأمرين الباطلين في «الرجعة» قط.

إنَّ حكمَ الرجعة ـ من هذه الجهة ـ أشبه ما يكون بعودة الموتى إلى الحياة في الأُمم السابقة وبالمعادِ الجِسمانيّ الذي يقع في القيامة.

وفي الحقيقة إنّ «الرَّجعة» هو مظهرٌ مصغَّرٌ مِن القيامة النهائية الحقيقيّة الكبرى التي يُحشَر فيها الناسُ أجمعون ، وبلا استثناء.

إنَّ البَحث المفَصَّل حول «الرَّجعة» والحديث حول جزئيّاتها ، وتفاصيلها ، موكول إلى : كتب التفسير ، والحديث ، والكلام ، الشيعية ، وقد بَلَغت رواياتُ الشيعة في هذا المجال حدَّ التَّواتر ، وثمّت ما يفوق ثلاثين حديثاً رويت في أكثر من خمسين مؤلّفاً (١).

الأصلُ الثلاثون بعد المائة : عدالة الصحابة

إنّ لِصَحابة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الّذين آمَنوا به في حياته ، واستفادوا منه المعرفةَ ، وأخذوا عنه العلمَ ، والسنة ، احتراماً خاصّاً عندنا نحن الشيعة الإمامية ، وذلك من دون فرقٍ بين الذين استُشهدوا في معركة «بدر» و «أُحد» و «الخندق» و «حُنين» ، أو بقوا على قيد الحياة بعد رَسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

__________________

(١). لاحظ بحار الأنوار : ٥٣ / ١٣٦.

٢٩٤

فكل هؤلاء الذين آمنوا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعاشوا معه ، وصَحِبُوه محترمون ، ولا يجوز لمسلمٍ في العالم أن يسيء إلى صحابة رسولِ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (من جهة كونهم صحابةً للنبيّ) أو يؤذيهم ، ونِسبة مثل هذا الموقف إلى فريق من المسلمين نسبةٌ ظالمةٌ وافتراءٌ مرفوض.

ولكن إلى جانبِ هذه المسألة ثمّت مسألةٌ أُخرى يجب دراستها من دون تعصّب أو حبّ وبُغض غير مُبرَّرَين ، وهي : هل أن جميع صحابة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عدولٌ وأتقياء ، ومنزَّهون عن الذنوب ، أو أنّ حكمَ الصحابة في هذه النقطة هو عين حكم التابعين الذين لا يمكن ان نعتبر جميعهم عدولاً أتقياء.

إنّ من البديهيِّ أنَّ مرافقة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورؤيته وان كانت مبعث فخرٍ واعتزاز لمن يرافقه ويراه إلّا أنّ كل هذه الأُمور لا توجب المصونية لهم من الذنوب ، ولا الحصانة من المعاصي ، ولا يمكن النظر إلى جميع الصحابة بنظرة واحدة ومساوية ، واعتبارهم جميعاً عدولاً أتقياء ، مبرَّئين عن كلّ زَلَلٍ وخطل ، ذلك لأنّهم ـ بشهادة القرآن ـ من حيث الإيمان والنّفاق ، ومن حيث الطاعة والعِصيان ، والتسليم وعدم التسليم أمامَ الله ونبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أصناف مختلفة ، وفي هذا التصنيف لا يمكن اعتبارهم جميعاً في مرتبةٍ واحدةٍ ، ولا اعتبارهم جميعاً عدولاً أتقياء.

إنّه ممّا لا شكَّ فيه أنّ القرآن الكريم مدح أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مواقع مختلِفة (١) ، وللمثال قد ذَكَرَ القرآنُ أنّ اللهَ رضى عن الّذين بايَعوا

__________________

(١). لاحظ سورة التوبة / ١٠٠ ، وسورة الفتح / ١٨ و ٢٩ ، وسورة الحشر / ٨ و ٩.

٢٩٥

تَحتَ الشجرة في حالة صلح الحديبية ، إذ قال سبحانه :

(لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) (١).

فالآية تعكس رضى الله سبحانه عن المؤمنين ، لكنّها لا تعني انّهم صاروا بذلك عدولاً أتقياء إلى آخر عمرهم وان عَصَوا وخالفوا أمره سبحانه ، نعم ثبت رضاه سبحانه عنهم في فترة خاصة وهو حال المبايعة بشهادة قول : (إِذْ يُبايِعُونَكَ) وهو ظرف للرضا. فهذا المدح لهم لا يدلُّ على ضمان صلاحِهم واستقامتِهم حتى آخر لحظة من حياتهم.

ولهذا إذا سلك شخصٌ أو أشخاصٌ منهم طريق الخلاف فيما بعد لم يكن رضا الله تعالى عنهم في طرف المبايعة دليلاً على تقواهم المستمرّ ، ولا شاهداً على فلاحِهم الأبديّ ، لأنّ شأنَ هذا الفريق ، ومقامَهم ليس أعلى ولا أسمى من شأن ومقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي قال الله مخاطباً إيّاه :

(لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٢).

إنّ الآيات المادحة للمهاجرين والأنصار تبيّن ما حصل عليه هؤلاء الأشخاص من الكمال في تلك الحالة ، ومن البديهيِّ أنّهم سيكونون مفلِحين دائماً إذا حافظوا على هذا الكمال إلى آخر لحظة من حياتهم.

__________________

(١). الفتح / ١٨.

(٢). الزمر / ٦٥.

٢٩٦

وعلى هذا الأساس لو دلّتِ الدلائلُ القاطعة من الكتاب والسُّنّة على انحراف فردٍ ، أو أفرادٍ لا يَصحُّ في هذه الحالة الاستنادُ إلى المدائح المذكورة لهم.

ولنضربْ مَثَلاً على ذلك ما جاء في القرآن الكريمِ في حق أحد الصحابة.

فإنّ القرآنَ الكريمَ وصف أحد الصحابة بأنّه «فاسق» (١) إذ قال :

(إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) (٢).

وقال في آية أُخرى :

(أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ) (٣).

إنّ هذا الفرد بِشهادة التاريخ القطعيّ هو «الوليد بن عُقبة» وكان من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رغم كونه صحابيّاً ومهاجراً وهما فضيلتان سامقتان إلّا أنّه لم يتمكّن من المحافظة على هاتين الفضيلتين ، بل تسبَّبَ كِذبُه على طائفة «بني المصطَلَق» بأن يُذكَر بلفظ «الفاسق».

ومع الالتفات إلى هذه الآية ونظائرها (٤) وكذا ملاحظة الأحاديث التي وَرَدَت في ذمّ بعض الصَّحابة في كتب الحديث (٥) ، وكذا في ضوء

__________________

(١). راجع التفاسير عند توضيح هاتين الآيتين.

(٢). الحُجُرات / ٦.

(٣). السجدة / ١٨.

(٤). لاحظ آل عمران / ١٥٣ ـ ١٥٤ ، الأحزاب / ١٢ ، التوبة / ٤٥ ـ ٤٧.

(٥). جامع الأُصول ، ج ١١ ، كتاب الحوض ، الحديث رقم ٧٩٧٢.

٢٩٧

مطالعة التاريخ الإسلاميّ والوقوف على سيرة بعضهم (١) لا يمكن اعتبار جميع صحابة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذين يتجاوز عددهم المائة ألف شخصٍ عُدولاً أتقياء جميعاً.

على أنّ ما نحن بصدد بحثه ودراستهِ هنا هو «عدالةُ جميع الصحابة» لا سبّ الصحابة ، وإنّ من المؤسف أنّه لم يفرّق البعضُ بين المسألتين ، وإنّما عمد إلى اتّهام المخالفين في المسألة الأُولى والإيقاع فيهم في غير ما حق.

وفي الخاتمة نؤكّدُ على أنّ الشيعةَ الإماميّة لا ترى احترام صحبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مانعاً من مناقشة أفعال بعض صحابته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والحكم عليها وتعتقد بأنّ معاشرةَ النبي لا تكون سبباً للمصُونيّة من المعاصي إلى آخر العمر.

على أنّ موقف الشيعة ، في هذا المجال ينطلق من الآيات القرآنية ، والأحاديث الصحيحة ، والتاريخ القطعي ، والعقل المحايد الحصيف.

الأصلُ الواحدُ والثلاثون بعد المائة : محبَّة النبي وآله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

إنّ محبَّة النبيّ وأهلِ بيته الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين ومودَّتهم من أُصول الإسلام الّتي أكّدَ عليها القرآنُ والسُّنة ، فقد قال القرآن الكريمُ في هذا الصَّدَد :

__________________

(١). صحيح البخاري ، ج ٥ ، تفسير سورة النور ، ص ١١٨ ـ ١١٩.

٢٩٨

(قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) (١).

وقال في آية أُخرى :

(فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٢).

فَإنّ الله تعالى يَعُدُّ ـ في هذه الآية ـ أربع خصوصيات للمفلحين وهي :

١. الإيمانُ بالنبي : (آمَنُوا بِهِ).

٢. تكريمهُ وتوقيره : (وَعَزَّرُوهُ).

٣. نصرهُ وتأييده : (وَنَصَرُوهُ).

٤. اتّباعُ النور (القرآن) الذي أُنزِلَ معه : (وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ).

ونظراً إلى أن «نصرةَ» النبيّ الأكرم جاءَت في الخصيصة الثالثة لذا لا مناص من أنْ يكون المرادُ بلفظة (عَزَّرُوهُ) في الخصيصة الثانية هو تكريمُ النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتعظيمه ولا شك أنّ تعظيمه وتكريمه لا يختص بزمان

__________________

(١). التوبة / ٢٤.

(٢). الأعراف / ١٥٧.

٢٩٩

حياته ، كما أَنّ الإيمان الذي ورد ذكره في الآية ليس محدوداً كذلك.

وفي مجال لزوم محبّة أهل بيته ومودّتهم يكفي أنّ القرآن الكريم اعتبرها أجراً للرسالة (أي أنّه بمنزلة الأجر لا الأجر الواقعي) ، إذ يقول تعالى :

(قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) (١).

إنّ الدعوة إلى محبّة النبيّ ، ومودَّته والحث عليها لم يرد في القرآن الكريم وحده. بل جاء التأكيد عليها حتى في الأحاديث الشريفة التي نذكر منها نموذجين على سبيل المثال لا الحصر :

١. قالَ رسولُ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يُؤمِنُ أحدُكم حتى أكونَ أحبَّ إليه من وُلْدِهِ والناسِ أجمعين» (٢).

٢. وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حديثٍ آخر : «ثلاثٌ مَن كُنَّ فيه ، ذاقَ طَعمَ الإيمانِ : مَنْ كانَ لا شيءَ أحبَّ إليه من الله ورسوله ، وَمَنْ كان لئِن يُحَرق بالنّارِ أحبّ إليه من أن يرتدَّ عن دِينهِ ، وَمَنْ كانَ يحبُّ لله ويُبْغِضُ لله». (٣)

كما أنّ محبَّة أهلِ بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومودَّتهم جاءَ التأكيدُ والحثُّ عليها في الأحاديث الشرِيفة أيضاً ونود ذكر بعض تلك الأحاديث على سبيل النموذج :

__________________

(١). الشورى / ٢٣.

(٢). كنز العمال ج ١ / ٣٧ ، ح ٧٠.

(٣). كنز العمال : ج ١ ، ح ٧٢ ؛ وجامع الأُصول ج ١ ، ص ٢٣٨.

٣٠٠