العقيدة الإسلاميّة على ضوء مدرسة أهل البيت عليهم السلام

الشيخ جعفر السبحاني

العقيدة الإسلاميّة على ضوء مدرسة أهل البيت عليهم السلام

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


المترجم: الشيخ جعفر الهادي
الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٥٨

٢. مضافاً إلى ما هو مُندرَجٌ في صحيفة كل واحد من الصغائر والكبائر ، ثمّتَ شهُودٌ من داخلِ الإنسان وخارجه تشهدُ يومَ القيامة بأعمالهِ التي عَمِلَها في العالمِ الدُّنْيويّ.

والشهود الّذين من الخارج هم عبارةٌ عن الله (١) ونبي كلّ أُمّة (٢) ونبيّ الإسلام (٣) ، والصفوة الأخيار من الأُمّة (٤) ، والملائكة (٥) ، والأرض (٦).

وأمّا الشهودُ من داخل الكيانِ البشريّ فهم عبارة عن الأعضاء والجوارح (٧) ، وتجسّم الأعمال (٨) نفسِها.

٣. هناكَ لمحاسبة الإنسان على أعماله ـ مضافاً إلى ما قلناه ـ ما يُسمّى ب «موازين العَدل» التي تُقامُ يومَ القيامة ، وتضمِن وصولَ كلّ إنسان إلى ما يستحقه من الجزاء على وجهِ الدقّة كما يقول تعالى : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) (٩).

٤. ويُستفاد من الأحاديث الشريفة أنّ هناك ـ يومَ القيامة ـ ممرّاً يجبُ أن يعبر منه الجميعُ بلا استثناء.

__________________

(١). لاحظ آل عمران / ٩٨.

(٢). لاحظ النحل / ٨٩.

(٣). لاحظ النساء / ٤١.

(٤). لاحظ البقرة / ١٤٣.

(٥). لاحظ ق / ١٨.

(٦). لاحظ الزلزلة / ٤ ـ ٥.

(٧). لاحظ النور / ٢٤ ، فُصّلت / ٢٠ ـ ٢١.

(٨). لاحظ التوبة / ٣٤ ـ ٣٥.

(٩). الأنبياء / ٤٧.

٢٤١

وهذا الممرّ يُعبّر عنهُ في الروايات بالصراط ، وقد ذهبَ المفسرون إلى أنّ الآيات ٧١ ـ ٧٢ من سورة مريم ناظرة إليه. (١)

٥. هناكَ حائلٌ بين أهل الجنّة وأهل النار أسماه القرآنُ الكريم ب (الحجاب) كما أنّه يقف شخصياتٌ رفيعةُ المستوى على مكانٍ مرتفعٍ يعرفون كلّاً مِن أهلِ الجنّة وأهلِ النارِ بسيماهُم كما يقولُ سبحانه :

(وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ) (٢).

وهؤلاءُ الشخصيّات العالِية المستوى هم ـ كما تُصرّح رواياتُنا ـ الأنبياءُ وأوصياؤهم الكرام البرَرَة.

٦. عند ما تَنْتهِي عمليّةُ الحساب ويَتّضح مصيرُ الأشخاص يومَ القيامة يعطي اللهُ سبحانه لواءً بيد النبيّ الأكرمِ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يُدعى «لواء الحمد» فيتحرّكُ أمامَ أهلِ الجنة ، إلى الجنّة. (٣)

٧. أخبَرَتِ الرواياتُ العديدةُ بوجود حوضٍ كبير في المحشر يُعرَف بحوض «الكوثر» ، يحضر عنده رسولُ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويسقى الصالحون من الأُمّة من ماء ذلك الحوض بأيدي النبيّ وأهلِ بيته عليهم‌السلام.

__________________

(١). (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا* ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا) (مريم / ٧١ ـ ٧٢).

(٢). الأعراف / ٤٦.

(٣). بحار الأنوار ، ج ٨ ، الباب ١٨ ، الأحاديث ١ ـ ١٢ ؛ ومسند أحمد ١ / ٢٨١ ، ٢٩٥ و ٣ / ١٤٤.

٢٤٢

الأصلُ الرابع عَشَر بعد المائة : الشفاعة

تُعتبر شفاعة الشافعين يوم القيامة بإذن الله تعالى إحدى العقائد الإسلاميّة المُسَلَّمة الضروريّة.

إنّ الشفاعةَ تشملُ أُولئك الذين لم يقطعوا صِلتهم بالله ، وبالدين بصورةٍ كاملة ، فصاروا صالحين لشمولِ الرحمةِ الإلهيّةِ لهم بواسطة شفاعةِ الشافعين ، رغم تورُّطِهم في بعض المعاصي والذنوب.

والاعتقادُ بالشَّفاعة مأخوذٌ من القرآن الكريم والسُّنة ونشير إلى بعض تلك النصوص فيما يأتي :

ألف : الشفاعة في القرآن

إنَّ الآياتِ القرآنيّة تحكي عن أصل وجودِ الشفاعة يومَ القيامة ، وتصرّح بأصل وجودِ الشفاعة وأنّها تقع بإذنِ اللهِ تعالى.

ويقول :

(وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) (١).

فمَنْ هُم الشّفَعاء؟

يُستَفادُ من بعض الآيات أنّ الملائكة من الشّفعاء يومَ القيامة كما يقولُ : (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى) (٢).

__________________

(١). الأنبياء / ٢٨.

(٢). النجم / ٢٦.

٢٤٣

ويذهبُ المفسِّرون في تفسير قولِهِ تعالى : (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) (١) ، إلى أنّ المقصود مِنَ «المقام المحمود» هو مقامُ الشّفاعة الثابتُ للنبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ب : الشفاعة في الروايات

لقد تحدّثت روايات كثيرة ورَدَت في كتبِ الحديث عن الشفاعة مضافاً إلى القُرآنِ الكريم. ونشيرُ إلى بعضِ هذه الأحاديث :

١. يقولُ النبيُّ الأكرمُ : «إنَّما شَفاعَتي لأَهلِ الكَبائِر مِن أُمَّتِي» (٢).

والظاهر أنّ عِلّة اختصاص الشفاعة بمرتكبي الكبائر من الذنوب وشمولها لهم خاصة ، هو : أنّ اللهَ وَعَد في القرآنِ بصراحة بأن يغفرَ للناسِ السيئات الصغيرة إذا ما هم اجتنبوا الكبائرَ (٣) فبقيّة الذنوب ما عدا الكبائر تشملُها المغفرة ، في الدنيا ومع المغفرة لا موضوع للشفاعة.

٢. «أُعْطِيْتُ خَمْساً ... وأُعطِيتُ الشفاعَة ، فَادّخَرْتُها لأُمَّتي فهيَ لِمَن لا يُشْرك بِاللهِ» (٤).

وعلى من أراد التعرّف على غيره من شفعاء يوم القيامة كالأئمة

__________________

(١). الإسراء / ٧٩.

(٢). الشيخ الصدوق ، من لا يحضره الفقيه ، ٣ / ٣٧٦.

(٣). لاحظ النساء / ٣١.

(٤). الخصال للشيخ الصدوق ، باب «الخمسةُ» ؛ صحيح البخاري ، ١ / ٤٢ ؛ مسند أحمد ، ١ / ٣٠١.

٢٤٤

المعصومين ، والعلماء ، وكذا المشفوع لهمْ ، أن يُراجِعَ كتبَ العقائد ، والكلام ، والحديث.

كما أنّه لا بُدّ أن نَعلَمَ بأنّ الاعتقاد بالشَّفاعة ، مثل الاعتقاد بقبُول التوبة ، يجب أن لا يوجبَ تجرُّؤَ الأشخاص على ارتكاب الذنوب ، بل يجب أن يُعَدَّ هذا الأمر «نافذةَ أمَل» تعيدُ الإنسانَ إلى الطريقِ الصحيحِ ، لكونه يرجو العفو ، فلا يكونُ كالآيسين الّذين لا يفكّرون في العودة إلى الصراط المستقيم قط.

ومِن هذا يتضح أنّ الأثر البارز للشفاعة هو مغفرة ذنوب بعض العُصاة والمذنبين ولا ينحصر أثَرُها في رفع درجة المؤمنين كما ذهبَ إلى ذلك بعض الفِرقُ الإسلامية (كالمعتزلة). (١)

الأصلُ الخامسُ عشر بعد المائة : طلب الشفاعة في الدنيا

إنّ الاعتقادَ بأصلِ الشفاعة في يَوم القيامة (في إطار الإذن الإلهيّ) ـ كما أسلَفنا ـ من العقائِد الإسلاميّة الضرورية ولم يخدش فيها أحدٌ.

يبقى أنْ نرى هل يجوز أن نطلب الشفاعةَ في هذه الدنيا من الشافعين المأذون لهم في الشفاعة يوم الحساب ، كالنبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أم لا؟

وبعبارةٍ أُخرى ، هل يصح أن يقول الإنسانُ : يا رسولَ الله يا وجيهاً

__________________

(١). أوائل المقالات للشيخ المفيد ص ٥٤ وكتب أُخرى.

٢٤٥

عند الله اشفع لي عند الله؟

الجواب هو : أنّ هذا الموضوعَ كان محلَّ اتفاقٍ وإجماعٍ بين جميع المسلمين إلى القرن الثامن ، ولم ينكرْه إلّا أشخاصٌ معدودُون من منتصف القرنِ الثامن ، حيث خالَفوا طلبَ الشفاعة من الشفعاء المأذون لهم ، ولَم يجوّزوه في حين أنّ الآيات القرآنيّة والأحاديث النبويّة المعتبرة ، وسيرة المسلمين المستمرة تشهَدُ جميعُها بجوازه ، وذلك لأنَّ الشفاعة هو دُعاؤهم للأشخاص ومن الواضح أن طلبَ الدعاء من المؤمن العاديّ (فضلاً عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) أمرٌ جائز ومستحسَن ، بلا ريب.

ولقد رَوى ابنُ عباس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما يُستفاد منه بوضوحٍ بأنّ شفاعة المؤمن هو دعاؤه في حق الآخرين فقد قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما مِن رَجُلٍ مُسْلِم يَموتُ فَيَقومُ على جَنازَتِهِ أربَعون رَجُلاً لا يُشركُونَ بالله شيئاً إلّا شفَّعهُم اللهُ فِيه» (١).

ومِنَ البديهيّ والواضح أنّ شفاعة أربعين مؤمن عند الصلاة على الميّت ليس سوى دعاؤهم لذلك الميت.

ولو تَصَفَّحْنا التاريخَ الإسلاميَّ لوَجَدنا أنّ الصّحابة كانوا يطلبون الشفاعة من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فها هو الترمذيّ يروي عن أنَس بن مالك أنّه قال : سألتُ النبيَّ أنْ يَشْفَعَ لي يومَ القِيامة فقال : أنا فاعل.

__________________

(١). صحيح مسلم : ٣ / ٥٤.

٢٤٦

قلتُ : فأَينَ أطلبُك؟

فقالَ : عَلى الصّرِاطِ (١).

ومع الأخذ بِنَظَر الاعتبار أن حقيقة الاستشفاع ليست سوى طلب الدعاءِ من الشفيع ، يمكن الإشارةُ إلى نماذج مِن هذا الأمر في القرآن الكريم نفسِه :

١. طلبَ أبناءُ يعقوب من أبيهِم أن يستغفرَ لهم ، وقد وَعَدَهم بذلك ووفى بوعده ، يقول تعالى : (قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ* قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي) (٢).

٢. يَقولُ القرآنُ الكريمُ : (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً) (٣).

٣. يقولُ في شأن المنافقين : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) (٤).

فإذا كانَ الإعراضُ عن طَلَب الاستغفار من النَّبيّ ـ الذي يَتّحد في حقيقته مع الاستشفاع ـ علامةَ النِّفاق ، والاستكبار ، فإنّ الإتيان بهذا الطَّلَب وممارسته يُعدّ بلا شكّ علامةُ الإيمانِ.

__________________

(١). صحيح الترمذي : ٤ / ٤٢ ، باب ما جاء في شأن الصراط.

(٢). يوسف / ٩٧ ـ ٩٨.

(٣). النساء / ٦٤.

(٤). المنافقون / ٥.

٢٤٧

وحيثُ إنّ مقصودَنا ـ هنا ـ هو إثبات جواز طلب الشفاعة ، ومشروعيّتهِ ، لذلك لا يَضرُّ موتُ الشفيعِ في هذه الآيات بالمقصود ، حتى لو فُرض أنّ هذه الآيات وَرَدَت في شأنِ الأحياء من الشّفَعاءِ لا الأموات ، لأن طَلَبَ الشفاعة مِنَ الأحياء إذا لم يكن شركاً فإنّ من الطبيعي أن لا يكونَ طلبُها من الأموات كذلك شركاً لأنّ حياة الشفيع وموته ليس ملاكاً للتوحيد والشرك أبداً ، والأمرُ الوحيدُ الذي هو ضروري ومطلوبٌ عندَ الاستشفاعِ بالأرواح المقدَّسة هو قدرتُها على سماع نداءاتنا ، وهو أمرٌ قد أثبتْناه في مبحث التوسُّل حيث أثبتنا ـ هناك ـ (١) وجود مثل هذا الارتباط.

وهنا لا بدّ أن نلتفتَ إلى نقطةٍ هامّة وهي أن استشفاعَ المؤمنين والموَحّدين من الأنبياء والأولياء الإلهيّين يختلفُ اختلافاً جَوهرياً عن استشفاع الوثنيّين من أصنامهم وأوثانهم.

فالفريقُ الأوّل يطلبُ الشَّفاعةَ من أولياءِ الله ، وهو مذعِنٌ بحقيقتين أساسيّتين :

١. إنَّ مقامَ الشفاعة مقامٌ خاصٌّ بالله ، وحقٌّ محضٌ له سبحانه كما قال :

(قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً) (٢).

أي قل : إنّ أمر الشفاعة كلَّه بِيَدِ اللهِ ولا يحقّ لأحدٍ أن يشفَعَ مِن دون إذنِهِ ولن تكونَ شفاعةٌ مؤثرةً بغيره.

__________________

(١). لاحظ الأصل ١٢٦ و ١٢٧ وص ٢٧٩ ـ ٢٨٦.

(٢). الزمر / ٤٤.

٢٤٨

٢. إنّ الشُّفعاء الذين يَستشفِعُ بهم الموحِّدون عبادٌ صالحون مخلصُون لله سبحانه يستجيب الله دعاءَهم لِمكانَتِهِم عنده وَلِقُربِ مَنزِلَتهِم منه سبحانه.

وبهذين الشرطين يفترقُ الموحِّدُون عن الوثنيّين في مسألة الاستشفاع افتراقاً أساسياً.

أوّلاً : انّ المشركين لا يرون لنفوذ شفاعتهم وتأثيرها أيَّ قيد أو شرط ، وكأنّ اللهَ فَوَّضَ أمرَ الشفاعة إلى تلك الأصنام العَمياء الصَّمّاء. في حين أنّ الموحّدين يعتبرون الشفاعة كلّها حقاً مختصاً بالله ، تبعاً لما جاء في القرآن الكريم ، ويُقيِّدون قبولَ شفاعة الشافعين وتأثيرها بإذن الله ورضاه وإجازته.

ثانياً : إنّ مشركي عصر الرسالة كانوا يَعتبرون أوثانهم وأصنامَهم ومعبوداتهم المختلفة أرباباً وآلهةً ، وكانوا يظنّونَ سفهاً أنّ لِهذهِ الموجودات الميّتة ، والجمادات سَهْماً في الرّبوبيّة ، والأُلُوهيّة ، بينما لا يرى الموحّدون ، الأنبياءَ والأئمةَ إلّا عباداً صالحين ، وهم يردّدُون في صلواتهم وتحياتهم دائماً عبارة : «عَبْدُه ورسوله» و «عباد الله الصالحين».

فانظرْ إلى الفرق الشاسِعِ ، والتفاوت الواسِع بين الرؤيتين والمنطِقَين.

بِناءً على هذا فإنّ الاستدلالَ بالآيات التي تَنفي وتندّدُ باستشفاعِ المشركين من الأصنام ، على نَفي أصل طلب الشفاعة في الإسلام ، استدلالٌ مرفُوضٌ وباطلٌ وهو من باب القياس مع الفارق.

٢٤٩

الأصلُ السادسُ عشر بعد المائة : التوبة

إنّ انفتاح بابِ التوبةِ في وجهِ العُصاة والمُذنبين والدعوة إليها من التعاليمِ الإسلاميّة بل مِن مقرّرات جميعِ الشرائع السَّماويّة.

فعند ما يندَمُ الإنسانُ المذنبُ من عَمَلِهِ القبيحِ نَدَماً حقيقيّاً ويملأُ التوجّهُ إلى الله ، والتضرُّع إليه فضاءَ رُوحه ، فيقرّر من صميمِ قَلبه أن لا يرتكبَ ما ارتكبَ ثانيةً ، قَبِل اللهُ الرحيمُ أوبتَه وتَوبته ، بشروطٍ مَذكورةٍ في كتُب العقيدة والتفسير. يقول القرآنُ الكريمُ في هذا الصَّدَد :

(وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (١).

إنّ الّذين لا يَعرفونَ الآثار التربويّة الإيجابيّة للتوبة يتصوَّرُون أنّ فتح هذين البَابين (بابِ الشفاعة وباب التوبة) في وجه العُصاة والمذنبين يشجّعهم ـ بشكلٍ ما ـ على المعصية ، في حين يغفل هؤلاء عن أنّ كثيراً من النّاس متورّطونَ في بعض المعاصي ، وقلّما يوجَد من لم يرتكبْ ذَنباً في حياته طوال عمره.

وعلى هذا الأساس ، إذا لم يكن بابُ التوبة مفتوحاً في وَجه هؤلاء لقالَ الذين يريدون أن يغيّروا مسيرهم ويقضوا بقيَّةَ أيّام حياتِهِمْ في الطُّهْر والنقاء مع أنفسهم : إنَّنا سنَلقى ـ على كلّ حالٍ ـ جزاءَ ذُنوبنا ، وندخل جهنّم فلِمَ لا نستجيبُ لِرَغباتنا؟ ولمَ لا نحقّق شهواتِنا فيما تبقى من عُمُرنا ما دام هذا هو مصيرُنا ، وهو مصيرٌ لا يَتَغيَّر قطّ ولا مفرّ منه أبداً؟.

__________________

(١). النور / ٣١.

٢٥٠

وهكذا نكونُ بإغلاقنا بابَ التَّوبة قد فَتَحْنا في وجه النّاس بابَ اليأس والقنوط ، ومَهَّدْنا للمزيد من المعصية وللتمادي في ارتكاب القبائِح والذنوب ..

إنَّ الآثار الإيجابيّة لأصل التوبة تتّضحُ أكثر فأكثر عند ما نعلم بأن الإسلام يقيِّد قبولَ التوبة بشروطٍ خاصّةٍ ذكرَها ـ بتفصيل ـ أئمةُ الدّين ، والمحقّقون من علماءِ الإسلام.

إنَّ القرآن الكريم يتحدّث عن التوبة بصراحةٍ تامةٍ إذ يقول :

(كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١).

ثمّ إنّه قد ذُكرَ الأشخاصُ الذين لا تُقبَلُ توبتهم عندَ الله سبحانه في كُتب الفِقه ، والتفسير ، والعقيدة فمنَ شاء راجَعَها.

الأصلُ السابعُ عشر بعد المائة : الإنسان ينال جزاء أعماله

يَشهدُ العقلُ والنقلُ بأنّ كلَّ إنسانٍ يَرى جزاءَ عملِهِ ، إنْ خيراً فخيرٌ ، وإن شرّاً فشرّ.

يقول القرآنُ في هذا الصَّدد : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) (٢).

ويقول أيضاً : (وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى * ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى) (٣).

__________________

(١). الأنعام / ٥٤.

(٢). الزلزلة / ٧.

(٣). النجم / ٤٠ ـ ٤١.

٢٥١

ويُستفاد من الآيات السابقة أنَّ أعمالَ الإنسان القبيحة ، لا تُزيل أعمالهُ الصالحة ولا تقضي عليها ، ولكن يجب أنْ نعلم في نفس الوقت أنّ الذين يرتكبون بعضَ الذنوب الخاصّة كالكُفر والشرك ، أو يَسلكون سبيل الارتداد سيُصابون بالحَبط ، أيْ أنّ أعمالَهم الصّالِحة تُحبط وتهلَكَ ، ويَلقون في الآخرة عَذاباً أبديّاً كما يَقول سبحانه :

(وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (١).

ونظراً إلى ما قلناه فإنّ كلَّ إنسانٍ مؤمنٍ سيَرى ثوابَ أعماله الصّالِحَة في الآخرة خيراً كانت أو شراً ، إلّا إذا ارتدّ ، أو كَفَرَ ، أو أشرَكَ ، فإنّ ذلك سيأتي على أعماله الصالِحَة ويقضي عليها ـ كما دَلّ على ذلكَ الكتابُ والسنّةُ ـ.

وفي الختام لا بُدَّ من التذكير بالنقطة التالية وهي : أَنّ اللهَ سبحانه وتعالى وإنْ وَعَدَ المؤمِنين بالثواب على أعمالِهم الصالِحة ، وفي المقابل أوعد على الأعمال السيئة ، ولكن «الوعدَ» و «الوَعيد» هذين يختلف أحدُهما عن الآخر ـ في نظر العقل ـ لأنّ العَملَ بالوعد أصلٌ عقلي ، والتخلّفَ عنه قبيح ، لأنّ في التخلّف عنه تضييعاً لِحقّ الآخرين ، وإن كانَ هذا الحقّ مما أوجبَهُ الواعدُ ، نفسُه على نفسه ، وهذا بخلاف الوعيد فهو حق للمُوعِد وله الصفح عن حقه والإعراض عنه ولهذا لا مانعَ مِن أن تستر بعضُ الأعمالِ الصالِحة الحسنة قباحةَ بعض الأعمال السيئة وهو ما

__________________

(١). البقرة / ٢١٧.

٢٥٢

يُسمّى بالتكفير (١).

وقد صَرَّحَ القرآنُ الكريمُ بكونِ بعضِ الأعمال الصَّالحة الحَسَنة مكفّرةً للأعمال السَّيئة ، وأحَد هذه الأعمال هو اجتناب الشخص للذنوب الكبيرة :

(إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً) (٢).

وكذا يكونُ لأعمالٍ أُخرى مثل التوبة (٣) ، وصدقة السر (٤) وغير ذلكَ مِثل هذا الأثر.

الأصلُ الثامن عَشَر بعد المائة : الخلود في الجحيم خاصّ بالكفّار

إنّ الخُلودَ في عذاب جهنّم خاصّ بِالكفّار ، وأمّا المؤمنون العُصاة الذين أشرقت أرواحهم بنورِ التوحيد ، فطريقُ المغفرة والخروج من النار غير مسدودة عليهم كما يقولُ اللهُ تعالى :

(إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً) (٥).

إنّ الآيةَ المذكورةَ الّتي تخبرُ بِصراحة عَن إمكان المغفرة والعفو عن

__________________

(١). كشف المراد ، ص ٤١٣ ، المقصد ٦ ، المسألة ٧.

(٢). النساء / ٣١.

(٣). لاحظ التحريم / ٨.

(٤). لاحظ البقرة / ٢٧١.

(٥). النساء / ٤٨.

٢٥٣

جميع الذنوب (ما عدا الشرك) ناظرة ـ من دون شَكٍّ ـ إلى أُولئك الّذين ماتُوا من دون توبة ، لأنّ جميعَ الذنوب والمعاصي ـ حتى الشرك ـ يشملُها العفوُ والغفرانُ إذا تابَ عنها الإنسانُ.

وحيث إنّ هذه الآية فَرَّقت بين المشرك وغير المشرك ، وَجَب أن نقول : إنّها تحكي عن إمكان مغفرةِ من ماتوا من دونِ توبة.

ومن الواضح أنّ مثلَ هذا الإنسان إذا كان مشركاً لم يغفرِ اللهُ له ، وأمّا إذا لم يكنْ مُشركاً فيمكنهُ أن يأمَل في عَفو اللهِ ويَطمع في غفرانه ولكن لا بشكلٍ قَطعيّ وحتميّ ، إنما يحظى بالعفو والغفران من تعلَّقت الإرادةُ والمشيئةُ الإلهيّةُ بمغفرته.

فإنّ قَيْد (لِمَنْ يَشاءُ) في الآية تضعُ العُصاة والمُذنبين بين حالَتي «الخَوْف» و «الرَّجاءِ» وتحثهم على التوقّي من الخطر وهو التوبة قبلَ الموت.

ولهذا فإنّ الوَعدَ المذكور يدفع بالإنسان على طريق التربية المستقيم ، بإبعاده عن منزلَق «اليَأس» و «التجرّي».

الأصلُ التاسع عشرَ بعدَ المائة : الجنة والنار مخلوقتان

نحن نعتقد أنّ الجنّة والنّار مخلوقتان موجودتان الآن.

قال الشيخ المفيد : «إنَّ الجنّة والنّارَ في هذا الوَقتِ مخلوقَتان وبذلك جاءتِ الأخبارُ ، وعليه إجماعُ أَهل الشّرعِ والآثار» (١).

__________________

(١). أوائل المقالات ص ١٤١.

٢٥٤

وإنّ الآيات القرآنيّة هي الأُخرى تشهد بالوجودِ الفِعليّ لِلجنَّة والنار إذ يقول :

(وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى * عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى) (١).

ويصرّح في موضعِ آخر : بأنَّ الجنّة مهيَّأَةٌ للمؤمنين ، وإن النّار للكافِرين ، إذ يقول حولَ الجنّةِ :

(أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) (٢).

ويقولُ حَولَ النّار :

(وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) (٣).

ومَعَ ذلك فلا نعرِفُ مكانَ الجَنَّةِ والنّار على وَجهِ الدّقةِ واليقينِ ، وإن كان المُستفاد من بعض الآيات هو أن الجَنّة موجودةٌ في القِسم الأعلى كما يقولُ سبحانه :

(وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ) (٤).

__________________

(١). النجم / ١٣ ـ ١٥.

(٢). آل عمران / ١٣٣.

(٣). آل عمران / ١٣١.

(٤). الذاريات / ٢٢.

٢٥٥
٢٥٦

كليات في العقيدة

٨

الفصل التاسع

في معالم الايمان والكفر

٢٥٧
٢٥٨

الأصلُ العشرون بعد المائة : حدّ الإيمان والكُفر

إنّ حدَّ «الإيمان» و «الكُفر» من المباحث الكلاميّة والاعتقادية الهامّة جدّاً.

فالإيمان في اللُّغة يعني التّصديق و «الكُفر» يعني السّتر ، ولهذا يُقال للزارع «كافر» لأنّه يستر الحبَّةَ بالتراب ، ولكن المقصود من «الإيمان» في المصطلَح الدينيّ (وفي علم الكلام والعقيدة) هو الاعتقاد بوحدانيَّة الله تعالى ، والآخرة ورسالة النبي الخاتم محمّد المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

على أنَّ الإيمان برسالة النبيّ الخاتِم يشمُلُ الإيمانَ بِنبوّة الأنبياء السابقين عليه ، والكتب السّماوية السابقة ، وما أتى به نبيُّ الإسلام من تعاليم وأحكام إسلاميّة للبشر من جانب الله أيضاً.

إنّ المكان الواقعي والحقيقي للإيمان هو قلب الإنسان وفؤادُه كما يقول القرآن :

(أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) (١).

__________________

(١). المجادلة / ٢٢.

٢٥٩

كما أنّه يقول لسُكّان البَوادي الذِين استسْلَمُوا لِلحاكميّة الإسلامية وسلطتها من دون أن يَدخلَ الإيمانُ في أفئدتِهِم :

(وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) (١).

ولكنّ الحكمَ بإيمان الشخص مشروطٌ بأن يعبّر عن ذلك بِلسانه وإقرارِهِ اللفظي أو يُظهِرَه بطريقٍ آخر ، أو لا يُنكر اعتقادَه به على الأقل ، وذلك لأنّ في غير هذه الصورة لا يُحكم بإيمانِهِ كما قال :

(وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ) (٢).

في ضوءِ هذا يكونُ قد تبيَّنَ معنى «الكفر» وحدّه أيضاً ، فاذا أنكر شخصٌ وحدانيّةَ الحقِّ تعالى ، أو أنكرَ يومَ القيامة ، أو رسالة النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حُكِمَ بكفره حتماً ، كما أنّ إنكار أحد مسلّمات الدين المحمديّ وضروريّاته التي يكون إنكارها مستلزِماً لإنكار رسالةِ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشكلٍ واضحٍ يجعلُ الإنسانَ محكوماً بالكفر أيضاً.

فعند ما أعطى رسولُ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الراية لعلي عليه‌السلام لفتحِ قِلاعِ خيبر ، وأخبرَ الناسَ بأن حاملَ هذه الراية سيفتح خيبراً ، في هذه اللحظة قال الإمامُ عليٌ عليه‌السلام لرسول اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا رسولَ الله علام أُقاتلهُمْ؟؟

فقال النبيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «قاتِلْهُمْ حَتّى يَشهَدُوا أنْ لا إِله إلّا اللهُ وأنّ محمداً رسولُ الله ، فإذا فَعَلُوا ذلك فقد مَنَعوا مِنْكَ دِماءَهُمْ وأموالَهم إلّا بحقها ،

__________________

(١). الحجرات / ١٤.

(٢). النمل / ١٤.

٢٦٠